
تتحكّم في الإنسان منذ بدء وجوده غريزة حبّ الذات ، وهي اتّجاه أصيل في النفس البشريّة ، يدفع الإنسان دائماً إلى تحقيق الخير لذاته ، وتوفير مصالحه ، وإشباع رغباته . ويحاول بحكم هذا الدافع الأصيل في نفسه أن يستفيد من كلّ ما حوله من أجزاء الكون الكبير الذي يعيشه وقواه وإمكاناته ، ويستعين بكلّ ما يتاح له من ذلك في سبيل تحقيق الخير الشخصي له ، وتوفير مصالحه الخاصّة .
وعلى هذا الأساس دخل الجماد والنبات والحيوان في حياة الإنسان ؛ لأنّ هذه الأشياء يمكن أن تقدّم بطبيعتها كثيراً من الخدمات للإنسان في حياته ، فاندفع الإنسان إلى الاستعانة بها واستخدامها وتكييفها وفقاً لرغباته وحاجاته ، وكان من الطبيعي أن يجد الإنسان أنّ إمكانات الاستعانة لا تستنفذ هذه الأشياء ، وأن يندفع بحكم اتّجاهه الفطري الأصيل إلى الاستعانة بأخيه الإنسان أيضاً ، والاندماج معه في حياة واحدة تملك من الإمكانات لإشباع الحاجات والرغبات أكبر ممّا تملكه الحياة المنعزلة للإنسان الواحد . وهكذا استطاع الإنسان أن يتوصّل بإلهام فطري من غريزة حبّ الذات إلى إقامة العلاقات المتنوّعة ، ذات الأشكال المختلفة مع كلّ ما يعيش حوله من أجزاء الكون .
غير أنّ هناك فرقاً جوهريّاً وجد منذ البدء بين نوع العلاقة التي أقامها الإنسان فطريّاً مع الأشياء ، ونوع العلاقة التي أقامها مع أخيه الإنسان . فإنّ العلاقة الاُولى تمثّل الإيجابيّة من طرف واحد ، وتجعل الإنسان هو سيّد الموقف فيها بقدر ما تنمو خبرته بالكون وتتّسع مداركه وإمكاناته ، وأمّا العلاقة الثانية فهي بين إنسانين أو مجموعة من الناس ، ولكلّ إنسان مصالحه وحاجاته ، ومن وراء هذه المصالح والحاجات الدافع الأصيل الذي يتمثّل في غريزة حبّ الذات ، فالشعور بالانتفاع بالإنسان الآخر هنا شعور متبادل . وعلى هذا الأساس يتكوّن المجتمع ، ويندمج الأفراد في إطار واحد ، ويتمّ ضمن هذا الإطار تفاعل الأفراد والتعاون المشترك .
وفي هذا الضوء نعرف أنّ تكوّن الحياة الاجتماعيّة نتيجة للميل الفطري عند الإنسان الذي يدفعه دائماً إلى استخدام كلّ ما يجد حوله لتحقيق الخير الشخصي .
ومن الطبيعي أن نتصوّر - وفقاً للمفهوم القرآني للتاريخ - أنّ الحياة الاجتماعيّة في بدايات تكوّن المجتمعات البشريّة نشأت بسيطة خالية من التعقيد(وهذا المفهوم القرآني للتاريخ معطى في قوله تعالى : «كَانَ النَّاسُ اُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّه النَّبِيِّينَ ... ») ، وكان الدافع الذاتي الذي دفع بالإنسان نحوها كفيلاً بتوفير الدرجة المطلوبة لها من الاستقرار . كما كان مستوى التصوّر البشري للحاجات والمصالح
كفيلاً بضمان وحدة المجتمع وتماسكه والحيلولة دون وقوع الاختلاف والتناقض الشديد في داخله ؛ لأنّ البشر في بدايات حياتهم البشريّة ، لم يكونوا يملكون من المعارف والتجارب في شؤون الحياة ووسائلها وطرقها ومجالات الاستمتاع فيها إلّا الشيء المحدود الذي لا يتجاوز الفطريّات وبعض المكتسبات البدائيّة ، الأمر الذي كان يجعل الإنسان يتغذّى من أعشاب الأرض ونباتها ، ويتسلّح بالأحجار والصخور ، ويلوذ بالكهوف والمغارات ، ويصطاد أنواعاً متعدّدة من الحيوانات . والمجتمعات الفطريّة التي لا تتجاوز هذه الحدود لا يظهر فيها اختلاف ؛ لبساطة آمالها ، وبدائيّة همومها ومفاهيمها ، ومحدوديّة وسائلها ومجالاتها .
