توزيع المصادر الطبيعيّة في الاسلام

توزيع الثروة يتمّ على مستويين : أحدهما توزيع المصادر المادّيّة للإنتاج ، والآخر توزيع الثروة المنتجة .
Monday, November 21, 2016
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
توزيع المصادر الطبيعيّة في الاسلام
توزيع المصادر الطبيعيّة في الاسلام

 

 

 

 



 

توزيع الثروة يتمّ على مستويين : أحدهما توزيع المصادر المادّيّة للإنتاج ، والآخر توزيع الثروة المنتجة .
فمصادر الإنتاج هي الأرض والموادّ الأوّليّة والأدوات اللازمة لإنتاج السلع المختلفة ، لأنّ هذه الاُمور جميعاً تساهم في الإنتاج الزراعي أو الصناعي أو فيهما معاً .
وأمّا الثروة المنتجة ، فهي السلع التي تتجزّأ خلال عمل بشري مع الطبيعة ، وتنتج عن عمليّة التركيب بين تلك المصادر المادّيّة للإنتاج .
فهناك إذن ثروة أوّليّة ، وهي مصادر الإنتاج ، وثروة ثانويّة ، وهي ما يظفر به الإنسان عن طريق استخدام تلك المصادر من متاع وسلع .
والحديث عن التوزيع يجب أن يستوعب كلتا الثروتين : الثروة الاُمّ والثروة البنت ، مصادر الإنتاج والسلع المنتجة .. ومن الواضح أنّ توزيع المصادرالأساسيّة للإنتاج يسبق عمليّة الإنتاج نفسها ، لأنّ الأفراد إنّما يمارسون نشاطهم الإنتاجي وفقاً للطريقة التي يقسّم بها المجتمع مصادر الإنتاج ، فتوزّع مصادر الإنتاج . وأمّا توزيع الثروة المنتجة ، فهو مرتبط بعمليّة الإنتاج ومتوقّف عليها ، لأ نّه يعالج النتائج التي يسفر عنها الإنتاج .
والاقتصاديّون الرأسماليّون حين يدرسون في اقتصادهم السياسي قضايا التوزيع ضمن الإطار الرأسمالي ، لا ينظرون إلى الثروة الكلّيّة للمجتمع وما تضمّه من مصادر الإنتاج ، وإنّما يدرسون توزيع الثروة المنتجة فحسب في‏ الدخل الأهلي ، لا مجموع الثروة الأهليّة . ويقصدون بالدخل الأهلي مجموع السلع والخدمات المنتجة ، أو بتعبير أصحّ : القيمة النقديّة لمجموع المنتوج في بحر سنته .
فبحث التوزيع في الاقتصاد السياسي هو بحث توزيع هذه القيمة النقديّة على العناصر التي ساهمت في الإنتاج . ولأجل ذلك كان من الطبيعي أن يسبق بحوث الإنتاج بحث التوزيع ؛ لأنّ التوزيع ما دام يعني تقسيم القيمة النقديّة للسلع المنتجة على مصادر الإنتاج ، فهو عمليّة تعقب الإنتاج ، إذ ما لم تنتج سلعة لا معنى لتوزيعها أو توزيع قيمتها . وعلى هذا الأساس نجد أنّ الاقتصاد السياسي يعتبر الإنتاج هو الموضوع الأوّل من مواضيع البحث ، فيدرس الإنتاج أوّلاً ، ثمّ يتناول قضايا التوزيع .
وأمّا الإسلام ؛ فهو يعالج قضايا التوزيع على نطاق أرحب وباستيعاب أشمل ، لأنّه لا يكتفي بمعالجة توزيع الثروة المنتجة ، ولا يتهرّب من الجانب الأعمق للتوزيع - أي توزيع مصادر الإنتاج - كما صنع المذهب الرأسمالي إذ ترك مصادر الإنتاج يسيطر عليها الأقوى دائماً تحت شعار الحريّة الاقتصاديّة التي تخدم الأقوى ، وتمهّد له السبيل إلى احتكار الطبيعة ومرافقها ؛ بل إنّ الإسلام تدخّل تدخّلاً إيجابيّاً في توزيع الطبيعة وما تضمّه من مصادر إنتاج ، وقسمّها إلى عدّة أقسام ، لكلّ قسم طابعه المميّز من الملكيّة الخاصّة أو الملكيّة العامّة أو ملكيّة الدولة أو الإباحة العامّة ، ووضع لهذا التقسيم قواعده ومقاييسه .
ونحن في هذا الفصل نريد أن ندرس نظريّة الإسلام عن توزيع مصادر الإنتاج .
ما هي مصادر الإنتاج :
وقبل أن نستعرض النظريّة الإسلاميّة لتوزيع مصادر الإنتاج ، يجب أن نحدّد هذه المصادر . ففي الاقتصاد السياسي يذكر عادة أنّ مصادر الإنتاج هي :
1 - الطبيعة .
2 - رأس المال .
3 - العمل ، ويضمّ التنظيم الذي يمارسه المنظّم للمشروع .
غير أ نّنا إذ نتحدّث عن توزيع المصادر في الإسلام وأشكال ملكيّتها لا بدّ لنا أن نستبعد من مجال البحث المصدرين الأخيرين ؛ وهما رأس المال والعمل .
أمّا رأس المال ، فهو في الحقيقة ثروة منتجة وليس مصدراً أساسيّاً للإنتاج ، لأ نّه يعبّر اقتصاديّاً عن كلّ ثروة تمّ إنجازها وتبلورت خلال عمل بشري لكي‏ تساهم من جديد في إنتاج ثروة اُخرى . فالآلة التي تنتج النسيج ليست ثروة طبيعيّة خالصة ، وإنّما هي مادّة طبيعيّة كيّفها العمل الإنساني خلال عمليّة إنتاج سابقة . ونحن إنّما نبحث الآن في التفصيلات التي تنظّم توزيع ما قبل الإنتاج ، أي‏ توزيع الثروة التي منحها اللَّه لمجتمع قبل أن يمارس أيّ نشاط اقتصادي فيها . وما دام رأس المال وليد إنتاج سابق فسوف يندرج في بحث توزيع الثروة المنتجة .
