من إبداعات الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) : نظريته الخاصة بالضوء ، فمن رأيه أن الضوء ينعكس من الأجسام على فص العين البشرية ، أما الأجسام البعيدة فلا ينعكس منها إلا جزء صغير من الضوء ، ولهذا تتعذر رؤيتها بالوضوح الكافي ، أما إذا استعنا بجهاز أو آلة لتقريب الضوء إلى العين ، كالجهاز الكهربي الضوئي مثلا فعندئذ يمكننا مشاهدة الجسم البعيد بنفس حجمه الحقيقي وبوضوح تام ، بمعنى أن الجسم الذي يبعد عنا بثلاثة آلاف ذراع ، نراه وكأنه يبعد عنا ستين ذراعا ، فنكون بذلك قد قربناه أكثر من خمسين مرة .
ونتيجة للاتصال الذي تحقق بين أوروبا والشرق في أثناء الحروب الصليبية ، انتقلت هذه النظرية من الشرق إلى أوروبا ، ودرست في المعاهد العلمية والجامعات الأوروبية .
وكان من جملة المهتمين بها روجر بيكون ، الأستاذ بجامعة أوكسفورد (1214 - 1294 م) . وجاءت نظرية بيكون في الضوء مطابقة لنظرية الإمام الصادق (عليه السلام) . فلو استعنا بما يقرب ضوء الأجسام البعيدة إلى عيوننا ، لأمكننا مشاهدتها وقد قربت إلينا خمسين مرة عن بعدها الحقيقي .
ص 336وبفضل هذه النظرية اخترع ليبرشي الفلامندي المجهر في عام 1608 م ، واستعان غاليلو بهذا المجهر في اختراع المرقب الفلكي في عام 1610 م . وفي ليلة السابع من يناير سنة 1610 م ، بدأ غاليلو برصد النجوم مستعينا بمرقبه ، ولا يستبعد بسبب قرب الفاصل الزمني بين الاختراعين - وهو سنتان لا غير - أن تكون الفكرة تبلورت عند هذين العالمين في وقت واحد ، وإن كان غاليلو استفاد من مجهر العالم الفلامندي وحاول قدر المستطاع علاج ما فيه من قصور ، مع ما كان متاحا في ذلك الوقت من إمكانات تقنية محدودة .
وكان غاليلو من خريجي جامعة (بادوا) الشهيرة في مملكة (باتاويوم) التي سميت في ما بعد (بوني تي) والتي تسمى عاصمتها اليوم فينيسيا أو البندقية . وبعد تخرجه أصبح أستاذا في نفس الجامعة . وعندما شرع برصد النجوم في أول ليلة ، حيره منها أن يرى القمر شبيها بالأرض من حيث إن سطحه تغطيه سلاسل من الجبال والوديان ، فتحقق من أن الكون لا ينحصر في الكرة الأرضية ، وإن القمر بدوره عالم من عوالم دنيانا الكثيرة .
ولولا نظرية الضوء التي أتى بها الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) ، لما تمكن ليبرشي الفلامندي وغاليلو من صنع المجهر الفلكي لرصد انعكاس ضوء الشمس على الكواكب الأخرى ، وبالتالي تأكيد نظرية كوبرنيكوس وكبلر القائلة إن الكرة الأرضية تدور حول الشمس وكواكب أخرى . وكان للمجهر الفلكي الذي صنعه غاليلو صدى بعيدا في الأوساط العلمية المختلفة في البندقية ، حتى إن رئيس الجمهورية (دوج) وعددا من نواب مجلس الأعيان استبد بهم الشوق لرؤية الأجرام السماوية من خلال هذا المرقب ، فاضطر إلى نقله من مدينة بادوا الجامعية إلى العاصمة (البندقية) ، وأقامه على برج من أبراج الكنيسة لكي يتسنى لأعضاء مجلس الأعيان التطلع إلى السماء في الليل ورؤية النجوم والكواكب .
