قال تعالى : " لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا "(1)
ويقول بعض السلف ـ كما في الآداب الشرعية لابن مفلح ـ " لم أر كالمعروف أما مذاقه فحلو ، وأما وجهه فجميل " .
والمعروف هو الإحسان إلى الناس ، وهو باب واسع يشمل كل الأمور المعنوية والحسية التي ندب إليها الإسلام لتقوية الروابط الأخوية ، وتنمية العلاقات البشرية بين الناس.
وكل ما من شأنه تحقيق أوامر الإسلام والبعد عن نواهيه فهو من المعروف ، ولذلك جاءت الأحاديث تترى للحث والترغيب على فعله وإيجاده .....
يقول - .صلى الله عليه وآله وسلم - : " أحبُّ الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس ، وأحب الأعمال إلى الله تعالى سرورٌ يدخله على المسلم ، أو يكشف عنه كربة أو يقضى عنه دينا ، أو يطرد عنه جوعا ، ولأن أمشي مع أخٍ في حاجة أحب إلى من أن أعتكف في هذا المسجد (مسجد المدينة) شهراً ، ومن كفَّ غضبه ستر الله عورته ، ومن كظم غيظه ، ولو شاء أن يمضيه أمضه ، ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة ، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزل الأقدام ، [ وإن سوء الخلق يفسد العمل ، كما يفسد الخل العسل] "(2)
لنقف هنا وقفات طويلة ، فإنَّ هذا الحديث الجامع الجميل يبلور لنا فضل ما نحن بصدده حتى تروا الله من أنفسكم نيات مخلصة وأعمالاً صالحة .
أولاً : يوصيك النَّبي - .صلى الله عليه وآله وسلم - بأنْ تكون حريصا على منفعة الناس كل الناس ؛ فإن ذلك يستوجب محبة الله لك .
ثانياً : عليك أن تسعى في إدخال الفرح والبهجة والسرور في قلوب المسلمين ، فلا بأس من الزيارة أو الهدية أو إكرام أولاده أو ترسل زوجتك لمساعدة زوجته المريضة ، ترسل إليه من خير طعامك ، وهكذا ولن تعدم الوسيلة .
ثالثا : كشف كرب المسلمين ، فمن نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، فالجزاء من جنس العمل ، فاللهم اكشف كربات المسلمين يا رب.
رابعاً : قضاء دينه ، ترى أخاك مهموما حزينا مالك ؟ ماذا في الأمر ؟ فتره اهتم لتراكم الديون عليه فتذهب وتسدد عنه وتقضى دينه وقل له : تهون أموال الدنيا ولا أراك هكذا ، هكذا كان يصنع السلف فمن منا يصنع هذا ؟ صار الناس عبيداً للمال . لا يترددون في إنفاقه في الملذات والشهوات أما فعل الخير فهيهات .
خامسًا : تطرد جوعه . عار على المسلمين أن يبيت واحد فيهم جائعا ، ونحن صرنا لا نعدم فقيرا فلماذا البخل والشح ؟ اكسر له كسرة خبز لتطعمه ، اذهب به إلى مطعم من المطاعم ليأكل ، وادفع عنه الجوع ، فلماذا لا تصنعون ؟ فليس ههنا مظنة للتسول .
سادسًا : السعي في قضاء حوائج المسلمين وانظر كيف جعله النبي - .صلى الله عليه وآله وسلم - أفضل من اعتكاف شهر بالمسجد النبوي الشريف.
آه .. لماذا لا تساعد أخاك ؟ !! تأخذ بيده وتعينه على قضاء حاجته ، وما زال الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه ، ولكن ترى في عصرنا هذا نوعا من الشحناء والبغضاء والغل ، فهذا يعرض عن أخيه ، وذاك لا يبالي ، وهذا يعتبر أن سعيه لقضاء حاجة أخيه مضيعة للوقت ، أو يقول لك : إنَّه لا يستحق ، وهذا من الجفاء وفساد ذات البين ، وقد مر بك أنَّها الحالقة ، فصارت ظاهرة عامة أن يسعى لمصلحته فقط ، " أنا ومن بعدى الطوفان " ، إنها نزعة أنانية ، اللهم طهر قلوبنا منها يا رب .
سابعًا : كفُّ الغضب فيستر الله عورته ، لأنَّ الغضب يكشف العورات ، فإذا كففت غضبك جزاك الله من جنس عملك فيسترك . اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا وبلغنا مما يرضيك آمالنا
ثامنا : كظم الغيظ ، فإن الله عفو يحب العفو ، فلا يخيب الله رجاءه يوم القيامة .....
