
هناك عدد كثير من الآيات الكريمة استعرضت الفكرة الكلية لسنن التاريخ بشكل وآخر ، وسوف نقرأ جملة من هذه الآيات الكريمة وبعض هذه الآيات التي سوف نستعرضها واضح الدلالة علىََ المقصود ، والبعض الآخر له نحو دلالة بشكل وآخر أو يكون معزّزاً ومؤيداً للروح العامة لهذه الفكرة القرآنية .
1 - بيان الفكرة الكلية لسنن التاريخ :
فمن الآيات الكريمة التي اُعطيت فيها الفكرة الكلية ، فكرة أنّ التاريخ له سنن وله ضوابط ما يلي :
«لكلِّ اُمّةٍ أجل إذا جاءَ أجَلُهُمْ فلا يَستأخِرونَ ساعةً ولا يستَقدِمُون »(1).
«وَلكلِّ اُمةٍ أجلٌ فإذا جَاءَ أجَلُهُمْ لا يستأخِرُون ساعةً ولا يَستَقدِمُون »(2).
نلاحظ في هاتين الآيتين الكريمتين أنّ الأجل اُضيف إلىََ الاُمّة ، إلىََ الوجود المجموعي للناس ، لا إلىََ هذا الفرد بالذات أو هذا الفرد بالذات . إذن هناك وراء الأجل المحدود المحتوم لكل إنسان بوصفه الفردي ، هناك أجل آخر وميقات آخر للوجود الإجتماعي لهؤلاء الأفراد ، للاُمة بوصفها مجتمعاً يُنشئ ما بين أفراده العلاقات والصلات القائمة علىََ أساس مجموعة من الأفكار والمبادئ المسندة بمجموعة من القوىََ والقابليات .
هذا المجتمع الذي يعبّر عنه القرآن الكريم بالاُمة ، هذا له أجل ، له موت ، له حياة ، له حركة ، كما أنّ الفرد يتحرّك فيكون حيّاً ثمّ يموت ، كذلك الاُمّة تكون حية ثم تموت ، وكما أنّ موت الفرد يخضع لأجل ولقانون ولناموس ، كذلك الاُمم أيضاً لها آجالها المضبوطة . وهناك نواميس تحدّد لكل اُمّة هذا الأجل .
إذن هاتان الآيتان الكريمتان فيهما عطاء واضح للفكرة الكلية ، فكرة أنّ التاريخ له سنن تتحكم به وراء السنن الشخصية ، يعني وراء السنن التي تتحكم في الأفراد بهوياتهم الشخصية .
«وما أهلَكْنا من قَريةٍ إلّاوَلَها كتابٌ مَعلوم * ما تَسبِقُ من اُمّةِ أجَلَها وما يستأخِرون »(3).
«ما تَسبِقُ من اُمّةٍ أَجَلَها وما يستأخِرونَ »(4).
«أوَ لَمْ يَنظُروا في مَلَكوتِ السماواتِ والأرضِ وَما خَلقَ اللَّهُ مِن شيء وأنْ عَسىََ أن يَكُونَ قَدِ اقتَرَبَ أجَلُهُم فبأيّ حَديثٍ بَعْدَهُ يُؤمِنُونَ »(5).
ظاهر الآية الكريمة أن الأجل الذي يترقّب أن يكون قريباً أو يهدّد هؤلاء بأن يكون قريباً ، هو الأجل الجماعي لا الأجل الفردي ؛ لأنّ قوماً بمجموعهم لا يموتون عادة في وقت واحد ، وإنّما الجماعة بوجودها الكلّي هو الذي يمكن أن يكون قد اقترب أجله .
فالأجل الجماعي هنا يعبّر عن حالة قائمة بالجماعة لا عن حالة قائمة بهذا الفرد أو ذاك ؛ لأنّ الناس عادة تختلف آجالهم حينما ننظر إليهم بالمنظار الفردي ، لكن حينما ننظر إليهم بالمنظار الاجتماعي بوصفهم مجموعة واحدة متفاعلة في ظلمها وعدلها ، في سرّائها وضرّائها ، حينئذٍ يكون لها أجل واحد ، فهذا الأجل الجماعي المشار إليه إنّما هو أجل الاُمّة . وبهذا تلتقي هذه الآية الكريمة مع الآيات السابقة .
