
لا ريب في أن المدينة المنورة في عام 91 للهجرة ومدرسة الإمام الباقر (عليه السلام) بها كانتا تتمتعان بحرية لم تتمتع بها معظم المدارس والجامعات الأوروبية في القرون الوسطى ، بل في القرنين الأول والثاني من عصر النهضة أيضا (عصر النهضة الأوروبية ، هو عصر العلم والصناعة واكتشاف البخار ، ابتداء من سنة 1453 م أي من تأريخ سقوط القسطنطينية وفتحها على يد السلطان محمد الفاتح) .
وقد رأينا كيف أن جعفر الصادق (عليه السلام) انتقد وفند نظرية (بطليموس) في دوران الشمس حول الأرض في يوم وليلة ، بعدما وقعت في يده الكرة الأرضية التي جئ بها من مصر ، في حين أن العلماء والباحثين في بداية عصر النهضة لم يتمكنوا من المجاهرة بالاعتراض على هذه النظرية .
وفي الوسع القول بأن المسلمين عامة كانوا أكثر حرية في دراسة المسائل العلمية ومناقشتها ، حتى لو تعارضت مع مذهب أو رأي ديني ، وحتى في أحلك فترات الحكم في تأريخ الإسلام ، كأيام بعض الخلفاء العباسيين ، وأن الباحث المسلم كان أكثر حرية من الباحث الأوروبي في الإتيان بالنظريات العلمية .
وأما الفترات العصيبة التي مرت بالتأريخ الإسلامي في أيام بعض الخلفاء العباسيين ، والتي حجر فيها على البحث في بعض الموضوعات الفلسفية أو المذهبية ، كالبحث مثلا في موضوع خلق القرآن ، وهل هو قديم أم حادث ؟ فقد كانت دواعيها هي خوف الخليفة من أن يفقد احترام الناس له ولمنزلته التي تقترب من القداسة ، وبالتالي نفوذه وسلطانه .
ولو أن النقد الذي وجهه جعفر الصادق (عليه السلام) إلى نظرية بطليموس ساق مثله باحث في أوروبا ، لأصابه على أقل تقدير جزاء التكفير والطرد من المجتمع الديني .
ولو أن باحثا أبدى هذا الرأي في أوروبا في القرن الثالث عشر الميلادي والقرن الذي بعده ، لكانت عقباه الإعدام والإحراق بالنار ، وقد نص القانون الصادر عن المجمع الديني المنعقد عام 1183 ميلادية في مدينة (ورون) على أن جزاء الخارج على الدين الإعدام بالمقصلة La Guillotine ، ثم جاء البابا جورجيس التاسع ، ووضع قواعد محاكم التفتيش العقائدية Inquisition في سنة 1233 للميلاد .
ومنذ ذلك التأريخ ، نفذت الأحكام الصادرة عن هذه المحاكم بإحراق كل من يدان بالاعتقاد بعقيدة تخالف المسيحية ، واعتباره خارجا على الدين . وكانت لهذه المحاكم سلطة واسعة في التحري والتفتيش ، حتى في حرم المدارس والجامعات ، وكانت عقوباتها الصارمة في انتظار أي طالب يجرؤ على توجيه سؤال غير مألوف أو خارج عن قواعد الدين إلى الأستاذ ، حتى ولو كان ذلك في قاعة الدرس وفي حرم الجامعة .
واستمرت هذه المحاكم تزاول نشاطها إلى سنة 1808 ميلادية عندما تولى نابليون الأول السلطة ، كإمبراطور لفرنسا ، فأمر بحلها وإلغائها ، ولكن هذا الإلغاء لم يستمر طويلا ، إذ أنها أعيدت في إسبانيا اعتبارا من سنة 1814 ميلادية ، وظلت تزاول نشاطها إلى ما بعد عام 1834 للميلاد .
وتكمن أسباب الجمود والتأخر وما يسمى بظلمة القرون الوسطى في أوروبا في انعدام حرية الرأي والبحث ، بينما تقدمت الحركة العلمية وتوسعت في العالم الإسلامي في هذه الفترة ، فقد كان محظورا على الباحث أو العالم الأوروبي أن يدلي بأي رأي أو نظرية تخالف نظرية الكنائس المسيحية ، وكانت العقوبة شديدة لمن تسول له نفسه معارضة الآراء الدينية النصرانية ، في إن الحرية في البحث وفي العكوف على نفس العلوم والنظريات العلمية (بما فيها تلك النظريات المخالفة للآراء الدينية والمذهبية) ، وقبولها أو مناقشتها أو ردها ، كانت سائدة في المجتمع الإسلامي في القرون الوسطى .
