
بسم الله الرحمن الرحيم
إن إقامة مؤتمر تكريمي إحياءاً لذكرى الشاعر والكاتب الفارسي الكبير مصلح الدين "سعدي الشيرازي" هي من خيرة الخطوات التي شهدها عالم الأدب والثقافة الثورية في هذا العصر، فتكريم "سعدي" هو تكريم للأخلاق والحكمة والمعرفة البليغة وليس للشعر والنثر البليغ وحسب؛ وقد حوّلت الثورة الإسلامية المباركة حياتنا - نحن شعب إيران - في هذا العصر الى وطن للقيم الإسلامية،
ووضعت الحكمة والمعرفة في محلّها المناسب؛ لذا فمن الحريّ بالمقدّرين للقيم الإسلامية أن يكون الذكر الجميل لـ"سعدي" حيا على ألسنتهم وفي أذهان سالكي هذا الوادي مكرراً ومؤكداً.
أقدّم خالص شكري لمعدّي ومنظمي هذا المجتمع التحقيقي والأدبي والفني، وأُكرم وأقدّر هذا العمل الإبتكاري الكبير.
لا شك أن "سعدي" هو أحد أعمدة صرح الأدب الفارسي
وتشكّل ثمار شعره ونثره إحدى أكثر شجر ثقافتنا المعاصرة بركة وعظمة، فمواعظ "سعدي" المستقاة من معارف القرآن والأحاديث الشريفة كان لها على الدوام تأثيراً بالغاً على أهل الموعظة، فيما كان بيانه الفصيح الصريح كاشفاً لأسرار كنوز المعاني السامية أمام الأمم المشتاقة لها والباحثة عنها.
واليوم - كما هو الحال علـى الـدوام - يستطيع أحباب البلاغة وأولو الألباب أن يجدوا أعز هدية يطلبونها في بدايع طيبات ديوانه ويحصلوا على أجمل زهور الفكر البشري في رياض مصفّى نظمه ونثره.
إن أفضلية "سعدي" على الكثير من نجوم اللغة الفارسية تكمن في احترامه لقدر البيان فلم يجعله وسيلة للتزلف والإرتزاق، فقلّة من أصحاب البيان لم ينثروا عطايا البيان السماوية عند أقدام حكام عصورهم ولم يصقلوا بها سيف الظلم.
و"سعدي" هو من هذه الثلة النادرة فهو كان إذا يفتح بالمدح لسانه أحياناً لم يكن يضع في كأس مدحه الذهبي سوى الدواء الشافي والحامل أحياناً لمرارة الموعظة.
حمل شعره ونثره - وهو السائح الذي شاهد الدنيا، والعارف الصادق بالإنسان - على الدوام ورسالته مستقياً لها إما من منبع الوحي وكنوز القرآن والحديث أو من أنوار قلبه وإحساسه النقي.
ومن المميزات الأخرى لهذا المعلّم الجماهيري العظيم، هي إنسيابية بيانه الشفاف والخالي من التكلف، فكلامه مثل الماء الزلال يروي روح المستمع قطرة قطرة
ويدخل قلبه خالياً بالكامل من غبار التكلف، وكثيرون هم الذين تسنّموا عروش الفصاحة في مملكتَي النظم والنثر، ولكن "سعدي" هو وحده الذي استطاع إيجاد شعر سلس مثل النثر، ونثر رصين مثل الشعر، وأعدّ خليطاً عجيباً من المضمون والتركيب والمعنى واللفظ في الشعر والنثر.
وعلى أي حال فهذه فرصة حانت لإظهار الإعجاب بهذا الصانع لقلائد البيان البديع والمعاني السامية، وحريّ اليوم أن يبيَّن ويقدَّر حق كلامه الذي شد إليه وعلى مدى قرون أذهان الحزين والمسرور، وأحاط بالعشق والشباب والضعف والشيخوخة، وعلّم آداب الحديث للشيب والشباب، وكشف أسرار التربية للعالم والعارف.
ولكن لا يمكن تحقق هذا التقدير الحقيقي له بدون معرفته بصورة صحيحة. وعلى هذا المؤتمر أن يعرف الجوانب المجهولة في شخصية "سعدي" وإشراقات نتاجه وإبداعه الفني، وأن يعبّد الطريق أمام الجيل الثوري المعاصر للإستفادة من هذا الكنز الثمين
وهذا أفضل تكريم له، وهو مهمة ضرورية، وواجب لازم على الجمهورية الإسلامية القيام به تجاه الرموز الخالدة لعالم الفن والأدب الجماهيري السليم.