وأمّا العمل فهو العنصر المعنوي من مصادر الإنتاج ، وليس ثروة مادّيّة تدخل في نطاق الملكيّة الخاصّة أو العامّة .
وعلى هذا الأساس تكون الطبيعة وحدها من بين مصادر الإنتاج موضوع درسنا الآن ، لأنّها تمثّل العنصر المادّي السابق على الإنتاج .
الجانب السلبي من نظريّة التوزيع :
ونظريّة التوزيع الإسلاميّة للطبيعة لها جانبان : أحدهما سلبي ؛ والآخر إيجابي .
فلنبدأ الآن بالجانب السلبي من النظريّة . ويتلخّص هذا الجانب في رفض أيّ ملكيّات وحقوق خاصّة ابتدائيّة في الثروة الطبيعيّة الخام بدون عمل ، وهذا الجانب السلبي ينعكس على الفقه الإسلامي في أحكام كثيرة منه نذكر منها ما يلي :
1 - ألغى الإسلام الحمى وقال : لا حمى إلّاللَّه‏وللرسول‏(1) ، وبذلك نفى أيّ حقّ خاصّ للفرد في الأرض لمجرّد السيطرة عليها وحمايتها بالقوّة .
2 - إذا أقطع وليّ الأمر أرضاً اكتسب الفرد بسبب ذلك حقّ العمل في تلك الأرض ، دون أن يمنح الإقطاع حقّاً في ملكيّة الأرض أو أيّ حقّ آخر فيها ما لم‏ يعمل وينفق جهده على تربيتها .
3 - لا تملك الينابيع والجذور العميقة للمنجم ملكيّة خاصّة ، ولا يوجد لأيّ‏ فرد حقّ خاصّ فيها . قال العلّامة الحلّي في التذكرة : « وأمّا العرق الذي‏في‏ الأرض فلا يملكه بذلك ، ومن وصل إليه من جهة اُخرى فله أخذه »(2) .
4 - إذا زاد الماء الطبيعي فدخل أملاك الناس واجتمع دون أن يحوزه بعمل خاصّ لم يملكوه ، كما قال الشيخ الطوسي في المبسوط(3) .
5 - إذا لم ينفق الفرد جهداً في الصيد بل دخل الحيوان في سيطرته لم‏ يملكه ؛ ففي قواعد العلّامة الحلّي يقول : « لا يملك الصيد بتوحّله في أرضه ... ولا بوثوب السمكة إلى السفينة »(4) .
من هذه الأحكام ونظائرها في الفقه الإسلامي نستطيع أن نستدلّ على الجانب السلبي من النظريّة ، ونعرف أنّ الفرد لا يوجد له بصورة ابتدائيّة حقّ خاصّ في الثروة الطبيعيّة يمتاز به عن الآخرين على الصعيد التشريعي ، ما لم يكن ذلك انعكاساً لعمل خاصّ فيها يميّزه عن غيره في واقع الحياة ؛ فلا يختصّ الفرد بأرض إذا لم يكشف عنه ، ولا بعين ماء إذا لم يستنبطها ، ولا بالحيوانات النافرة إلّاإذا صادها ، ولا بثروة على وجه الأرض أو في السماء إلّاإذا حازها وأنفق جهده في ذلك .
الجانب الإيجابي من النظريّة :
والجانب الإيجابي من النظريّة يوازي جانبها السلبي . وبكلمة : فهو يقرّر أنّ العمل أساس مشروع لاكتساب الحقوق والملكيّات الخاصّة في الثروات الطبيعيّة . فرفض أيّ حقّ ابتدائي في الثروات الطبيعيّة منفصل عن العمل هو الصيغة السلبيّة للنظريّة ، والإيمان بالحقّ الخاصّ فيها على أساس العمل هو الصيغة الإيجابيّة الموازية .
وهذا الجانب الإيجابي له شواهده في الفقه الإسلامي أيضاً ، ونذكر منها ما يلي :
1 - من أحيا أرضاً فهي له كما جاء في الحديث .
2 - من حفر معدناً حتّى كشفه كان أحقّ به وملك الكمّيّة التي كشفت عنها الحفرة وما إليها من موادّ .
3 - من كشف بالحفر عيناً طبيعيّة للماء فهو أحقّ بها .
4 - إذا حاز الفرد الحيوان النافر بالصيد والخشب بالاحتطاب والحجر الطبيعي بحمله والماء من النهر باغترافه في آنية وغيرها ملكه بالحيازة كما نصّ على ذلك الفقهاء جميعاً .
وكلّ هذه الأحكام تشترك في إبراز الجانب الإيجابي من النظريّة ، واعتبار العمل مصدراً للحقوق والملكيّات الخاصّة في الثروات الطبيعيّة التي تكتنف الإنسان من كلّ جانب .
نوع العمل الذي تعترف به النظريّة :
وبالرغم من أ نّنا لاحظنا بصورة عامّة أنّ النظريّة تجعل من العمل أساساً للتوزيع ومصدراً للحقوق الخاصّة في الثروة الطبيعيّة ، نجد أ نّها تعني بالعمل مفهوماً قد يختلف من ثروة إلى اُخرى . فالحيازة عمل تعترف به النظريّة بوصفه عملاً يقوم على أساسه تملكّك للحجر من الصحراء أو للماء من النهر ، فالحجر في الصحراء يمكنك أن تمتلكه بالحيازة كما رأينا في الحكم الرابع من الأحكام المتقدّمة التي استعرضناها من الفقه الإسلامي ، ولكنّ النظريّة لا تعترف بالحيازة بوصفها عملاً ، ولا تسمح بقيام الحقوق الخاصّة على أساسها في الأرض والمنجم والينابيع الطبيعيّة للماء ، فلا يكفي مثلاً لكي تختصّ بأرض أن تسيطر عليها وتضمّها إلى حوزتك . ولهذا ألغى الإسلام الحمى كما مرّ في شواهد الجانب السلبي للنظريّة من الفقه الإسلامي ، بل لا بدّ لك في سبيل اكتساب حقوق خاصّة في الأرض أن تجسّد جهودك فيها بالإحياء .