ولكنّ الإنسانيّة داخل الإطار الاجتماعي تنمو وتتكامل مداركها خلال التجربة التي تخوضها عبر الزمن ، ولذلك يصبح من المحتوم - بعد أن تستمرّ الإنسانيّة في حياتها الاجتماعيّة ، وتواصل تجاربها مع الكون - أن يتفتّح وعيها ، وتتّسع مجالاتها الحياتيّة ، وتنمو آمالها ، وتتعقّد آلامها ، وتتكاثر أمامها فرص الاستمتاع بالحياة .
وحينما تصل البشريّة إلى ذلك ، تبدأ بذور الاختلاف والتناقض والصراع تنمو داخل الإطار الاجتماعي ، ويصبح الميل الفطري عند الإنسان الذي يدفعه إلى الاستعانة بأخيه الإنسان غير كاف وحده لضمان الاستقرار في الحياة الاجتماعيّة ، كما كان كافياً في بداية تكوّنها ، بل يصبح هذا الميل الفطري نفسه دافعاً إلى تمزيق الوحدة الاجتماعيّة ، وخلق الصراع في داخلها ؛ لأنّ الناس خلال اجتماعهم الفطري سوف يختلفون في تجاربهم وإدراكاتهم ويتفاوتون في مواهبهم وقواهم . وكلّ ذلك يجعل غريزة حبّ الذات تدفع الإنسان إلى صرف إمكاناته التي يمتاز بها على الأفراد الآخرين ، في سبيل مصالحه الخاصّة ، وفي النهاية تدفعه إلى استخدام الأفراد الآخرين لتحقيق تلك المصالح .
ومن ناحية اُخرى ، يؤدّي اتّساع فهم أفراد المجتمع للحياة ومجالات الاستمتاع فيها ، ووسائل هذا الاستمتاع ، إلى محاولة توسيع مصالحه وحاجاته الخاصّة على هذا الأساس ، فينشأ ويأخذ كلّ إنسان بالعمل لصالحه الخاصّ ، وفقاً لميله الفطري على حساب الآخرين .
ومن هنا تنشأ الضرورة إلى تنظيم للحياة الاجتماعيّة يعالج التناقض ، ويحدّد الحقوق ويعيّن الواجبات ، ويكفل للحياة الاجتماعيّة الاستقرار على صيغة معيّنة يعرف كلّ فرد ضمنها ما له وما عليه .
وهكذا نجد أنّ التنظيم الاجتماعي شرط ضروري لاستمرار الحياة الاجتماعيّة للبشريّة بعد برهة من تجربتها الاجتماعيّة ، ولا يمكن بحال فصل تصوّر المجتمع عن تصوّر التنظيم الاجتماعي بشكل من الأشكال .
يجب أن يقوم النظام على أساس الدين :
عرفنا أنّ دوافع الفطرة وغريزة حبّ الذات في الإنسان ، هي العامل الأساسي في تكوين الحياة الاجتماعيّة ، وهي بنفسها تصبح بعد مرحلة من الشوط الاجتماعي للبشريّة عاملاً في إثارة التناقض والصراع والتفكّك ، وتجعل من الضروري وضع التنظيم الاجتماعي الكفيل بالقضاء على ذلك .وهذا التسلسل المنطقي الذي يؤدّي إلى ضرورة التنظيم الاجتماعي يبرهن على حقيقة ، وهي : أنّ هذا التنظيم الاجتماعي إذا كان من وضع الإنسان نفسه ، فلن يكون إلّاأداة لتكريس ذلك التناقض ؛ لأنّ اتّساع مجال المصلحة الشخصيّة للفرد أدّى - كما رأينا - إلى تناقض مستقطب بين المصلحة الشخصيّة ومصلحة الوجود الاجتماعي ككلّ .
