
بعث علي عليه السلام مالک الأشتر على الموصل ونصيبين ، ودارا ، وسنجار ، وآمد ، وهيت ، وعانات ، وما غلب عليه من تلك الأرضين من أرض الجزيرة.
وبعث معاوية بن أبي سفيان الضحاك بن قيس على ما في سلطانه من أرض الجزيرة ، وكان في يديه حران والرقة والرها وقر قيسيا. وكان من كان بالكوفة والبصرة من العثمانية قد هربوا فنزلوا الجزيرة في سلطان معاوية ، فخرج الأشتر وهو يريد الضحاك بن قيس بحران ، فلما بلغ ذلك الضحاك بعث إلى أهل الرقة فأمدوه ، وكان جل أهلها يومئذ عثمانية ، فجاءوا وعليهم سماك بن مخرمة ، وأقبل الضحاك يستقبل الأشتر ، فالتقى الضحاك وسماك بن مخرمة ، بمرج مرينا بين حران والرقة ، فرحل الأشتر حتى نزل عليهم فاقتتلوا اقتتالا شديدا حتى كان عند المساء ، فرجع الضحاك بمن معه فسار ليلته كلها حتى صبح بحران فدخلها ، وأصبح الأشتر فرأى ما صنعوا فتبعهم حتى نزل عليهم بحران فحصرهم ، وأتى الخبر معاوية فبعث إليهم عبد الرحمن بن خالد في خيل يغيثهم ، فلما بلغ ذلك الأشتر كتب كتائبه ، وعبى جنوده وخيله ، ثم ناداهم الأشتر : ألا إن الحي عزيز ، ألا إن الذمار منيع ، ألا تنزلون أيها الثعالب الرواغة؟ احتجرتم احتجار الضباب. فنادوا : يا عباد الله أقيموا قليلا ، علمتم والله أن قد أتيتم. فمضى الأشتر حتى مر على أهل الرقة فتحرزوا منه ، ثم مضى حتى مر على أهل قرقيسيا فتحرزوا منه ، وبلغ عبد الرحمن بن خالد انصراف الأشتر فانصرف. فلما كان بعد ذلك عاتب أيمن بن خريم الأسدي معاوية ، وذكر بلاء قومه بني أسد في مرج مرينا. وفي ذلك يقول :
أبلغ أمير المؤمنين رسالة *** من عاتبين مساعر أنجاد
منيتهم ، أن آثروك ، مثوبة *** فرشدت إذ لم توف بالميعاد
أنسيت إذ في كل عام غارة *** في كل ناحية كرجل جراد
غارات أشتر في الخيول يريدكم *** بمعرة ومضرة وفساد
وضع المسالح مرصدا لهلاككم *** ما بين عانات إلى زيداد
وحوى رساتيق الجزيرة كلها *** غصبا بكل طمرة وجواد
لما رأى نيران قومي أوقدت *** وأبو أنيس فاتر الإيقاد
أمضى إلينا خيله ورجاله *** وأغذ لا يجرى لأمر رشاد
ثرنا إليهم عند ذلك بالقنا ***وبكل أبيض كالعقيقة صاد
في مرج مرينا ألم تسمع بنا *** نبغي الإمام به وفيه نعادي
لو لا مقام عشيرتي وطعانهم *** وجلادهم بالمرج أي جلاد
لأتاك أشتر مذحج لا ينثني *** بالجيش ذا حنق عليك وآد
نصر : عبد الله بن كردم بن مرثد ، قال : لما قدم علي عليهالسلام حشر أهل السواد ، فلما اجتمعوا أذن لهم ، فلما رأى كثرتهم قال : إني لا أطيق كلامكم ، ولا أفقه عنكم ، فأسندوا أمركم إلى أرضاكم في أنفسكم ، وأعمه نصيحة لكم. قالوا : نرسا ، ما رضى فقد رضيناه ، وما سخط فقد سخطناه. فتقدم فجلس إليه فقال : أخبرني عن ملوك فارس كم كانوا؟ قال : كانت ملوكهم في هذه المملكة الآخرة اثنين وثلاثين ملكا.
