
أنطلق جرير حتى أتى الشام ونزل بمعاوية ، فدخل عليه فحمد الله وأثنى عليه وقال : « أما بعد يا معاوية فإنه قد اجتمع لابن عمك أهل الحرمين وأهل المصرين وأهل الحجاز ، وأهل اليمن ، وأهل مصر ، وأهل العروض وعمان ، وأهل البحرين واليمامة ، فلم يبق إلا أهل هذه الحصون التي أنت فيها ، لو سال عليها سيل من أوديته غرقها. وقد أتيتك أدعوك إلى ما يرشدك ويهديك إلى مبايعة هذا الرجل ».
ودفع إليه كتاب علي بن أبي طالب ، وفيه :
بسم الله الرحمن الرحيم.
أما بعد فإن بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام ؛ لأنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان علي ما بويعوا عليه ، فلم يكن للشاهد أن يختار ، ولا للغائب أن يرد. وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار ، فإذا اجتمعوا على رجل فسموه إماما كان ذلك لله رضا ، فإن خرج من أمرهم خارج بطعن أو رغبة ردوه إلى ما خرج منه ، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين ، وولاه الله ما تولى ويصليه جهنم وساءت مصيرا. وإن طلحة والزبير بايعاني ثم نقضا بيعتي ، وكان نقضهما كردهما ، فجاهدتهما. على ذلك حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون. فادخل فيما دخل فيه المسلمون ، فإن أحب الأمور إلى فيك العافية ، إلا أن تتعرض للبلاء. فإن تعرضت له قاتلتك واستعنت الله عليك. وقد أكثرت في قتلة عثمان فادخل فيما دخل فيه المسلمون ، ثم حاكم القوم إلى أحملك وإياهم على كتاب الله. فأما تلك التي تريدها فخدعة الصبي عن اللبن.
ولعمري لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبرأ قريش من دم عثمان. واعلم أنك من الطلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة ، ولا تعرض فيهم الشورى. وقد أرسلت إليك وإلى من قبلك جرير بن عبد الله ، وهو من أهل الإيمان والهجرة. فبايع ولا قوة إلا بالله ».
فلما قرأ الكتاب قام جرير فقال :
الحمد لله المحمود بالعوائد ، المأمول منه الزوائد ، المرتجى منه الثواب المستعان على النوائب. أحمده وأستعينه في الأمور التي تخير دونها الألباب ، وتضمحل عندها الأسباب. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، كل شئ هالك إلا وجهه ، له الحكم وإليه ترجعون. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بعد الفترة ، وبعد الرسل الماضية والقرون الخالية ، والأبدان البالية ، والجبلة الطاغية ، فبلغ الرسالة ، ونصح الأمة ، وأدى الحق الذي استودعه الله وأمره بأدائه إلى أمته. صلى الله عليه وسلم من مبتعث ومنتجب.
ثم قال : أيها الناس ، إن أمر عثمان قد أعيا من شهده ، فما ظنكم بمن غاب عنه. وإن الناس بايعوا عليا غير واتر ولا موتور ، وكان طلحة والزبير ممن بايعه ثم نكثا بيعته على غير حدث. ألا وإن هذا الدين لا يحتمل الفتن ألا وإن العرب لا تحتمل السيف. وقد كانت بالبصرة أمس ملحمة إن يشفع البلاء بمثلها فلا بقاء للناس. وقد بايعت العامة عليا. ولو ملكنا الله أمورنا لم نختر لها غيره ، ومن خالف هذا استعتب. فادخل يا معاوية فيما دخل فيه الناس. فإن قلت : استعملني عثمان ثم لم يعزلني ، فإن هذا أمر لو جاز لم يقم لله دين ، وكان لكل امرئ ما في يديه. ولكن الله لم يجعل للآخر من الولاة حق الأول ، وجعل تلك أمورا موطأة ، وحقوقا ينسخ بعضها بعضا.
[ ثم قعد ] ، فقال معاوية : انظر وننظر ، واستطلع رأي أهل الشام.