ولأجل هذا يجب أن نتساءل : لماذا اعتبرت الحيازة عملاً وسبباً كافياً لتملّك الحجر أو الماء ، بينما لم تكن حيازة الأرض أو المعدن عملاً ولا مبرّراً لاكتساب أيّ حقّ خاصّ .
والجواب على هذا التساؤل هو أنّ النظريّة الإسلاميّة للتوزيع تميّز بين نوعين من الأعمال : أحدهما الانتفاع والاستثمار ؛ والآخر الاحتكار والاستثمار . فأعمال الانتفاع والاستثمار ذات صفة اقتصاديّة بطبيعتها ، وأعمال الاحتكار والاستثمار تقوم على أساس القوّة ولا تحقّق انتفاعاً ولا استثماراً مباشراً .
ومصدر الحقوق الخاصّة في النظريّة هو العمل ، الذي ينتمي إلى النوع الأوّل كإحياء الأرض الميتة ؛ وأمّا النوع الثاني من العمل فلا قيمة له ، لأنّه مظهر من مظاهر القوّة وليس نشاطاً اقتصاديّاً من نشاطات الانتفاع والاستثمار للطبيعة وثروتها ، والقوّة لا تكون مصدراً للحقوق الخاصّة ولا مبرّراً كافياً لها .
وعلى أساس التمييز بين هذين النوعين من الأعمال قوام التفرقة بين حيازة الثروات المنقولة وحيازة المصادر الطبيعيّة ؛ إذ تعتبر حيازة الحجر بحمله من الصحراء ، والخشب باحتطابه من الغابة ، والماء باغترافه من النهر ، عملاً ومصدراً للملكيّة ، بينما لا تعتبر حيازة الأرض كذلك بل يلغي كلّ حمى إلّاحمى اللَّه ورسوله ؛ فإنّ حيازة الحجر بنقله والخشب بالاحتطاب أو أيّ ثروة منقولة اُخرى عمل من أعمال الانتفاع والاستثمار ، فيدخل في حساب النظريّة بوصفه نشاطاً اقتصاديّاً . وأمّا حيازة الأرض والاستيلاء على منجم أو على عين ماء فليس من تلك الأعمال ، بل هو مظهر من مظاهر القوّة والتحكّم في الآخرين ، فلهذا لم يكن له أثر في النظريّة .
لكي نبرهن على ذلك يمكننا أن نفترض إنساناً يعيش بمفرده في ساحة كبيرة من الأرض غنيّة بالعيون والمناجم والثروات الطبيعيّة بعيداً عن المنافسة والمزاحمة ، فماذا سوف يمارس من ألوان الحيازة ؟ !
إنّ إنساناً كهذا لن يفكّر في الاستيلاء على مساحة كبيرة من الأرض وحمايتها وما فيها من المناجم وعيون لنفسه ، لأنّه لا يجد داعياً إلى هذه الحماية ولا فائدة يجنيها منها في حياته ما دامت الأرض بخدمته في كلّ حين ، لا ينافسه فيها أحد ، وإنّما ينصرف مباشرة إلى إحياء جزء من الأرض يتناسب مع مستوى قدرته على الاستثمار . ولكنّه بالرغم من أ نّه لا يفكّر في حيازة مساحات كبيرة من الأرض يمارس دائماً حيازة الماء بنقله إلى كوزه والحجر بحمله إلى كوخه والخشب يوقد عليه النار ، لأنّه لا يتاح له الانتفاع بهذه الأشياء في حياته إلّا بحيازتها وإعدادها في متناول يده .
فحيازة الأرض وغيرها من مصادر الطبيعة لا معنى لها إذن عندما تنعدم المنافسة ، بل الإحياء وحده في هذه الحالة هو العمل الذي يمارسه الفرد في الطبيعة لاستثمارها والانتفاع بها ؛ وإنّما تكتسب حيازة الأرض قيمتها عندما توجد المنافسة على الأرض وتشتدّ ، من منطلق كلّ فرد للاستيلاء على أوسع مساحة ممكنة من الأرض وحمايتها من الآخرين . وهذا يعني أنّ حيازة الأرض وما إليها من مصادر الطبيعة ليست عملاً ذا صفة اقتصاديّة من أعمال الانتفاع والاستثمار ، وإنّما هي عمليّة تحصين لمورد طبيعي وحمايته من تدخّل الآخرين فيه .
وعلى العكس من ذلك حيازة الخشب والحجر والماء ، فإنّها ليست عمل قوّة وإنّما هي بطبيعتها عمل اقتصادي من أعمال الانتفاع والاستثمار . ولهذا رأينا أنّ الإنسان المنفرد في حياته يمارس هذا اللون من الحيازة بالرغم من تحرّره عن كلّ واقع من دوافع القوّة واستعمال العنف .
وهكذا نعرف أنّ حيازة الأشياء المنقولة من ثروات الطبيعة ليست مجرّد عمل من أعمال القوّة ، وإنّما هي في الأصل عمل من أعمال الانتفاع والاستثمار يمارسه الإنسان ولو لم يوجد لديه أيّ مبرّر لاستعمال القوّة .
