حرية البحث العلمي في الإسلام

لا ريب في أن المدينة المنورة في عام 91 للهجرة ومدرسة الإمام الباقر (عليه السلام) بها كانتا تتمتعان بحرية لم تتمتع بها معظم المدارس والجامعات الأوروبية في القرون الوسطى ، بل في القرنين الأول والثاني من عصر النهضة أيضا (عصر النهضة
Sunday, September 11, 2016
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
حرية البحث العلمي في الإسلام
 حرية البحث العلمي في الإسلام

 





 

لا ريب في أن المدينة المنورة في عام 91 للهجرة ومدرسة الإمام الباقر (عليه السلام) بها كانتا تتمتعان بحرية لم تتمتع بها معظم المدارس والجامعات الأوروبية في القرون الوسطى ، بل في القرنين الأول والثاني من عصر النهضة أيضا (عصر النهضة الأوروبية ، هو عصر العلم والصناعة واكتشاف البخار ، ابتداء من سنة 1453 م أي من تأريخ سقوط القسطنطينية وفتحها على يد السلطان محمد الفاتح) .
وقد رأينا كيف أن جعفر الصادق (عليه السلام) انتقد وفند نظرية (بطليموس) في دوران الشمس حول الأرض في يوم وليلة ، بعدما وقعت في يده الكرة الأرضية التي جئ بها من مصر ، في حين أن العلماء والباحثين في بداية عصر النهضة لم يتمكنوا من المجاهرة بالاعتراض على هذه النظرية .
وفي الوسع القول بأن المسلمين عامة كانوا أكثر حرية في دراسة المسائل العلمية ومناقشتها ، حتى لو تعارضت مع مذهب أو رأي ديني ، وحتى في أحلك فترات الحكم في تأريخ الإسلام ، كأيام بعض الخلفاء العباسيين ، وأن الباحث المسلم كان أكثر حرية من الباحث الأوروبي في الإتيان بالنظريات العلمية .
وأما الفترات العصيبة التي مرت بالتأريخ الإسلامي في أيام بعض الخلفاء العباسيين ، والتي حجر فيها على البحث في بعض الموضوعات الفلسفية أو المذهبية ، كالبحث مثلا في موضوع خلق القرآن ، وهل هو قديم أم حادث ؟ فقد كانت دواعيها هي خوف الخليفة من أن يفقد احترام الناس له ولمنزلته التي تقترب من القداسة ، وبالتالي نفوذه وسلطانه .
ولو أن النقد الذي وجهه جعفر الصادق (عليه السلام) إلى نظرية بطليموس ساق مثله باحث في أوروبا ، لأصابه على أقل تقدير جزاء التكفير والطرد من المجتمع الديني .
ولو أن باحثا أبدى هذا الرأي في أوروبا في القرن الثالث عشر الميلادي والقرن الذي بعده ، لكانت عقباه الإعدام والإحراق بالنار ، وقد نص القانون الصادر عن المجمع الديني المنعقد عام 1183 ميلادية في مدينة (ورون) على أن جزاء الخارج على الدين الإعدام بالمقصلة La Guillotine ، ثم جاء البابا جورجيس التاسع ، ووضع قواعد محاكم التفتيش العقائدية Inquisition في سنة 1233 للميلاد .
ومنذ ذلك التأريخ ، نفذت الأحكام الصادرة عن هذه المحاكم بإحراق كل من يدان بالاعتقاد بعقيدة تخالف المسيحية ، واعتباره خارجا على الدين . وكانت لهذه المحاكم سلطة واسعة في التحري والتفتيش ، حتى في حرم المدارس والجامعات ، وكانت عقوباتها الصارمة في انتظار أي طالب يجرؤ على توجيه سؤال غير مألوف أو خارج عن قواعد الدين إلى الأستاذ ، حتى ولو كان ذلك في قاعة الدرس وفي حرم الجامعة .