فلما فرغ جرير من خطبته أمر معاوية مناديا فنادى : الصلاة جامعة. فلما اجتمع الناس صعد المنبر ثم قال :
الحمد لله الذي جعل الدعائم للإسلام أركانا ، والشرائع للإيمان برهانا ، يتوقد قبسه في الأرض المقدسة التي جعلها الله محل الأنبياء والصالحين من عباده ، فأحلها أهل الشام ، ورضيهم لها ورضيها لهم ، لما سبق من مكنون علمه من طاعتهم ومناصحتهم خلفاءه والقوام بأمره ، والذابين عن دينه وحرماته. ثم جعلهم لهذه الأمة نظاما ، وفي سبيل الخيرات أعلاما ، يردع الله بهم الناكثين ، ويجمع بهم ألفة المؤمنين. والله نستعين على ما تشعب من أمر المسلمين بعد الالتئام ، وتباعد بعد القرب. اللهم انصرنا على أقوام يوقظون نائمنا ، ويخيفون آمننا ، ويريدون هراقة دمائنا ، وإخافة سبيلنا وقد يعلم الله أنا لم نرد بهم عقابا ، ولا نهتك لهم حجابا ، ولا نوطئهم زلقا. غير أن الله الحميد كسانا من الكرامة ثوبا لن ننزعه طوعا ما جاوب الصدى ، وسقط الندى ، وعرف الهدى. حملهم على خلافنا البغي والحسد ، فالله نستعين عليهم. أيها الناس ، قد علمتم أني خليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، وأني خليفة عثمان بن عفان عليكم، وأني لم أقم رجلا منكم على خزاية قط، وأني ولي عثمان وقد قتل مظلوما. والله يقول : ( ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا ). وأنا أحب أن تعلموني ذات أنفسكم في قتل عثمان ».
فقام أهل الشام بأجمعهم فأجابوا إلى الطلب بدم عثمان ، وبايعوه على ذلك ، وأوثقوا له على أن يبذلوا أنفسهم وأموالهم أو يدركوا بثأره ، أو يفني الله أرواحهم. فلما أمسى معاوية وكان قد اغتم بما هو فيه ، قال نصر :
فحدثني محمد بن عبيد الله عن الجرجاني قال : لما جن معاوية الليل واغتم وعنده أهل بيته ، قال :
تطاول ليلى واعترتني وساوسي- لات أتى بالترهات البسابس
أتانا جرير والحوادث جمة- بتلك التي فيها اجتداع المعاطس
أكابده والسيف بيني وبينه- ولست لأثواب الدني بلابس
إن الشام أعطت طاعة يمنية- تواصفها أشياخها في المجالس
فإن يجمعوا أصدم عليا بجبهة - تفت عليه كل رطب ويابس
وإني لأرجو خير ما نال نائل- وما أنا من ملك العراق بآيس
وإلا يكونوا عند ظني بنصرهم- وإن يخلفوا ظني كف عابس
نصر ، قال : حدثني محمد بن عبيد الله ، عن الجرجاني قال : واستحثه جرير بالبيعة ، فقال : يا جرير ، إنها ليست بخلسة ، وإنه أمر له ما بعده ، فأبلعني ريقي حتى أنظر. ودعا ثقاته فقال له عتبة بن أبي سفيان ـ وكان نظيره ـ : اجتمعن على هذا الأمر بعمرو بن العاص ، وأثمن له بدينه فإنه من قد عرفت ، وقد اعتزل أمر عثمان في حياته وهو لأمرك أشد اعتزالا إن ير فرصة .
مبتدأ حديث عمرو بن العاص
نصر ، عن عمر بن سعد ومحمد بن عبيد الله قالا : كتب معاوية إلى عمرو وهو بالبيع من فلسطين : « أما بعد فإنه كان من أمر علي وطلحة والزبير ما قد بلغك. وقد سقط إلينا مروان بن الحكم في رافضة أهل البصرة ، وقدم علينا جرير بن عبد الله في بيعة علي ، وقد حبست نفسي عليك حتى تأتيني. أقبل أذاكرك أمرا ».