ونخرج من ذلك كلّه بنتيجة ؛ وهي أنّ الصفة الاقتصاديّة للعمل شرط ضروري في إنتاجه للحقوق الخاصّة ، فلا يكون العمل مصدراً لتملّك المال ما لم يكن بطبيعته من أعمال الانتفاع والاستثمار .
دور العمل في نظريّة التوزيع :
عرفنا أنّ العمل هو الأساس لاكتساب الفرد الحقوق والملكيّات الخاصّة في الثروة الطبيعيّة الخام .
كما عرفنا أيضاً أنّ العمل لا يعتبر في نظريّة التوزيع عملاً إلّا إذا كان ذا صفة اقتصاديّة ، أي من أعمال الانتفاع والاستثمار . وما دام العمل هو الأساس للحقوق الخاصّة ، فمن الطبيعي أن يستمرّ الحقّ الخاصّ والملكيّة الخاصّة ما دام العمل الاقتصادي قائماً ومستمرّاً ، وأن يزول الحقّ الخاصّ بانقطاع العمل .
فالحيازة مثلاً هي بحدّ ذاتها عمل من أعمال الانتفاع والاستثمار في مجال الثروات المنقولة كما تقدّم ، فما دامت الحيازة مستمرّة حقيقةً أو حكماً ، يظلّ الفرد متمتّعاً بحقّه الخاصّ في الثروة المنقولة التي حازها ، فإذا تنازل عن حيازة المال بإهماله والإعراض عنه انقطع انتفاعه به وزالت صلته العمليّة وسقط بسبب ذلك حقّه في المال ، وأصبح لأيّ فردٍ آخر الاستيلاء عليه والانتفاع به .
ومثال آخر من يأتي إلى أرض صالحة للزراعة بطبيعتها - وهي الأرض العامرة بالأصالة في العرف الفقهي - فيمارس زرعها فيكتسب عن طريق ذلك الحقّ الخاصّ فيها ، لأنّ زرع الأرض عمل من أعمال الانتفاع والاستثمار ، فلا يجوز لشخص آخر أن يزاحمه فيها ؛ ولكنّه إذا ترك بعد ذلك نشاطه وزراعته وانقطع عمله في الأرض زال حقّه الخاصّ منها ، وكان لأيّ فرد آخر أن يستفيد منها .
وهكذا نعرف أنّ الحقّ الخاصّ في الثروة الطبيعيّة الخام ينتج عن ممارسة الفرد لعمل من أعمال الانتفاع بتلك الثروة ، ويسقط بانقطاع ذلك العمل وزوال تلك الصلة العمليّة بين الفرد والمال .
ولكن هذا إنّما يصدق إذا لم يؤدِّ العمل إلى خلق فرصة الانتفاع بالمال ، وإلّا استمرّ الحقّ الخاصّ ما دامت الفرصة التي خلقها العمل قائمة .
ولكي نفهم هذا بوضوح يجب أن نعرف أنّ أعمال الانتفاع والاستثمار تختلف : فبعضها يمارس فيها الفرد الزراعة ، أو الصخور والأحجار في الصحراء يمارس الفرد حيازتها ؛ فإنّ الزراعة والحيازة لونان من الانتفاع بتلك الأرض وهذه الصخور . وفي بعض أعمال الانتفاع والاستثمار يواجه الإنسان ثروة مغلقة ، فيخلق فيها فرصة الانتفاع بها ، كالأرض الميتة غير الصالحة للزراعة ؛ يواجهها الإنسان فيحييها ويعدّها للزراعة .
وهناك فرق كبير بين هذا الإنسان الذي يحيي الأرض الميتة وبين ذلك الإنسان الذي يصادف أرضاً حيّة عامرة بطبيعتها فيزرعها ، لأنّ هذا الإنسان يخلق في الأرض الميتة فرصة الانتفاع ، بينما ذلك الزارع لا يخلق الفرصة وإنّما يستفيد من الفرصة الطبيعيّة المتاحة له .
وهذا الفرق يؤدّي إلى الاختلاف بين نتائج هذا العمل وذلك من وجهة النظر الإسلاميّة في التوزيع ؛ فالعمل الذي يحقّق انتفاعاً مباشراً دون أن يخلق فرصة الانتفاع يعتبر أساساً لاكتساب الحقّ الخاصّ في الثروة ويزول ذلك العمل . فالإنسان الذي صادف أرضاً حيّة عامرة فزرعها ثمّ ترك زراعتها أو صادف حجراً فحازه ثمّ أعرض عنه ، يزول حقّه في الأرض وفي الحجر بانقطاع الزراعة أو الحيازة .
وأمّا العمل الذي يخلق فرصة الانتفاع بالثروة - كإحياء الأرض الميتة - فهو يمنح العامل حقّ ملكيّة الفرصة ، لأنّها نتيجة عمله التي خلقها بإحيائه للأرض ، فإذا أحيا الفرد أرضاً ميتة ثمّ تركها حيّة ولم يبادر إلى زراعتها لا يسقط حقّه الخاصّ فيها ؛ لأنّه وإن كان لا يمارس بالفعل عملاً فيها ، غير أنّ عمله في إحيائها يمنحه الحقّ في تملّك الفرصة التي نجمت عن إحيائه للأرض .
وما دامت هذه الفرصة قائمة والأض حيّة فهو صاحب الحقّ في تلك الفرصة ، ولا يجوز لآخر أن يزاحمه في فرصة خلقها بعمله وجهده . وملكيّته لهذه الفرصة تجعل منه الأولى بالأرض من أيّ فرد آخر ، فيستمرّ حقّه في الأرض ما دامت الفرصة التي خلقها وجسّدها قائمة . فإذا خرجت الأرض وأهملها حتّى عادت ميّتة سقط حقّه منها ولم يعد أولى بها من غيره .