ولما سئل غاليلو عن سر رؤية سطح القمر وما عليه بوضوح ، ردد نظرية الإمام الصادق (عليه السلام) ، وهي أن هذا نتيجة لانعكاس الضوء من سطح القمر ووصوله إلى العين . وقال : إن هذا المرقب يجمع أشعة الضوء المنعكسة من سطح القمر ويقربها إلى العين ، فتراه قريبا منها . وبمشاهدة غاليلو لكواكب عطارد والزهرة والمشتري في أحوالها المختلفة من الهلال إلى المحاق ، تثبت نظرية كوبرنيكوس وكبلر (لاحظ غاليلو وهو يرصد عطارد والزهرة إنهما شبيهان بالقمر من حيث إنهما يظهران في بادئ الأمر كالهلال ، ثم يستتمان استدارتهما فيصبحان كالبدر التمام . كما تبين أن هذين الكوكبين يدوران بدورهما حول الشمس ويستضيئان بنورها) . ومن الحقائق العلمية المؤسفة أن الشخصية الفذة للفيلسوف الإغريقي أرسطو (أرسطو أو أرسط طاليس (نحو 367 - 322 ق . م) (1)
اشتهر بأنه حكيم اليونان . تلقى العلم عن أفلاطون ، وقضى في ذلك عشرين سنة ، وأصبح مؤدب الإسكندر المقدوني الأكبر . إليه يرجع الفضل في تنظيم الفلسفة اليونانية وتفريع العلوم منها وتدوين فن المنطق ، وتقوم فلسفته في جملتها على اتفاق العلل المادية في العالم الطبيعي ، من مؤلفاته : سمع الكيان ويتناول المبادئ في الوجود ، وهو تمهيد لدراسة الفلسفة ، و السماء والعالم و الكون والفساد و الآثار العلوية و كتاب الحيوان و كتاب النبات و كتاب النفس و الحس والمحسوس و ما بعد الطبيعة و السياسة و الأخلاق و الاورغانون في صناعة المنطق . وأرسطو هو منشئ علم المنطق حتى سموه المعلم الأول وصاحب المنطق)وهو القائل : إن الأرض ثابتة ولا تتحرك وإن الشمس والنجوم تدورمن حولها ، والشخصية العلمية الرصينة للعالم بطليموس الذي جاء بعد أرسطو بخمسة قرون وأكد نظريته هذه ، قد حالتا دون تقدم علم الفلك قرابة ألف وثمانمائة عام ، أي من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الخامس عشر الميلادي .
ولا يسع أحدا أن ينكر فضل أرسطو على العلم ، وأهمية مؤلفاته في المنطق كالاورغانون ، وفي العلوم كالحس والمحسوس التي تعد من التراث الإنساني الخالد ، ولكن نظريته الفلكية عطلت تطور العلوم الفلكية طوال ثمانية عشر قرنا ، ولولا ذلك ، لما كان من المستبعد أن يتقدم بعصر النهضة فينطلق من القرن السابع الميلادي أو قبل ذلك . وبدأ عصر النهضة بالنظرية التي طلع بها العالم البولوني كوبرنيكوس القائلة بأن الأرض تدور حول الشمس ، وجاء بعده العالم الألماني كبلر ليدعم هذه النظرية ويميط اللثام عن قوانين حركة السيارات حول الشمس ، ومنها الأرض .
ثم جاء غاليلو من بعدهما ، فبث روحا جديدة في هذه الحركة العلمية وأعطاها دفعة قوية بإثباته حركة السيارات حول الشمس بالرؤية والعيان . ولولا هؤلاء الثلاثة ، وما تمخضت عنه جهودهم وبحوثهم العلمية ، لما ظهر فيلسوف مثل ديكارت (رينيه ديكارت 0561 - 6951 ReneDecartes م) فيلسوف ورياضي فرنسي اشتهر بكتابه مقال في المنهج الذي كان بعيد الأثر في الفكر الغربي ، وقد ضمن هذا الكتاب نظريته المعروفة : أنا أفكر ، فأنا إذن موجود ، وقد توصل إليها بالحدس والاستقراء . له طائفة من الاكتشافات الهندسية والفيزيائية .
بمنهاجه الخاص في التحقيق ، فهو الذي أرسى للبحوث العلمية أساسا منهجيا سديدا في عصر النهضة والتجديد ، ولعله لولا هؤلاء الفلاسفة الثلاثة العظام ، لعاش ديكارت بدوره في نفس الظلمات التي عاش فيها قوم كثيرون قبل ظهور هؤلاء في متطاول القرون . وعندما صوب غاليلو منظاره الفلكي إلى قبة السماء في عام 1610 م ، كان ديكارت ما زال في الرابعة عشرة من عمره ، ولولا العلم الذي أتى به كوبرنيكوس وكبلر وغاليلو ، لما استطاع ديكارت التخلص من مخلفات التفكير السائد في المجتمع ، وإرساء قواعد البحث والتحقيق المنهجي في عصر النهضة .
