
قصيدة دعبل ( رحمة الله عليه ) التي قرأها على الإمام الرضا ( عليه السلام ) ، فبكى لها ، وجَمَع العَلَويات خلف الستر ؛ لكي يسمعنَ ويبكينَ (1) فهي رواية أشهر من أن تُذكر ، وفيها يقول دعبل :
أفاطمُ لو خِلتِ الحُسين مُجدّلاً (2) وقد ماتَ عطشاناً بشطِّ فُرات
إذن لَلَطمتِ الخدّ فاطم عندهُ وأجريتِ دَمع العين في الوَجَناتِ
ويتجلّى هذا الأمر فيما نَقلهُ ابن شهرآشوب عن الإمام الصادق حيث قال : ( بكى عليّ بن الحسين عشرين سنة ، وما وضِع بين يديه طعام إلاّ بكى ، حتّى قال مولىً لهُ : جُعلتُ فداكَ يا بنَ رسول الله ، إنّي أخافُ أن تكون من الهالكين ، فقال الإمام : إنّما أشكو بثّي وحُزني إلى الله ، وأعلمُ من الله ما لا تعلمون ، إنّي لم أذكُر مصرع بني فاطمة إلاّ وخَنَقتني العبرة ) .
وفي رواية أخرى قال مولىً له : أمَا آنَ لحزنكَ أن ينقضي ؟ فقال له : ( ويحكَ ، إنّ يعقوب النبيّ كان له اثنا عشر ابناً فغيّب الله واحداً منهم فابيضّت عيناهُ من كثرة بكائه عليه ، واحدودبَ ظهرهُ من الغمِّ وكان ابنه حياً في الدنيا ، وأنا نظرتُ إلى أبي وأخي وعمّي وسبعة عشر من أهل بيتي مقتولين حولي فكيف ينقضي حُزني ) (3)
وحَسبُ فهمي أنّه لمدى تأثير البكاء في النفوس أوّلاً ، وفي الإعلام ثانياً ، وفي التربية ثالثاً ، حَصَلت هناك من المعصومين ( سلام الله عليهم ) عدّة أمور ممّا اقتضى التركيز عليها :
منها : أنّه بكى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) بعد موت أولاده ، كما وردَ عنه أنّه قال : ( يَحزن القلب ، وتدمعُ العين ، ولا نقول ما يُسخِط الربّ ) (4) .
ومنها : أنّ الإمام الباقر ( عليه السلام ) كما وردَ ، أوصى بمالٍ يُصرف من ثُلثه في نوادب يندُبنَهُ في عرفة عند الحج ، عشر سنوات (5) .
ومنها : أنّ نساء الحسين ( عليه السلام ) من قريبات وبعيدات ، بقينَ على حالة الحزن والبكاء المتواصل وترك الراحة والهدوء عدّة سنوات ، حتّى حَصَلت حركة
تجاوبنَ بالأرنان والزَفرات = نوائح عُجم اللفظ والنُطقات
وقد أنشدَها على الإمام الرضا ( عليه السلام ) ، فلمّا وصلَ إلى قوله :
وقبرٌ ببغداد لنفس زكيّةٍ = تَضمّنها الرحمان في الغُرفاتِ
قال الرضا ( عليه السلام ) : ( أفلا أُلحِق لك بيتين بهذا الموضع بها تمام قصيدتك ، فقال : بلى ، يا بن رسول الله ، فقال الإمام الرضا ( عليه السلام ) :
وقبرٌ بطوسٍ يا لها من مصيبةٍ ألَحّت على الأحشاءِ بالزَفرات
إلى الحشر حتّى يبعث الله قائماً يُفرِّجُ عنّا الغمِّ والكُربات
فقال دعبل : هذا القبر الذي بطوس قبرُ مَن ؟ قال الرضا عليه السلام : هو قبري) (6)
وادّعى بعضهم أنّ هذا العمل غير جائز ، باعتبار أنّ صوت المرأة عورة ويَحرم على الأجانب سماعه ، وقد ردّ هذا القول السيّد المقرّم في مقتله : ص105 بأفضل جواب ، بحيث لم يبقَ شكّ في بطلان هذا القول وصحّة فعل الإمام ( عليه السلام ) ، فراجع .