وهكذا نستخلص ممّا سبق حقائق عديدة عن النظريّة الإسلاميّة لتوزيع الثروات الطبيعيّة الخام ، وهي كما يلي :
1 - لا توجد حقوق وملكيّات خاصّة في الثروات الطبيعيّة الخام بدون عمل .
2 - إنّ العمل هو الأساس لنشوء الحقوق والملكيّات الخاصّة في تلك الثروات .
3 - لا يعتبر العمل عملاً في نظريّة التوزيع وأساساً للحقّ الخاصّ ما لم يكن ذا طابع اقتصادي ، أي من أعمال الانتفاع والاستثمار .
4 - إنّ العمل قد يعني مجرّد الانتفاع المباشر بالثروة الطبيعيّة كزراعة الأرض وحيازة الحجر ، وقد يعني خلق فرصة الانتفاع في ثروة طبيعيّة مغلقة كإحياء الأرض الميتة . فالقسم الأوّل يستمرّ الحقّ الخاصّ ما دام العمل مستمرّاً ، فإذا انقطع وزالت الصلة العمليّة سقط الحقّ الخاصّ . وأمّا القسم الثاني فالعامل يملك فيه فرصة الانتفاع بوصفها ناتجة عن عمله وتجسيداً له ، فما دامت الفرصة مستمرّة يظلّ حقّه الخاصّ قائماً ، فإذا زالت الفرصة وعادت الأرض إلى وضعها الأوّل قبل الإحياء سقط الحقّ الخاصّ .
النظريّة الإسلاميّة لتوزيع السلع المنتجة :
كانت النظريّة السابقة تعالج توزيع الطبيعة الخام على أفراد المجتمع وتضع لهذا التوزيع قواعده ، فلم تكن تفترض إلّاإنساناً قادراً على العمل وطبيعة عامرة بالثروات الطبيعيّة الخام .
وأمّا هذه النظريّة فتعالج توزيع السلع المنتجة بعد أن استكمل الإنتاج عناصره الطبيعيّة والمصطنعة(نقصد بالعناصر المصطنعة رأس المال وأدوات الإنتاج التي تكوّنت خلال عمل بشري سابق . ) ، وتشابكت جميعاً في إنتاج السلعة التي نبحث‏ الآن عن قاعدة لتوزيعها .
وقد أشرنا سابقاً إلى أنّ الرأسماليّة حين تتناول التوزيع تريد توزيع السلع المنتجة وتهمل توزيع نفس المقوّمات الأساسيّة للإنتاج ، أي ثروات الطبيعة الخام ؛ بينما الإسلام ينظّم كلا التوزيعين . وفي البحث المتقدّم درسنا نظريّته عن توزيع ما قبل الإنتاج ، وندرس الآن نظريّته عن توزيع السلع المنتجة .
والمذهب الرأسمالي التقليدي حين يعالج توزيع السلع المنتجة يحلّل عمليّة الإنتاج عادة إلى عناصره الأصليّة المتشابكة في العمليّة ، ويوزّع الثروة المنتجة على تلك العناصر بوصفها قد اشتركت جميعاً في إيجاد السلطة المنتجة . فلكلّ عنصر نصيبه من الإنتاج وفقاً لدوره في العمليّة .
وعلى هذا الأساس تقسّم الرأسماليّة الثروة المنتجة أو القيمة النقديّة لهذه الثروة إلى حصص أربع وهي :
1 - الاُجور .
2 - الفائدة .
3 - الربح .
4 - الريع .
فالاُجور هي نصيب العمل الإنساني أو الإنسان العامل بوصفه عنصراً ضروريّاً في عمليّة الإنتاج .
والفائدة عن نصيب رأس المال المسلف .
والربح هو نصيب رأس المال المشترك فعلاً في الإنتاج .
والريع يعبّر عن حصّة الطبيعة أو حصّة الأرض بتعبير أخصّ .
والرأسماليّة في تقسيمها هذا للثروة المنتجة على عناصر الإنتاج تفترض ـ عمليّة إنتاج ذات طابع رأسمالي يحتوي على عامل بشري لا يملك شيئاً من رأس‏ المال ، ورأس مال يُقرض لصاحب المشروع ، وطبيعة تهيّئ للعمل البشري ورأس المال مجالها المناسب للاندماج والإنتاج كالأرض .
وحين تخصّص الرأسماليّة الفائدة لرأس المال المسلف ، والربح لرأس‏ المال المشترك فعلاً ، والريع للأرض ، تعني بذلك تخصيص هذه الحصص لمالكي تلك العناصر الذين تمّت ملكيّتهم لها قبل الإنتاج ، أي خلال التوزيع الأوّل الذي أهمله الرأسمالي .
والنظرة الجوهريّة في التوزيع الرأسمالي هي ملاحظة جميع عناصر الإنتاج على مستوى واحد ، وإعطاء كلّ واحد من تلك العناصر نصيبه من الثروة المنتجة بوصفه مساهماً في العمليّة . فالعامل يحصل على الأجر بنفس الطريقة وعلى أساس نفس الأجر التي يحصل رأس المال بموجبها على فائدة ربويّة مثلاً ، لأنّ كلّاً منهما في العرف الرأسمالي عامل إنتاج وقوّة مساهمة في التركيب العضوي للعمليّة ، فمن الطبيعي أن توزّع المنتجات على عناصر إنتاجها ويكون التوزيع بنسب تقرّرها قوانين العرض والطلب .
النظرة الإسلاميّة والفكرة الأساسيّة فيها :
ولدى دراسة النظريّة الإسلاميّة لتوزيع السلع المنتجة ومقارنة موقف الإسلام بالموقف الر أسمالي المتقدّم ، يجب أن نميّز في عمليّات الإنتاج بين حالتين :
الاُولى‏ : أن تكون المادّة التي ينصبّ عليها العمل البشري فيحوّلها إلى سلعة ، ثروة طبيعيّة لم تدخل قبل عمليّة الإنتاج في ملك أحد ، كالأخشاب الطبيعيّة التي ينصبّ عليها العمل في عمليّات الإنتاج فيحوّلها إلى أثاث منزلي صالح للاستعمال .