فبينما كان الوجود الاجتماعي في بداية الشوط يحقّق بنفسه مصلحة للفرد بما يسمح له من مجال لتبادل التعاون مع سائر الأفراد ، أصبح بعد ذلك يتعارض مصلحيّاً مع ما تتطلّبه الدوافع الذاتيّة في الفرد من توسّع ، ولا يمكن لتنظيم اجتماعي - على ضوء هذا التحليل - أن يحافظ على مصلحة الوجود الاجتماعي ، ويحدّ من الدوافع الذاتيّة ، إذا كان هذا التنظيم نفسه من وضع فرد أو مجموعة من الأفراد الذين يعيشون الصراع والتناقض المصلحي ؛ فإنّ الدوافع الذاتيّة لغريزة حبّ الذات سوف تنعكس في تكوين النظام الاجتماعي وتمتدّ المشكلة إليه .
فلا بدّ إذن لكي يكون التنظيم الاجتماعي على مستوى حلّ المشكلة والحدّ من الدوافع الخاصّة وحماية المصالح الموضوعيّة للمجتمع أن يربط بجهة قادرة على تكييف الدوافع الخاصّة وتطويرها بشكل يتّفق مع المصلحة الاجتماعيّة ، وهذه الجهة لا يمكن أن تتمثّل إلّافي الدين ، فالدين هو الذي يستطيع أن يوفّق بين الدوافع الذاتيّة والمصالح الاجتماعيّة العامّة ويسبغ على القيم التي يمثّلها التنظيم الاجتماعي المرتبط به طابع المصلحة الخاصّة ، فيزول التناقض المستقطب بين الخاصّ والعامّ ، بين الأنانيّة والاجتماعيّة .
وتصبح غريزة حبّ الذات ، ودوافعها الخاصّة نفسها في خدمة ذلك التنظيم وقيمه ومثله ؛ لأنّ الدين هو الطاقة الروحيّة التي تستطيع أن تعوّض الإنسان عن لذائذه الموقوتة التي يتركها في حياته الأرضيّة أملاً في النعيم الدائم ؛ وتستطيع أن تدفع به إلى التضحية بوجوده عن إيمان بأنّ هذا الوجود المحدود الذي يضحّي به ليس إلّاتمهيداً لوجود خالد ، وحياة دائمة ، وتستطيع أن تخلق في تفكيره نظرة جديدة تجاه مصالحه ، ومفهوماً عن الربح والخسارة أرفع من المفاهيم التجاريّة المادّيّة .
فالعناء طريق اللذّة ، والخسارة لحساب المجتمع سبيل الربح ، وحماية مصالح الآخرين تعني ضمناً حماية مصالح الفرد في حياة أسمى وأرفع .. وهكذا ترتبط المصالح الاجتماعيّة العامّة بالدوافع الذاتيّة ، بوصفها مصالح للفرد في حسابه الديني .
وفي القرآن الكريم نجد التأكيدات الرائعة على هذا المعنى ، في كلّ مكان ، وهي تستهدف جميعاً تكوين تلك النظرة الجديدة عند الفرد عن مصالحه وأرباحه . فالقرآن يقول : «وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَ كَرٍ أوْ اُ نْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَاُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ »(1)، «مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أسَاءَ فَعَلَيْهَا »(2)، «يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أشْتَاتاً لِيُرَوْا أعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه »(3)، «وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّه أمْوَاتاً بَلْ أحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ »(4)، «مَا كَانَ لأهْلِ المَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّه وَلا يَرْغَبُوا بِأنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأ نَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّه وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إلَّاكُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إنَّ اللَّه لا يُضِيعُ أجْرَ المُحْسِنِينَ * وَلا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّه أحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ »(5).