ومعروف أن العلوم سلسلة متصلة الحلقات ، وإن كل علم إنما يعين في كشف علم آخر ، وهلم جرا . ولا ريب في أن جهل الإنسان بحقيقة كون الأرض والسيارات الأخرى تدور حول الشمس ، قد قعد به عن متابعة البحث والتحقيق ، وقص جناحيه حتى لا يحلق في آفاق العالم الرحيب ، وكان المسؤول الأول عن هذا القعود هو الرأي العلمي الخاطئ الذي قال به المعلم الأول (أرسطو) والذي ساعد على تعزيزه ما كان يتمتع به من نفوذ علمي ، كما سبق القول ، فلم يجرؤ أحد على معارضة رأي أستاذ يعد في عصره أستاذ الأساتذة . وجاء العالم الجغرافي المصري بطليموس بعد أرسطو بخمسة قرون ، فأكد نظريته الخاصة بدوران الشمس والكواكب حول الأرض ، وبأن الأرض نفسها ثابتة لا تتحرك . ومن العوامل الهامة أيضا في ترسيخ نظرية أرسطو واستمرارها موقف الكنائس المسيحية التي اعتقدت تأكيدا لهذه النظرية أن الأرض هي قاعدة العالم ومركزه الثابت ، وأنه لولا ذلك لما ظهر فيها ابن الله (المسيح) ، ومن هنا اعتبرت هذه النظرية عقيدة ضرورية لكل مسيحي .
وحتى ندرك أهمية الصنيع الذي قام به العلماء العظام كوبرنيكوس وكبلر وغاليلو ، نستشهد في هذا المقام بما قاله العالم الفيزيائي البريطاني (إدنجتون) المتوفى عام 1944 م من أن نظرية أرسطو بشأن ثبات الأرض ودوران الشمس والسيارات من حولها ، وهي النظرية التي أيدها بطليموس من بعده ، كانت كالكابوس الجاثم على الحركة العلمية ليخنقها ، ولو لم يرفع هذا الكابوس عن الحركة العلمية ، لما حدث التقدم العلمي الذي شهدته البشرية في عصرها الأخير .
فإذاانتقلنا إلى الشرق ، وجدنا العالم الهندي تشاندرا تشاترشي (تشاندار تشاترشي كاتب ومفكر هندي له طائفة من المؤلفات باللغة البنغالية ، وله دور هام في حركة تحرير الهند واستقلالها . وعاش قبل غاندي ، وقبل تأسيس حزب المؤتمر الهندي ، ومات سنة 1893 م عن 56 عاما . من آثاره الأدبية آنان دات كما إن النشيد الوطني الهندي مقتبس من مقطوعة أدبية له عنوانها (باندباترا) Chaterchi يقول : لولا اهتداء الإنسان إلى أن الأرض تدور حول نفسها وحول الشمس ، ولولا كشفه لهذه الحركة ، لبقي سادرا في جهله ، ولما استطاع التوصل إلى ما اهتدى إليه في العصر الحديث .
وقد أقام هؤلاء العلماء العظماء الثلاثة البراهين أمام العالم على أن آراء أرسطو وغيره من الفلاسفة ليست كلها آراء سليمة تتأبى على الطعن أو المعارضة ، وأن الكنائس المسيحية التي استندت إلى نظرية أرسطو لتعزيز رأيها بشأن ثبات الأرض كانت مخطئة بدورها . وظلت الكنائس المسيحية طوال هذه الفترة تستند إلى نظرية أرسطو الفلكية في دعم رأيها بشأن ثبات الأرض ، دون أن تحاول تمحيصها أو نقدها ، حتى جاء الكاردينال نيقولا دوكوزا في عام 1460 م فتصدى لهذا الرأي بالمعارضة الجريئة .
فقد كان العرف المتبع في ذلك الوقت هو منع صغار رجال الدين من دخول مكتبة الفاتيكان الغنية بالكتب والمراجع ، في حين إن القساوسة من ذوي الرتب الدينية الرفيعة كان حقهم التردد على المكتبة والانتفاع بما فيها من ذخائر .