والثانية : أن تكون المادّة المتحوّلة خلال الإنتاج إلى سلعة قد تمّ تملّكها لشخص خاصّ قبل أن تدخل في عمليّة الإنتاج ، كالغزل الذي تتسلّمه معامل النسيج من أصحابه لتنسجه .
ويدخل في نطاق الحالة الاُولى إنتاج جميع الموادّ الأوّليّة ، بما في ذلك استخراج المادّة المعدنيّة من مناجم النفط والذهب والحديد وغيرها .
ويدخل في نطاق الحالة الثانية كلّ عمليّات التحويل والتطوير في تلك الموادّ الأوّليّة التي تمّ إنتاجها وتملّكها قبلاً .
وبدراسة موقف الإسلام في كلٍّ من هاتين الحالتين تتجلّى النظريّة الإسلاميّة لتوزيع الثروة المنتجة كاملة ، وفي موقفه من الحالة الاُولى ، سيتجلّى اختلافه الأساسي مع الرأسماليّة ونظرتها المتقدّمة في التوزيع . كما أنّ موقفه من الحالة الثانية سوف يكشف لنا نوع الاختلاف والتناقض بين النظريّة الإسلاميّة والنظريّة الاشتراكيّة الماركسيّة كما سنرى .
والآن نبدأ بدراسة النظريّة الإسلاميّة للتوزيع بالنسبة إلى الحالة الاُولى :
وبينما كنّا نجد الرأسماليّة تنظر إلى عناصر الإنتاج بما فيها العامل البشري نظرة متكافئة وتوزّع عليهم حصصهم من السلعة المنتجة على أساس واحد ، نلاحظ حين ندرس النظريّة الإسلاميّة للتوزيع أنّ الإسلام يرفض هذه النظريّة الجوهريّة في المذهب الرأسمالي ، لأنّه لا يضع عناصر الإنتاج المتعدّدة على مستوى واحد ، ولا ينظر إليها بصورة متكافئة ليقرّ توزيع الثروة المنتجة على تلك العناصر بالنسب التي تقرّرها قوانين العرض والطلب . والنظريّة الإسلاميّة لتوزيع الثروة المنتجة تعتبر أنّ السلعة المنتجة - في الحالة الاُولى - ملك للإنسان العامل المنتج للسلعة وحده . وأمّا وسائل الإنتاج المادّيّة التي يستخدمها الإنسان في عمليّة الإنتاج من أرض ورأس مال وسائر الأدوات والآلات ، فلا نصيب لها من الثروة المنتجة ، وإنّما هي وسائل تقدّم للإنسان العامل في الإنتاج خدمات في تذليل الطبيعة وإخضاعها لأغراض الإنتاج . فإذا كانت تلك الوسائل ملكاً لفردٍ آخر غير العامل المنتج ، كان على الإنتاج أن يكافئ الفرد الذي يملك تلك الوسائل على الخدمات التي جناها المنتج عن طريقها .
فالفارق إذاً كبير بين النظريّة الرأسماليّة لتوزيع السلع المنتجة التي تجعل من العامل البشري عنصراً من عناصر الإنتاج على مستوى سائر العناصر وبين النظريّة الإسلاميّة بها بهذا الشأن .
ومردّ هذا الفرق يرجع إلى اختلاف النظرتين الرأسماليّة والإسلاميّة في تحديد مركز الإنسان في عمليّة الإنتاج ؛ فإنّ مركز الإنسان في النظرة الرأسماليّة هو مركز الوسيلة التي تخدم الإنتاج لا الغاية التي يخدمها الإنتاج ، ولهذا يتلقّى الإنسان المنتج نصيبه بوصفه وسيلة في الإنتاج على مستوى سائر الوسائل المادّيّة . وأمّا مركز الإنسان في النظرة الإسلاميّة فهو يركّز الغاية لا الوسيلة ، فليس هو في مستوى سائر الوسائل المادّيّة لتوزيع الثروة المنتجة بيد الإنسان وتلك الوسائل جميعاً على نسق واحد ، بل إنّ الوسائل الماديّة تعتبر خادمة للإنسان في إنجاز عمليّة الإنتاج ، لأنّ عمليّة الإنتاج نفسها إنّما هي لأجل الإنسان .
وهكذا يفرض مركز الوسائل الماديّة في النظرة الإسلاميّة أن تتقاضى مكافأتها من الإنسان المنتج إذا كانت مملوكة لغيره بوصفها خادمة له ، لا من‏ الثروة المنتجة بوصفها مساهمة في إنتاجها . كما يفرض مركز الإنسان في عمليّة الإنتاج بوصفه الغاية لها أن يكون الإنسان المنتج وحده صاحب الحقّ في الثروة الطبيعيّة التي طوّرها الإنسان بجهده الخاصّ وحوّلها إلى سلعة .
وأهمّ الظواهر التي يعكسها هذا الفرق الجوهري بين النظرتين - الإسلاميّة والرأسماليّة - موقف المذهبين من الإنتاج الرأسمالي في الحالة الاُولى التي ينصّب فيها الإنتاج على الثروة الطبيعيّة الخام .
فالرأسماليّة تسمح لرأس المال بممارسة هذا اللون من الإنتاج ، أي أنّ‏ بمقدور رأس المال أن يستأجر عمّالاً مثلاً لاحتطاب الخشب من أشجار الغابة ، أو استخراج البترول من آباره ، ويسدّد إليهم اُجورهم ، وهي كلّ نصيب العامل في النظريّة الرأسماليّة للتوزيع ، ويصبح رأس المال بذلك مالكاً لجميع ما يحصل عليه الاُجراء من أخشاب أو معادن طبيعيّة ، ومن حقّه بيعها بالثمن الذي يحلو له .