قال : فكيف كانت سيرتهم؟ قال : ما زالت سيرتهم في عظم أمرهم واحدة ، حتى ملكنا كسرى بن هرمز ، فاستأثر بالمال والأعمال ، وخالف أولينا ، وأخرب الذي للناس ، وعمر الذي له ، واستخف بالناس ، فأوغر نفوس فارس ، حتى ثاروا عليه فقتلوه ، فأرملت نساؤه ويتم أولاده. فقال : يا نرسا ، إن الله عز وجل خلق الخلق بالحق ، ولا يرضى من أحد إلا بالحق ، وفي سلطان الله
تذكرة مما خول الله ، وإنها لا تقوم مملكة إلا بتدبير ، ولا بد من إمارة ، ولا يزال أمرنا متماسكا ما لم يشتم آخرنا أولنا ، فإذا خالف آخرنا أولنا وأفسدوا ، هلكوا وأهلكوا.
ثم أمر عليهم أمراءهم. ثم إن عليا عليهالسلام بعث إلى العمال في الآفاق ، وكان أهم الوجوه إليه الشام.
نصر ، عن محمد بن عبيد الله القرشي ، عن الجرجاني قال : لما بويع علي وكتب إلى العمال في الآفاق كتب إلى جرير بن عبد الله البجلي ، وكان جرير عاملا لعثمان على ثغر همدان ، فكتب إليه مع زحر بن قيس الجعفي (1) :
« أما بعد فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال. وإني أخبرك عن نبأ من سرنا إليه من جموع طلحة والزبير ، عند نكثهم بيعتهم ، وما صنعوا بعاملي عثمان بن حنيف.
إني هبطت من المدينة بالمهاجرين والأنصار ، حتى إذا كنت بالعذيب بعثت إلى أهل الكوفة بالحسن بن علي ، وعبد الله بن عباس ، وعمار بن ياسر ، وقيس بن سعد بن عبادة ، فاستنفروهم فأجابوا ، فسرت بهم حتى نزلت بظهر البصرة فأعذرت في الدعاء ، وأقلت العثرة ، وناشدتهم عقد بيعتهم فأبوا إلا قتالي ، فاستعنت بالله عليهم ، فقتل من قتل وولوا مدبرين إلى مصرهم ، فسألوني ما كنت دعوتهم إليه قبل اللقاء ، فقبلت العافية ، ورفعت السيف ، واستعملت عليهم عبد الله بن عباس ، وسرت إلى الكوفة. وقد بعثت إليكم زحر بن قيس ، فاسأل عما بدا لك».(2)
قال : فلما قرأ جرير الكتاب قام فقال : أيها الناس ، هذا كتاب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وهو المأمون على الدين والدنيا ، وقد كان من أمره وأمر عدوه ما نحمد الله عليه. وقد بايعه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان. ولو جعل هذا الأمر شورى بين المسلمين كان أحقهم بها. ألا وإن البقاء في الجماعة ، والفناء في الفرقة. وعلى حاملكم على الحق ما استقمتم ، فإن ملتم أقام ميلكم.
فقال الناس : سمعا وطاعة ، رضينا رضينا. فأجاب جرير وكتب جواب كتابه بالطاعة. وكان مع علي رجل من طيئ ، ابن أخت لجرير ، فحمل زحر بن قيس شعرا له إلى خاله جرير ، وهو :
جرير بن عبد الله لا تردد الهدى *** وبايع علينا إنني لك ناصح
فإن عليا خير من وطئ الحصى *** سوى أحمد والموت غاد ورائح
ودع عنك قول الناكثين فإنما *** اك ، أبا عمرو ، كلاب نوابح
وبايعه إن بايعته بنصيحة *** ولا يك معها في ضميرك قادح
فإنك إن تطلب به الدين تعطه *** وإن تطلب الدنيا فبيعك رابح
وإن قلت عثمان بن عفان حقه *** على عظيم والشكور مناصح
فحق على إذ وليك كحقه ،
وشكرك ما أوليت في الناس صالح
وإن قلت لا نرضى عليا إمامنا *** فدع عنك بحرا ضل فيه السوائح
أبى الله إلا أنه خير دهره *** وأفضل من ضمت عليه الأباطح
ثم قام زحر بن قيس خطيبا ، فكان مما حفظ من كلامه أن قال : « الحمد لله الذي اختار الحمد لنفسه وتولاه دون خلقه ، لا شريك له في الحمد ، ولا نظير له في المجد ، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له ، القائم الدائم ، إله السماء والأرض ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالنور الواضح والحق الناطق ، داعيا إلى الخير ، وقائدا إلى الهدى ». ثم قال : « أيها الناس ، إن عليا قد كتب إليكم كتابا لا يقال بعده إلا رجيع من القول ، ولكن لا بد من رد الكلام. إن الناس بايعوا عليا بالمدينة من غير محاباة له بيعتهم ؛
لعلمه بكتاب الله وسنن الحق ، وإن طلحة والزبير نقضا بيعته علي غير حدث ، وألبا عليه الناس ، ثم لم يرضيا حتى نصبا له الحرب ، وأخرجا أم المؤمنين ، فلقيهما فأعذر في الدعاء ، وأحسن في البقية ، وحمل الناس على ما يعرفون. هذا عيان ما غاب عنكم. ولئن سألتم الزيادة زدناكم ، ولا قوة إلا بالله ».