«وربُّكَ الغَفُورُ ذُو الرحمَةِ لو يُؤاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ العذاب بَل لهُم مَوعِدٌ لَن يَجِدُوا مِن دُونِهِ موْئلاً * وتِلكَ القُرىََ أهلَكناهُم لَمّا ظَلَمُوا وَجَعَلنَا لِمَهلِكِهِم موعِداً »(6).
«وَلَو يُؤاخِذُ اللَّه الناسَ بِظُلمِهِم ما تَركَ عَلَيها مِن دَابّةٍ وَلكِن يُؤخّرُهُم إلىََ أَجَلٍ مسمّىً فإذا جَاءَ أجَلُهُم لا يَستَأخِرون سَاعةً ولا يَستَقْدِمُونَ »(7).
«وَلَو يُؤاخِذُ اللَّهُ الناسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ علىََ ظَهرِهَا مِن دَابّةٍ ولكِن يُؤخِّرُهُمْ إلىََ أجلٍ مُسمّىً فإذا جاء أجَلُهُم فإنّ اللَّه كان بِعِبَادِهِ بَصِيراً »(8).
في هاتين الآيتين الكريمتين تحدّث القرآن الكريم عن أ نّه لو كان [ اللَّه ] يريد أن يؤاخذ الناس بظلمهم وبما كسبوا لما ترك علىََ ساحة الناس من دابّة ، يعني لأهلك الناس جميعاً .
وقد وقعت مشكلة في كيفية تصوير هذا المفهوم القرآني ، حيث إنّ الناس ليسوا كلهم ظالمين عادة ، فيهم الأنبياء ، فيهم الأئمة فيهم الأوصياء ، هل يشمل الهلاك الأنبياء والأئمة العدول من المؤمنين ؟ حتىََ إنّ بعض الناس استغلّ هاتين الآيتين لإنكار عصمة الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام .
والحقيقة أنّ هاتين الآيتين تتحدّثان عن عقاب دنيوي لا عن عقاب اُخروي ، تتحدّث عن النتيجة الطبيعية لما تكسبه اُمّة عن طريق الظلم والطغيان . هذه النتيجة الطبيعية لا تختصّ حينئذٍ بخصوص الظالمين من أبناء المجتمع ، بل تعمّ أبناء المجتمع علىََ اختلاف هوياتهم ، وعلىََ اختلاف أنحاء سلوكهم .
حينما وقع التيه علىََ بني إسرائيل نتيجة ما كسب هذا الشعب بظلمه وطغيانه وتمرّده ، هذا التيه لم يختص بخصوص الظالمين من بني إسرائيل ، وإنّما شمل موسىََ عليه الصلاة والسلام ، شمل أطهر الناس وأزكىََ الناس وأشجع الناس في مواجهة الظلمة والطواغيت ، شمل موسىََ عليه السلام ؛ لأنّه جزء من تلك الاُمّة وقد حلّ الهلاك بتلك الاُمّة ، وقد قرّر نتيجة ظلمهم أن يتيهوا أربعين عاماً ، وبهذا شمل التيه موسىََ عليه الصلاة والسلام .
حينما حلّ البلاء والعذاب بالمسلمين نتيجة انحرافهم ، فأصبح يزيد بن معاوية خليفة عليهم يتحكّم في أموالهم ودمائهم وأعراضهم وعقائدهم ، حينما حلّ هذا البلاء لم يختصّ بالظالمين من المجتمع الإسلامي ، وقتئذٍ شمل الحسين عليه الصلاة والسلام ، أطهر الناس ، أزكىََ الناس ، أطيب الناس ، أعدل الناس ، شمل الإمام المعصوم عليه الصلاة والسلام ، قتل بتلك القتلة الفظيعة هو وأصحابه وأهل بيته .
هذا كلّه هو منطق سنة التاريخ : العذاب حينما يأتي في الدنيا علىََ مجتمع وفق سنن التاريخ لا يختص بخصوص الظالمين من أبناء مجتمع ، ولهذا قال القرآن الكريم في آية اُخرىََ : «واتّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُم خَاصّةً واعلمُوا أنّ اللَّه شَدِيدُ العِقاب »(9)، بينما يقول في موضع آخر : «ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ اُخْرىََ »(10). فالعقاب الاُخروي دائماً ينصبّ علىََ العامل مباشرة ، وأمّا العقاب الدنيوي فيكون أوسع من ذلك .