وأمّا النظريّة الإسلاميّة للتوزيع فلا مجال فيها لهذا النوع من الإنتاج ؛ لأنّ‏ النظريّة الإسلاميّة تجعل السلعة الأوّليّة المنتجة ملكاً للمنتج وحده ، وليس‏ للوسائل المادّيّة التي تساهم في الإنتاج إلّاأجرها حيث تستحقّ الأجر . فبينما كان الإنتاج المنتج في النظريّة الرأسماليّة للتوزيع هو الذي يتلقّى الأجر ، ومالك الوسائل المادّيّة هو الذي يدفع الأجر ويملك السلعة المنتجة ويتحكّم فيها كما يريد ، نرى في النظريّة الإسلاميّة أنّ مالكي الوسائل المادّيّة هم الذين يتلقّون الاُجور من العامل ، وأنّ السلعة من حقّ العامل المنتج وحده .
وعلى أساس ذلك تختفي سيطرة رأس المال على السلع الأوّليّة التي يمتلكها في ظلّ النظام الرأسمالي لمجرّد قدرته على دفع الاُجور للعامل وتوفير الأدوات اللازمة له ، وتحلّ محلّها سيطرة الإنسان المنتج على ثروات الطبيعة . واختفاء طريقة الإنتاج الرأسمالي هذا في مجال الثروات الطبيعيّة الخام ليس‏ حادثاً عرضيّاً أو ظاهرة عابرة ، وإنّما يعبّر بشكلٍ واضح وعلى أساس نظري عن التناقض المستقطب بينها وبين أصالة المضمون النظري للاقتصاد الإسلامي .
ثبات الملكيّة في النظريّة الإسلاميّة :
ولنأخذ الآن الحالة الثانية ؛ وهي حالة مواجهة الإنتاج لموادّ قد تمّ إنتاجها وتملّكها خلال عمل سابق ويراد إيجاد تطوير جديد فيها ، كالنسج الذي ينصب على الغزل ، وهو مادّة تمّ إنتاجها وتملّكها خلال عمل سابق ويراد تحويله في عمليّة إنتاج ثانية إلى نسيج .
والإسلام في هذه الحالة يرى أنّ السلعة المنتجة ملك لمالك المادّة التي انصبّ عليها الإنتاج ؛ فمالك الغزل سوف يظلّ محتفظاً بملكيّته له بعد أن يصبح نسيجاً ، والعامل الذي مارس إنتاج هذا النسيج ليس له حقّ في السلعة وإنّما له أجره الخاصّ فقط .
وهذا ناتج عن نظرة خاصّة من الإسلام للملكيّة ؛ فهو يرى أنّ ملكيّة الشخص للمال إذا وجدت بسبب مشروع فلا مبرّر لارتفاعها ، ومجرّد تطوّر المال أو اكتسابه صفة جديدة أو قيمة جديدة بتحوّل الغزل إلى نسيج لا يمنع عن استمرار مالكيّة الراعي الصرف الذي أنتجه وغزله . وإذا كان العامل الممارس للنسيج فرداً آخر غيره ، فهو يمارس تصرّفاً في ملك الغير ، لأنّ الصوف المغزول ملك للراعي ولا يجوز له التصرّف في ملك الغير بدون إذنه . فإذا أذن الراعي له في نسج ذلك الصوف على أن يكون له مجرّد الأجر كان للراعي أن يحدّد إذنه بذلك ، ويصبح عمل الناسج سلبيّاً تجاه السلعة المنتجة ، ولا يؤثّر إلّافي استحقاق الأجر المتّفق عليه ، وتبقى ملكيّة الراعي للسلعة نافذة المفعول .
وقد يفسّر - خطأً - حكم الإسلام بأنّ النسيج المنتج ملك للراعي دون‏ العامل الناسج على أساس تغليب رأس المال على العمل ، حيث إنّ الصوف بوصفه مادّة للنسيج يشكّل رأس مال في عمليّة الإنتاج ، فإذا لم يكن للناسج إلّا الأجر وكان النسيج من حقّ مالك الصوف وحده كان معنى هذا أنّ رأس المال هو الذي يتحكّم في السلعة ، والعامل ليس له إلّاالأجر الذي يدفعه إليه رأس المال كما رأينا في النظام الرأسمالي .
ولكنّ هذا التفسير خاطئ ؛ لأنّ إنتاج النسيج كما يدخل فيه الصوف بوصفه رأس مال لازم لعمليّة الإنتاج لأنّه يقدّم المادّة الأساسيّة للنسيج ، كذلك تدخل فيه الأدوات والآلات التي تستخدم خلال النسج بوصفها رأس مال لازم لعمليّة الإنتاج أيضاً . فلو كان حكم الإسلام بأن يظلّ ملكاً لمالك الصوف وحده ناتجاً عن النظرة الرأسماليّة وعن الاعتقاد بأنّ رأس المال هو صاحب الحقّ في السلعة المنتجة ، لأعطى نفس الشي‏ء لمالك الأدوات والآلات ، لأنّ مالك الآلة ومالك المادّة سواء في دورهما الرأسمالي في إنتاج السلعة ، فالتمييز بينهما ومنع ملكيّة النسيج لمالك المادّة دون مالك الآلة يعني أنّ الموقف الإسلامي غير مرتبط بالنظرة الرأسماليّة ، وإنّما يقوم على أساس ما شرحناه من ظاهرة ثبات الملكيّة في التشريع الإسلامي ؛ بمعنى أ نّها إذا وجدت في مال استمرّت ولا تنقطع بمجرّد حدوث تطوير جديد في ذلك المال .