قال : فلما قرئ الكتاب على عمرو استشار ابنيه عبد الله ومحمدا فقال : ابني ، ما تريان؟ فقال عبد الله : أرى أن نبي الله صلىاللهعليهوآله قبض وهو عنك راض ، والخليفتان من بعده ، وقتل عثمان وأنت عنه غائب. فقر في منزلك فلست مجعولا خليفة ، ولا تريد أن تكون حاشية لمعاوية على دنيا قليلة ، أوشك أن تهلك فتشقى فيها. وقال محمد : أرى أنك شيخ قريش وصاحب أمرها ، وإن تصرم هذا الأمر وأنت فيه خامل تصاغر أمرك ، فالحق بجماعة أهل الشام فكن يدا من أياديها ، واطلب بدم عثمان ، فإنك قد استنمت فيه إلى بني أمية. فقال عمرو : أما أنت يا عبد الله فأمرتني بما هو خير لي في ديني ، وأما أنت يا محمد فأمرتني بما هو خير لي في دنياي ، وأنا ناظر فيه ، فلما جنة الليل رفع صوته وأهله ينظرون إليه فقال :
تطاول ليلى للهموم الطوارق- وخول التي تجلو وجوه العواتق
وإن ابن هند سائلي أن أزوره- وتلك التي فيها بنات البوائق
أتاه جرير من على بخطة- أمرت عليه العيش ذات مضائق
فإن نال مني ما يؤمل رده- وإن لم ينله ذل ذل المطابق
فوالله ما أدري وما كنت هكذا- أكون ، ومهما قادني فهو سابقي
أخادعه إن الخداع دنية- أم اعطيه من نفسي نصيحة وامق
أو اقعد في بيتي وفي ذاك راحة- لشيخ يخاف الموت في كل شارق
وقد قال عبد الله قولا تعلقت- به النفس إن لم يعتلقني عوائقي
وخالفه فيه أخوه محمد- وإني لصلب العود عند الحقائق
فقال عبد الله : ترحل الشيخ. قال : ودعا عمرو غلاما له يقال له وردان ، وكان داهيا ماردا ، فقال : ارحل يا وردان. ثم قال : حط يا وردان
[ ثم قال : ارحل يا وردان ، احطط يا وردان (١) ]. فقال له وردان : خلطت أبا عبد الله ، أما إنك إن شئت أنبأتك بما نفسك. قال : هات ويحك. قال : اعتركت الدنيا والآخرة على قلبك ، فقلت : علي معه الآخرة في غير دنيا ، وفي الآخرة عوض الدنيا ، ومعاوية معه الدنيا بغير آخرة ، وليس في الدنيا عوض من الآخرة ، فأنت واقف بينهما. قال : فإنك والله ما أخطأت ، فما ترى يا وردان؟ قال : أرى أن تقيم في بيتك ، فإن ظهر أهل الدين عشت [ في ] عفو دينهم وإن ظهر أهل الدنيا لم يستغنوا عنك. قال : الآن لما شهدت العرب مسيري إلى معاوية ؟ فارتحل وهو يقول :
يا قاتل الله وردانا وقدحته-أبدى لعمرك ما في النفس وردان
لما تعرضت الدنيا عرضت لها - بحرص نفسي وفي الأطباع إدهان
نفس تعف وأخرى الحرص يغلبها؟ - والمرء يأكل تبنا وهو غرثان
أما علي فدين ليس يشركه - دنيا وذاك له دنيا وسلطان
فاخترت من طمعي دنيا على بصر - وما معي بالذي أختار برهان
إني لأعرف ما فيها وأبصره - وفي أيضا لما أهواه ألوان
لكن نفسي تحب العيش في شرف - وليس يرضى بذل العيش إنسان
أمر لعمر أبيكم غير مشتبه - والمرء يعطس والوسن وسنان
فسار حتى قدم إلى معاوية وعرف حاجة معاوية إليه ، فباعد [ ه من نفسه ] وكايد كل واحد منهما صاحبه ، فلما دخل عليه قال : يا أبا عبد الله ، طرقتنا في ليلتنا هذه ثلاثة أخبار ليس منها ورد ولا صدر. قال : وما ذاك؟ قال : ذاك أن محمد بن أبي حذيفة قد كسر سجن مصر فخرج هو وأصحابه ، وهو من آفات هذا الدين. ومنها أن قيصر زحف بجماعة الروم إلى ليتغلب على الشام. ومنها أن عليا نزل الكوفة متهيئا للمسير إلينا. قال : ليس كل ما ذكرت عظيما. أما ابن أبي حذيفة فما يتعاظمك من رجل خرج في أشباهه أن تبعث إليه خيلا تقتله أو تأتيك به ، وإن فاتك لا يضرك. وأما قيصر فأهد له من وصفاء الروم ووصائفها ، وآنية الذهب والفضة ، وسله الموادعة ، فإنه إليها سريع. وأما على فلا والله يا معاوية ما تسوي العرب بينك وبينه في شيء من الأشياء ، وإن له في الحرب لحظا (٢) ما هو لأحد من قريش ، وإنه لصاحب ما هو فيه إلا أن تظلمه.