واستمرت هذه المحاكم تزاول نشاطها إلى سنة 1808 ميلادية عندما تولى نابليون الأول السلطة ، كإمبراطور لفرنسا ، فأمر بحلها وإلغائها ، ولكن هذا الإلغاء لم يستمر طويلا ، إذ أنها أعيدت في إسبانيا اعتبارا من سنة 1814 ميلادية ، وظلت تزاول نشاطها إلى ما بعد عام 1834 للميلاد .
وتكمن أسباب الجمود والتأخر وما يسمى بظلمة القرون الوسطى في أوروبا في انعدام حرية الرأي والبحث ، بينما تقدمت الحركة العلمية وتوسعت في العالم الإسلامي في هذه الفترة ، فقد كان محظورا على الباحث أو العالم الأوروبي أن يدلي بأي رأي أو نظرية تخالف نظرية الكنائس المسيحية ، وكانت العقوبة شديدة لمن تسول له نفسه معارضة الآراء الدينية النصرانية ، في إن الحرية في البحث وفي العكوف على نفس العلوم والنظريات العلمية (بما فيها تلك النظريات المخالفة للآراء الدينية والمذهبية) ، وقبولها أو مناقشتها أو ردها ، كانت سائدة في المجتمع الإسلامي في القرون الوسطى .
ومع إن إشعاعا من العلوم والفنون الشرقية كان يصل إلى الغرب ، إلا أن الجو الحاكم المهيمن على ذلك المجتمع كان غارقا في ظلام حالك ، ولم تتمكن علوم الشرق وثقافته من النفاذ إلى الوسط العلمي هناك ، اللهم إلا بالنسبة لبعض فروعها كالطب والصيدلة . فقد انتقلت إلى الغرب أرجوزة ابن سينا في الطب ، ووضعت لها ترجمة باللاتينية ، وقل من لم يحفظ أو يقرأ الترجمة اللاتينية لهذا المرجع بين أطباء الغرب في تلك الفترة ، أما علوم الهيئة والنجوم فلم يكن يسمح بنقلها إلى الغرب .
الخليفة الأموي ومدرسة الإمام الباقر (عليه السلام) أشرنا إلى أنه قد وقع للصادق (عليه السلام) في سنة 91 هجرية حدثان هامان كانا من الأهمية بمكان ، الأول وصول نموذج الكرة الجغرافية من مصر ، أما الثاني فكان قيام الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك برحلة إلى الحجاز ، وزيارته للمدينة المنورة .
وكانت رحلة الخليفة من عاصمة الأمويين في الشام إلى الحجاز ، من قبيل الزيارات الرسمية التي تقترن بالتشريفات والأبهة والمراسم الملكية المنقولة عن التشريفات الإمبراطورية البيزنطية (بلاد الروم الشرقية) . ومن مقتضى هذه التشريفات أن تسبق الخليفة طلائع من الحرس والخدم ، ليهيئوا له أسباب الراحة في كل منزل وموقع . خرج والي المدينة عمر بن عبد العزيز مسافة خمسين فرسخا ليستقبل الخليفة بعدما أعد أوسع بيوت المدينة ودورها لنزول الخليفة وحاشيته .
ووصل الوليد بن عبد الملك إلى المدينة ، وأذن للناس بالدخول عليه في اليوم التالي ، وكان عمر بن عبد العزيز يحث الأشراف والتابعين من الصحابة على أن يكونوا في مقدمة الزائرين والمرحبين بالخليفة ، وكان يعلم أن الإمام الباقر (عليه السلام) ليس ممن يسعى إلى الخلفاء والملوك ، فتدارك الأمر ، وجاء بنفسه إلى الإمام الباقر (عليه السلام) وسأله : هل تزور الخليفة غدا ؟ فرد عليه الإمام بالنفي . فلم يستفسر عمر بن عبد العزيز عن سبب ذلك ، لأنه كان يعلم أن الإمام الباقر (عليه السلام) لا يرى للخليفة بيعة في عنقه ، ولا ولاء أو حبا له في قلبه يدعوه إلى زيارته .