ويعزى الفضل إلى مكتبة الفاتيكان في نقل القسم الأعظم من معارف الأمم الإغريقية والرومانية وثقافاتها إلى الأمم الأوروبية والأمريكية . صحيح إنه كانت في أوروبا مراكز ومكتبات علمية أخرى ، ولكن هذه المراكز لم يكن لها أثر إيجابي في حفظ تراث الإغريق والرومان ونقله إلى الأوروبيين ، لأنها لم تحظ بما حظيت به مكتبة الفاتيكان من أسباب الرعاية والوقاية من آثار الحروب والدمار التي حلت بأوروبا ، ولا عجب فالجيوش والأمم المتطاحنة هي جيوش وأمم مسيحية ممن تحاذر إلحاق أي أذى بالفاتيكان الذي يضم المقر البابوي ، أو بمكتبة الفاتيكان ، تقديسا منها لباب روما ، وهكذا نجت مكتبة الفاتيكان من آثار الحروب .
يضاف إلى ذلك أن هذه المكتبة كانت على الدوام مسندة إلى عدد من القساوسة والعلماء المسيحيين ، يشرفون عليها ويحرصون على ذخائرها ويصونونها من أيدي العبث والتلف . بل إن الجامعات الأوروبية القديمة ، كجامعات بادوا في إيطاليا وأوكسفورد في إنجلترا والسوربون في فرنسا لم يكن لها ما لمكتبة الفاتيكان من دور في حفظ التراث العلمي والأدبي لليونان والرومان ونقله ، لأنها جميعا أسست في الألف الثانية بعد الميلاد ، واستفادت بعد تأسيسها من مكتبات الفاتيكان وغيرها من المراكز الدينية التي حرصت على صيانة الكتب . أما ملوك أوروبا وأمراؤها وأشرافها فكانوا في غالبيتهم من الأميين الذين لا يعرفون القراءة أو الكتابة ، فكيف بعامة الناس . ولم تعن بحفظ الكتب وصيانتها في أوروبا إلا المراكز الدينية الهامة ، ولولا سعيها إلى صيانة المؤلفات المدونة باللغات اليونانية واللاتينية والسريانية ، لما انتهى تراث اليونان والرومان إلى الأمم الأوروبية اليوم .
كانت مكتبة الفاتيكان ، كما سلف القول ، أغنى المكتبات بمقتنياتها من كتب اليونان واللاتين القديمة ، ولكن الانتفاع بذخائرها كان مقتصرا على ذوي الرتب المطرانية أو الكاردينالية من رجال الدين الذين تتألف منهم المجموعة المشرفة على الكنائس ، فكان من حق هؤلاء فقط دخول مكتبة الفاتيكان وتناول ما فيها من كتب قديمة ، أما اليوم ، فقد تغير الوضع ، وصار مسموحا لجميع رجال الدين بالتردد على المكتبة والانتفاع بكتبها بغض النظر عن رتبهم .
وهكذا نرى أن المساواة في البحث العلمي كانت منعدمة حتى في الكنائس الكاثوليكية ، وإن النظام الطبقي الديني كان يحول دون الانتفاع بالمكتبة بالنسبة لصغار رجال الدين ، إذ كان قادة الكنيسة وأساقفتها يرفضون أن يجلسوا جنبا إلى جنب مع صغار القساوسة في قاعات المكتبة للاطلاع على نفس الكتب والمراجع . أما الإعارة الخارجية للكتب من مكتبة الفاتيكان ، فكانت محظورة ، مما ساعد على حفظ هذه الكتب من الضياع ، وما زال هذا التقليد مستمرا إلى يومنا هذا .
فالكتب لا تعار وإنما يجوز تصويرها . وكما سبق القول ، فقد أتيحت للكردينال نيقولا دوكوزا فرصة دخول مكتبة الفاتيكان وتناول ما فيها من كتب ، يضاف إلى ذلك إنه كان يجيد اللغة اليونانية ، فاستطاع بذلك الوقوف على كتب فلاسفة الإغريق ، ومنهم أرسطارخوس الذي كانت له نظرية بشأن حركة الأرض ودورانها . ولما عاد من الفاتيكان إلى مسقط رأسه في ألمانيا ، كتب رسالة علمية حول الحركة الوضعية والانتقالية للأرض ، ولكن هذه الرسالة ظلت مخطوطة لانعدام وسائل الطباعة وقتذاك ، ولكن استنسخت منها نسخ لفائدة المهتمين بهذا الموضوع .
