مصدر المعرفة

قد يكون من أهمّ الخلافات الفلسفيّة التي عالجها الفكر البشري على مرّ العصور هو الخلاف حول مصدر المعرفة وأساسها .
Tuesday, November 22, 2016
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
مصدر المعرفة
مصدر المعرفة

 





 

قد يكون من أهمّ الخلافات الفلسفيّة التي عالجها الفكر البشري على مرّ العصور هو الخلاف حول مصدر المعرفة وأساسها .
وقد انقسم المفكّرون إزاء هذه المشكلة إلى قسمين :
القسم الأوّل : آمن بأنّ المعرفة البشريّة ذات أساس عقلي ، فهي تنتهي إلى اُسس ومبادئ يدركها العقل إدراكاً حدسيّاً مباشراً ، وعن طريق تلك الاُسس والمبادئ وفي ضوئها تستنبط سائر فروع المعرفة .
والقسم الثاني : آمن بأنّ التجربة هي الأساس العامّ الوحيد ، الذي يموّن الإنسان بكلّ ألوان المعرفة التي يزخر بها الفكر البشري ، ولا توجد لدى الإنسان أيّ معارف قبليّة بصورة مستقلّة عن التجربة . وحتّى ما يبدو في أعلى درجات التأصّل في النفس البشريّة من قضايا الرياضة والمنطق ، نظير 1 +1 = 2 ، والمثلّث له ثلاث زوايا ، واثنان نصف الأربعة ، والكلّ أكبر من جزئه . حتّى هذه القضايا ترجع في التحليل إلى التجربة التي عاشها الإنسان على مرّ الزمن .
فالإنسان حين يمارس التجارب الحياتيّة أو العلميّة ويحاول تفسيرها ، ليس أعزل - على الرأي الأوّل - بل هو مسلّح بتلك المعارف القبليّة التي تكوّن الرصيد الأساسي للمعرفة ، وتقوم بدور المصباح الذي ينير للتجربة طريقها ، ويوحي للإنسان بتفسير ما يمارسه من تجارب .
وأمّا على الرأي الثاني ، فالإنسان أعزل تماماً ، لا يملك شيئاً سوى بصيص النور الذي يجده في تجاربه ، فلا بدّ أن يفسّر تجربته على أساس هذا النور دون أن يستمدّ في موقفه ضوءاً من أيّ معرفة قبليّة .
وقد قام المنطق العقلي على أساس الرأي الأوّل ، وقام المنطق التجريبي الحديث على أساس الرأي الثاني .

المنطق التجريبي ورفض اليقين :