إذن هاتان الآيتان الكريمتان تتحدثان عن سنن التاريخ لا عن العقاب بالمعنىََالاُخروي والعذاب بمعنىََ مقاييس يوم القيامة ، بل عن سنن التاريخ وما يمكن أن يحصل نتيجة كسب الاُمّة ، سعي الاُمّة ، جهد الاُمّة .
«وإن كادُوا ليستَفِزُّونَكَ مِن الأرضِ لِيُخرِجُوكَ مِنهَا وإذاً لا يلبِثُونَ خِلافَكَ إلّا قلِيلاً * سُنَّةَ مَن قَد أرْسَلنا قَبلَكَ مِن رُسُلِنا ولا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحوِيلاً »(11).
هذه الآية الكريمة أيضاً تؤكد المفهوم العام ، يقول : «ولا تجد لسنتنا تحويلاً »هذه سنّة سلكناها مع الأنبياء من قبلك وسوف تستمر ولن تتغير . أهل مكة يحاولون أن يستفزُوك لتخرج من مكة ؛ لأنّهم عجزوا عن إمكانية القضاءعليك وعلىََ كلمتك وعلىََ دعوتك ، ولهذا صار أمامهم طريق واحد وهو إخراجك من مكة . وهناك سنّة من سنن التاريخ - سوف يأتي إن شاء اللَّه شرحها بعد ذلك - يشار إليها في هذه الآية الكريمة ، وهي أ نّه إذا وصلت عملية المعارضة إلىََ مستوىََ إخراج النبي من هذا البلد ، بعد عجز هذه المعارضة عن كل الوسائل والأساليب الاُخرىََ ، فإنّهم لا يلبثون إلّاقليلاً .
ليس المقصود من : أ نّهم لا يلبثون إلّاقليلاً ، يعني أ نّه سوف ينزل عليهم عذاب اللََّه سبحانه وتعالىََ من السماء ؛ لأنّ أهل مكة أخرجوا رسول اللَّه بعد نزول هذه السورة ، استفزّوه وأرعبوه ، وخرج رسول اللََّه صلى الله عليه و آله من مكّة إذ لم يجد له ملجأً وأماناً في مكة ، خرج إلىََ المدينة ولم ينزل عذاب من السماء علىََ أهل مكة ، وإنّما المقصود في أكبر الظن من هذا التعبير أ نّهم لا يمكثون كجماعة صامدة معارضة يعني كموقع اجتماعي لا يمكثون ، لا كاُناس ، كبشر ، وإنّما هذا الموقع سوف ينهار نتيجة هذه العملية ، سوف ينهار هذا الموقع ، لا يمكثون إلّاقليلاً ؛ لأنّ هذه النبوة التي عجز هذا المجتمع عن تطويقها سوف تستطيع بعد ذلك أن تهزّ هذه الجماعة كموقع للمعارضة . وهذا ما وقع فعلاً ، فإنّ رسول اللََّه صلى الله عليه و آله حينما اُخرج من مكة لم يمكثوا بعده إلّاقليلاً ؛ إذ فقدت المعارضة في مكة موقعها ، وتحولت مكة إلىََ جزء من دار الإسلام بعد سنين معدودة .
إذن الآية تتحدّث عن سنة من سنن التاريخ ، وتؤكد وتقول : «ولا تجدُ لسنتنا تحويلاً ».
«قَد خَلَتْ مِن قَبلِكُم سُنَنٌ فَسِيرُوا في الأرضِ فانظُرُوا كيفَ كانَ عاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ »(12).
تؤكد الآية علىََ السنن وتؤكد علىََ الحث والتتبع لأحداث التاريخ من أجل استكشاف هذه السنن ومن أجل الاعتبار بهذه السنن .
2 - بيان السنن من خلال المصاديق :
«وَلَقَد كُذِّبَتْ رُسلٌ مِن قَبلِكَ فَصَبَروا علىََ ما كُذّبُوا واُوذوا حتىََ أتاهُم نَصرُنا ولا مُبدِّلَ لِكلِماتِ اللَّهِ ولَقَد جاءَكَ من نَبأ المرسَلِين »(13).