نصر : عمر بن سعد بإسناده قال : قال معاوية لعمرو : يا أبا عبد الله ، إني أدعوك إلى جهاد هذا الرجل الذي عصى ربه وقتل الخليفة ، وأظهر الفتنة ، وفرق الجماعة ، وقطع الرحم. قال عمرو : إلى من؟ قال : إلى جهاد علي ، قال : فقال عمرو : والله يا معاوية ما أنت وعلي بعكمي بعير (3) ، مالك هجرته ولا سابقته ، ولا صحبته ولا جهاده ، ولا فقهه وعلمه .. والله إن له مع ذلك حدا وجدا ، وحظا وحظوة ، وبلاء من الله حسنا ، فما تجعل لي إن شايعنك على حربه ، وأنت تعلم ما فيه من الغرر والخطر؟ قال : حكمك. قال : مصر طعمة. قال : فتلكأ عليه معاوية.
قال نصر : وفي حديث غير عمر قال : قال له معاوية : يا أبا عبد الله ، إني أكره أن يتحدث العرب عنك أنك إنما دخلت في هذا الأمر لغرض الدنيا. قال : دعني عنك. قال معاوية : إني لو شئت أن أمنيك وأخدعك لفعلت. قال عمرو : لالعمر الله ، ما مثلي يخدع ، لأنا أكيس من ذلك. قال له معاوية : ادن مني برأسك أسارك. قال : فدنا منه عمرو يساره ، فعض معاوية أذنه وقال : هذه خدعة ، هل ترى في بيتك أحدا غيري وغيرك؟
ثم رجع إلى حديث عمر ، قال : فأنشأ عمرو يقول :
معاوي لا أعطيك ديني ولم أنل - بذلك دنيا فانظرن كيف تصنع
فان تعطني مصرا فأربح بصفقة - أخذت بها شيخا يضر وينفع
وما الدين والدنيا سواء وإنني - لآخذ ما تعطي ورأسي مقنع
ولكني أغضى الجفون وإنني - لأخدع نفسي والمخادع يخدع
وأعطيك أمرا فيه للملك قوة - وإني به إن زلت النعل أضرع
وتمنعني مصرا وليست برغبة - وإني بذا الممنوع قدما لمولع
قال : أبا عبد الله ، ألم تعلم أن مصرا مثل العراق؟ قال : بلى ، ولكنها إنما تكون لي إذا كانت لك ، وإنما تكون لك إذا غلبت عليا على العراق وقد كان أهلها بعثوا بطاعتهم إلى علي. قال : فدخل عتبة بن أبي سفيان فقال : أما ترضى أن نشتري عمرا بمصر إن هي صفت لك. فليتك لا تغلب على الشام. فقال معاوية : يا عتبة ، بت عندنا الليلة. قال : فلما جن على عتبة الليل رفع صوته ليسمع معاوية ، وقال :
أيها المانع سيفا لم يهز - إنما ملت علي خز وقز
إنما أنت خروف ماثل - بين ضرعين وصوف لم يجز
أعط عمرا إن عمرا تارك - دينه اليوم لدنيا لم تحز
يا لك الخير فخذ من دره - شخبه الأولى وأبعد ما غرز
واسحب الذيل وبادر فوقها - وانتهزها إن عمرا ينتهز
أعطه مصرا وزده مثلها - إنما مصر لمن عز وبز
واترك الحرص عليها ضلة- واشبب النار لمقرور يكز
إن مصرا لعلى أو لنا - يغلب اليوم عليها من عجز
فلما سمع معاوية قول عتبة أرسل إلى عمرو وأعطاها إياه. قال : فقال له عمرو : ولي الله عليك بذلك شاهد؟ قال له معاوية : نعم لك الله على بذلك ، لئن فتح الله علينا الكوفة. قال عمرو : ( والله على ما نقول وكيل ). قال : فخرج عمرو ومن عنده فقال له ابناه : ما صنعت؟ قال : أعطانا مصر [ طعمة ]. قالا : وما مصر في ملك العرب؟ قال : لا أشبع الله بطونكما إن لم يشبعكما مصر. قال : فأعطاها إياه ، وكتب له كتابا ، وكتب معاوية : « على أن لا ينقض شرط طاعة » ، وكتب عمرو : « على ألا تنقض طاعة شرطا (4) ». وكايد كل
واحد منهما صاحبه .
