
في حديث صالح بن صدقة قال : لما أراد معاوية السير إلى صفين قال لعمرو بن العاص : إني قد رأيت أن نلقى إلى أهل مكة وأهل المدينة كتابا نذكر لهم فيه أمر عثمان ، فاما أن ندرك حاجتنا ، وإما أن يكف القوم عنا. قال عمرو : إنما نكتب إلى ثلاثة نفر : راض بعلي فلا يزيده ذلك إلا بصيرة ، أو رجل يهوى عثمان فلن نزيده على ما هو عليه ، أو رجل معتزل فلست بأوثق في نفسه من علي. قال : على ذلك. فكتبا :
« أما بعد فإنه مهما غابت عنا من الأمور فلن يغيب عنا أن عليا قتل عثمان. والدليل على ذلك مكان قتلنه منه. وإنما نطلب بدمه حتى يدفعوا إلينا قتلته فنقتلهم بكتاب الله ، فإن دفعهم على إلينا كففنا عنه ، وجعلناها شورى بين المسلمين على ما جعلها عليه عمر بن الخطاب. وأما الخلافة فلسنا نطلبها ، فأعينونا على أمرنا هذا وانهضوا من ناحيتكم ، فإن أيدينا وأيديكم إذا اجتمعت على أمر واحد ، هاب على ما هو فيه.
قال : فكتب إليهما عبد الله بن عمر (١) :
أما بعد فلعمري لقد أخطأتما موضع البصيرة ، وتناولتماها من مكان بعيد وما زاد الله من شاك في هذا الأمر بكتابكما إلا شكا. وما أنتما والخلافة؟ وأما أنت يا معاوية فطليق (٢) ، وأما أنت يا عمرو فظنون (الظنون ، بالفتح : المتهم ومن لا يوثق به. ومثله الظنين. ح : «فظنين ».). ألا فكفا عني أنفسكما ، فليس لكما ولا لي نصير.
وكتب رجل من الأنصار مع كتاب عبد الله بن عمر :
معاوي إن الحق أبلج واضح /وليس بما ربصت أنت ولا عمرو
نصبت ابن عفان لنا اليوم خدعة /كما نصب الشيخان إذ زخرف الأمر (3)
فهذا كهذاك البلا حذو نعله / سواء كرقراق يغر به السفر
رميتم عليا بالذي لا يضره / وإن عظمت فيه المكيدة والمكر
وما ذنبه أن نال عثمان معشر / أتوه من الأحياء يجمعهم مصر
فصار إليه المسلمون ببيته / علانية ما كان فيها لهم قسر
فبايعه الشيخان ثم تحملا / إلى العمرة العظمى وباطنها الغدر
فكان الذي قد كان مما اقتصاصه / رجيع فيالله ما أحدث الدهر
فما أنتما والنصر منا وأنتما / بعيثا حروب ما يبوخ لها الجمر (4)
وما أنتما لله در أبيكما / وذكر كما الشورى وقد فلج الفجر
قال : وقال نصر : وفي حديث صالح بن صدقة بإسناده قال : قام عدي بن حاتم إلى علي عليهالسلام فقال : يا أمير المؤمنين ، إن عندي رجلا من قومي لا يجاري به ، وهو يريد أن يزور ابن عم له ، حابس بن سعد الطائي (5)
بالشام ـ فلو أمرناه أن يلقى معاوية لعله أن يكسره ويكسر أهل الشام. فقال له علي : نعم ، فمره بذلك ـ وكان اسم الرجل خفاف بن عبد الله ـ فقدم على ابن عمه حابس بن سعد بالشام ، وكان حابس سيد طيئ فحدث خفاف حابسا أنه شهد عثمان بالمدينة ، وسار مع علي إلى الكوفة. وكان لخفاف لسان وهيئة وشعر. فغدا حابس وخفاف إلى معاوية فقال حابس : هذا ابن عمي قدم الكوفة مع علي ، وشهد عثمان بالمدينة ، وهو ثقة. فقال له معاوية : هات يا أخا طيئ ، حدثنا عن عثمان. قال : حصره المكشوح ، وحكم فيه حكيم ، ووليه محمد وعمار (6)
وتجرد في أمره ثلاثة نفر : عدي بن حاتم ، والأشتر النخعي ، وعمرو بن الحمق ؛ وجد في أمره رجلان ، طلحة والزبير وأبرأ الناس منه علي. قال : ثم مه؟ قال : ثم تهافت الناس على علي بالبيعة تهافت الفراش ، حتى ضلت النعل وسقط الرداء ، ووطئ الشيخ ، ولم يذكر عثمان ولم يذكر له ، ثم تهيأ للمسير وخف معه المهاجرون والأنصار
وكره القتال معه ثلاثة نفر : سعد بن مالك ، وعبد الله بن عمر ، ومحمد بن مسلمة. فلم يستكره أحدا ، واستغنى بمن خف معه عمن ثقل. ثم سار حتى أتى جبل طيئ ، فأتاه منا جماعة كان ضاربا بهم الناس ، حتى إذا كان في بعض الطريق أتاه مسير طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة
فسرح رجالا إلى الكوفة فأجابوا دعوته ، فسار إلى البصرة فهي في كفه ، ثم قدم إلى الكوفة ، فحمل إليه الصبي ، ودبت إليه العجوز ، وخرجت إليه العروس فرحا به ، وشوقا إليه ، فتركته وليس همه إلا الشام ».