هذه الآية أيضاً تثبّت قلب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ، تحدّثه عن التجارب السابقة ، تربطه بقانون التجارب السابقة ، توضّح له أنّ هناك سنة تجري عليه وتجري علىََ الأنبياء الذين مارسوا هذه التجربة من قبله ، وأنّ النصر سوف يأتيه ولكن للنصر شروطه الموضوعية : الصبر ، والثبات ، واستكمال الشروط . هذا هو الطريق إلىََ الحصول علىََ هذا النصر ، ولهذا يقول : «فَصَبَروا علىََ ما كُذّبوا واُوذوا حتىََ أتاهُم نصرُنا ، ولا مبدِّل لكلماتِ اللَّه ».
إذن هناك كلمة للََّهلا تتبدّل علىََ مرّ التاريخ ، هذه الكلمة التي لا تتبدّل هي علاقة قائمة بين النصر وبين مجموعة من القضايا والشروط والمواصفات وضّحت من خلال آيات متفرّقة وجمعت علىََ وجه الإجمال هنا . إذن هناك سنة للتاريخ .
«فلمّا جَاءَهم نَذيرٌ مَا زادَهُم إلّانُفُوراً استِكباراً في الأرضِ ومَكْرَ السيّئ ولا يَحِيقُ المَكرُ السيِّئُ إلّابأهلِهِ فهل يَنظُرونَ إلّاسُنَّةَ الأولِينَ فَلَن تَجِد لسنّةِ اللََّه تبديلاً ولَن تَجِدَ لسنّةِ اللَّهِ تحويلاً »(14).
«ولو قاتَلكُمُ الذِينَ كَفَرُوا لَوَلّوا الأدبار ثمّ لا يَجِدُونَ وَلِيّاً ولا نَصِيراً سُنّةَ اللََّه التي قَد خَلَتْ مِن قَبلُ ولَن تَجِدَ لِسُنّةِ اللَّه تَبدِيلاً »(15).
هناك آيات استعرضت نماذج من سنن التاريخ : «إنّ اللَّه لا يُغيّرُ ما بِقَومٍ حتىََ يُغَيّرُوا ما بِأنفُسِهِم »(16). هذه الآية الكريمة تتحدّث عن نموذج من نماذج سنن التاريخ : إنّ اللََّه سبحانه وتعالىََ لا يغيّر ما بقوم حتىََ يغيّروا ما بأنفسهم ، المحتوىََ الداخلي النفسي الروحي للإنسان هو القاعدة ، الوضع الإجتماعي هو البناء العلوي ، لا يتغير هذا البناء العلوي إلّاوفقاً لتغيّر القاعدة علىََ ما يأتي إن شاء اللََّه شرحه بعد ذلك .
هذه الآية إذن تتحدّث عن علاقة معيّنة بين القاعدة والبناء العلوي ، بين الوضع النفسي والروحي والفكري للإنسان وبين الوضع الإجتماعي ، بين داخل الإنسان وبين خارج الإنسان ، فخارج الإنسان يصنعه داخل الإنسان ، مرتبط بداخل الإنسان ، فإذا تغيّر ما بنفس القوم تغيّر ما هو وضعهم ، وما هي علاقاتهم ، وما هي الروابط التي تربط بعضهم ببعض ، إذن هذه سنة من سنن التاريخ ربطت القاعدة بالنباء العلوي .
«ذلِكَ بأنّ اللَّه لم يَكُ مُغيِّراً نِعمَةً أنعَمَهَا عَلىََ قَومٍ حَتّىََ يُغَيِّروا ما بِأنفُسِهِم »(17).
«أم حَسِبتُم أن تَدخُلُوا الجَنّةَ ولمّا يأتِكُم مَثَلُ الذِينَ خَلَوا مِن قَبلِكُم مَسّتهمُ البأساءُ والضرّاءُ وزُلزِلُوا حتىََ يقُولَ الرسُولُ والذِينَ آمنُوا مَعَه متىََ نَصرُاللَّهِ أَلا إنّ نَصرَ اللََّهِ قَرِيبٌ »(18).
يستنكر عليهم أن يأملوا في أن يكون لهم استثناء من سنة التاريخ ، هل تطمعون أن يكون لكم استثناء من سنة التاريخ ، أن تدخلوا الجنة وأن تحققوا النصر وأنتم لم تعيشوا ما عاشته تلك الاُمم التي انتصرت ودخلت الجنة من ظروف البأساء والضرّاء التي تصل إلىََ حدّ الزلزال علىََ ما عبّر القرآن الكريم ؟ إنّ هذه الحالات ، حالات البأساء والضراء التي تتعملق علىََ مستوىََ الزلزال هي في الحقيقة مدرسة للاُمة ، هي امتحان لإرادة الاُمّة ، لصمودها ، لثباتها ، لكي تستطيع بالتدريج أن تكتسب القدرة علىََ أن تكون اُمّة وسطاً في الناس .