كان ذلك في عام 1460 أي قبل ميلاد كوبرنيكوس بثلاثة عشر عاما ، ولكن نظرية دوران الأرض حول الشمس اشتهرت باسم العالم الرياضي والمنجم البولوني كوبرنيكوس وليس باسم نيقولا دوكوزا ، لأن الثاني كان من رجال الدين المجهولين في الأوساط العلمية ، ولأنه نقل نظريته عن فلاسفة اليونان . أما كوبرنيكوس فكان من رجال العلم ، كما إنه أثبت نظريته بشأن دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس بالمناهج العلمية ، مما أثار اهتمام الأوساط العلمية بكشوفه .
وقد ظلت رسالة نيقولا دوكوزا غير معروفة أولا لأنها كتبت خارج دائرة الفاتيكان ، وثانيا لأنه ردد آراء فلاسفة اليونان دون تجريب عملي أو تحليل علمي ، فلم يأخذها الناس مأخذ الجد ، لا سيما وهي تتعارض مع رأي الفاتيكان بشأن ثبات الأرض ، وهو الرأي الذي أصبح قضية بديهية مسلمة لدى الكنائس والمسيحيين . وها هو ذا أبو الرياضيات الحكيم اليوناني فيثاغورس يقول في مقدمة علم الهندسة : إن القضايا البديهية لا يحتاج إثباتها إلى دليل ، وقد اشتهر هذا المبدأ في ما بعد .
ودلل على ذلك بقوله إن العشرة أكبر من خمسة ، وهي قضية بديهية لا تحتاج إلى برهان أو دليل ، وإن الخمسين رطلا أثقل من الأربعين ، وهذه بدورها من البديهيات التي لا تحتاج إلى برهان ، وحركة الشمس والأجرام السماوية لا تحتاج إلى دليل لأن الإنسان منذ خلق وهو يرى بعينيه أن الشمس والنجوم تتحرك وتدور . فموضع الشمس عصرا يختلف عن موضعها صباحا . كذلك كان ثبات الأرض وانعدام الحركة فيها من القضايا البديهية الأخرى ، لأن الإنسان لم ير حركة بأم العينين ، وإن العمائر والمباني التي يشيدها بالغا ما بلغ ارتفاعها أو حجمها ، باقية في مكانها إلى أن تزول بسبب عوامل التعرية من مطر وشمس ورياح ، وإن الجبال والتلال راسخة في مكانها على مدى العمر والدهر . فلو قيل إذن إن الأرض تدور ، وإن لها حركتين إحداهما حول نفسها والأخرىحول الشمس ، لاعتبر هذا القول من قبيل الخرافات والأساطير ، ولاتهم قائله بأنه يهزل أو بأن به مسا من جنون .
وقد قلنا إن نظرية الضوء للإمام جعفر الصادق (عليه السلام) قد فتحت الطريق أمام الباحثين حتى انتهت بهم إلى صنع المنظار الفلكي ورصد الأجرام السماوية ، وقادتهم إلى انطلاقة عصر النهضة والتجديد . ولولا أن الصناعة لم تكن في عصر الإمام الصادق (عليه السلام) قد بلغت مرحلة تمكن الإمام من صنع منظار أو مرقب فلكي لرصد الأجرام السماوية وتسجيل حركة السيارات ، لكان قد نجح بفكره النافذ في تحقيق ما انتهى إليه العظماء الثلاثة ، ولكن هذا لا يقلل من أهمية نظرية الضوء التي طلع بها الإمام قبل اثني عشر قرنا من هذا التأريخ . وإذا كان نيوتن قد اكتشف قانون الجاذبية عندما سقطت تفاحة من شجرة على رأسه ، فهل يعاب عليه أنه لم يقذف تفاحة لتدور حول الأرض كما هو شأن الأقمار الصناعية في عصرنا هذا ؟ بالطبع لا .
وقد بات معروفا للناس جميعا أن الأقمار الصناعية التي تطوف حول الأرض ، أو التي أطلقت صوب القمر والمريخ تخضع جميعا لقانون الجاذبية الذي كشفه نيوتن ، فإن كان نيوتن نفسه لم يوفق إلى الاستفادة من كشفه العلمي بالكيفية التي تأتت في عصرنا هذا ، فذلك لا يقلل من أهمية قانون الجاذبية ، ولا منفضل نيوتن في تحقيق هذا الكشف العلمي . ولن يجترئ أحد فيقول إن عجز نيوتن عن إطلاق قمر صناعي إلى الفضاء دليل على أن كشفه العلمي كان بلا قيمة ، فمثل هذا القول يرتد إلى صدر صاحبه ويؤكد فساد تفكيره وقلة فهمه . وهناك نقطة بالغة الأهمية في نظرية الإمام الصادق (عليه السلام) بشأن الضوء ، هي تأكيده بأن الضوء ينعكس من الأجسام إلى العين (جاء في خبر الربيع : قرأ هندي عند المنصور كتب الطب ، وعنده الصادق (عليه السلام) ، فجعل ينصت لقراءته ، فلما فرغ قال : يا أبا عبد الله ، أتريد مما معي شيئا ؟ قال : لا ، لأن ما معي خير مما هو معك ، ثم ينتهي الحوار بإلقاء أسئلة علمية وطبية من الصادق (عليه السلام) على الطبيب الهندي الذي يعجز عن الرد عليها ، منها قول الصادق (عليه السلام) حول العيون وانعكاس النور إليها : وجعل الحاجبان من فوق العينين ليردا عليهما من النور قدر الكفاية .