وكان من نتيجة تجريبيّة المنطق الحديث وإنكاره أيّ أساس عقلي مسبق ، اتّجاهه إلى رفض اليقين والقول بأنّ المعارف البشريّة العامّة لا تبلغ درجة اليقين ، مهما توفّرت الدلائل عليها وأيّدت التجارب صحّتها .
خذ مثلاً معرفتنا بأنّ الماء يغلي إذا أصبح حارّاً بدرجة معيّنة ، فإنّ هذه المعرفة ليس لها مصدر إلّاالتجربة ، ومن الطبيعي أنّ التجربة لا يمكن أن تشمل كلّ المياه وفي جميع الحالات ، لأنّ العدد الذي يمارس الإنسان اختباره من أفراد الماء محدود على أيّ حال ، مهما امتدّت التجربة أو اتّسعت .
فالقاعدة العامّة إذن ( وهي : أنّ الماء يغلي عند درجة معيّنة من الحرارة ) لا يمكن استنتاجها بجميع أفرادها من التجربة استنتاجاً مباشراً ، وإنّما هي في الحقيقة تعميم لمدلولات التجربة . ففي المرحلة الاُولى نثبت بالتجربة أنّ هذا الماء غلى بالحرارة ، وذاك الماء غلى أيضاً بالحرارة ، وعدّة مياه اُخرى سجّلت نفس النتيجة في التجربة ..
وهكذا نعرف بصورة مباشرة من التجربة على كلّ فرد من المياه التي مارسناها ، قضيّة جزئيّة تختصّ بذلك الفرد ، وعند تجميع عدد كبير من هذه القضايا الجزئيّة ، التي تدلّ عليها التجربة دلالة مباشرة ، نصل إلى المرحلة الثانية ، وهي مرحلة التعميم على أساس الاستقراء العلمي ؛ فنعمّم مدلولات التجربة ، وننتزع من تلك القضايا الجزئيّة قضيّة عامّة تقول : إنّ كلّ ماء يغلي عند درجة معيّنة من الحرارة ، دون فرق بين الأفراد التي جرّبناها من الماء وغيرها من المياه ، التي لم تدخل في نطاق التجربة بعد .
وهذا التعميم في المرحلة الثانية لا يقوم على أساس يقيني في رأي المنطق التجريبي ؛ لأنّ أساس المعرفة الوحيد هو التجربة ، وهي لم تمارس إلّامع عدد محدود من أفراد الماء .
فالتعميم إذن - أو المعرفة العامّة - لا يعتمد إلّاعلى استقراء ناقص ، وتجاوز عن الحدود التي شملها نطاق التجربة ، وما دام يستبطن هذا التجاوز عن النطاق التجريبي حتماً فلا يمكن أن ترقى المعرفة العامّة إلى درجة اليقين بحال من الأحوال ، بل تبقى احتماليّة ، ويزداد الاحتمال وتكبر درجته كلّما ازدادت التجارب وشملت عدداً أكبر من أفراد الطبيعة ، فإذا جرّبنا الماء في مئة حالة فوجدناه يغلي عند الحرارة ، يصبح إيماننا بالقاعدة العامّة ( وهي أنّ كلّ ماء يغلي عند درجة معيّنة من الحرارة ) أقوى من إيماننا حين كانت تجاربنا لا تتجاوز عشر حالات مثلاً ، ولكنّ إيماننا بالقاعدة على أيّ حال - ومهما ازدادت الحالات التي تشملها التجربة - لا يبلغ إلى مستوى اليقين ، ما دام يستبطن ذلك التعميم بدون تجربة مباشرة تدلّ عليه .
وعلى هذا الأساس ينتهي المنطق التجريبي إلى أمرين :
أحدهما : أنّ المعرفة العامّة احتماليّة وليست يقينيّة .
والآخر : أنّ المعرفة العامّة تزداد درجة احتمالها تبعاً لزيادة التجارب التي يعتمد الاستقراء عليها .
والمنطق التجريبي يطبّق هذين الأمرين على كلّ معرفة عامّة مهما كان نوعها وموضوعها؛ لأنّه يؤمن بأنّ التجربة هي الأساس الوحيد والمصدر الأساسي للمعرفة ، وأنّ كلّ معرفة عامّة لا تعدو أن تكون تعميماً لمعطيات التجربة ، وتجاوزاً عن مدلولاتها المباشرة إلى القاعدة العامّة على أساس الاستقراء .

مشكلة المنطق التجريبي :