المختار الثقفي (هو المختار بن أبي عبيد بن عمرو بن عمير ، بن عوف بن عقدة بن غبرة بن عوف بن ثقيف الثقفي ، أبو إسحاق ، كان أبوه من جُلّة الصحابة ، وولِدَ المختار عام الهجرة وليست له صُحبة ولا رواية .
وقد خرجَ يطلب بثأر الحسين بن علي ( عليه السلام ) ، واجتمعَ عليه كثير من الشيعة بالكوفة فغلبَ عليها وطلبَ قَتَلة الحسين ( عليه السلام ) ، فَقَتلهم ومنهم : شمر بن ذي الجوشن الضبابي ، وخولي بن يزيد الأصبحي ، وعمر بن سعد بن أبي وقّاص ، وهو أمير الجيش الذي قاتلَ الحسين ، وقتلَ ابنهُ حَفصاً ، وقتلَ عُبيد الله بن زياد ، حيث كان ابن زياد بالشام ، فأقبلَ في جيش إلى العراق ، فسيّر إليه المختار إبراهيم بن الأشتر في جيش فلقيه في أعمال الموصل ، فقتلَ ابن زياد وغيره ، ولذلك أحبّه كثيرٌ من المسلمين وأبلى في ذلك بلاءً حسناً .
وكان يُرسل المال إلى : ابن عمر ، وابن عبّاس ، وابن الحنفيّة وغيرهم فيقبلونهُ منه ، وكان ابن عمر زوج أخت المختار وهي : صفيّة بنت أبي عُبيد ، ثُمّ سار إليه مصعب بن الزبير من البصرة في جمعٍ كثير من أهل الكوفة وأهل البصرة ، فَقَتلَ المختار بالكوفة سنة 67هـ ، وكانت إمارتهُ على الكوفة سنة ونصف ، وكان عمرهُ سبعاً وستّين سنة )(7)
الذي حاولَ قتل المعتدين من قَتَلة الحسين ( عليه السلام ) وأصحابه في الطف (8).
ومنها : أنّ الدعاء الموسوم بالندبة (9) ، إنّما هو إشعار للنفس بالحزن العميق لغيبة الإمام المهدي ( عليه السلام ) ، فلماذا الحُزن إن كان في غيبته حكمة إلهيّة وتسبّب لانتصاره يوم ظهوره ؟ وما ذلك إلاّ لأنّ البكاء شكل من أشكال التربية ، وشكل من أشكال الإعلام . ولنسمع فيما يلي فَقرات من دعاء الندبة هذا ؛ لنجد التركيز فيه على الحُزن العميق : ( ليتَ شِعري أين استقرّت بكَ النوى ؟ (10)
بل أيّ أرضٍ تَقلّك أو ثرى ؟ أبرضوى أو غيرها أم ذي طوى ؟ (11)
عزيزٌ عليّ أن أرى الخلق ولا تُرى ، ولا أسمعُ لك حسيساً ولا نجوى ، عزيزٌ عليّ أن تُحيط بكَ دونيَ البلوى ولا ينالُك منّي ضجيجٌ ولا شكوى ...... هل من معُين فأُطيل معهُ العويل والبكاء ؟ هل من جزوعٍ فأُساعدُ جَزعهُ إذا خلا؟.... هل قَذيت عينٌ فساعَدتها عيني على القذى ؟ هل إليك يا بن أحمدٍ سبيل فتلقى ؟ هل يتّصل يومنا منك بغدهِ فنحظى ......... إلخ ) (12)
هذا ، وسيأتي مزيد إيضاح وتفصيل حول هذه الفكرة بعون الله تعالى .