وقال جرير في ذلك :
أتانا كتاب علي فلم *** نرد الكتاب ، بأرض العجم
ولم نعص ما فيه لما أتى *** ولما نذم ولما نلم
نحن ولاة على ثغرها *** نضيم العزيز ونحمي الذمم
نساقيهم الموت عند اللقاء *** بكأس المنايا ونشفي القرم
طحناهم طحنة بالقنا ***وضرب سيوف تطير اللمم
مضينا يقينا على ديننا *** ودين النبي مجلى الظلم
أمين الإله وبرهانه *** وعدل البرية والمعتصم
رسول المليك ، ومن بعده *** خليفتنا القائم المدعم
عليا عنيت وصي النبي *** نجالد عنه غواة الأمم
له الفضل والسبق والمكرمات *** وبيت النبوة لا يهتضم
وقال رجل :
لعمر أبيك والأنباء تنمى *** لقد جلى بخطبته جرير
وقال مقالة جدعت رجالا *** من الحيين خطبهم كبير
بدا بك قبل أمته على *** ومخك إن رددت الحق رير
أتاك بأمره زحر بن قيس *** وزحر بالتي حدثت خبير
فكنت بما أتاك به سميعا *** وكدت إليه من فرح تطير
فأنت بما سعدت به ولي *** وأنت لما تعد له نصير
ونعم المرء أنت له وزير *** ونعم المرء أنت له أمير
فأحرزت الثواب ، ورب حاد *** حدا بالركب ليس له بعير
ليَهنِكَ ما سَبقْتَ به رجالاً *** من العلياء والفضل الكبير
وقال النهدي في ذلك :
أتانا بالنبا زحر بن قيس **عظيم الخطب من جعف بن سعد
تخيره أبو حسن علي ** ولم يك زنده فيها بصلد
رمى أعراض حاجته بقول ** أخوذ للقلوب بلا تعد
فسر الحي من يمن وأرضى ** العلياء من سلفى معد
ولم يك قبله فينا خطيب ** مضى قبلى ولا أرجوه بعدي
متى يشهد فنحن به كثير ** وإن غاب ابن قيس غاب جدي
وليس بموحشي أمر إذا ما **دنا مني وإن أفردت وحدي
له دنيا يعاش بها ودين **وفي الهيجا كذي شبلين ورد
قال : ثم أقبل جرير سائرا من ثغر همدان (3) حتى ورد على علي عليهالسلام بالكوفة ، فبايعه ودخل فيما دخل فيه الناس ، من طاعة علي ، واللزوم لأمره.
ثم بعث إلى الأشعث بن قيس الكندي.
نصر : محمد بن عبيد الله ، عن الجرجاني قال : لما بويع علي وكتب إلى العمال ، كتب إلى الأشعث بن قيس مع زياد بن مرحب الهمداني ، والأشعث على أذربيجان عامل لعثمان ، وقد كان عمرو بن عثمان تزوج ابنة الأشعث بن قيس قبل ذلك ، فكتب إليه علي :
« أما بعد ، فلولا هنات كن فيك كنت المقدم في هذا الأمر قبل الناس ، ولعل أمرك يحمل بعضه بعضا إن اتقيت الله ثم إنه كان من بيعة الناس إياي ما قد بلغك ، وكان طلحة والزبير ممن بايعاني ثم نقضا بيعتي على غير حدث وأخرجا أم المؤمنين وسارا إلى البصرة ، فسرت إليهما فالتقينا ، فدعوتهم إلى أن يرجعوا فيما خرجوا منه فأبوا ، فأبلغت في الدعاء وأحسنت في البقية. وإن عملك ليس لك بطعمة ، ولكنه أمانة.