ومع إن إشعاعا من العلوم والفنون الشرقية كان يصل إلى الغرب ، إلا أن الجو الحاكم المهيمن على ذلك المجتمع كان غارقا في ظلام حالك ، ولم تتمكن علوم الشرق وثقافته من النفاذ إلى الوسط العلمي هناك ، اللهم إلا بالنسبة لبعض فروعها كالطب والصيدلة . فقد انتقلت إلى الغرب أرجوزة ابن سينا في الطب ، ووضعت لها ترجمة باللاتينية ، وقل من لم يحفظ أو يقرأ الترجمة اللاتينية لهذا المرجع بين أطباء الغرب في تلك الفترة ، أما علوم الهيئة والنجوم فلم يكن يسمح بنقلها إلى الغرب .
الخليفة الأموي ومدرسة الإمام الباقر (عليه السلام) أشرنا إلى أنه قد وقع للصادق (عليه السلام) في سنة 91 هجرية حدثان هامان كانا من الأهمية بمكان ، الأول وصول نموذج الكرة الجغرافية من مصر ، أما الثاني فكان قيام الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك برحلة إلى الحجاز ، وزيارته للمدينة المنورة .
وكانت رحلة الخليفة من عاصمة الأمويين في الشام إلى الحجاز ، من قبيل الزيارات الرسمية التي تقترن بالتشريفات والأبهة والمراسم الملكية المنقولة عن التشريفات الإمبراطورية البيزنطية (بلاد الروم الشرقية) . ومن مقتضى هذه التشريفات أن تسبق الخليفة طلائع من الحرس والخدم ، ليهيئوا له أسباب الراحة في كل منزل وموقع . خرج والي المدينة عمر بن عبد العزيز مسافة خمسين فرسخا ليستقبل الخليفة بعدما أعد أوسع بيوت المدينة ودورها لنزول الخليفة وحاشيته .
ووصل الوليد بن عبد الملك إلى المدينة ، وأذن للناس بالدخول عليه في اليوم التالي ، وكان عمر بن عبد العزيز يحث الأشراف والتابعين من الصحابة على أن يكونوا في مقدمة الزائرين والمرحبين بالخليفة ، وكان يعلم أن الإمام الباقر (عليه السلام) ليس ممن يسعى إلى الخلفاء والملوك ، فتدارك الأمر ، وجاء بنفسه إلى الإمام الباقر (عليه السلام) وسأله : هل تزور الخليفة غدا ؟ فرد عليه الإمام بالنفي . فلم يستفسر عمر بن عبد العزيز عن سبب ذلك ، لأنه كان يعلم أن الإمام الباقر (عليه السلام) لا يرى للخليفة بيعة في عنقه ، ولا ولاء أو حبا له في قلبه يدعوه إلى زيارته .
هولكن قال للإمام الباقر (عليه السلام) : إن هذه المدينة مدينة جدك ، والزائر لها أينما نزل نزل بدارك ، وهو ضيف عليك ، وهذا هو الوليد بن عبد الملك إن لم يكن خليفة فهو مسلم زائر نزل بدارك ، أو ما تكرمه ؟
فأجاب الباقر (عليه السلام) : من نزل علينا كزائر وضيف وجب حقه علينا ، ولكن الوليد بن عبد الملك نزل هنا ، ويرى نفسه صاحب الحق والخلافة ، فهو إذن صاحب الدار وليس ضيفا علينا . فقال عمر بن عبد العزيز : إنني أعلم سبب امتناعك عن لقاء الوليد ، حتى لا يقول الناس إنك بايعته وأعطيته يدك . فوافقه الإمام الباقر (عليه السلام) على قوله .
وعاد عمر بن عبد العزيز يقول : إن جدك بايع على غير رغبة الخليفة الأموي ، وكانت في تلك البيعة مصلحة للمسلمين ، فزيارتك للوليد غدا ليست بيعة ، وإنما هي لمنع الفساد ولمصلحة المسلمين ، وامتناعك عن زيارته سيجلب علي المشاكل . قال الإمام الباقر (عليه السلام) : وكيف يكون ذلك ؟ قال عمر بن عبد العزيز : أنت تعلم أن للوليد أعينا في كل مكان يخبرونه عن كل ما يجري (وكان للدولة الأموية - بالفعل - جهاز للأمن أسسه معاوية ابن أبي سفيان لأول مرة في التأريخ الإسلامي ، واستمر نشاطه مع الخلافة) ، والخليفة يعلم ما أكن لك من ود واحترام ، فإذا امتنعت عن لقائه ، فقد يظن أن هذا من صنعي أنا ، وسيقول : لولا احترامك له ما حدث هذا ، وقد ينتهي الأمر بعزلي من منصبي ومسؤوليتي هذه ، وأنا أحب أن أحظى بلقائك والاستماع إلى حديثك دوما .