إذن نصر اللََّه قريب ، لكن نصر اللََّه له طريق . هكذا يريد أن يقول القرآن ، نصر اللََّه ليس أمراً عفوياً ، ليس أمراً علىََ سبيل الصدفة ، ليس أمراً عمياوياً ، نصر اللََّه قريب ولكن اهتدِ إلىََ طريقه ، الطريق ولابد أن تعرف فيه سنن التاريخ ، لابدّ وأن تعرف فيه منطق التاريخ لكي تستطيع أن تهتدي إلىََ نصر اللَّه سبحانه وتعالىََ .
قد يكون الدواء قريباً من المريض لكن إذا كان هذا المريض لا يعرف تلك المعادلة العلمية التي تؤدي إلىََ إثبات أنّ هذا الدواء يقضي علىََ جرثومة هذا الداء ، لا يستطيع أن يستعمل هذا الدواء حتىََ ولو كان قريباً منه .
إذن الاطلاع علىََ سنن التاريخ هو الذي يمكّن الإنسان من التوصّل إلىََ النصر ، فهذه الآية تستنكر علىََ المخاطبين لها أن يكونوا طامعين في الاستثناء من سنن التاريخ .
«وما أرسَلنا في قَريةٍ من نَذيرٍ إلّاقَالَ مُترَفُوها إنّا بِما اُرسِلتُم به كافِرونَ * وقَالوا نَحنُ أكثرُ أموالاً وأولاداً وما نَحنُ بِمُعذَّبِينَ »(19).
«بل قالوا إنّا وَجَدنا آبَاءَنا علىََ اُمَّةٍ وإنّا عَلىََ آثارِهم مُهتَدُونَ * وكَذَلِكَ ما أرسَلنا مِن قَبلِكَ في قَريةٍ مِنْ نَذِيرٍ إلّاقال مُترفُوها إنّا وَجَدنَا آباءَنا علىََ اُمَّةٍ وإنّا عَلىََ آثارِهِم مُقتَدُونَ »(20).
هذه علاقة قائمة بين النبّوة علىََ مرّ التاريخ وبين موقع المترفين والمسرفين في الاُمم والمجتمعات . هذه العلاقة تمثّل سنّة من سنن التاريخ ، ليست ظاهرة وقعت في التاريخ صدفة وإلّا لما تكرّرت بهذا الشكل المطّرد ، لما قال : « ما أرسلنا من قَبْلِكَ في قرية من نذير إلّاقال مترفوها ». إذن هناك علاقة سلبية ، هناك علاقة تطارد وتناقض بين موقع النبّوة الإجتماعي في حياة الناس علىََ الساحة التاريخية والموقع الإجتماعي للمترفين والمسرفين ، هذه العلاقة ترتبط في الحقيقة بدور النبوّة في المجتمع ودور المترفين والمسرفين في المجتمع ، هذه العلاقة جزء من رؤية موضوعية عامة للمجتمع ، كما سوف يتضح إن شاء اللََّه حينما نبحث عن دور النبوّة في المجتمع والموقع الإجتماعي للنبوّة ، سوف يتّضح حينئذٍ أنّ النقيض الطبيعي للنبوّة هو موقع المترفين والمسرفين . إذن هذه سنّة من سنن التاريخ .
«وإذا أرَدنا أن نُهلِكَ قَريةً أمَرنا مُترَفِيهَا فَفَسقُوا فِيها فحَقَّ عَلَيها القَولُ فَدَمّرناها تَدمِيراً * وكَمْ أهْلَكنا مِن القُرونِ مِن بَعدِ نُوحٍ وَكَفىََ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبََادِه خَبِيراً بَصِيراً »(21).
هذه الآية أيضاً تتحدّث عن علاقة معيّنة ، علاقة معيّنة بين ظلم يسود وظلم يسيطر وبين هلاك تُجرّ إليه الاُمّة جرّاً ، هذه العلاقة أيضاً الآية تؤكد أ نّها علاقة مطلقة ، علاقة مطّردة علىََ مرّ التاريخ ، وهي سنّة من سنن التاريخ .