وفي يديك مال من مال الله ، وأنت من خزان الله عليه حتى تسلمه إلى ، ولعلي ألا أكون شر ولاتك لك إن استقمت. ولا قوة إلا بالله ».
فلما قرأ الكتاب قام زياد بن مرحب (4) فحمد الله وأثني عليه ثم قال :
« أيها الناس ، إن من لم يكفه القليل لم يكفه الكثير ، إن أمر عثمان لا ينفع فيه العيان ، ولا يشفي منه الخبر ، غير أن من سمع به ليس كمن عاينه. إن الناس بايعوا عليا راضين به ، وأن طلحة والزبير نقضا بيعته على غير حدث ، ثم أذنا بحرب فأخرجا أم المؤمنين ، فسار إليهما فلم يقاتلهم وفي نفسه منهم حاجة ، فأورثه الله الأرض وجعل له عاقبة المتقين ».
ثم قام الأشعث بن قيس ، فحمد الله وأثني عليه ثم قال :
« أيها الناس إن أمير المؤمنين عثمان ولاني أذربيجان ، فهلك وهي في يدي ، وقد بايع الناس عليا ، وطاعتنا له كطاعة من كان قبله. وقد كان من أمره وأمر طلحة والزبير ما قد بلغكم. وعلي المأمون علي ما غاب عنا وعنكم من ذلك الأمر ».
فلما أتى منزله دعا أصحابه فقال : إن كتاب علي قد أوحشني ، وهو آخذ بمال أذربيجان ، وأنا لاحق بمعاوية. فقال القوم : الموت خير لك من ذلك. أتدع مصرك وجماعة قومك وتكون ذنبا لأهل الشام؟! فاستحيا فسار حتى قدم على علي ، فقال السكوني ـ وقد خاف أن يلحق بمعاوية : إني أعيذك بالذي هو مالك **بمعاذة الآباء والأجداد
مما يظن بك الرجال ، وإنما *** ساموك خطة معشر أوغاد
إن اذربيجان التي مزقتها *** ليست لجدك فاشنها ببلاد
كانت بلاد خليفة ولا كها *** وقضاء ربك رائح أو غاد
فدع البلاد فليس فيها مطمع ***ضربت عليك الأرض بالأسداد
فادفع بمالك دون نفسك إننا ***فادوك بالأموال والأولاد
أنت الذي تثني الخناصر دونه *** وبكبش كندة يستهل الوادي
ومعصب بالتاج مفرق رأسه *** ملك لعمرك راسخ الأوتاد
وأطع زيادا إنه لك ناصح *** لا شك في قول النصيح زياد
وانظر عليا إنه لك جنة *** ترشد ويهدك للسعادة هاد
ومما كتب به إلى الأشعث :
أبلغ الأشعث المعصب بالتا**ج غلاما حتى علاه القتير
يا ابن آل المرار من قبل الأ**م وقيس أبوه غيث مطير
قد يصيب الضعيف ما أمر**الله ويخطي المدرب النحرير
قد أتى قبلك الرسول جريرا**فتلقاه بالسرور جرير
وله الفضل في الجهاد وفي الهج**رة والدين ، كل ذاك كثير
إن يكن حظك الذى أنت فيه**فحقير من الحظوظ صغير
يا ابن ذي التاج والمبجل من كن**دة ، ترضى بأن يقال أمير؟
أذربيجان حسرة فذرنها**وابغين الذي إليه تصير
واقبل اليوم ما يقول علي**ليس فيما يقوله تخيير
واقبل البيعة التي ليس للنا**س سواها من أمرهم قطمير
عمرك اليوم قد تركت عليا**هل له في الذي كرهت نظير
ومما قيل على لسان الأشعث :
أتانا الرسول رسول علي**فسر بمقدمه المسلمونا
رسول الوصي وصي النبي**له الفضل والسبق في المؤمنينا
بما نصح الله والمصطفى**رسول الإله النبي الأمينا
يجاهد في الله ، لا ينثني ،**جميع الطغاة مع الجاحدينا
وزير النبي وذو صهره**وسيف المنية في الظالمينا
وكم بطل ماجد قد أذاق**منية حتف ، من الكافرينا
وكم فارس كان سال النزال**فآب إلى النار في الآئبينا
فذاك على إمام الهدى**وغيث البرية والمقحمينا
وكان إذا ما دعا للنزال**كليث عرين يزين العرينا