فذعر معاوية من قوله ، وقال حابس : أيها الأمير لقد أسمعني شعرا غير به حالى في عثمان ، وعظم به عليا عندي. قال معاوية : أسمعنيه يا خفاف. فأسمعه قوله شعرا :
قلت والليل ساقط الأكناف / ولجنبي عن الفراش تجاف
أرقب النجم مائلا ومتى الغمـ / ـض بعين طويلة التذارف
ليت شعري وإنني لسؤول / هل لي اليوم بالمدينة شاف
من صحاب النبي إذ عظم الخط / ـب وفيهم من البرية كاف
أحلال دم الإمام بذنب / أم حرام بسنة الوقاف
قال لي القوم لا سبيل إلى ما / تطلب اليوم قلت حسب خفاف
عند قوم ليسوا بأوعية العلـ / ـم ولا أهل صحة وعفاف
قلت لما سمعت قولا دعوني / إن قلبي من القلوب الضعاف
قد مضى ما مضى ومر به الده / ـر كما مر ذاهب الأسلاف
إنني والذي يحج له النا / س على لحق البطون العجاف
تتبارى مثل القسى من النبـ / ـع بشعث مثل الرصاف نحاف
ارهب اليوم ، إن أتاك علي ، / صيحة مثل صيحة الأحقاف
إنه الليث عاديا وشجاع / مطرق نافث بسم زعاف
فارس الخيل كل يوم نزال / ونزال الفتي من الإنصاف
واضع السيف فوق عاتقه الأيـ / من يذرى به شؤون القحاف
لا يرى القتل في الخلاف عليه / ألف ألف كانوا من الإسراف
سوم الخيل ثم قال لقوم / تابعوه إلى الطعان خفاف :
استعدوا لحرب طاغيه الشا / م ، فلبوه كالبنين اللطاف
ثم قالوا أنت الجناح لك الريـ / ش القدامى ونحن منه الخوافى
أنت وال وأنت والدنا البـ / ر ونحن الغداة كالأضياف
وقرى الضيف في الديار قليل / قد تركنا العراق للإتحاف
وهم ما هم إذا نشب البأ / س ذووالفضل والأمور الكوافي
وانظر اليوم قبل نادية القوم / بسلم أردت أم بخلاف
إن هذا رأي الشفيق على الشا / م ولولاه ما خشيت مشاف
فانكسر معاوية وقال : يا حابس ، إني لا أظن هذا إلا عينا لعلي ، أخرجه عنك لا يفسد أهل الشام ـ وكنى معاوية بقوله ـ ثم بعث إليه بعد فقال : يا خفاف ، أخبرني عن أمور الناس. فأعاد عليه الحديث ، فعجب معاوية من عقله وحسن وصفه للامور.
آخر الجزء الأول من الأصل ، والحمد لله وصلواته على رسوله سيدنا محمد النبي وآله وسلم
المصادر :
1- الإمامة والسياسة ( ١ : ٨٥ ) أن صاحب الكتاب هو المسور بن مخرمة.
2- الطليق : واحد الطلقاء ، وهم « اللين »؟ أطلقهم الرسول يوم الفتح. انظر ص ٢٩. وزاد في الإمامة والسياسة : « وأبوك من الأحزاب ».
3- يعني بالشيخين طلحة والزبير. انظر ح ( ١ : ٢٥٨ ).
4- فما أنتما والنصر ، يجوز في نحو هذا التركيب الرفع على العطف ، والنصب على أنه مفعول معه انظر همع الهوامع ( ١ : ٢٢١ ).
5- حابس بن سعد ، قيل كانت له صحبة ، وقتل بصفين. انظر تهذيب التهذيب ( ٢ : ١٢٧ ). وقال ابن دريد في الاشتقاق ٢٣٥ : « كان علي طيئ الشام مع معاوية ، وقتل. وكان عمر رضي الله عنه ولاه قضاء مصر ثم عزله ». ح : « حابس بن سعيد » محرف.
6- انظر التنبيه الرابع من ص ٥٤.