وبهذا مني المنطق التجريبي بمشكلة خطيرة جدّاً ، وهي تفسير اليقين في القضايا الرياضيّة والمبادئ المنطقيّة ، وتبرير الفرق بينها وبين قضايا المعرفة في العلوم الطبيعيّة .
والمشكلة تبدأ من إدراك الفرق بين قضايا العلوم الطبيعيّة ، وقضايا الرياضة والمنطق الأوّليّة من النواحي الآتية :
1 - أنّ قضايا الرياضة والمنطق تبدو يقينيّة، فهناك فرق كبير بين 1 +1 2، أو أنّ المثلّث له ثلاث أضلاع ، أو أنّ اثنين نصف الأربعة . وبين قضايا العلوم الطبيعيّة نظير : أنّ المغناطيس يجذب الحديد ، والمعدن يتمدّد بالحرارة ، والماء يغلي إذا صار حارّاً بدرجة مئة ، وكلّ إنسان يموت .
فإنّ القضايا الاُولى لا نتصوّر إمكانيّة الشكّ فيها بحال ، بينما يمكن أن نشكّ في القضايا الطبيعيّة من النوع الثاني . فلو أنّ عدداً كبيراً من الناس الموثوق بفهمهم وإدراكهم للتجارب العلميّة أخبرونا بوجود نوع من الماء لا يغلي بالحرارة أو أنّ بعض المعادن لا تتمدّد بالحرارة لتوقّف إيماننا بالقضيّة العامّة . بينما لا نستطيع أن نشكّ في الحقيقة الرياضيّة القائلة أنّ الاثنين نصف الأربعة ، ولو أخبرنا أكبر عدد ممكن من الناس ـ بأنّ الاثنين أحياناً تكون ثلث الأربعة .
2 - أنّ تكرار الأمثلة والتجارب لا أثر له بالنسبة إلى القضيّة الرياضيّة ، بينما يلعب دوراً إيجابيّاً كبيراً في القضايا الطبيعيّة . فنحن كلّما نجد أمثلة أكثر لتمدّد المعادن ، أو غليان الماء بالحرارة ، ونمارس عدداً أكبر من التجارب بهذا الصدد ، نزداد تأكّداً من القضيّة العامّة ووثوقاً بها . وإذا وجدنا قطعة مغناطيسيّة واحدة تجذب الحديد ، لم يكفنا ذلك لكي نؤمن بأنّ المغناطيس يجذب الحديد ، ما لم نكرّر التجربة ونستوعب عدداً أكبر من الأمثلة والنماذج .
ولكنّ الأمر بالنسبة إلى القضايا الرياضيّة يختلف اختلافاً كبيراً ، فإنّ الإنسان في اللحظة التي يستطيع فيها أن يجمع خمسة كتب وخمسة كتب اُخرى ، ويعرف أنّ مجموعهما عشرة ، يمكنه أن يحكم بأنّ كلّ خمستين تساوي عشرة ، سواء كانت الأشياء المعدودة كتباً أو أشياء اُخرى ، ولا يزداد اليقين بهذه الحقيقة بتكرار الأمثلة وجمع النماذج العديدة .
وبتعبير آخر . أنّ اليقين بهذه الحقيقة الرياضيّة يصل منذ اللحظة الاُولى من إدراكها إلى درجة كبيرة ، لا يمكن أن يتجاوزها ، بينما نجد اعتقادنا بالقضايا الطبيعيّة يزداد باستمرار كلّما تظافرت التجارب ، وأكّدت باستمرار صدق القضيّة وموضوعيّتها .
3 - إنّ قضايا العلوم الطبيعيّة وإن كانت تستبطن تعميماً وتجاوزاً عن حدود التجربة ولكنّ هذا التجاوز المستبطن لا يتعدّى حدود عالم التجربة ، وإن تعدّى نطاقها الخاصّ .
فنحن حين نقرّر أنّ الماء يغلي لدى درجة معيّنة من الحرارة ، نتجاوز المياه التي وقعت في نطاق تجاربنا الخاصّة إلى سائر المياه في هذا الكون ، ولكنّنا إذا اجتزنا عالم التجربة ، وتصوّرنا عالماً آخر غير هذا العالم الذي نعيش فيه ، فمن الممكن أن نتصوّر الماء في ذلك العالم وهو لا يغلي عند تلك الدرجة المعيّنة من الحرارة ، ولا نجد مسوّغاً لتعميم القضيّة القائلة بأنّ الماء يغلي عند درجة معيّنة لذلك العالم الآخر ، وهذا يعني أنّ التعميم في تلك القضيّة إنّما كان في حدود العالم الخارجي الذي وقعت التجربة فيه . وعلى عكس ذلك القضايا الرياضيّة ، فإنّ الحقيقة الرياضيّة القائلة : إنّ 2 * 2 4 صادقة على أيّ عالم نتصوّره ! ولا يمكننا أن نتصوّر عالماً تنتج فيه عن مضاعفة الاثنين خمسة ، ومعنى ذلك أنّ التعميم في القضيّة الرياضيّة يتخطّى حدود الكون المعاش ويشمل كلّ ما يمكن أن يعترض من أكوان وأفراد .
هذه فروق ثلاثة بين القضيّة الرياضيّة والقضيّة الطبيعيّة جعلت المنطق التجريبي في مشكلة ؛ لأنّه مطالب بتفسيرها مع أ نّه يعجز عن ذلك ما دام يؤمن بأنّ القضايا الرياضيّة والطبيعيّة جميعاً مستمدّة من التجربة بطريقة واحدة ، ولأجل ذلك اضطرّ المنطق التجريبي لفترة من الزمن أن يعلن المساواة بين القضيّة الرياضيّة والطبيعيّة ، وينزّل قضايا الرياضة عن درجة اليقين ! الأمر الذي يجعل الحقيقة القائلة أنّ 1 +1 2 قضيّة احتماليّة في رأي التجريبيّين تحمل كلّ نقاط الضعف المنطقيّة التي تشتمل عليها الطريقة العلميّة في الاستقراء ، أي طريقة التعميم وتجاوز حدود التجربة .
وكان هذا الإعلان والقول من المنطق التجريبي من أكبر الأدلّة ضدّه ، ومن الشواهد التي تدينه وتثبت فشله في تفسير المعرفة البشريّة ، بينما لم يكن المنطق العقلي مضطرّاً إلى التورّط فيما وقع فيه المنطق التجريبي ؛ لأنّ المنطق العقلي نظراً إلى إيمانه بوجود معارف قبليّة سابقة على التجربة ، أمكنه أن يفسّر الفرق بين القضيّة الرياضيّة والقضيّة الطبيعيّة : بأنّ قضايا الرياضة مستمدّة من معارف سابقة على التجربة ، وقضايا الوجود في الطبيعة مستمدّة من التجربة ، وما دامت طريقة المعرفة مختلفة فيهما فمن الطبيعي أن تختلفا في طبيعة المعرفة ودرجتها .