عن أبى مسعود - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - .صلى الله عليه وآله وسلم - : " حوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير شئ إلا أنه كان يخالط الناس ، وكان موسراً ، فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر قال : قال الله عز وجل : نحن أحق بذلك منه تجاوزوا عنه . (3) وفي الحديث أيضا : " منْ أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله " (4)
تاسعًا : السعي في حاجة إخوانك ، للمرة الثانية يؤكد عليها رسول الله - .صلى الله عليه وآله وسلم - . وكان صاحب الحاجة يكون متزعزعا لا تثبت له قدم فمن هيأ له الثبات كأن يسعى في أن يعمل في عمل جيد ، أو يعينه على التزوج ، أو نحو ذلك فهذا يثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام .
عاشرًا : حسن الخلق ، الذي هو أعظم البر ، والذي هو قوام كل ذلك ، إذ فساد الأخلاق يفسد الأعمال الصالحة .
إخوتاه ..
هذا هو المجتمع المسلم ، هذه هي البيئة المسلمة ، فلا للتقاطع والتنافر والتشاحن والتباغض والتحاسد الذي يفسد على الناس ـ الآن ـ أمر دينهم ودنيهم .
فالمعروف شيمة المجتمع المسلم ، والبيئة الإيمانية لا تعرف سوى البر والتقوى ، سوى العفو والرحمة ، سوى التآلف والتعاون فلا طريق لرذائل الأخلاق ، ولا حياة للسفهاء والفساق بيننا .
إخوتاه ..
الأمة يد واحدة ، جسد واحد ، شعب واحد ، ولذلك فهم يتعاونون ويتشاركون ويتكافلون.
يقول - .صلى الله عليه وآله وسلم - : "من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له .
قال أبو سعيد الخدري (راوي الحديث) - رضي الله عنه -فذكر رسول الله - .صلى الله عليه وآله وسلم - من أصناف من المال حتى رأين أنه لا حق لأحد منا في فضل"(5)
آه .... لو طبقنا هذا الحديث بيننا ، والله ما صارت عند المسلمين أي مشكلة اقتصادية ، ولكن تقول هذا لمن ؟ !! لقوم عبدوا المال فلا يرون لأحد فيه حقا سوى أنفسهم اللهم إليك المشتكى .
إنَّ أويساً القرني كان إذا بات في ليلته يقول : " اللهم إني أعتذر إليك عن كل كبد جائعة ، فإنَّك تعلم أنِّى لا أملك إلا ما في بطني ...اللهم إنِّي أعتذر إليك من كل ظهر عارية ، فإنَّك تعلم أنِّي لا أملك إلا ما يستر عورتي.
قال - .صلى الله عليه وآله وسلم - : " ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به " (6)
لابد من تفقد أحوال الفقراء ، لا يكن همُّك نفسَك فحسب ، فإنَّك غدا ستسأل عن هؤلاء فأعد لذلك جواباً من الأعمال لا من الأقوال ، واعلم أنَّ هذا من الطاعات .
يقول - .صلى الله عليه وآله وسلم - : " من نفَّس عن مؤمن كربةً من كرب الدنيا نفَّس الله عن كربة من كرب يوم القيامة ، ومن يسَّر على مُعْسرٍ يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة ، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة ، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ، ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقاً إلى الجنة ، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب اله تعالى ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه " (7)
آهٍ .. هذا حديث عظيم القدر ـ والله ـ وهذا هو المعروف الذي يترتب عليه ذلك الفضل العظيم .
بداية من تيسير الأمر على المعسرين فذلك جزاؤه من جنس عمله فييسر الله عليك في الآخرة وأنت في أشد الحاجة .
أيضا الستر لعورات المسلمين . فيا من تفضح الناس وتتبع زلاتهم أما تخشى أن تعاقب بمثل صنيعك فتفضح غداً على رؤوس الأشهاد. وكلنا له ما يحب أن يستره الله ، فاستر الناس حتى تُستر غدا .
صناعة المعروف تقلب موازين الأمور رأساً على عقب ، وتبدل الحال إلى غير الحال ، تجد إنسانا مكروها يريد شفاعة يسألك مصلحة فإذا أحسنت إليه ستجد الخير كله بإذن الله .
يقول ابن عباس : ما رأيت رجلاً أوليته معروف إلا أضاء ما بينه وبيني ، ولا رأيت رجلاً فرط لي منه شئ إلا أظلم ما بيني وبينه .