«ولو أ نّهم أَقَامُوا التوراةَ والإنجيلَ وما اُنزِلَ إلَيهِم مِن ربّهِمِ لأكَلُوا من فَوقِهِم ومِن تَحتِ أرجُلِهِم »(22).
«ولو أنّ أهل القُرىََ آمَنُوا واتّقَوا لَفَتَحنا عَلَيهِم بركاتٍ مِن السماء والأرضِ ولكن كَذّبوا فأخَذناهُم بِمَا كَانُوا يَكسِبونَ »(23).
«وألّو استَقَامُوا عَلىََ الطرِيقَةِ لأسقَيناهُم ماءً غَدَقاً »(24).
هذه الآيات الثلاث أيضاً تتحدّث عن علاقة معينة ، هذه العلاقة المعينة علاقة بين الاستقامة وتطبيق أحكام اللََّه سبحانه وتعالىََ وبين وفرة الخيرات ووفرة الانتاج ، وبلغة اليوم علاقة بين عدالة التوزيع وبين وفرة الانتاج . القرآن يؤكد أنّ المجتمع الذي تسوده العدالة في التوزيع ، هذه العدالة في التوزيع التي عبّر عنها القرآن تارة بأ نّه : «لو استقاموا علىََ الطريقة لأسقيناهم ماءً غَدَقاً »واُخرىََ بأ نّه «لو أنّ أهل القرىََ آمنوا واتقوا »واُخرىََ بأ نّه «لو أ نّهم أقاموا التوراة والإنجيل »؛ لأن شريعة السماء نزلت من أجل تقرير عدالة التوزيع ، من أجل إنشاء علاقات التوزيع علىََ اُسس عادلة . يقول : لو أ نّهم طبّقوا عدالة التوزيع ، إذن لما وقعوا في ضيق من ناحية الثروة المنتجة ، لما وقعوا في فقر من هذه الناحية ، لازداد الثراء ، لازداد المال ، لازدادت الخيرات والبركات ، لكنهم تخيّلوا أنّ عدالة التوزيع تقتضي الفقر ، تقتضي التقسيم ، وبالتالي تقتضي فقر الناس ، بينما الحقيقة السنة التاريخية تؤكد عكس ذلك ، تؤكد بأنّ تطبيق شريعة السماء وتجسيد أحكامها في علاقات التوزيع تؤدّي دائماً وباستمرار إلىََ وفرة الانتاج ، إلىََ زيادة الثروة ، إلىََ أن تفتح علىََ الناس بركات السماء والأرض . إذن هذه أيضاً سنة من سنن التاريخ .
3 - الحثّ على التأمل في أحداث التاريخ :
وهناك آيات اُخرىََ أكدت وحثّت علىََ الاستقراء والنظر والتدبّر في الحوادث التاريخية من أجل تكوين نظرة استقرائية ، من أجل الخروج بنواميس وسنن كونية للساحة التاريخية :
«أفَلَم يَسِيرُوا في الأرضِ فَينظُروا كَيفَ كان عاقِبَةُ الذين من قَبلِهِم دَمّر اللََّه عَلَيهِم ولِلكافِرِينَ أمثالُها »(25).
«أفَلَم يَسِيرُوا في الأرضِ فَينظُروا كَيف كانَ عاقِبةُ الذِين مِن قبلِهِم »(26).
«فكأيّن مِن قَريَةٍ أهلَكناها وهِي ظَالمةٌ فَهِي خَاوِيةٌ علىََ عُرُوشِهَا وبِئرٍ مُعطَّلَةٍ وقَصْرٍ مَشِيدٍ * أفَلَم يَسِيرُوا في الأرضِ فَتكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعقِلُونَ بِها أو آذانٌ يَسمَعُونَ بها فإنّها لا تَعمىََ الأبصارُ ولكِن تَعمىََ القُلُوبُ التي في الصدُورِ »(27).
«وَكَمْ أَهلَكنا قَبلَهُم من قَرنٍ هُم أشَدُّ مِنهُم بَطْشاً فَنَقّبُوا في البِلاد هَل من مَحِيصٍ * إنّ في ذَلِكَ لَذِكرىََ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أو ألقىََ السمعَ وهُوَ شَهِيد »(28).
كشف القرآن عن سنن التاريخ :
من مجموع هذه الآيات الكريمة يتبلور المفهوم القرآني الذي أوضحناه ، وهو تأكيد القرآن علىََ أنّ الساحة التاريخية لها سنن ولها ضوابط كما يكون هناك سنن وضوابط لكل الساحات الكونية الاُخرىََ .