نلمح في هذه الصورة الرائعة التي يقدّمها الدين براعته في ربط الدوافع الذاتيّة بسبل الخير في الحياة ، وتطوير مصلحة الفرد تطويراً يجعله يؤمن بأنّ مصالحه الخاصّة والمصالح الحقيقيّة العامّة للإنسانيّة التي يحدّدها التنظيم الاجتماعي الإسلامي مترابطان .
فالدين إذن هو الإطار الوحيد الذي يمكن للمسألة الاجتماعيّة أن تجد ضمنه حلّها الصحيح ، ولا يمكن لتنظيم اجتماعي أن يتغلّب على مشكلة التناقض بين الدوافع الذاتيّة والمصالح الاجتماعيّة إلّاإذا كان إطاره دينيّاً .
وهكذا نعرف أنّ البشريّة بحاجة إلى نظام اجتماعي يقوم على أساس الدين .
النظام الإسلامي وحده يقوم على أساس الدين :
وبين يدي البشريّة اليوم أربعة مذاهب في التنظيم الاجتماعي ، يمكن أن تعتبر أهمّ المذاهب الاجتماعيّة التي تسود الذهنيّات الإنسانيّة المعاصرة ، ويقوم بينها الصراع الفكري أو السياسي على اختلاف مدى وجودها الاجتماعي في حياة الإنسان . وهي :1 - النظام الديمقراطي .
2 - النظام الاشتراكي .
3 - النظام الشيوعي .
4 - النظام الإسلامي .
ويتقاسم العالم اليوم اثنان من هذه الأنظمة الأربعة ، فالنظام الديمقراطي الرأسمالي هو أساس الحكم في بقعة كبيرة من الأرض ، والنظام الاشتراكي هو السائد في بقعة كبيرة اُخرى ، وكلّ من النظامين يملك كياناً سياسيّاً عظيماً يحميه في صراعه المسعور مع الآخر . وأمّا النظام الشيوعي والإسلامي فوجودهما فكري خالص ، ولكلّ من النظامين رصيده العقائدي الضخم .
وبالرغم من أنّ الاشتراكيّة بوصفها اُطروحة للتنظيم الاجتماعي قدّمت كنقيض لاُطروحة الديمقراطيّة الرأسماليّة فإنّ كلتا الاُطروحتين المطبّقتين عالميّاً اليوم متّفقتان في الاعتراف بالتناقض المستقطب بين حبّ الذات والدوافع الشخصيّة من ناحية والمصالح العامّة للجماعة من ناحية اُخرى ؛ ولهذا عجزتا معاً عن التغلّب على المشكلة وإن اختلفتا في الموقف المتّخذ تجاهها .
فالديمقراطيّة الرأسماليّة ، سلّمت بذلك التناقض ولم تعتبر الدوافع الشخصيّة لحبّ الذات خطراً يجب أن يفكّر بشأنه ، بل على العكس اعتبرت امتلاك الفرد حرّيّته الكاملة في تحقيق تلك الدوافع والعمل على أساسها حقّاً مقدّساً يجب أن يصان للأفراد جميعاً على السواء ، وبذلك أصبحت تلك الدوافع هي القاعدة للعمل في ا لمجتمع الرأسمالي ، وأصبح المكسب الشخصي هو المقياس في التقييم ، ولم يعد للمصلحة الاجتماعيّة وقيمها ومثلها أيّ ضمان في خضمّ الصراع المحموم بين المصالح الفرديّة والدوافع الخاصّة .