هولكن قال للإمام الباقر (عليه السلام) : إن هذه المدينة مدينة جدك ، والزائر لها أينما نزل نزل بدارك ، وهو ضيف عليك ، وهذا هو الوليد بن عبد الملك إن لم يكن خليفة فهو مسلم زائر نزل بدارك ، أو ما تكرمه ؟
فأجاب الباقر (عليه السلام) : من نزل علينا كزائر وضيف وجب حقه علينا ، ولكن الوليد بن عبد الملك نزل هنا ، ويرى نفسه صاحب الحق والخلافة ، فهو إذن صاحب الدار وليس ضيفا علينا . فقال عمر بن عبد العزيز : إنني أعلم سبب امتناعك عن لقاء الوليد ، حتى لا يقول الناس إنك بايعته وأعطيته يدك . فوافقه الإمام الباقر (عليه السلام) على قوله .
وعاد عمر بن عبد العزيز يقول : إن جدك بايع على غير رغبة الخليفة الأموي ، وكانت في تلك البيعة مصلحة للمسلمين ، فزيارتك للوليد غدا ليست بيعة ، وإنما هي لمنع الفساد ولمصلحة المسلمين ، وامتناعك عن زيارته سيجلب علي المشاكل . قال الإمام الباقر (عليه السلام) : وكيف يكون ذلك ؟ قال عمر بن عبد العزيز : أنت تعلم أن للوليد أعينا في كل مكان يخبرونه عن كل ما يجري (وكان للدولة الأموية - بالفعل - جهاز للأمن أسسه معاوية ابن أبي سفيان لأول مرة في التأريخ الإسلامي ، واستمر نشاطه مع الخلافة) ، والخليفة يعلم ما أكن لك من ود واحترام ، فإذا امتنعت عن لقائه ، فقد يظن أن هذا من صنعي أنا ، وسيقول : لولا احترامك له ما حدث هذا ، وقد ينتهي الأمر بعزلي من منصبي ومسؤوليتي هذه ، وأنا أحب أن أحظى بلقائك والاستماع إلى حديثك دوما .
فقال الإمام الباقر (عليه السلام) : ما كان ذلك غرورا أو كبرياء مني ، ولكني آثرت العزلة على مخالطة السلاطين ، وما دام الأمر كما تقول ، فسآتيه غدا لأمنع الغدر عن المسلم .
ففرح عمر بن عبد العزيز عندئذ ، واستأذن الإمام في أن يخبر الخليفة بذلك ، فأذن له . وفي اليوم التالي دخل الإمام الباقر (عليه السلام) على الوليد بن عبد الملك ، فقام الخليفة من مكانه وأجلسه بجانبه ، وهذا تعبير عن الاحترام الفائق عند العرب ، وخاصة لرؤساء القبائل والأشراف ، والإمام الباقر (عليه السلام) كان زعيم بني هاشم ، وسيد قريش في زمانه ، وكان الخليفة الأموي يعترف بعلمه وتقواه ، وكان خلفاء بني أمية يتظاهرون بحب العلماء واحترامهم ، فجرى حديث ودي بين الخليفة والإمام الباقر (عليه السلام) .
سأل الوليد الإمام الباقر (عليه السلام) عما يملك في المدينة ؟ فأجاب : إن لي مزرعة يكفيني وأهلي زرعها ، ولم يسبق لي ما يمكن بيعه . قال الوليد : إن شئت أعطيناك أرضا ومزرعة في أية بقعة من الدولة الإسلامية الشاسعة لتعيش مع أبنائك وأهلك وذويك في يسر وراحة . فأجابه الإمام الباقر (عليه السلام) : إن هذه المزرعة تكفيني وأهلي ، وإن أولادي سوف يعملون ، وإن الله يرزقهم جميعا ، ثم قام من مجلسه وودع الخليفة وخرج .