هذا الكلام عام يشمل جميع الناس ، فنحن لا نخاطب أفرادا بخصوصهم ، فالحليق ليس بكافر بل هو مسلم قطعا ؛ لأنَّ حلق اللحية معصية وليس بكفر ، والمدخن كذلك والذي يدمن التلفاز كذلك ، والذي يذهب لدور السينما والمسارح ، والذي يسبل إزاره ، والتي لا ترتدى الحجاب الذي شرعه الله على المسلمات ، كل هؤلاء وكل من يقع في معصيته ليس بكافر بل هو مسلم ولكنَّه يعصي الله .
فهؤلاء جميعا مطالبون بأن يطيعوا الله ، فلابد أن تحسن إليهم فذلك مما يشجعهم على أن يحذوا حذو الملتزمين ، ويبدأوا خطوات السير إلى الله .
فصنائع المعروف إذا جاءت في الوقت المناسب مع شخص محتاج إليها فذلك مما يرفع الإيمان في السماء ، ويزيد المرء قوة في دين الله .
انظر إلى رسول الله - .صلى الله عليه وآله وسلم - وقد جاء من وقع على امرأته في نهار رمضان فماذا صنع معه ؟
عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ قال : بينما نحن جلوس عند رسول الله - .صلى الله عليه وآله وسلم - إذ جاءه رجل فقال : يا رسول الله - .صلى الله عليه وآله وسلم - : هلكت قال : ما لك .
قال : وقعت على امرأتي وأنا صائم ؟
فقال رسول الله - .صلى الله عليه وآله وسلم - . هل تجد رقبة تعتقها ؟ قال : لا .
قال : هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ قال : لا .
فقال : فهل تجد إطعام ستين مسكينا ؟ قال : لا .
قال : فمكث النبي - .صلى الله عليه وآله وسلم - فبينما نحن على ذلك أُتى النبي - .صلى الله عليه وآله وسلم - بعرق فيها تمر ـ والعرق : المكتل ـ .
قال : ـ أين السائل ؟ فقال : أنا ، قال : خذها فتصدق بها .....
فقال الرجل : على أفقر منى يا رسول الله ـ فوالله ما بين لابتيها ـ يريد الحرمين أهل بيت أفقر من أهل بيتي ـ فضحك النبي - .صلى الله عليه وآله وسلم - حتى بدت أنيابُه ثم قال : أطعمه أهلك(8)
انظروا كيف وقف رسول الله - .صلى الله عليه وآله وسلم - مع الرجل ، وكيف تعاون المسلمون لرفع البلاء عن أخيهم ، ولم يقل واحد منهم : أنت تستحق هذا ، ما الذي أوداك إلى مثل هذا غير معصيتك . لا ... لا.
ينبغي أن نتعلم من هدى رسول الله - .صلى الله عليه وآله وسلم - ما نصحح به كثيرا من أخلاقياتنا .
بشرى عظيمة أقدمها لكل صاحب معروف منكم ، ولكل من يخشى على نفسه الفتنة في عالم أشرب حتى النخاع بالفتن والمنكرات .
قالوا : صاحب المعروف لا يقع وإذا وقع وجد متكأ .
لقد كانت امرأة مسكينة تطعم ولدها فقسمت رغيفا نصفين ، نصف لها ونصف لولدها فمر بها سائل فقال : أطعميني لله فأعطته نصيبها ، فلما أكل غلامها قام يلعب فالتقمه الذئب .
فقالت المرأة : يا رب ..اللقمة . فألقاه الذئب فقالت : لقمةً بلقمةٍ.
فثق أنَّ معروفك ستجزاه إنْ آجلا أو عاجلاً ، والأيام دول فما يدريك فقد تبتلى بمثل بلاء أخيك ، فقدِّم اليوم لغدك .
كان سلفنا يتفانون في قضاء حاجات المسلمين .
يقول عبد الله بن عثمان (شيخ البخاري) : "ما سألني أحد حاجة إلا قمت له بنفسي ، فإن تمَّ وإلا قمت له بمالي ، فإن تمَّ وإلا استعنا له بالإخوان ، فإن تمَّ وإلا استعنت له بالسلطان " .
وهذا على بن الحسين (زين العابدين) يدخل على محمد بن أسامة بن زيد فيجده يبكى لأنَّ عليه ديناً يقدر بخمسة عشر ألف دينار وقيل : سبعة عشر ألفاً .
فقال : هي علىَّ ولا دمعة من عينيك فهي أغلى من الدنيا وما فيها .