وأمّا الاشتراكيّة فقد اعترفت أيضاً بالتناقض بين الدوافع الخاصّة ومصالح الجماعة ، غير أ نّها اتّخذت موقفاً آخر بإعلانها عن قدرتها على محو تلك الدوافع الخاصّة محواً كاملاً عن طريق اجتثاث جذورها الموضوعيّة ، وترتكز الفكرة في هذا الموقف على مفهوم الماركسيّة على حبّ الذات ، فإنّ الماركسيّة تعتقد أنّ حبّ الذات ليس ميلاً طبيعيّاً وظاهرة غريزيّة في كيان الإنسان ، وإنّما هو نتيجة للوضع الاجتماعي القائم على أساس الملكيّة الفرديّة التي يحميها النظام الرأسمالي ؛ فإنّ الحالة الاجتماعيّة (6) للملكيّة الخاصّة هي التي تكوّن - في نظر الماركسيّة - المحتوى الروحي والداخلي للإنسان ، وتخلق في الفرد حبّه لمصالحه الخاصّة ، ومنافعه الفرديّة ، فإذا حدثت ثورة في الاُسس التي يقوم عليها الكيان الاجتماعي ، وحلّت الملكيّة الجماعيّة محلّ الملكيّة الخاصّة ، فسوف تنعكس الثورة في كلّ أرجاء المجتمع ، وفي المحتوى الداخلي للإنسان فتنقلب مشاعره الفرديّة إلى مشاعر جماعيّة ، ويتحوّل حبّه لمصالحه ومنافعه الخاصّة إلى حبّ لمنافع الجماعة ومصالحها .
وأمّا النظام الإسلامي فيختلف في نظرته وعلاجه للمشكلة عن الرأسماليّة والاشتراكيّة معاً ، فهو لا يُقرّ استسلام الرأسماليّة بإزاء التناقض بين الدوافع الخاصّة ومصلحة الجماعة ، وفسحها المجال لهذا التناقض على أوسع مدى ، ولا يتّفق من ناحية اُخرى مع الاشتراكيّة والمفهوم الماركسي لحبّ الذات الذي يعتقد بأنّ تحويل الملكيّة الخاصّة إلى الملكيّة العامّة كفيل بتحويل حبّ الذات - بقدر العلاقة بين الدافع الذاتي ( غريزة حبّ الذات ) وبين الأوضاع الاجتماعيّة - بشكل مقلوب ، وإلّا فكيف نستطيع أن نؤمن بأنّ الدافع الذاتي وليد الملكيّة الخاصّة والتناقضات الطبقيّة التي تنجم عنها ؟ فإنّ الإنسان لو لم يكن يعلم سلفاً الدافع الذاتي لما أوجد هذه التناقضات ولا فكّر في الملكيّة الخاصّة والاستثمار الفردي ! ولماذا يستأثر الإنسان بمكاسب النظام ويضعه بالشكل الذي يحفظ مصالحه على حساب الآخرين ما دام لا يحسّ بالدافع الذاتي في أعماق نفسه ؟
فالحقيقة هي أنّ المظاهر الاجتماعيّة للأنانيّة في الحقل الاقتصادي والسياسي لم تكن إلّانتيجة للدافع الذاتي لغريزة حبّ الذات ، فهذا الدافع أعمق منها في كيان الإنسان ، فلا يمكن أن يزول وتنقلع جذوره بإزالة تلك الآثار ، فإنّ عمليّة كهذه لا تعدو أن تكون استبدالاً لآثار باُخرى قد تختلف في الشكل والصورة ، ولكنّها تتّفق معها في الجوهر والحقيقة ، فكما يمكن للدافع الذاتي أن يعبّر عن نفسه في المجتمع الرأسمالي عن طريق شكل الملكيّة الخاصّة والتناقض الطبقي ، كذلك يمكن أن يُعبّر عنه في مجتمع ماركسي عن طريق أشكال الإدارة الخاصّة ، واستقطاب السلطة ، والتناقض الحزبي ، كما يدلّل عليه تاريخ التجربة الماركسيّة الحديثة .