وكان مع عمرو ابن عم له فتي شاب ، وكان داهيا حليما ، فلما جاء عمرو بالكتاب مسرورا عجب الفتي وقال : ألا تخبرني يا عمرو بأي رأي تعيش في قريش؟ أعطيت دينك ومنيت دنيا غيرك. أترى أهل مصر ـ وهم قتلة عثمان ـ يدفعونها إلى معاوية وعلي حي؟ وتراها إن صارت إلى معاوية لا يأخذها بالحرف الذي قدمه في الكتاب؟ فقال عمرو : يا ابن الأخ ، إن الأمر لله دون علي ومعاوية. فقال الفتى في ذلك شعرا :
ألا يا هند أخت بني زياد - دهى عمرو بداهية البلاد
رمى عمرو بأعور عبشمي - بعيد القعر مخشى الكياد
له خدع يحار العقل فيها - مزخرفة صوائد للفؤاد
فشرط في الكتاب عليه حرفا - يناديه بخدعته المنادي
وأثبت مثله عمرو عليه - كلا المرأين حية بطن واد
ألا يا عمرو ما أحرزت مصرا - وما ملت الغداة إلى الرشاد
وبعت الدين بالدنيا خسارا - فأنت بذاك من شر العباد
فلو كنت الغداة أخذت مصرا - ولكن دونها خرط القتاد
وفدت إلى معاوية بن حرب - فكنت بها كوافد قوم عاد
وأعطيت الذي أعطيت منه - بطرس فيه نضح من مداد
ألم تعرف أبا حسن عليا - وما نالت يداه من الأعادي
عدلت به معاوية بن حرب - فيا بعد البياض من السواد
ويا بعد الأصابع من سهيل - ويا بعد الصلاح من الفساد
أتأمن أن تراه على خدب - يحث الخيل بالأسل الحداد
ينادي بالنزال وأنت منه - بعيد فانظرن من ذا تعادي
فقال عمرو : يا ابن أخي ، لو كنت مع علي وسعني بيتي ، ولكني الآن مع معاوية. فقال له الفتى : إنك إن لم ترد معاوية لم يردك ، ولكنك تريد دنياه و [ هو ] يريد دينك. وبلغ معاوية قول الفتى فطلبه فهرب فلحق بعلي فحدثه بأمر عمرو ومعاوية. قال : فسر ذلك عليا وقر به. قال : وغضب مروان وقال : ما بالي لا أشتري كما اشترى عمرو؟ قال : فقال له معاوية : إنما تبتاع الرجال لك. قال : فلما بلغ عليا ما صنعه معاوية وعمرو قال :
يا عجبا لقد سمعت منكرا - كذبا على الله يشيب الشعرا
يسترق السمع ويغشى البصرا - ما كان يرضى أحمد لو خبرا
أن يقرنوا وصيه والأبترا - شاني الرسول واللعين الأخزرا
كلاهما في جنده قد عسكرا - قد باع هذا دينه فأفجرا
من ذا بدنيا بيعه قد خسرا - بملك مصر أن أصاب الظفرا
إني إذا الموت دنا وحضرا - شمرت ثوبي ودعوت قنبرا
قدم لوائي لا تؤخر حذرا - لن يدفع الحذار ما قد قدرا
لما رأيت الموت موتا أحمرا - عبأت همدان وعبوا حميرا
حي يمان يعظمون الخطرا - قرن إذا ناطح قرنا كسرا
قل لابن حرب لا تدب الخمرا - أرود قليلا أبد منك الضجرا
لا تحسبني يا ابن حرب غمرا - وسل بنا بدرا معا وخيبرا
كانت قريش يوم بدر جزرا - إذ وردوا الأمر فذموا الصدرا
لو أن عندي يابن حرب جعفرا - أو حمزة القرم الهمام الأزهرا
رأت قريش نجم ليل ظهرا
نصر : محمد بن عبيد الله ، عن الجرجاني قال : لما بات عمرو عند معاوية وأصبح أعطاه مصر طعمة له ، وكتب له بها كتابا وقال : ما ترى؟ قال : أمض الرأي الأول. فبعث مالك بن هبيرة الكندي في طلب [ محمد ] بن أبي حذيفة فأدركه فقتله ، وبعث إلى قيصر بالهدايا فوادعه. ثم قال : ما ترى في علي؟ قال : أرى فيه خيرا ، أتاك في هذه البيعة خير أهل العراق ، ومن عند خير الناس في أنفس الناس ، ودعواك أهل الشام إلى رد هذه البيعة خطر شديد ، ورأس أهل الشام شرحبيل بن السمط الكندي ، وهو عدو لجرير المرسل إليك ، فأرسل إليه ووطن له ثقاتك فليفشوا في الناس أن عليا قتل عثمان ، وليكونوا أهل الرضا عند شرحبيل ؛ فإنها كلمة جامعة لك أهل الشام على ما تحب ، وإن تعلقت بقلب شرحبيل لم تخرج منه بشيء أبدا.