فقال الإمام الباقر (عليه السلام) : ما كان ذلك غرورا أو كبرياء مني ، ولكني آثرت العزلة على مخالطة السلاطين ، وما دام الأمر كما تقول ، فسآتيه غدا لأمنع الغدر عن المسلم .
ففرح عمر بن عبد العزيز عندئذ ، واستأذن الإمام في أن يخبر الخليفة بذلك ، فأذن له . وفي اليوم التالي دخل الإمام الباقر (عليه السلام) على الوليد بن عبد الملك ، فقام الخليفة من مكانه وأجلسه بجانبه ، وهذا تعبير عن الاحترام الفائق عند العرب ، وخاصة لرؤساء القبائل والأشراف ، والإمام الباقر (عليه السلام) كان زعيم بني هاشم ، وسيد قريش في زمانه ، وكان الخليفة الأموي يعترف بعلمه وتقواه ، وكان خلفاء بني أمية يتظاهرون بحب العلماء واحترامهم ، فجرى حديث ودي بين الخليفة والإمام الباقر (عليه السلام) .
سأل الوليد الإمام الباقر (عليه السلام) عما يملك في المدينة ؟ فأجاب : إن لي مزرعة يكفيني وأهلي زرعها ، ولم يسبق لي ما يمكن بيعه . قال الوليد : إن شئت أعطيناك أرضا ومزرعة في أية بقعة من الدولة الإسلامية الشاسعة لتعيش مع أبنائك وأهلك وذويك في يسر وراحة . فأجابه الإمام الباقر (عليه السلام) : إن هذه المزرعة تكفيني وأهلي ، وإن أولادي سوف يعملون ، وإن الله يرزقهم جميعا ، ثم قام من مجلسه وودع الخليفة وخرج .
كان الغرض الأول من زيارة الوليد للمدينة المنورة هو تفقد ما أنجز في توسيع مسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ومتابعة أعمال الترميم والتوسيع بنفسه . وكانت مدرسة الإمام الباقر (عليه السلام) وحلقات دروسه تنعقد في مسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا ، ودخل الوليد المسجد النبوي ، فشاهد ما أنجز من أعمال التعمير والتوسيع ، فسره ذلك ، ثم أتى إلى رواق الإمام الباقر (عليه السلام) ، وسلم على الإمام ، فتوقف الإمام (عليه السلام) عن التدريس ، ولكن الوليد طلب منه المضي فيه ، وكان موضوع الدرس الجغرافيا ، فاستمع الخليفة إلى حديث الإمام ، وكان غريبا على مسمعه .
فسأل الإمام : ما هذا العلم ؟ فأجابه : إنه علم يتحدث عن الأرض والسماء والشمس والنجوم ، فوقع نظر الخليفة على جعفر الصادق (عليه السلام) بين الحاضرين ، ولم يكن قد رآه من قبل ، فسأل عمن يكون هذا الصبي بين الرجال ؟ فقال عمر بن عبد العزيز : هو جعفر بن محمد الباقر (عليه السلام) . فأعجبه ذلك ، وسأل : وهل هو قادر على فهم الدرس واستيعابه ؟ فقال عمر بن عبد العزيز : إنه أذكى من يحضر درس الإمام ، وأكثرهم سؤالا ونقاشا .
فاستدعاه الوليد وسأله : ما اسمك ؟ قال : اسمي جعفر . فسأله الخليفة : أتعلم من كان صاحب المنطق ؟ أجاب جعفر : كان أرسطو ملقبا بصاحب المنطق ، لقبه إياه تلامذته وأتباعه . قال الخليفة : ومن صاحب المعز ؟ قال جعفر : ليس هذا اسما لأحد ، ولكنه اسم لمجموعة من النجوم ، وتسمى أيضا (ذو الأعنة) (هذه المجموعة من النجوم تسمى في مصطلح علم النجوم الحديث (اوريكا) أو (اوريجا) . فاستولت الحيرة على الخليفة ، وعاد يسأله : هل تعلم من صاحب السواك ؟ أجاب جعفر : هو لقب عبد الله بن مسعود صاحب جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .
فقال الوليد : مرحبا ومرحبا بك . وخاطب الإمام الباقر (عليه السلام) قائلا :إن ولدك هذا سيكون علامة عصره . وصدق الوليد ، وتحقق ما توسم في جعفر الصادق (عليه السلام) ، لأنه أصبح من أعلم العلماء ، بل أعلمهم على الإطلاق . وكان الصاحب بن عباد المتوفى سنة 375 للهجرة يقول : لم تظهر في الإسلام بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شخصية علمية بعظمة جعفر الصادق (عليه السلام) . ومن كان كالصاحب بن عباد علما ومنزلة سياسية لا يقول إلا حقا ، ولا يجامل في حكمه ورأيه ، فهو وزير البويهيين والشخصية العلمية الفريدة في عصره ، وكانت مكتبته في مدينة (الري) تضم ما يزيد على مائة ألف كتاب .
العلوم التجريبية في مدرسة الإمام الباقر (عليه السلام) أن الإمام الباقر (عليه السلام) كان يعني في مدرسته بتدريس علوم أخرى عدا القرآن والحديث ، كالتأريخ والجغرافيا والطب . أما في ما يتعلق بالطب ، فهناك روايتان مختلفتان ، تذهب الأولى إلى تأكيد تدريسه له ، في حين أن الثانية تنسب تدريسه إلى الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) .
وأيا كان الأمر ، فليس ثمة شك في أن الإمام جعفرا الصادق (عليه السلام) كان ملما بالطب ، وكان يلقي دروسا فيه ، أفاد منها كثير من الأطباء والباحثين والمرضى في القرنين الثالث والرابع . ومن نظرياته التي انتفع بها الأطباء في عصره وبعد وفاته ، رأيه في إمكان تنشيط الدورة الدموية عند حدوث سكتة مفاجئة أو توقف مؤقت ، حتى ولو ظهرت على المريض أمارات الموت أو علامات شبيهة بعلامات الموتى .
وقد يعيد الحياة إلى مريض بقطع وريد بين أصابع يده اليسرى إسالة للدم منه . وقد أثبت صحة هذه النظرية واقعة تأريخية حدثت في أيام هارون الرشيد ، الخليفة العباسي ، فقد ذكر المؤرخون أن إبراهيم بن صالح (ابن عم هارون الرشيد) مرض ، فعاده جبرائيل بن بختيشوع الطبيب ، ثم دخل على هارون الرشيد وهوجالس إلى المائدة ، فسأله هارون الرشيد عن إبراهيم بن صالح ، فأجاب بختيشوع أنه لا أمل في حياته ، وهو يعيش لحظاته الأخيرة ، وقد تركته والطبيب الهندي ابن بهلة يدخل عليه.
قال أبو هفان : قلت لابن ماسويه (الطبيب) : إن جعفرا بن محمد (عليه السلام) قال : الطبائع أربع : الدم وهو عبد وربما قتل العبد سيده ، والريح وهو عدو إذا سددت له بابا أتاك من باب آخر ، والبلغم وهو ملك يدارى ، والمرة وهي الأرض إذا رجفت رجفت بمن عليها . فقال ابن ماسويه : أعد علي ، فوالله ما يحسن جالينوس أن يصف هذا الوصف .(1).
جبرائيل بن بختيشوع من أسرة أطباء أصلهم من جنديسابور ، خدموا الخلفاء العباسيين قرابة ثلاثة قرون ، وجبرائيل بن بختيشوع من أشهرهم ، وله كتب نافعة في الطب والمنطق ، وله رسائل وجهها إلى المأمون ذكرها ابن النديم في الفهرست ، توفي عام 214 ه- 828 م . والاسم مركب من بخت - بضم الأول - أي الخادم أو العبد ، ويشوع أي المسيح ، يعني عبد المسيح . جاء ذكر هذا الطبيب وأخباره في تأريخ الشعوب الإسلامية لبروكلمان ، الذي ذكر أن الطبيب الهندي الذي استدعاه هارون الرشيد من الهند اسمه (منكة) .(2)
فقال هارون الرشيد : نعم ، لقد أرسلت في طلبك مرتين ولم أجدك ، فأرسلت في طلب ابن بهلة الطبيب ليعود إبراهيم بن صالح - وكان ابن بهلة الهندي طبيبا في بغداد أيضا وهو ينافس بختيشوع ويحسده على مقامه عند الخليفة - . فأفزعه النبأ ، وترك الطعام ، وأمر برفع المائدة ، وبعد ساعة ، دخل ابن بهلة على الخليفة ، وشاهد الحزن والقلق مرتسمين على وجهه . فابتدره هارون الرشيد بالسؤال عن ابن عمه ، وهل هو يحتضر .