فالواقع الذاتي إذن حقيقة لا يمكن محوها عن طريق التغيير القانوني في العلاقات الاجتماعيّة ولا يمكن إقرار التناقض بينها وبين المصالح الاجتماعيّة . والنظام الإسلامي يعالج مشكلة هذا التناقض بالتوفيق بين القطبين المتناقضين ، والتأليف بينهما عن طريق الدين الذي يعطي للدافع مفهوماً تربويّاً جديداً يتّفق مع المصلحة الاجتماعيّة وقيمها ومثلها دون أن يزعزعه أو يفكّر في محوه ، وبهذا كان التنظيم الإسلامي هو التنظيم الوحيد الذي يملك الإطار الديني اللازم لحلّ المشكلة والقادر - حين يتسلّم زمام القيادة والإمامة الاجتماعيّة في العالم - أن يضع حدّاً لألوان الصراع المسعور بين المصالح الخاصّة مع كلّ المستويات .
حاجتنا إلى النظام الإسلامي خاصّة :
وهو يعدّ حاجة ضروريّة لنا بوصفنا مسلمين ، وذلك :أوّلاً : لإيجاد الانسجام بين التشريع والعقيدة ، فإنّ مردّ النظام الإسلامي إلى أحكام الشريعة الإسلاميّة ، وهي أحكام يؤمن المسلمون بقدسيّتها وحرمتها ووجوب تنفيذها بحكم عقيدتهم الإسلاميّة وإيمانهم بأنّ الإسلام دين نزل من السماء وعلى خاتم النبيّين صلى الله عليه و آله ، وعلى عكس ذلك الأنظمة والتشريعات الاُخرى ، فإنّها في نظر المسلمين ، وبحكم عقيدتهم لا تحتوي على الحرمة والقدسيّة ولا يوجد أيّ مبرّر شرعي لها ، وما من ريب في أنّ من أهمّ العوامل في نجاح القوانين والتشريعات التي تتّخذ لتنظيم الحياة الاجتماعيّة احترام الناس لها ، وتجاوبهم العاطفي والنفسي مع أهدافها ، وإيمانهم بحقّها في التنفيذ والتطبيق ، وهذا ما لا يتوفّر للمسلمين إلّابالنسبة إلى أحكام الشريعة الإسلاميّة والنظام الإسلامي .
وثانياً : لإيجاد التوافق بين الجانب الروحي والجانب الاجتماعي من حياة الإنسان المسلم ، وذلك أنّ الأنظمة الاجتماعيّة الاُخرى غير الإسلام لا تعالج إلّا جانب العلاقات الاجتماعيّة من حياة الإنسان ، تاركة - على الأغلب - الجانب الروحي الذي يشمل علاقة الإنسان بربّه وتنميته لإرادته وأخلاقه ومُثُله ، فإذا أخذنا تشريعاتنا للحياة الاجتماعيّة ونظامها من مصادر بشريّة بدلاً عن النظام الإسلامي لم نستطع أن نكتفِ بذلك عن تنظيم آخر ، أي الجانب الروحي منه ، ولا يوجد مصدر صالح لتنظيم حياتنا الروحيّة إلّاالإسلام ، ولأجل ذلك ينشأ التناقض حينئذٍ بين طريقة تنظيم حياتنا الروحيّة المستمدّة من الإسلام وطريقة القوانين الوضعيّة في تنظيم الحياة الاجتماعيّة ؛ لأنّ الطريقتين مختلفتان ومتعارضتان في اُسسهما وقواعدهما ، مع أنّ الحياة الروحيّة والحياة الاجتماعيّة متفاعلتان . ونتيجة ذلك أن يسود القلق ويتأرجح الفرد المسلم بين التيّار الروحي والتيّار الاجتماعي ، ويعيش في حالة تناقض بين المصادر التى يستلهمها في تنظيم حياته الروحيّة ، والمصادر التي تنظّم حياته الاجتماعيّة .