كان الغرض الأول من زيارة الوليد للمدينة المنورة هو تفقد ما أنجز في توسيع مسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ومتابعة أعمال الترميم والتوسيع بنفسه . وكانت مدرسة الإمام الباقر (عليه السلام) وحلقات دروسه تنعقد في مسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا ، ودخل الوليد المسجد النبوي ، فشاهد ما أنجز من أعمال التعمير والتوسيع ، فسره ذلك ، ثم أتى إلى رواق الإمام الباقر (عليه السلام) ، وسلم على الإمام ، فتوقف الإمام (عليه السلام) عن التدريس ، ولكن الوليد طلب منه المضي فيه ، وكان موضوع الدرس الجغرافيا ، فاستمع الخليفة إلى حديث الإمام ، وكان غريبا على مسمعه .
فسأل الإمام : ما هذا العلم ؟ فأجابه : إنه علم يتحدث عن الأرض والسماء والشمس والنجوم ، فوقع نظر الخليفة على جعفر الصادق (عليه السلام) بين الحاضرين ، ولم يكن قد رآه من قبل ، فسأل عمن يكون هذا الصبي بين الرجال ؟ فقال عمر بن عبد العزيز : هو جعفر بن محمد الباقر (عليه السلام) . فأعجبه ذلك ، وسأل : وهل هو قادر على فهم الدرس واستيعابه ؟ فقال عمر بن عبد العزيز : إنه أذكى من يحضر درس الإمام ، وأكثرهم سؤالا ونقاشا .
فاستدعاه الوليد وسأله : ما اسمك ؟ قال : اسمي جعفر . فسأله الخليفة : أتعلم من كان صاحب المنطق ؟ أجاب جعفر : كان أرسطو ملقبا بصاحب المنطق ، لقبه إياه تلامذته وأتباعه . قال الخليفة : ومن صاحب المعز ؟ قال جعفر : ليس هذا اسما لأحد ، ولكنه اسم لمجموعة من النجوم ، وتسمى أيضا (ذو الأعنة) (هذه المجموعة من النجوم تسمى في مصطلح علم النجوم الحديث (اوريكا) أو (اوريجا) . فاستولت الحيرة على الخليفة ، وعاد يسأله : هل تعلم من صاحب السواك ؟ أجاب جعفر : هو لقب عبد الله بن مسعود صاحب جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .
فقال الوليد : مرحبا ومرحبا بك . وخاطب الإمام الباقر (عليه السلام) قائلا :إن ولدك هذا سيكون علامة عصره . وصدق الوليد ، وتحقق ما توسم في جعفر الصادق (عليه السلام) ، لأنه أصبح من أعلم العلماء ، بل أعلمهم على الإطلاق . وكان الصاحب بن عباد المتوفى سنة 375 للهجرة يقول : لم تظهر في الإسلام بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شخصية علمية بعظمة جعفر الصادق (عليه السلام) . ومن كان كالصاحب بن عباد علما ومنزلة سياسية لا يقول إلا حقا ، ولا يجامل في حكمه ورأيه ، فهو وزير البويهيين والشخصية العلمية الفريدة في عصره ، وكانت مكتبته في مدينة (الري) تضم ما يزيد على مائة ألف كتاب .
العلوم التجريبية في مدرسة الإمام الباقر (عليه السلام) أن الإمام الباقر (عليه السلام) كان يعني في مدرسته بتدريس علوم أخرى عدا القرآن والحديث ، كالتأريخ والجغرافيا والطب . أما في ما يتعلق بالطب ، فهناك روايتان مختلفتان ، تذهب الأولى إلى تأكيد تدريسه له ، في حين أن الثانية تنسب تدريسه إلى الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) .