أجاب السؤال بنصح ونصر**وخالص ود على العالمينا
فما زال ذلك من شأنه**ففاز وربي مع الفائزينا
ومما قيل على لسان الأشعث أيضا :
أتانا الرسول رسول الوصي**علي المهذب من هاشم
رسول الوصي وصي النبي**وخير البرية من قائم
وزير النبي وذو صهره**وخير البرية في العالم
له الفضل والسبق بالصالحات**لهدى النبي به يأتمى
محمدا اعني رسول الإله**وغيث البرية والخاتم
أجبنا عليا بفضل له**وطاعة نصح له دائم
فقيه حليم له صولة**كليث عرين بها سائم
حليم عفيف وذو نجدة**بعيد من الغدر والماثم
وأنه قدم على علي بن أبي طالب عليهالسلام بعد قدومه الكوفة ، الأحنف بن قيس ، وجارية بن قدامة ، وحارثة بن بدر ، وزيد بن جبلة ، وأعين بن ضبيعة ، وعظيم الناس بنو تميم ، وكان فيهم أشراف ، ولم يقدم هؤلاء على عشيرة من أهل الكوفة ، فقام الأحنف بن قيس ، وجارية بن قدامة ، وحارثة بن بدر ، فتكلم الأحنف فقال : « يا أمير المؤمنين ، إنه إن تك سعد لم تنصرك يوم الجمل فإنها لم تنصر عليك. وقد عجبوا أمس ممن نصرك وعجبوا اليوم ممن خذلك ، لأنهم شكوا في طلحة والزبير ، ولم يشكوا في معاوية. وعشيرتنا بالبصرة ، فلو بعثنا إليهم فقدموا إلينا فقاتلنا بهم العدو وانتصفنا بهم ، وأدركوا اليوم ما فاتهم أمس! ».
قال علي لجارية بن قدامة ـ وكان رجل تميم بعد الأحنف ـ : ما تقول يا جارية؟ قال : « أقول هذا جمع حشره الله لك بالتقوى ، ولم تستكره فيه شاخصا ، ولم تشخص فيه مقيما. والله لو لا ما حضرك فيه من الله لغمك سياسته ، وليس (5) كل من كان معك نافعك ، ورب مقيم خير من شاخص ، ومصراك خير لك ، وأنت أعلم ».
فكأنه [ بقوله ] : « كان معك » ربما كره إشخاص قومه عن البصرة .
وكان حارثة بن بدر أسد الناس رأيا عند الأحنف .، وكان شاعر بني تميم وفارسهم ، فقال علي : ما تقول يا حارثة؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، إنا نشوب الرجاء بالمخافة. والله لوددت أن أمواتنا . رجعوا إلينا فاستعنا بهم على عدونا. ولسنا نلقى القوم بأكثر من عددهم ، وليس لك إلا من كان معك ، وإن لنا في قومنا عددا لا نلقى بهم عدوا أعدى من معاوية ، ولا نسد بهم ثغرا أشد من الشام ، وليس بالبصرة بطانة نرصدهم لها ، ولا عدو نعدهم له.
ووافق الأحنف في رأيه ، فقال علي للأحنف : اكتب إلى قومك. فكتب الأحنف إلى بني سعد :
« أما بعد فإنه لم يبق أحد من بني تميم إلا وقد شقوا برأي سيدهم غيركم شقيت سعد بن خرشة برأي ابن يثربي ، وشقيت حنظلة برأي لحيان ، وشقيت عدي برأي زفر ومطر ، وشقيت بنو عمرو بن تميم برأي عاصم بن الدلف ، وعصمكم الله برأيي لكم حتى نلتم ما رجوتم ، وأمنتم ما خفتم ، وأصبحتم منقطعين من أهل البلاء ، لاحقين بأهل العافية. وإني أخبركم أنا قدمنا على تميم الكوفة فأخذوا علينا بفضلهم مرتين : بمسيرهم إلينا مع علي ، وميلهم إلى المسير إلى الشام. ثم أخمروا حتى صرنا كأنا لا نعرف إلا بهم ، فأقبلوا إلينا ولا تتكلوا عليهم ، فإن لهم أعدادنا من رؤسائهم ، وحنانا أن تلحق فلا تبطئوا ، فإن من العطاء حرمانا ، ومن النصر خذلانا. فحرمان العطاء القلة ، وخذلان النصر الإبطاء ، ولا تقضي الحقوق إلا بالرضا ، وقد يرضي المضطر بدون الأمل ».