وعلى العكس من ذلك كلّه ، إذا اتّخذنا الإسلام قاعدة للتنظيم والتشريع في مختلف شؤون الحياة الروحيّة والاجتماعيّة ، فإنّنا بذلك نبني حياتنا كلّها على أساس قاعدة واحدة وهي الإسلام ، بدلاً عن قاعدتين متنافرتين .
وثالثاً : إنّ تبنّي الاُمّة للنظام الإسلامي المرتبط بعقيدتها وتاريخها بدلاً من الأنظمة والمذاهب الاجتماعيّة الاُخرى ، يساهم بدرجة كبيرة في المعركة التي تخوضها الاُمّة ضدّ الكافر المستعمر منذ غزا العالم الإسلامي بجيوشه العسكريّة والفكريّة ؛ لأنّه يحرّرها من التبعيّة الفكريّة لمذاهب المستعمرين أنفسهم ، ويؤكّد للاُمّة شخصيّتها العقائديّة الخاصّة ، ووجودها المتميّز ، ويقضي على كلّ أنواع الأفكار التي نشرها الكافر المستعمر بقصد إعاقة حركات التحرّر في العالم الإسلامي .
ومن ناحية اُخرى إنّ شعور الاُمّة الإسلاميّة بأنّ النظام الإسلامي مرتبط بتاريخها وأمجادها ، ومعبّر عن أصالتها ، ومنقطع الصلة تاريخيّاً وفكريّاً بحضارات المستعمرين ، يجعل ضمير الفرد الشرقي المستعمَر منفتحاً عليه ، بينما ينكمش تجاه الأنظمة المستمدّة من الأوضاع الاجتماعيّة في بلاد المستعمرين ويعيش حسّاسيّة شديدة ضدّها ، وهذه الحسّاسيّة تجعل تلك الأنظمة - حتّى ولو كانت صالحة ومستقلّة عن الاستعمار من الناحية السياسيّة - غير قادرة على تفجير طاقات الاُمّة وقيادتها في معركة البناء ، فلا بدّ للاُمّة إذن - بحكم ظروفها النفسيّة التي خلقها عصر الاستعمار وانكماشها تجاه ما يتّصل به - من إقامة نهضتها الحديثة على أساس نظام اجتماعي ومعالم حضاريّة لا تمتّ إلى بلاد المستعمرين بنسب .
وهذه الحقيقة الواضحة هي التي جعلت عدداً من التكتّلات السياسيّة في العالم الإسلامي ترتدّ في بعض الأحيان إلى فكرة متخلّفة ذهبت مرحلتها التاريخيّة ، وهي اتّخاذ القوميّة نفسها فلسفة وقاعدة للحضارة ، وأساساً للتنظيم الاجتماعي حرصاً منهم على تقديم شعارات منفصلة عن الكيان الفكري للاستعمار انفصالاً كاملاً ، غير أنّ القوميّة في الحقيقة ليست إلّاعبارة عن انتماء الفرد إلى مجتمع معيّن له تاريخه ولغته وليست فلسفة ذات مبادئ ، ولا عقيدة ذات اُسس ، ولا تعني رأسماليّة ولا اشتراكيّة ولا ديمقراطيّة ولا دكتاتوريّة ولا كفراً ولا إيماناً ، بل هي بحاجة إلى الأخذ بوجهة نظر معيّنة تجاه الكون والحياة ، وفلسفة خاصّة تصوغ على أساسها معالم حضارتها ونهضتها وتنظيمها الاجتماعي .