هذا هو الحب في الله عند السلف الصالح ، تجد الرجل منهم لا يلقى أخاه ربما شهرا أو شهرين . فإذا سأله شطر ماله أعطاه وواساه ، وبذل له ، وهو يشعر بأنَّ الذي أُخذ منه أحب إليه مما بقى ، أما اليوم فالمفهوم مختلف تماما ، والواقع المرير خير شاهد فالله المستعان .
إنَّ روابط الأخوة تقرب البعيد وتدني القاصي ، فما دامت النية الصالحة قائمة والإيمان يشمل الجميع فثمَّ وجه الله .
قال محمد بن خالد قلت لأبى سليمان الداراني : يكون الرجل بإفريقية والآخر بسمرقند وهما أخون : قال : نعم .
قلت : وكيف ذلك ؟ قال :تكون نيته متى لقيه واساه ، فإذا كنت نيته كذلك فهو أخوه .
أين الإيثار ؟ !! أ صار نادرا حتى لا وجود له ، لماذا ضاعت منا تلك الأخلاقيات السامية ؟
كان الإمام أحمد يقول : إنِّي لألقم اللقمة أخا من إخواني فأجد طعمها في حلقي .
وكان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - قد قالها قبل حين نزل مع رسول الله - .صلى الله عليه وآله وسلم - خيمة أم معبد فحلبت لرسول الله - .صلى الله عليه وآله وسلم - فشرب .
يقول أبو بكر : فشرب رسول الله - .صلى الله عليه وآله وسلم - حتى ارتويتُ .
قال تعالى " وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ " (9) وما أجمل هذا التعبير " يشرى نفسه " فمن ذا يبيعها الآن ؟
كان - .صلى الله عليه وآله وسلم - يبيت طاويا ثلاثة أيام متتالية ، ولو أراد شبعاً لوجد ، لكنه كان يؤثر الناس على نفسه ، كيف لا وهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، فكان يسد خلتهم ، ويقضى حاجتهم ، يسأل عن كبيرهم ، ويعطف على صغيرهم - .صلى الله عليه وآله وسلم - .
كان الإيثار في سلفنا سجية ، ونحن ـ الآن ـ نعدم وجوده ولو في الصورة .
قال الهيثم بن جميل : جاء فضيل بن مرزوق ـ وكان من أئمة الهدى زهدا وفضلا ـ إلى الحسن بن حيى فأخبره أن ليس عنده شئ .....
فقام الحسن فأخرج ستة دراهم ، وأخبره أنَّه ليس عنده غيرها فقال : سبحان الله أليس عندك غيرها وأنا آخذها ، فأخذ ثلاثة وترك ثلاثة ".
إنها صورة متكررة في حياتهم ، لأنَّهم ألفوا التجرد لله ، واستقر الإيمان في القلب فبدت معالم ذلك في أخلاقهم وسلوكياتهم .
كان الإمام أحمد يقول : " لو أنَّ الدنيا جمعت حتى تكون في مقدار لقمة ثمَّ أخذها امرؤ مسلم فوضعها في فم أخيه المسلم لما كان مسرفا " .
هذا هو الكرم الحقيقي ، كرم الأخلاق ، كرم المعاملة ، فإذا جاءك ضيف فقدم له ما وسعت فليس ذلك بإسراف " ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه "(10) فأنت مأمور بذلك .
إن السبب الرئيسي لما نحن فيه هو الاشتغال بالدنيا عن الآخرة ، فهذا الشح والبخل الذي يقع في قلوبنا سببه المغريات الدنيوية التي وقعنا فريسة لها ، فلابد من الانخلاع والانفلات من عبودية المادة ، والتنصل من متطلبات الحياة، وأن يسعك ما وسع من قبلك ، لابد أن تخرج الدنيا من قلبك إلى يدك سهلة المنال ، فتعتاد البذل لكل أحد ، فهذا حقيقة التجرد بدون تعقيد أو تقعر في العلم .
إنني أسوق إليكم الأمثلة والشواهد ، وأطيل في ذلك لعل باعث الشوق يتردد في نفوسكم .
يحكى القاضي عياض في تاريخه عن الإمام سحنون المالكي قال : قال أبو العرب أن سحنون خلا يوما بتلميذه سعيد بن عباد فقال له : ألست بإمامك ؟ قال : بلى . قال : وتقبل قولي . فقال : نعم لو لم أقبله لما اختلفت إليك .
فقال له : هذا قولي ويميني فحلف بالله ، وأراه صرة في يده ذكر أن فيها ثلاثين ديناراً .
وقال له : ما هي من سلطان ، ولا من تجارة ، ولا وصية ، وما هي إلا من ثمرة شجر غرستها بيدي ، فخذها تتقوى بها على أمر دينك ودنياك .