وأيا كان الأمر ، فليس ثمة شك في أن الإمام جعفرا الصادق (عليه السلام) كان ملما بالطب ، وكان يلقي دروسا فيه ، أفاد منها كثير من الأطباء والباحثين والمرضى في القرنين الثالث والرابع . ومن نظرياته التي انتفع بها الأطباء في عصره وبعد وفاته ، رأيه في إمكان تنشيط الدورة الدموية عند حدوث سكتة مفاجئة أو توقف مؤقت ، حتى ولو ظهرت على المريض أمارات الموت أو علامات شبيهة بعلامات الموتى .
وقد يعيد الحياة إلى مريض بقطع وريد بين أصابع يده اليسرى إسالة للدم منه . وقد أثبت صحة هذه النظرية واقعة تأريخية حدثت في أيام هارون الرشيد ، الخليفة العباسي ، فقد ذكر المؤرخون أن إبراهيم بن صالح (ابن عم هارون الرشيد) مرض ، فعاده جبرائيل بن بختيشوع الطبيب ، ثم دخل على هارون الرشيد وهوجالس إلى المائدة ، فسأله هارون الرشيد عن إبراهيم بن صالح ، فأجاب بختيشوع أنه لا أمل في حياته ، وهو يعيش لحظاته الأخيرة ، وقد تركته والطبيب الهندي ابن بهلة يدخل عليه.
قال أبو هفان : قلت لابن ماسويه (الطبيب) : إن جعفرا بن محمد (عليه السلام) قال : الطبائع أربع : الدم وهو عبد وربما قتل العبد سيده ، والريح وهو عدو إذا سددت له بابا أتاك من باب آخر ، والبلغم وهو ملك يدارى ، والمرة وهي الأرض إذا رجفت رجفت بمن عليها . فقال ابن ماسويه : أعد علي ، فوالله ما يحسن جالينوس أن يصف هذا الوصف .(1).
جبرائيل بن بختيشوع من أسرة أطباء أصلهم من جنديسابور ، خدموا الخلفاء العباسيين قرابة ثلاثة قرون ، وجبرائيل بن بختيشوع من أشهرهم ، وله كتب نافعة في الطب والمنطق ، وله رسائل وجهها إلى المأمون ذكرها ابن النديم في الفهرست ، توفي عام 214 ه‍- 828 م . والاسم مركب من بخت - بضم الأول - أي الخادم أو العبد ، ويشوع أي المسيح ، يعني عبد المسيح . جاء ذكر هذا الطبيب وأخباره في تأريخ الشعوب الإسلامية لبروكلمان ، الذي ذكر أن الطبيب الهندي الذي استدعاه هارون الرشيد من الهند اسمه (منكة) .(2)
فقال هارون الرشيد : نعم ، لقد أرسلت في طلبك مرتين ولم أجدك ، فأرسلت في طلب ابن بهلة الطبيب ليعود إبراهيم بن صالح - وكان ابن بهلة الهندي طبيبا في بغداد أيضا وهو ينافس بختيشوع ويحسده على مقامه عند الخليفة - . فأفزعه النبأ ، وترك الطعام ، وأمر برفع المائدة ، وبعد ساعة ، دخل ابن بهلة على الخليفة ، وشاهد الحزن والقلق مرتسمين على وجهه . فابتدره هارون الرشيد بالسؤال عن ابن عمه ، وهل هو يحتضر .
فرد عليه ابن بهلة قائلا : لا ، فقد فحصته ، وأنا واثق من أنه سيبرأ من مرضه هذا . فقال هارون الرشيد : أتكذب ابن بختيشوع ، وهو طبيب أبا عن جد ؟ فقال ابن بهلة : يا أمير المؤمنين ، إن مات ابن عمك الليلة ، فلك كل ما أملك ونفسي . فسره هذا ، وزال عنه الحزن ، وأمر بالطعام من جديد ، وطلب الشراب ، وأفرغ كأسا بعد أخرى ، وفي هذه الأثناء ، دخل عليه غلام ناعيا إبراهيم بن صالح قائلا : إنه مات لتوه ، فأحزنه النبأ ، وأغضبه أنه كان يتناول الشراب وقت وفاة ابن عمه ، ولولا نشوة الخمر ، لكان غضبه أشد ، وأقبلت عليه الحاشية معزية مسلية .