وكتب معاوية بن صعصعة ، وهو ابن أخي الأحنف :
تميم بن مر إن أحنف نعمة**من الله لم يخصص بها دونكم سعدا
وعم بها من بعدكم أهل مصركم**ليالي ذم الناس كلهم الوفدا
سواه لقطع الحبل عن أهل مصره**فأمسوا جميعا آكلين بن رغدا
وإعظامه الصاع الصغير وحذفه**من الدرهم الوافي يجوز له النقدا
وكان لسعد رأيه أمس عصمة**فلم يخط لا الإصدار فيهم ولا الوردا
وفي هذه الأخرى له مخض زبدة**سيخرجها عفوا فلا تعجلوا الزبدا
ولا تبطئوا عنه وعيشوا برأيه**ولا تجعلوا مما يقول لكم بدا
أليس خطيب القوم في كل وفدة**وأقربهم قربا وأبعدهم بعدا
وإن عليا خير حاف وناعل**فلا تمنعوه اليوم جهدا ولا جدا
يحارب من لا يحرجون بحربه**ومن لا يساوى دينه كله ردا
ومن نزلت فيه ثلاثون آية**تسمية فيها مؤمنا مخلصا فردا
سوى موجبات جئن فيه وغيرها**بها أوجب الله الولاية والودا
فلما انتهى كتاب الأحنف وشعر معاوية بن صعصعة إلى بني سعد ساروا بجماعتهم حتى نزلوا الكوفة ، فعزت بالكوفة وكثرت ، ثم قدمت عليهم ربيعة ـ ولهم حديث ـ وابتدأ خروج جرير إلى معاوية.
نصر : عمر بن سعد ، عن نمير بن وعلة ، عن عامر الشعبي ، أن عليا عليهالسلام حين قدم من البصرة نزع جريرا همدان ، فجاء حتى نزل الكوفة ، فأراد علي أن يبعث إلى معاوية رسولا فقال له جرير : ابعثني إلى معاوية ، فإنه لم يزل لي مستنصحا وودا ، فآتيه فأدعوه على أن يسلم لك هذا الأمر ، ويجامعك على الحق ، على أن يكون أميرا من أمرائك ، وعاملا من عمالك ، ما عمل بطاعة الله ، واتبع ما في كتاب الله ، وأدعو أهل الشام إلى طاعتك
وولايتك ، وجلهم قومي وأهل بلادي ، وقد رجوت ألا يعصوني. فقال له الأشتر : لا تبعثه ودعه ، ولا تصدقه ، فو الله إني لأظن هواه هواهم ، ونيته نيتهم. فقال له علي : دعه حتى ننظر ما يرجع به إلينا. فبعثه على عليهالسلام وقال له حين أراد أن يبعثه : إن حولي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الدين والرأي من قد رأيت ، وقد اخترتك عليهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيك : « إنك من خير ذي يمن ». ايت معاوية بكتابي ، فإن دخل فيما دخل فيه المسلمون وإلا فانبذ إليه ، وأعلمه أني لا أرضى به أميرا ، وأن العامة لا ترضى به خليفة ».
المصادر :
1- انظر تاريخ بغداد ٤٦٠٥. ح : « زجر »
2- الإمامة والسياسة ( ١ : ٧٨ ) : « فاسأله عنا وعنهم ».
3- انظر التنبيه ١ ص ١٥.
4- الإمامة والسياسة ١ : ٧٩ : « زياد بن كعب ».
5- في الأصل : « وليس كل من كان معك » والتكملة من الإمامة والسياسة لابن تتيبة ١ : ٧٥ .