يقول أبو الفرج الإصفهاني في (المقاتل) بالإسناد عن أبي الصلت الهروي، أنه قال: دخل المأمون إلى الامام الرضا (عليه السلام) يعوده، فوجده يجود بنفسه، فبكى وقال: أعزز علي يا أخي بأن أعيش ليومك، فقد كان في بقائك أمل، وأغلظ علي من ذلك وأشد أن الناس يقولون: إني سقيتك سما، وأنا إلى الله من ذلك برئ، ثم خرج المأمون من عنده (1).
وروى الصدوق عن (عيون الأخبار): أن المأمون قال للرضا (عليه السلام) وهو يعالج الموت: والله ما أدري أي المصيبتين أعظم علي، فقدي لك وفراقي إياك، أو تهمة الناس لي أني اغتلتك وقتلتك؟ (2) وهكذا يصرح المأمون بفعلته النكراء، وعما يعتمل في دواخل نفسه، والإمام (عليه السلام) لما يمت بعد.
تصريح عبد الله بن موسى: ومن آل أبي طالب المعاصرين للإمام الرضا (عليه السلام) عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي (عليه السلام)، ويبدو من ترجمته أنه كان زاهدا تقيا ورعا عالما، وقد صرح بأن المأمون قتل الرضا (عليه السلام) في مناسبات عديدة من خطابه للمأمون، فعندما توارى عبد الله عن أنظار المأمون، كتب إليه المأمون يدعوه إلى الظهور ليجعله مكانه، ويبايع له بعد وفاة الرضا (عليه السلام)، فأجابه عبد الله بن موسى برسالة طويلة جاء فيها:
فبأي شيء تغرني، ما فعلته بأبي الحسن (صلوات الله عليه) بالعنب الذي أطعمته إياه فقتلته؟ وجاء فيها أيضا يخاطب المأمون: كأنك تظن أنه لم يبلغني ما فعلته بالرضا (عليه السلام)، ففي أي شيء ظننت أني أرغب من ذلك؟! أفي الملك الذي غرتك نضرته وحلاوته،... أم في العنب المسموم الذي قتلت به الرضا (عليه السلام)؟ (3)
الشعراء يصرحون بقتل الإمام (عليه السلام)
قال أبو فراس الحمداني في أبيات من قصيدته الشافية:باءوا بقتل الرضا من بعد بيعته *** وأبصروا بغضه من رشدهم
وعموا عصابة شقيت من بعد ما سعدت *** ومعشر هلكوا من بعد ما سلموا
لا بيعة ردعتهم عن دمائهم *** ولا يمين ولا قربى ولا رحم (4)
وقال السوسي:
بأرض طوس نائي الأوطان
إذ غره المأمون بالأماني
حين سقاه السم في الرمان (5)
وقال القاضي التنوخي:
ومأمونكم سم الرضا بعد بيعة *** فآدت له شم الجبال الرواسب (6)
وقال دعبل:
ألا أيها القبر الغريب محله *** بطوس عليك الساريات هتون
شككت فما أدري أمسقي شربة *** فأبكيك أم ريب الردى فيهون
وأيهما ما قلت إن قلت شربة *** وإن قلت موت إنه لقمين
فيا عجبا منهم يسمونك الرضا *** ويلقاك منهم كلحة وغضون (7)
والبيت الثاني من القصيدة دليل على تيقن دعبل من قتل الإمام، وكذلك مرثيته الرائية التي يقول فيها:
أرى أمية معذورين إن قتلوا *** ولا أرى لبني العباس من عذر
لم يبق حي من الأحياء نعلمه *** من ذي يمان ولا بكر ولا مضر
إلا وهم شركاء في دمائهم *** كما تشارك أيسار على جزر (8)
ولعل أشجع بن عمرو السلمي يشير إلى اتهام المأمون بقتله، في قوله:
يا نازلا جدثا في غير منزله *** ويا فريسة يوم غير مفروس
لبست ثوب البلى أعزز علي به *** لبسا جديدا وثوبا غير ملبوس (9)
التصريح ببعض القتلة:
روى الشيخ الطوسي في (الغيبة) أن المأمون قال لمحمد بن عبد الله بن الحسن الأفطس: ويلك يا محمد، أيلومني أهل بيتي وأهل بيتك أن أنصب أبا الحسن علما! والله أن لو بقي لخرجت من هذا الأمر، ولأجلسته مجلسي، غير أنه عوجل، فلعن الله عبيد الله وحمزة ابني الحسن، فإنهما قتلاه (10).ولا شك أن هذين المذكورين إما من المنفذين للقتل، أو من مساعدي المأمون في خططه، وإلا فكيف عرفهما المأمون، وهما من العباسيين. فعبيد الله بن الحسن بن عبيد الله بن العباس، وحمزة أخوه.