إن الأدب الثوري لا يسعى الى هدم بناء الثقافة والأدب التاريخي في هذا البلد من الأساس واستبداله بشيء جديد، فسابقة آدابنا وفنوننا تشكّل ميراثاً قيـّماً ينبغي أن يمنح لأدب الثورة الأساس والقوة ومشعل الهداية الذي يحمله شعر الثورة وفنـّها، يستطيع إضاءة كافة الآفاق والأوعية المتقبلة للفن والعارفة بالبيان، وذلك من خلال الوقوف بثبات فوق القلعة العظيمة التي يشكّلها هذا الميراث الأدبي القيّم.
ومع أن "سعدي الشيرازي" يحظى هنا بموقع متميز لكونه كان على الأغلب يحمل في منطقه وقلبه كثيراً من هذه القيم، التي انتشرت اليوم وببركة الثورة لتعطّر أجواء كافة نواحي حياة الشعب، لكن دعم النتاجات الشعرية والفنية الإبداعية تمثّل في نظام الجمهورية الإسلامية موقفاً مستلهماً من القرآن وسنّة الرسول والأئمة المعصومين (عليهم السلام)
والثورة الإسلامية في مضمونها مناصِرة ومقدِّرة للفن والأدب.
وللآداب والفنون - باعتبارها وسيلة لتبيان أسمى الأفكار الإسلامية - موقع متميز في التاريخ، وينبغي أن يكون لها موقع مماثل اليوم أيضاً.
لا ريب بأن الثورة تغيّر اتجاه الأدب والفن وتضعه في المسار المطلوب، وهذا الواقع يصنِّف بطبيعته الشعراء والفنانين والأدباء الى طوائف، أولئك الذين يسيرون مع هذا التغيير الأساسي أو لا يبادرون على الأقل لمعاداته، وأولئك الذين يحاربون - عن عداء وعناد - الحركة الثورية للشعر والأدب؛
وهذه الطبيعة الدائمة للتحولات الإجتماعية في كل مكان في العالم، وهذا ما يتكرر اليوم في ثورتنا الإسلامية العظيمة، وأدى الى وقوع البعض في حالة من الشك والقلق تجاه مصير تناسق حركة الفن والأدب مع هذه الثورة.
وحقيقة الحال هي أن الثورة، ولكونها منطلقة من أفكار وقلوب ومساعي وجهود الجماهير الإنسانية، فهي بذاتها المولّدة للشعر والأدب والفن، لأن هذه مقولات إنسانية وشعبية، فحيثما وجدت الجماهير وجد الأدب والشعر والفن، والموجود من هذا حقاً هو ما يفكر به الناس وما يريدونه، وما عداه فلا يدخل القلب ولا يكون له البقاء.
وإضافة لما تقدّم، فإن الثورة الإسلامية تقرر احتراماً كبيراً لنتاجات فكر الإنسان ولبـّه لأنها تؤمن بقوة بخلاقية الإنسان، لذلك لم تتوقف ولم تجمد حركة النشاطات الأدبية والفنية في مجتمعنا الثوري على الرغم من تنكّر وجفاء بعض الأدباء المنفصلين عن الشعب فلم يؤدّ إعراض هؤلاء، الذين لم يرغبوا في فهم وتقدير الغليان الثوري للشعب، الى خمود وتوقف هذه الحركة المتفجرة، فبراعم الأدب والفن الثوري أخذت تتفتح وتنمو في نفس الإتجاه الذي أشارت إليه الثورة، فاستجاب الكثير من أهل البلاغة والبيان لدعوة الثورة. ونحن اليوم نتوقع مستقبلاً مزهراً وأكثر إشراقة من أي وقت مضى للفنون الأدبية الفارسية.
والقضية التي أرى من المفيد ذكرها هنا هي أن الثورة لا تظل منتظرة لهذا أو ذاك في حركتها البنّاءة؛ وعلى سالكي الطريق أن يبادروا هم لعثور على مسيرة الثورة والتمسك بعراها لكي لا يتخلّفوا عن قافلة الحياة والكمال، ونداء الثورة لكافة أهل البيان والكتّاب والفنانين والأدباء هو دعوة للفلاح والصلاح والبقاء، وهذه ثمرة تجارب التاريخ الخالدة.
وفي نهاية الحديث، أكرر الشكر لمنظمي هذا المؤتمر العظيم، وأرحّب بجميع الضيوف المحترمين من الإيرانيين والأجانب، وأسال الله تعالى التوفيق للجميع.
المصدر :
ترجمة الرسالة التي وجهها سماحة آية الله العظمى السيد الخامنئي (حفظه الله) الى المؤتمر الذي أقيم تكريماً للشاعر الإيراني الشيخ مصلح الدين الشيرازي، المعروف بـ"سعدي"، بمناسبة مرور ثمانية قرون على ولادته (25/11/1984 م).