فكتب إلى شرحبيل : « إن جرير بن عبد الله قدم علينا من عند علي ابن أبي طالب بأمر فظيع ، فاقدم ». ودعا معاوية يزيد بن أسد ، وبسر بن أرطاة ، وعمرو بن سفيان ، ومخارق بن الحارث الزبيدي ، وحمزة بن مالك ، وحابس بن سعد الطائي ـ وهؤلاء رءوس قحطان واليمن ، وكانوا ثقات معاوية وخاصته ـ وبني عم شرحبيل بن السمط ، فأمرهم أن يلقوه ويخبروه أن عليا قتل عثمان. فلما قدم كتاب معاوية على شرحبيل وهو بحمص استشار أهل اليمن فاختلفوا عليه ، فقام إليه عبد الرحمن بن غنم الأزدي ، وهو صاحب معاذ بن جبل وختنه ، وكان أفقه أهل الشام
فقال : يا شرحبيل بن السمط ، إن الله لم يزل يزيدك خيرا مذ هاجرت إلى اليوم ، وإنه لا ينقطع المزيد من الله حت ينقطع الشكر من الناس ، ولا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. إنه قد ألقى إلينا قتل عثمان ، وأن عليا قتل عثمان ، فإن يك قتله فقد بايعه المهاجرون والأنصار ، وهم الحكام على الناس ، وإن لم يكن قتله فعلام تصدق معاوية عليه؟ لا تهلك نفسك وقومك. فإن كرهت أن يذهب بحظها جرير فسر إلى علي فبايعه على شامك وقومك. فأبى شرحبيل إلا أن يسير إلى معاوية ، فبعث إليه عياض الثمالي ، وكان ناسكا :
يا شرح يا ابن السمط إنك بالغ - بود علي ما تريد من الأمر
ويا شرح إن الشام شامك ما بها - سواك فدع قول المظل من فهر
فإن ابن حرب ناصب لك خدعة - تكون علينا مثل راغية البكر (5)
فإن نال ما يرجو بنا كان ملكنا - هنيئا له ، والحرب قاصمة الظهر
فلا تبغين حرب العراق فإنها - تحرم أطهار النساء من الذعر
وإن عليا خير من وطئ الحصى - من الهاشميين المداريك للوتر
له في رقاب الناس عهد وذمة - كعهد أبي حفص وعهد أبي بكر
فبايع ولا ترجع على العقب كافرا - أعيذك بالله العزيز من الكفر
ولا تسمعن قول الطغام فإنما - يريدون أن يلقوك في لجة البحر
وماذا عليهم أن تطاعن دونهم - عليا بأطراف المثقفة السمر
فإن غلبوا كانوا علينا أئمة - وكنا بحمد الله من ولد الظهر
وإن غلبوا لم يصل بالحرب غيرنا - وكان على حربنا آخر الدهر
يهون على عليا لؤي بن غالب - دماء بني قحطان في ملكهم تجري
فدع عنك عثمان بن عفان إننا ، -لك الخير ، لا ندري وإنك لا تدري
على أي حال كان مصرع جنبه - فلا تسمعن قول الأعيور أو عمرو
المصادر :
1- التكملة من ح والإمامة والسياسة ( ١ : ٨٣ ).
2- وقد تقرأ : « لحظا » باللام الداخلة على : « حظا » ، وانظر ما سيأتي في كلام عمرو لمعاوية ص ٣٨ س ٢.
3- يقال : هما كعكمي البعير ، للرجلين يتساويان في الشرف. والعكمان : عدلان يشدان على جانبي الهودج بثوب. وفي اللسان ( ١٥ : ٣٠٩ ) وأمثال الميداني ( ٢ : ٢٨٩ ) والحيوان ( ٣ : ١٠ ) : « كعكمي بعير ».
4- في الأصل : « ولا ينقض طاعة شرطا » وأثبت ما في ح. وانظر الكامل للمبرد ١٨٤ ليبسك.
5- الراغية : الرغاء. والبكر ، بالفتح : ولد الناقة. انظر أمثال الميداني ( ٢ : ٧٨ ). وهذا مثل يضرب في التشاؤم ، يشار به إلى ما كان من رغاء بكر ثمود حين عقر قدار ناقة صالح فأصاب ثمود ما أصاب. انظر ثمار الفلوب ٢٨٢ والمفضليات ( ٢ : ١٩٥ طبع المعارف ).