ويبدو أنّ كثيراً من الحركات القوميّة أحسّت بذلك أيضاً وأدركت أنّ ـ القوميّة كمادّة خام بحاجة إلى الأخذ بفلسفة اجتماعيّة ونظام اجتماعي معيّن ، وحاولت أن توفّق بين ذلك وبين أصالة الشعار الذي ترفعه ، فنادت بالاشتراكيّة العربيّة ، نادت بالاشتراكيّة ؛ لأنّها أدركت أنّ القوميّة وحدها لا تكفي ، بل هي بحاجة إلى نظامٍ ونادت بها في إطار عربي تفادياً لحسّاسيّة الاُمّة ضدّ أيّ ستار أو فلسفة مرتبطين بعالم المستعمرين ، فحاولت عن طريق توصيف الاشتراكيّة بالعربية تغطية الواقع الأجنبي المتمثّل في الاشتراكيّة من الناحية التاريخيّة والفكريّة ، وهي تغطية كشفتها حسّاسيّة الاُمّة التي تحدّثنا عنها ؛ لأنّ هذا الإطار القلق ليس إلّامجرّد تأطير ظاهري وشكلي للمضمون الأجنبي الذي تمثّله الاشتراكيّة ، وإلّا فأيّ دور يلعبه هذا الإطار في مجال التنظيم الاشتراكي ؟
وأيّ تطوير للعامل العربي في الموقف ؟ وما معنى أنّ العربيّة كلغة وتاريخ تطوّر فلسفة معيّنة للتنظيم الاجتماعي ؟ بل كلّ ما وقع في المجال التطبيقي نتيجة للعامل العربي ، إنّ هذا العامل أصبح يعني في مجال التطبيق استثناء ما يتنافى من الاشتراكيّة مع التقاليد السائدة في المجتمع العربي والتي لم تحثّهم الظروف الموضوعيّة لتغييرها ، كالنزعات الروحيّة بما فيها الإيمان باللَّه .
فالإطار العربي ، إذن لا يعطي الاشتراكيّة روحاً جديدة تختلف عن وصفها الفكري والعقائدي المعاش في بلاد المستعمرين ، وإنّما يراد به التعبير عن استثناءات معيّنة وقد تكون موقوتة ، والاستثناء لا يغيّر جوهر القضيّة والمحتوى الحقيقي للشعار .
ولا يمكن لدعاة الاشتراكيّة العربيّة أن يميّزوا الفوارق الأصليّة بين اشتراكيّة عربيّة ، واشتراكيّة فارسيّة واشتراكيّة تركيّة ، ولا أن يفسّروا كيف تختلف الاشتراكيّة بمجرّد إعطائها هذا الإطار القومي أو ذاك ؛ لأنّ الواقع أنّ المضمون والجوهر لا يختلف ، وإنّما هذه الاُطر تعبّر عن استثناءات قد تختلف من شعب إلى آخر لنوعيّة التقاليد السائدة في الشعوب .
وبالرغم من أنّ دعاة الاشتراكيّة قد فشلوا في تقديم مضمون حقيقي جديد لهذه الاشتراكيّة عن طريق تأطيرها بالإطار العربي فإنّهم أكّدوا بموقفهم هذا تلك الحقيقة التي قلناها ، وهي أنّ الاُمّة بحكم حسّاسيّتها الناتجة عن عصر الاستعمار لا يمكن بناء نهضتها الحديثة إلّاعلى أساس قاعدة أصيلة لا ترتبط في ذهن الاُمّة ببلاد المستعمرين أنفسهم ، ولا توجد هذه القاعدة إلّافي الإسلام نفسه ، فالإسلام كقاعدة للنهضة الجديدة ، والنظام الإسلامي كصياغة لهذه النهضة هو الطريق الوحيد الذي يمكن للاُمّة أن تتفتّح عليه ، ولا تشمّ منه رائحة الخطر ولا تتبيّن فيه أصابع اُولئك الذين داسوا كرامتها واستعمروها .( 7 )
المصادر :
1- غافر : 40
2- فصّلت : 46
3- الزلزلة : 6 - 8
4- آل عمران : 169
5- التوبة : 120 - 121
6- فلسفتنا : 50
7- مقال للسيد الشهيد محمد باقر الصدر نشر في مجلّة ( رسالة الإسلام ) ، السنة الثانية 1968 م ، العدد ( 3 - 4 ) ، باسم ( كاتب إسلامي كبير)