موقف المنطق الوضعي من المشكلة :

وبقي المنطق التجريبي يعاني هذه المشكلة أو هذا النقص في تفسير المعرفة ، حتّى حاول المناطقة الوضعيّون المحدثون أن يسدّوا هذا النقص ويعالجوا تلك المشكلة علاجاً واقعيّاً قائماً على أساس الاعتراف بالفرق بين القضيّة الرياضيّة والقضيّة الطبيعيّة ، بدلاً عن التهرّب من هذه الحقيقة وإنكارها كما كان يصنع المنطق التجربي .
ويتلخّص موقف المنطق الوضعي في القول بأنّ مردّ الضرورة واليقين في القضايا الرياضيّة إلى كونها قضايا تكراريّة لا تخبر عن شي‏ء إطلاقاً ، فيقيننا بأنّ 2 +2 4 ليس نتيجة لوجود خبر مضمون الصحّة ومؤكّد التطابق مع الواقع في هذه القضيّة الرياضيّة ، وإنّما هو نتيجة لخلوّ هذه القضيّة من الإخبار وكونها تكراريّة .
ولكي تتّضح فكرة الموقف يجب أن نشير إلى معنى القضايا الإخباريّة والتكراريّة .
فإنّ المنطق الوضعي يقسّم القضايا إلى قسمين :
أحدهما :
القضايا الإخباريّة وهي : كلّ قضيّة تتحفنا بعلم جديد وتصف الموضوع بوصف لم يكن مستبطناً في الموضوع نفسه ، فإنّ الإنسان مثلاً بوصفه إنساناً ليس معناه أ نّه يموت ، وسقراط بوصفه إنساناً معيّناً لا يعني أ نّه اُستاذ إفلاطون ، فإذا قلنا إنّ كلّ إنسان يموت أو أنّ سقراط اُستاذ إفلاطون كنّا نقرّر بذلك وصفاً جديداً للإنسان غير مجرّد أ نّه إنسان ، ووصفاً جديداً لسقراط غير مجرّد أ نّه سقراط ، وبذلك تكون القضيّة إخباريّة تركيبيّة .
والقسم الآخر :
القضايا التكراريّة ، وهي : كلّ قضيّة تكرّر عناصر الموضوع
بعضها أو كلّها ، فلا تضيف إلى علمنا به شيئاً جديداً سوى إبرازها لتلك العناصر ، بحيث تصبح مذكورة ذكراً صريحاً بعد أن كانت متضمّنة ، نظير قولك : الأعزب ليس له زوجة ، فإنّ هذا الوصف السلبي متضمّن في كلمة الأعزب ؛ لأنّ الأعزب هو عبارة عمّن لا زوجة له من الرجال ، فلم تضف هذه القضيّة إلى علمنا بالأعزب علماً جديداً وبذلك تكون قضيّة تكراريّة .
ففيما يتّصل ببحثنا الذي نعالجه الآن يحاول المناطقة الوضعيّون من التجريبيّين أن تدرج قضايا الرياضة كلّها في القضايا التكراريّة ، ويفسّر الضرورة واليقين فيها على أساس خلوّها عن الإخبار وعقمها عن إعطاء معرفة بالموضوع . ففي الحقيقة الرياضيّة القائلة إنّ 1 +1 2 لا نجد إلّاتكراراً عقيماً ؛ لأنّ 2 رمز يدلّ على نفس ما يدلّ عليه 1 +1 ، فقد استخدمنا في هذه القضيّة رمزين متكافئين يدلّان على عدد معيّن ، وقلنا إنّ أحدهما يساوي الآخر ، فهو في قوّة قولنا أنّ 2 2 ، وكذلك الأمر في القضيّة الهندسيّة القائلة أنّ المربّع له أربعة أضلاع ، فإنّ الوصف مستبطن في الموضوع ، فتكون العمليّة في القضيّة عمليّة اجترار من الموضوع ، لا عمليّة تركيب بين الموضوع ووصف جديد .