وارتدى الخليفة السواد ، وجاء إلى بيت ابن عمه ليشارك في تجهيزه ودفنه ، وكان من جملة المجتمعين في البيت ابن بهلة الطبيب الذي كان ينظر إلى الميت نظرة تفحص وتأمل وهو مسجى على منضدة الغسل . فوقع نظر الخليفة على هذا الطبيب ، وناداه غاضبا ، فأقبل الطبيب على أمير المؤمنين قائلا : لا تغضب ولا تتعجل مؤاخذتي ، لأن ابن عمك سيعيش . فقال الخليفة : إني أمقت الكذب وأبغض الكذابين ، وهذه فرية غليظة منك .
فقال ابن بهلة : إن ابن عمك لم يمت ميتة كاملة ، فما زالت به نسمة حياة ، ولسوف يعيش ، ولكنني أخشى إن هو نهض ورأى نفسه عاريا على المغتسل أو في الكفن أن يكون وقع الصدمة عليه قاتلا ، فلعلك تأمر بإزالة آثار الكافور عنه ، وإعادته إلى ثيابه ، ووضعه في سريره لأقوم بعلاجه .
فأمر هارون الرشيد بإنفاذ ما طلبه ابن بهلة ، الذي تناول سكينا حادة ، وقطع عرقا بين أصابع اليد اليسرى للمريض ، فنزف دمه ، وعندئذ رآه الجميع يتحرك ببط ء . ولم يلبث أن فتح عينيه ، فرأى هارون الرشيد واقفا عند رأسه ، وشكره بصوت خفيض متخيلا أن الخليفة جاء لعيادته .
سبق القول بأننا نفتقر إلى شواهد تؤكد أن الإمام محمدا الباقر (عليه السلام) كان يدرس الطب ، ولكننا واثقون من أن جعفرا الصادق (عليه السلام) درس علوم الطب في مدرسته ، وكانت له فيها آراء ونظريات لم يسبقه إليها أحد في الشرق ، ولا يقصد بالشرق هنا شبه الجزيرة العربية ، إذ هي لم تعرف مدارس الطب ، اللهم إلا الذي عرف عن العرب في هذا الميدان قبل الإسلام ، من أن بعضا منهم درس الطب أو غيره من العلوم في جنديسابور بفارس ، ومنهم النضر بن الحارث الذي عاصر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وكان له موقف في معارضة الدعوة الإسلامية .
فإن قيل أن جعفرا الصادق (عليه السلام) تعلم في مدرسة أبيه محمد الباقر (عليه السلام) ، وأخذ الطب وسائر العلوم عن أبيه ، فمن أين استقى الإمام الباقر (عليه السلام) هذه العلوم ؟ مر بنا أن الهندسة والجغرافيا انتقلا من مصر إلى المدينة المنورة ، على أيدي أقباط مصر ، أما الطب فلم تكن له عند العرب مدرسة قبل الإسلام ، في حين إن مصر وفارس عرفتا مدارس شهيرة للطب .
المصادر:
1- مناقب آل أبي طالب ، لأبي جعفر رشيد الدين محمد بن علي بن شهرآشوب المتوفى سنة 588 ه‍، طبع قم - إيران 4 : 259 . وقد عين علم الطب الحديث بأن المرة أو الصفراء هي اليوريا Uree ، وأن البلغم أو السوداء البلغي : هو حامض اليوريا Acide Urique
2- تأريخ الشعوب الإسلامية 1 : 202

 



ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.