فقال سعيد : أنا غنى عنها ( مع كونه مفرط الحاجة إلى ما دونها) .
فقال سحنون : خذه سلفا ، فتزوج منها ، وتنفق منها ، فإن رزقك الله ردها فأقبلها منك ، فإن تعذر فأنت منها في حل .
فقال سعيد : ما كنت بالذي آخذ ديناً في ذمتي من غير حاجة . أهـ
هكذا كانوا ، فقراؤهم يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف ، وأغنياؤهم لا يرون لأنفسهم في أموالهم حقا .
وهذا سعيد بن المسيب في خبر تزويجه ابنته لتلميذه عبد الله بن وداعه على ثلاثة دراهم ،والقصة مشهورة لكن انظر فيها لتفقد سعيد - رضي الله عنه - لتلميذه ، لأنَّه لم يحضر الدرس فذهب إليه فأخبره أنَّ زوجته ماتت فانشغل بتجهيزها .
فقال له : استخلفت غيرها . قال : من أين يا شيخ ، ومن يزوج مثلى !! وأنا لا أملك إلا ثلاثة دراهم .
قال : أنا أزوجك ابنتي ثم عقد له ومضى إلى بيته .
يقول عبد الله : فما بلغت البيت حتى دقَّ الباب .
قلت : من ؟ قال : سعيد ، فخطر ببالي كل سعيد إلا ابن المسيب ففتحت الباب فإذا هو سعيد بن المسيب ثم تنحى فإذا خلفه ظلام .
قال : هذه زوجتك أحببت ألا تبيت عزباً ، ودفعها وأغلق الباب " .
آه .. أين من هو مثلك يا ابن المسيب ، هل هذا في عرفنا زواج ؟ أين العرف ؟ أين الشقة ؟ أين المهر ؟ أين القائمة ؟ أين المؤخر ؟ ... الخ .
إذا ذكر السلف بيننا افتضحنا كلنا ، فاللهم رحماك بضعفنا .
لقد كان أحب إلى أحدهم أن يمد أخوه يده في جيبه ، ويأخذ ما يشاء من ماله وما يملك .
ففي تاريخ بغداد للخطيب البغدادي : أنَّ فتحاً الموصلي جاء إلى منزل صديق له يقال له : " عيسى التمار " ، فلم يجده في المنزل .....
فقال للخادمة : أخرجي إليَّ كيس أخي ، فأخرجته ففتحه ، وأخذ منه درهمين ، فجاء عيسى فأخبرته الخادمة بمجيء فتح وأخذه الدرهمين . فقال : إن كنت صادقة فأنت حرة لوجه الله فنظر فإذا هي صادقة فأعتقها فرحًا بصنيع أخيه .
ما رأيك لو حدث ذلك معك ؟ أ كانت فرحتك مثل فرحته ؟ وهل يكون فعلك مثل فعله ؟ أجب ولماذا ؟ الل يعلم السر وأخفى.
إنَّ السر وراء ذلك اعتناق المنهج الرباني الذي لا ينضب معينه ولا ينتهي عطاؤه ، فالسر ليس في توافق الأحوال ، ولا في المشاكلة في السلوك ، إنَّ الذي يريد أن يسابقهم فعليه أن يسير أولا في نفس سبيلهم ، ويحذو حذوهم ، وذلك لا يحجبه اختلاف الأزمان ولا اختلاف البيئات ، فما لمثل هذا أن يؤثر في مشكاة المواقف فهل من مشمر .
المصادر :
1- النساء/114
2- أخرجه الطبراني في الكبير (3/209) ، (12/453) ، وابن عساكر في تاريخ دمشق (11/444/1) ، (18/1/2) ،وابن أبى الدنيا في قضاء الحوائج (ص80 رقم 36) ، وأبو إسحاق المزكي في الفوائد المنتخبة (1/147/2) .
3- أخرجه مسلم (1561) ك المساقاة ، باب فضل إنظار المعسر .
4- أخرجه مسلم (3014) ك الزهد والرقائق ، باب حديث جابر الطويل .
5- أخرجه مسلم (1728) ك اللقطة ، باب استحباب المؤاساة بفضول المال .....
6- أخرجه الطبرانى في الكبير (1/259) /أخرجه البخاري في الأدب المفرد (112) الطبرانى في الكبير أيضا (12/154) ، والخطيب في تاريخ بغداد (10/392) ، .
7- أخرجه مسلم (2699)
8- متفق عليه أخرجه البخاري (1936) ومسلم (1111) .
9- البقرة / 207
10- أخرجه البخاري (6018) / ومسلم (74) .