وقال اليعقوبي: توفي الرضا علي بن موسى بن جعفر بن محمد (عليه السلام) بقرية يقال لها النوقان، أول سنة 203، ولم تكن علته غير ثلاثة أيام، فقيل: إن علي بن هشام أطعمه رمانا فيه سم، وأظهر المأمون عليه جزعا شديدا (11).
وبلا ريب أن التظاهر بالجزع من قبل المأمون هو لدفع التهمة عن نفسه، التهمة التي صرح بها هو قبل وفاة الإمام (عليه السلام) كما تقدم، وعلي بن هشام المذكور في قول اليعقوبي هو أحد أعوان السلطة والمقربين من المأمون، وأحد القادة الذي يستعين بهم في الشدائد والملمات وملاحقة المعارضين، حيث استعان به في حروبه مع أهل قم عندما طلبوا زيادة عطائهم وخرجوا عن طاعته، فاستولى على قم، فولاه الجبل وقم وما والاها، وشدد عليهم في الضرائب والخراج، كما اعتمد عليه المأمون في مواقف كثيرة عددها الطبري في تأريخه، وأخيرا قتله المأمون أبشع قتلة بعد أن نفذ جميع أغراضه، وكان ابن هشام سيئ الخلق بشع التعامل، يستحوذ على الأموال ويقتل الأبرياء، ويسئ إلى الرعية (12).
إخبار الأئمة (عليهم السلام) بقتل الرضا (عليه السلام):
عن النعمان بن سعد، قال: قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): سيقتل رجل من ولدي بأرض خراسان بالسم ظلما، اسمه اسمي، واسم أبيه اسم موسى بن عمران... الحديث (13).وعن عبد الله بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسين بن زيد، قال: سمعت أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) يقول: يخرج رجل من ولد ابني موسى اسمه اسم أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى أرض طوس - وهي بخراسان - يقتل فيها بالسم، فيدفن فيها غريبا... الحديث (14).
وعن حمزة بن حمران، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): يقتل أحد حفدتي بأرض خراسان، في مدينة يقال لها: طوس... وفي حديث آخر، قال: قال الصادق (عليه السلام): يقتل لهذا - وأومأ بيده إلى موسى (عليه السلام) - ولد بطوس... (15).
وعن عبد الله بن الفضل الهاشمي، عن الصادق (عليه السلام) - في حديث - أنه قال لرجل من أهل طوس: سيخرج من صلبه - يعني موسى بن جعفر (عليه السلام) - رجل يكون رضى لله في سمائه، ولعباده في أرضه، يقتل في أرضكم بالسم ظلما وعدوانا، ويدفن بها غريبا (16).
وعن سليمان بن حفص المروزي، قال: سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) يقول: إن ابني علي مقتول بالسم ظلما، ومدفون إلى جنب هارون بطوس (17)
إخبار الرضا (عليه السلام) بشهادته:
عن أبي الصلت الهروي - في حديث اقتراح الخلافة وولاية العهد من قبل المأمون للإمام الرضا (عليه السلام) - قال الرضا (عليه السلام): والله لقد حدثني أبي، عن آبائه، عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): إني أخرج من الدنيا قبلك مقتولا بالسم مظلوما، تبكي علي ملائكة السماء وملائكة الأرض، وادفن في أرض غربة إلى جنب هارون الرشيد.فبكى المأمون ثم قال له: يا بن رسول الله، ومن الذي يقتلك أو يقدر على الإساءة إليك وأنا حي؟! فقال الرضا (عليه السلام): أما إني لو أشاء أن أقول من الذي يقتلني لقلت. (18).
وعن الحسن بن الجهم، قال: قلت له (عليه السلام): يا بن رسول الله، الحمد لله الذي وهب لك من جميل رأي أمير المؤمنين ما حمله على ما أرى من إكرامه لك، وقبوله لقولك. فقال (عليه السلام): يا بن الجهم، لا يغرنك ما ألفيته عليه من إكرامي والاستماع مني، فإنه سيقتلني بالسم، وهو ظالم لي، أعرف ذلك بعهد معهود إلي من آبائي، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فاكتم هذا ما دمت حيا.
قال الحسن بن الجهم: فما حدثت أحدا بهذا الحديث إلى أن مضى الرضا (عليه السلام) بطوس مقتولا بالسم، ودفن في دار حميد بن قحطبة الطائي، في القبة التي فيها قبر هارون الرشيد، إلى جانبه (19).
وعن أبي الصلت الهروي، عن الرضا (عليه السلام) - في حديث - قال: وما منا إلا مقتول، وإني والله لمقتول بالسم باغتيال من يغتالني، أعرف ذلك بعهد معهود من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أخبره به جبرئيل، عن رب العالمين (20).