وهذا المفهوم القرآني يعتبر فتحاً عظيماً للقرآن الكريم ؛ لأنّنا - في حدود ما نعلم - [ نجد أنّ ] القرآن الكريم أول كتاب عرفه الإنسان أكّد علىََ هذا المفهوم وكشف عنه وأصرّ عليه وقاوم بكل ما لديه من وسائل الاقناع والتفهيم ، قاوم النظرة العفوية أو النظرة الغيبية الاستسلامية لتفسير الأحداث ، الإنسان الاعتيادي كان يفسّر أحداث التاريخ بوصفها كومة متراكمة من الأحداث ، يفسّرها علىََ أساس الصدفة تارة ، وعلىََ أساس القضاء والقدر والاستسلام لأمر اللََّه سبحانه وتعالىََ تارة اُخرىََ
القران الكريم قاوم هذه النظرة العفوية وقاوم هذه النظرة الاستسلامية ونبّه العقل البشري إلىََ أنّ هذه الساحة لها سننها ولها قوانينها ، وأ نّه لكي تستطيع أن تكون إنساناً فاعلاً مؤثراً لابدّ لك أن تكتشف هذه السنن ، لابدّ لك أن تتعرف علىََ هذه القوانين لكي تستطيع أن تتحكم فيها ، وإلّا تحكّمت هي فيك وأنت مغمض العينين . افتح عينيك علىََ هذه القوانين ، افتح عينيك علىََ هذه السنن لكي تكون أنت المتحكّم لا لكي تكون هذه السنن هي المتحكّمة فيك .
هذا الفتح القرآني الجليل هو الذي مهّد إلىََ تنبّه الفكر البشري بعد ذلك بقرون ، إلىََ أن تجري محاولات لفهم التاريخ فهماً علمياً . بعد نزول القرآن بثمانية قرون بدأت هذه المحاولات ، بدأت علىََ أيدي المسلمين أنفسهم ، فقام ابن خلدون بمحاولة لدراسة التاريخ وكشف سننه وقوانينه ، ثم بعد ذلك بأربعة قرون - علىََ أقل تقدير - اتّجه الفكر الاُوربي في بدايات ما يسمّىََ بعصر النهضة ، بدأ لكي يجسّد هذا المفهوم ، هذا المفهوم الذي ضيّعه المسلمون ، والذي لم يستطع المسلمون أن يتوغّلوا إلىََ أعماقه
هذا المفهوم أخذه الفكر الغربي في بدايات عصر النهضة ، وبدأت هناك أبحاث متنوعة ومختلفة حول فهم التاريخ وفهم سنن التاريخ ، ونشأت علىََ هذا الأساس اتّجاهات مثالية ومادية ومتوسطة ومدارس متعددة ، كل واحدة منها تحاول أن تحدّد نواميس التاريخ . وقد تكون المادية التاريخية أشهر هذه المدارس وأوسعها تغلغلاً وأكثرها تأثيراً في التاريخ نفسه .
إذن كلّ هذا الجهد البشري في الحقيقة هو استمرار لهذا التنبيه القرآني ، ويبقىََ للقرآن الكريم مجده في أ نّه طرح هذه الفكرة لأوّل مرّة علىََ الساحة ، علىََ ساحة المعرفة البشرية .
المصادر :
1- يونس : 49
2- الأعراف : 34
3- الحجر : 4 - 5
4- المؤمنون : 43
5- الأعراف : 185
6- الكهف : 58 - 59
7- النحل : 61
8- فاطر : 45
9- الأنفال : 25
10- فاطر : 18
11- الإسراء : 76 - 77
12- آل عمران : 137
13- الأنعام : 34
14- فاطر : 42 - 43
15- الفتح : 22 - 23
16- الرعد : 11
17- الأنفال : 53
18- البقرة : 214
19- سبأ : 34 - 35
20- الزخرف : 22 - 23 . وهاتان الآيتان أوردهما السيد الشهيد الصدر قدس سره بعد الآية 16 من سورة الجنّ .
21- الإسراء : 16 - 17
22- المائدة : 66
23- الأعراف : 96
24- الجن : 16
25- محمد : 10
26- يوسف : 109
27- الحج : 45 - 46
28- ق : 36 - 37