ولهذا رأينا أنّ الإسلام في الحالة الاُولى التي تقدّم الحديث عنها جعل السلعة المنتجة من حقّ العامل وحده دون رأس المال ، لأنّ السلعة لم تكن ملكاً لأحد قبل أن تدخل في الإنتاج فلا تشملها ظاهرة ثبات الملكيّة .
الأساس العامّ للاُجور في نظريّة التوزيع :
يفهم خلال ما تقدّم أنّ الإسلام شرّع الاُجور على العمل وشرّع الاُجور على الوسائل المادّيّة للإنتاج ، فإذا كنت تملك كمّيّة من الصوف وسلّمتها إلى العامل لينسجها ظلّت ملكيّتك للصوف ثابتة بالرغم من تحوّله إلى نسيج ، وكان للعامل عليك الحقّ في أجر يتقاضاه نظير عمله ، وإذا كنت تملك كمّيّة من الصوف وأردت أن تغزلها بنفسك وحصلت على مغزل من شخص ، كان من حقّ ذلك الشخص عليك أن يتقاضى منك أجراً لقاء الخدمة التي قدّمها لسماحه لك باستخدام مغزله .
فهذان نوعان من الاُجور أقرّهما الإسلام .
وفي مقابل ذلك تجد أنّ الإسلام لم يقرّ بعض ألوان الاُجور بل حرّمها تحريماً باتّاً . وأحد الأمثلة البارزة لتلك : الفائدة ، التي هي أجر الرأسمال النقدي . فإذا كنت بحاجة في نسجك للصوف أو غزلك له إلى رأس المال النقدي تستعين به في عمليّة الإنتاج وحصلت على ذلك عن طريق القرض من شخص آخر ، فليس من حقّ ذلك الشخص أن يتقاضى أجراً على ذلك .
فالإسلام يميّز بين هذا الشخص الذي ساهم في إنتاجك عن طريق سدّ حاجتك إلى رأس مال نقدي وبين ذلك الشخص الذي ساهم في إنتاجك عن طريق سدّ حاجتك إلى مغزل بوصفه أداة ماديّة للإنتاج ؛ فلا يقرّ حقّ الشخص الذي زوّدك بالنقود ويحرمه من الأجر ، بينما يقرّ حقّ صاحب المغزل ويجعل أجره مشروعاً ، كأجر العامل الذي تستخدمه في نسج صوفك .
والأساس الذي يفسّر الاُجور التي أقرّها الإسلام هو أنّ الأجر المشروع يقوم في النظريّة الإسلاميّة على أساس العمل ، بدون فرق بين الأجر الذي يتقاضاه العامل منك حين يغزل لك صوفك وبين الأجر الذي يتقاضاه مالك المغزل منك حين يقدّم لك المغزل لكي تستخدمه في غزل الصوف ؛ فإنّ اُجرة العامل مكافأة له على عمله المنفق في المشروع ، واُجرة المغزل في مقابل عمل أيضاً ؛ لأنّ الأداة تجسّد عملاً مختزناً يتحلّل ويتفتّت خلال استخدامها في عمليّة الإنتاج .
فالمغزل مثلاً تجسيد لعمل معيّن جعل من قطعة الخشب الاعتياديّة أداة للغزل . وهذا العمل المختزن فيه ينفق ويستهلك تدريجيّاً خلال عمليّات الغزل ، فيكون لصاحب المغزل الحقّ في الحصول على كسب نتيجة لاستهلاك العمل المختزن في الأداة . فالاُجرة التي يحصل عليها مالك الأداة هي من نوع الاُجرة التي يحصل عليها الأجير . ومردّ الاُجرتين معاً إلى كسب يقوم على أساس إنفاق عمل خلال المشروع مع فارق في نوع العمل ؛ لأنّ العمل الذي ينفقه الأجير خلال المشروع عمل مباشر متّصل به في لحظة إنفاقه ، فهو ينجز وينفق في وقت واحد . وأمّا العمل الذي يستهلك وينفق خلال استخدام أداة الإنتاج ، فهو عمل منفصل عن صاحب الأداة قد تمّ إنجازه وإعداده سابقاً لكي ينفق ويستهلك بعد ذلك في عمليّات الإنتاج .
وبهذا نعرف أنّ العمل المنفق الذي اعتبرته النظريّة الأساس لاستحقاق الأجر ليس هو العمل المباشر فحسب ، بل يشمل العمل المختزن أيضاً .
وعلى ضوء هذا الأساس العام للأجر في النظريّة الإسلاميّة نستطيع أن نفسّر الفرق بين وسائل الإنتاج وبين رأس المال النقدي ؛ فإنّ استخدام المغزل بوصفه أداة إنتاج كان يؤدّي إلى إنفاق العمل المختزن فيه ، ولهذا صحّ لصاحب المغزل أن ـ يتقاضى أجراً في مثال ذلك .
وأمّا استخدام المقترض لرأس المال النقدي في مشروع من مشاريع الإنتاج فهو لا يستهلك شيئاً من العمل المتجسّد في ذلك النقد ، لأنّ التاجر الذي يستقرض ألف دينار مثلاً لمشروع من مشاريع الإنتاج أو التجارة سوف يدفع ألف دينار في الوقت المحدّد إلى الدائن دون أن يستهلك منها ذرّة ، وفي هذا الحال تصبح الفائدة أو الاُجرة على رأس المال كسباً غير مشروع إسلاميّاً لأنّه [ لا ] يقوم على أساس أيّ عمل منفق .(5)
المصادر :
1- مسند أحمد بن حنبل 4 : 37
2- تذكرة الفقهاء 2 : 404
3- المبسوط في فقه الإماميّة 3 : 282
4- قواعد الأحكام 3 : 316
5- مقال للسيد الشهيد محمد باقر الصدر نشر في مجلّة ( رسالة الإسلام ) ، السنة الثانية 1968 م ، العدد ( 7 - 8 ) ، باسم ( كاتب كبير )

 



ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.