فرد عليه ابن بهلة قائلا : لا ، فقد فحصته ، وأنا واثق من أنه سيبرأ من مرضه هذا . فقال هارون الرشيد : أتكذب ابن بختيشوع ، وهو طبيب أبا عن جد ؟ فقال ابن بهلة : يا أمير المؤمنين ، إن مات ابن عمك الليلة ، فلك كل ما أملك ونفسي . فسره هذا ، وزال عنه الحزن ، وأمر بالطعام من جديد ، وطلب الشراب ، وأفرغ كأسا بعد أخرى ، وفي هذه الأثناء ، دخل عليه غلام ناعيا إبراهيم بن صالح قائلا : إنه مات لتوه ، فأحزنه النبأ ، وأغضبه أنه كان يتناول الشراب وقت وفاة ابن عمه ، ولولا نشوة الخمر ، لكان غضبه أشد ، وأقبلت عليه الحاشية معزية مسلية .
وارتدى الخليفة السواد ، وجاء إلى بيت ابن عمه ليشارك في تجهيزه ودفنه ، وكان من جملة المجتمعين في البيت ابن بهلة الطبيب الذي كان ينظر إلى الميت نظرة تفحص وتأمل وهو مسجى على منضدة الغسل . فوقع نظر الخليفة على هذا الطبيب ، وناداه غاضبا ، فأقبل الطبيب على أمير المؤمنين قائلا : لا تغضب ولا تتعجل مؤاخذتي ، لأن ابن عمك سيعيش . فقال الخليفة : إني أمقت الكذب وأبغض الكذابين ، وهذه فرية غليظة منك .
فقال ابن بهلة : إن ابن عمك لم يمت ميتة كاملة ، فما زالت به نسمة حياة ، ولسوف يعيش ، ولكنني أخشى إن هو نهض ورأى نفسه عاريا على المغتسل أو في الكفن أن يكون وقع الصدمة عليه قاتلا ، فلعلك تأمر بإزالة آثار الكافور عنه ، وإعادته إلى ثيابه ، ووضعه في سريره لأقوم بعلاجه .
فأمر هارون الرشيد بإنفاذ ما طلبه ابن بهلة ، الذي تناول سكينا حادة ، وقطع عرقا بين أصابع اليد اليسرى للمريض ، فنزف دمه ، وعندئذ رآه الجميع يتحرك ببط ء . ولم يلبث أن فتح عينيه ، فرأى هارون الرشيد واقفا عند رأسه ، وشكره بصوت خفيض متخيلا أن الخليفة جاء لعيادته .
سبق القول بأننا نفتقر إلى شواهد تؤكد أن الإمام محمدا الباقر (عليه السلام) كان يدرس الطب ، ولكننا واثقون من أن جعفرا الصادق (عليه السلام) درس علوم الطب في مدرسته ، وكانت له فيها آراء ونظريات لم يسبقه إليها أحد في الشرق ، ولا يقصد بالشرق هنا شبه الجزيرة العربية ، إذ هي لم تعرف مدارس الطب ، اللهم إلا الذي عرف عن العرب في هذا الميدان قبل الإسلام ، من أن بعضا منهم درس الطب أو غيره من العلوم في جنديسابور بفارس ، ومنهم النضر بن الحارث الذي عاصر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وكان له موقف في معارضة الدعوة الإسلامية .
فإن قيل أن جعفرا الصادق (عليه السلام) تعلم في مدرسة أبيه محمد الباقر (عليه السلام) ، وأخذ الطب وسائر العلوم عن أبيه ، فمن أين استقى الإمام الباقر (عليه السلام) هذه العلوم ؟ مر بنا أن الهندسة والجغرافيا انتقلا من مصر إلى المدينة المنورة ، على أيدي أقباط مصر ، أما الطب فلم تكن له عند العرب مدرسة قبل الإسلام ، في حين إن مصر وفارس عرفتا مدارس شهيرة للطب .
المصادر:
1- مناقب آل أبي طالب ، لأبي جعفر رشيد الدين محمد بن علي بن شهرآشوب المتوفى سنة 588 ه، طبع قم - إيران 4 : 259 . وقد عين علم الطب الحديث بأن المرة أو الصفراء هي اليوريا Uree ، وأن البلغم أو السوداء البلغي : هو حامض اليوريا Acide Urique
2- تأريخ الشعوب الإسلامية 1 : 202