وعنه أيضا، قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: والله ما منا إلا مقتول شهيد. فقيل له: فمن يقتلك يا بن رسول الله؟ قال: شر خلق الله في زماني، يقتلني بالسم، ثم يدفنني في دار مضيعة وبلاد غربة (21).
وعن ياسر الخادم، قال: قال علي بن موسى الرضا (عليه السلام): لا تشد الرحال إلى شيء من القبور إلا إلى قبورنا، ألا وإني مقتول بالسم ظلما، ومدفون في موضع غربة... (22).
وعن الحسن بن علي الوشاء، قال: قال أبو الحسن الرضا (عليه السلام): إني سأقتل بالسم مظلوما... الحديث (23).
وعن الحسن بن عباد - وكان كاتب الرضا (عليه السلام) - قال: دخلت عليه وقد عزم المأمون بالمسير إلى بغداد، فقال: يا بن عباد، ما ندخل العراق ولا نراه. قال: فبكيت وقلت: فآيستني أن آتي أهلي وولدي. قال (عليه السلام): أما أنت فستدخلها، وإنما عنيت نفسي. الحديث (24).
وعن علي بن محمد بن الجهم - في حديث - قال الرضا (عليه السلام): يا بن الجهم، لا يغرنك ما سمعته منه، فإنه سيغتالني، والله ينتقم لي منه (25)
ممن اغتالهم المأمون:
ولم يكن الإمام الرضا (عليه السلام) الضحية الأولى ولا الأخيرة من ضحايا اغتيالات المأمون وطرقه الغامضة في القضاء على مناوئيه، فممن عدهم أبو جعفر محمد بن حبيب المتوفى سنة 245 ه.1 - الفضل بن سهل،
2 - إسحاق بن موسى الهادي، وقصة إسحاق شبيهة إلى حد ما بقصة مقتل الفضل، قال ابن حبيب: وقد كانت الحربية اشتملت عليه وأمرته، والمأمون بخراسان، حين خرج إبراهيم بن المهدي، فاستولى على الأمر، فدس إليه المأمون ابنه وخادما له فقتلاه، ثم أقاد به ابنه، وقتل الخادم بالسياط، فانظر كيف قتل القتلة.
3 - حميد بن عبد الحميد الطوسي، وهو ممن اغتالهم بأياديه وأعوانه، حيث اغتاله بشربة سم بواسطة جبريل بن بختيشوع وعبد الله الطيفوري، جعلته يقوم للمتوضأ مائتي مرة، ومكث مبطونا شهر رمضان كله حتى مات في ليلة الفطر سنة 210 ه.
4 - وممن اغتالهم أيضا عبد الله بن موسى الهادي حيث دس إليه المأمون سما في دراج بواسطة خادم من خدمه (26).
المصادر:
1- مقاتل الطالبيين: 380، بحار الأنوار 49: 309 / 19.
2- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 241 - 242، بحار الأنوار 49: 299 / 9.
3- مقاتل الطالبيين: 415 - 416.
4- بحار الأنوار 49: 314.
5- مناقب ابن شهرآشوب 4: 374.
6- مناقب ابن شهرآشوب 4: 328.
7- بحار الأنوار 49: 315 و316، العوالم 22: 512 و513.
8- أمالي المفيد: 324 / 10، أمالي الطوسي 1: 98، بحار الأنوار 49: 324
9- العوالم 22: 525 و526.
10- الغيبة: 49، بحار الأنوار 49: 306 / 16.
11- تأريخ اليعقوبي 3: 149.
12- تأريخ الطبري 8: 543 - 544، 566، 572، 574، 614، 622 و626 - 627.
13- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 258 / 17، بحار الأنوار 49: 286 / 11.
14- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 255 / 3، بحار الأنوار 49: 286 / 10.
15- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 259 / 18، بحار الأنوار 102: 35 / 18 و19، أمالي الصدوق: 105 / 8.
16- التهذيب 6: 108 / 7.
17- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 260 / 23، بحار الأنوار 102: 38 / 32.
18- علل الشرائع 2: 237 / 1، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 139 / 3، أمالي الصدوق: 65 / 3، بحار الأنوار 49: 128 / 3.
19- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 200 / 1، بحار الأنوار 49: 284 / 4.
20- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 203 / 5، بحار الأنوار 49: 285 / 5.
21- أمالي الصدوق: 61 / 8، بحار الأنوار 49: 283 / 2.
22- الخصال 1: 143 / 167، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 254 / 1، بحار الأنوار 102.
23- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 261 / 27، بحار الأنوار 102: 38 / 33.
24- الخرائج والجرائح 1: 367 / 25، بحار الأنوار 49: 307 / 17.
25- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 195، بحار الأنوار 49: 179 / 15.
26- المغتالون: 198 - 200، مطبوع ضمن الجزء الثاني من نوادر المخطوطات.