ألا ترى يا هندي أن من غلبه النور جعل يده على عينيه ليرد عليهما قدر كفايتهما منه ؟)(2) ، وهو قول يناقض التفكير الذي كان سائدا في ذلك العصر وكان مؤداه أن الضوء ينعكس من العين على الأجسام المرئية . والإمام الصادق (عليه السلام) وهو أول عالم في تأريخ الإسلام كله يناقض هذا الرأي السائد . فقد قال إن الضوء لا ينعكس من العين على الأجسام بل الذي يحدث فعلا هو نقيض ذلك ، أي إن الضوء ينعكس من الأجسام ويصل إلى العين .
دليل ذلك أننا لا نرى في الظلمة شيئا ، ولو أن العين كانت تعكس الضوء على الأجسام لشاهدنا الأجسام نهارا وليلا . وللإمام الصادق (عليه السلام) نظرية أخرى عن الضوء وحركته وسرعته لا تقل أهمية عن نظريته الخاصة بالضوء وانعكاساته . فمما قاله أن الضوء ينعكس من الأجسام على العين بسرعة كلمح البصر أي إن الإمام الصادق (عليه السلام) عرف أن للضوء حركة كلمح البصر ، ولو أسعفته الوسائل التقنية الحديثة لاستطاع أن يقيس هذه السرعة بدقة متناهية .
فهو إذن قد اكتشف نظرية الضوء ، وقال إن للضوء حركة وإن هذه الحركة سريعة جدا ، أفلا يدل هذا كله على أنه كان سابقا على عصور علمية كثيرة ؟ وقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله في بعض دروسه إن الضوء القوي الساطع يستطيع تحريك الأجسام الثقيلة ، وإن النور الذي ظهر لموسى على جبل الطور لو كانت مشيئة الله ، لحرك الجبل .
ومن مؤدى هذه الرواية أن الإمام الصادق (عليه السلام) تنبأ بأساس نظرية (أشعة الليزر) ، وفي رأينا أن آراء الإمام في الضوء وحركته وانعكاس أشعته من الأجسام إلى العين أهم من نظرية (أشعة الليزر) ، لأن هذه النظرية قد عرفت مقدماتها قبل الصادق (عليه السلام) وفي الأزمنة القديمة وعند مختلف الأقوام والشعوب .
ففي مصر القديمة مثلا ، كان الناس يعتقدون بأن الضوء ينفذ من الأجسام ويحركها ولا تحول دونه حتى الجبال ، وإن الضوء الضعيف لا ينفذ في كل شيء ولا يجاوز الأجسام الصلبة أو الجبال ، في حين إن الضوء القوي يفعل هذا إن شاء ! ! ويبدو أن أمثال هذه النظرية كان شائعا عند أقوام كثيرة قبل ظهور الأديان السماوية ، وكانت هذه الأقوام تعتقد أن القدرة التي يتمتع بها الضوء من فعل السحرة .
وليست لدينا معلومات دقيقة عن مبدأ هذه الفكرة وتأريخها ، ولكننا لو تركنا جانبا موضوع الطاقة الكامنة في الضوء ، فإن الذي قاله الإمام الصادق (عليه السلام) عن الضوء وحركته يتفق تماما مع ما أثبته البحث العلمي المعاصر . وغاية ما في الأمر أن العلم الحديث قاس سرعة الضوء وهي ثلاثمائة ألف كيلومتر في الثانية الواحدة ، ولكن هذا المقياس لا يجدي في قياس المسافات الفلكية الشاسعة في الدراسات الفضائية .
المصادر:
1- تأريخ الفكر العربي لعمر فروخ : 107 - 108
2- المناقب 4 : 260