أسئلةٌ حول شَخص الحُسين ( عليه السلام )
نُثير فيما يلي عدداً من الأسئلة عن بعض الجوانب العامّة من واقعة كربلاء ، ممّا يرتبط بشخص الحسين ( عليه السلام ) جهد الإمكان ، بصفتهِ الشخص الرئيسي والأهمّ هناك ، وكذلك بصفتهِ الشخص الوحيد المعصوم المطلّع على الواقعيّات فيهم ، نُثير هذه الأسئلة لكي نستفيد من أجوبتها تاريخيّاً ومعنويّاً :
السؤالُ الأوّل :
لا شكّ أنّ الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، قد حصلَ تاريخيّاً أنّه بعد أن قُتلَ أصحابه وأهل بيته بقى وحيداً فريداً بين الأعداء ، لا يجد له ناصراً ولا مُعيناً (13)
فهل شعرَ بذلك من الناحية المعنويّة ؟
جوابهُ : النفي بطبيعة الحال ؛ لأنّه يشعُر أنّهُ مع الله جلّ جلاله ومَن كان مع الله كان الله معهُ ، وقال تعالى : ( إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ) (14)
وقال تعالى : ( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ ) (15)
وما دامَ الحسين ( عليه السلام ) مع الله سبحانه ، إذاً لا يهمّهُ أن يكون أحد من الخلق معهُ على الإطلاق .
وقد يخطر في البال : إنّ هذا الذي قلناه ينافي ما ورد عنهُ ( عليه السلام ) أنّه قال في ذلك الحال : ( هل من ناصرٍ ينصُرنا ؟ هل من مُعينٍ يُعيننا ؟ هل من ذابٍّ يذبّ عن حُرَم رسول الله صلّى الله عليه وآله ) (16)
وهذا يدلّ على أنّه طلبَ النُصرة من الآخرين على أيّ حالٍ ، وهذا هو الفهم العام بكلّ تأكيد لهذه العبارة ، من كلّ مَن جَعلَ الدنيا مبلغ علمهُ وأقصى همّه وغاية تفكيره .
وهو لا شكّ يحتوي على سوء فهمٍ فضيع لهذه العبارة ، فإنّ الحسين ( عليه السلام ) إنّما قالها لا لأجل نفسه ، وحاشاهُ أن ينظر إلى غير الله عزّ وجل ، وهو الذي قيل إنّه استشهدَ ببعض الأبيات ممّا سمعناهُ فيما سبق :
تركتُ الخلقَ طُرّاً في هواكا وأيتمتُ العيال لكي أراكا
ولو قطّعتَنني في الحُبّ إرباً لمَا مالَ الفؤاد إلى سواكا
والمهمّ أنّ هذا الأمر شَعرَ به عددٌ لا يُستهان به من الناس طول التاريخ ، ممّن لا يتّصف بالعصمة فكيف حال المعصوم نفسه ، وإنّما نتخيّلُ نحنُ غير ذلك ؛ لأنّنا لا نفهم مستوى المعصوم ، ولا يخطر في بالنا ما يمكن أن يكون عليه تجاه الله عزّ وجل ، وإنّما طَلبُ الناصر من قِبَله ( عليه السلام ) كان لفائدة الآخرين بلا شكّ ، ولكنّه اتخذ تلك الحالة سبيلاً للنطق بتلك التعبيرات ، حتّى لا يضع كلّ موعظة في غير محلّها ولكي يتكلّم مع الناس على قدر عقولهم .
وما يمكن أن يُتصوّر من فوائد لهذه الجملة ، عدّة أمور :
الأمرُ الأوّل :
طلبُ الناصر ممّن يولَد ويوجد خلال الأجيال ، ليكون مُحبّاً للحسين ( عليه السلام ) ، سائراً في طريقه ، مُضحيّاً في سبيل دينه بمقدار ما يقتضيه حاله ، وكلّ مَن كان كذلك في أيّ زمانٍ ومكان فقد أجاب الحسين ( عليه السلام ) للنُصرة .
الأمرُ الثاني :
طلبُ الناصر من البشر الموجودين في ذلك العصر ، وتذكيرهم بمسؤوليّتهم الكبرى المباشرة في الذبّ عن إمامهم المعصوم ( عليه السلام ) أمام الله عزّ وجل ، وذلك يكون موازياً لمضمون ما وردَ من أنّ : ( مَن سَمعَ واعيتنا ولم ينصُرنا أكبّه الله على مَنخرَيه في النار ) (17) .
الأمر الثالث :
طَلبُ الناصر من الجيش المعادي الواقف أمامه في ذلك الحين ؛ وذلك لنتيجتين : لأنّهم كلّهم حين يسمعون ذلك فإمّا أن يستجيب منهم أحد أولا ، فإن لم يستجب كان هذا النداء حُجّة عليه وقهراً له في الآخرة ، وتركيزاً لأهميّة عقابه ، وإن استجاب بعضهم كان ذلك النداء رحمةً له وسبباً لتوبته وهدايته ، كما تابَ الحرّ الرياحي رضوان الله عليه ساعتئذ ، وأثّر هذا النداء في نفسه تأثيره الصحيح (18) .
ويكفينا أن نتصوّر : لو أنّ عدداً مهمّاً من الجيش المُعادي قد التحقَ بالحسين ( عليه السلام ) ، أو التحقَ الجيش كلّه ، كيف سيكون حال التاريخ الإسلامي عندئذٍ ؟ ولكنّهم على أيّ حال لم يكونوا يستحقّون التوبة ولا الرجوع عن الحوبة ( قبّحهم الله ) .
ولا ينبغي أن يخطر على البال : أنّه من خطل القول طلبُ النصرة من الأعداء مباشرة ، ولم يحصل مثل ذلك خلال التاريخ البشري .
المصادر :
1- مقتل الخوارزي : ج2 ، ص130 ، الدمعة الساكبة : ص77 ( نقلاً عن الإربلي في كشف الغمّة ) .
2- مُجّدلاً : بمعنى مرمي مُلقى على الأرض قتيلاً ( مجمعُ البحرين : ج5 ، ص336 ) .
3- ابن شهرآشوب : ج32 ، ص303 .
4- الخصائص الحسينيّة للتستري : ص40 ، ط النجف ، تُحف العقول للحسن بن علي البحراني : ص32 .
5- وسائل الشيعة للعاملي : ج3 ، ص239 ، ونَقلهُ المرحوم المقرّم في مقتله عن التهذيب للطوسي : ج2 ، ص108 ، وكتاب المكاسب ، والمنتهى للعلاّمة الحلّي : ج2 ، ص112 ، والذكرى للشهيد الأوّل المبحث الرابع من أحكام الأموات ، وفي مَن لا يحضرهُ الفقيه : ص36 أنّه ( عليه السلام ) أوصى بثمانمائة درهم لمأتمهِ ، وأن يُندب في المواسم عشر سنين .
6- أدبُ الطف : ج1 ، ص295 - 309 .
7- أُسد الغابة : ج4 ، ص336 .
8- تاريخ الطبري : ج6 ، ص38 ، ط مصر .
9- انظر في مفاتيح الجنان : ص532 .
10- النوى : البُعد والوجه الذي يذهب فيه وينويه المسافر من قربٍ أو بُعد ( أقربُ الموارد : ج2 ، ص1363 ) .
11- ذي طوى : موضع قُرب مكّة ( أقربُ الموارد : ج1 ، ص724 ) .
12- ) مفاتيحُ الجنان للشيخ عبّاس القمّي : ( دُعاء الندبة ) .
13- الدمعةُ الساكبة : م1 ، ص340 ، أسرار الشهادة للدربندي : ص369 .
14- سورة محمّد : آية 7 .
15- سورة البقرة : آية 152 .
16- اللهوف : ص43 ، المنتخب للطريحي : ص312 ، الدمعةُ الساكبة : ص340 .
17- أسرار الشهادة : ص233 ، البحار : ج44 ، ص315 ، الخوارزمي : ج1 ، ص227 .
18- الطبري : ج6 ، ص244 ، اللهوف : ص44 ، ابن الأثير : ج3 ، ص288 .