مناقشة الموقف الوضعي :

وهذه الفكرة القائلة بأنّ القضايا الرياضيّة مجرّد تكرار ليست صحيحة في رأينا ؛ لأنّ عدداً من القضايا الرياضيّة لا يمكن ادّعاء ذلك فيها ، فمثلاً القضايا القائلة إنّ الخطّ المستقيم أقصر خطّ يصل بين نقطتين ، لا يمكن القول بأ نّها قضيّة تكراريّة ، بل هي قضيّة إخباريّة تركيبيّة ؛ لأنّ ( الخطّ المستقيم ) وهو موضوع القضيّة صفة كيفيّة ، و ( أقصر خطّ ) وهو الوصف الذي منحته القضيّة إيّاه صفة كمّيّة ، والصفة الكمّيّة ليست مستبطنة في الصفة الكيفيّة ، فالقضيّة إذن إخباريّة ، وكذلك قولنا ( 2 نصف 4 ) ، إذ نواجه صفتين مختلفتين ، فإنّ مفهوم النصف يختلف عن مفهوم العدد ( 2 ) ، فيكون الحكم بأحدهما على الآخر تركيباً وإخباراً ، لا تكراراً واجتراراً .
ولا نريد في مجالنا المحدود هذا أن نتوسّع في نقد هذه الفكرة ، وإنّما نريد أن نتناولها بالنقد بالقدر الذي يتّصل بموضوع البحث ، أي نريد أن نعرف مدى نجاح هذه المحاولة الوضعيّة لإنقاذ المنطق التجربي من المأزق الذي تورّط فيه .
إذا سلّمنا افتراضاً أنّ القضايا الرياضيّة تكراريّة كلّها ، فهل يكفي القول بذلك لحلّ المشكلة وتفسير الفرق بين القضيّة الرياضيّة والقضيّة الطبيعيّة على أساس المنطق التجريبي ؟
ونجيب على ذلك بالنفي ؛ لأنّ من حقّنا أن نطالب المنطق التجريبي بتفسير الضرورة واليقين في القضايا التكراريّة .
ولنأخذ القضيّة التكراريّة النموذجيّة القائلة بأنّ ( أ ) هي ( أ ) فإنّ مردّ اليقين بهذه القضيّة إلى الإيمان بمبدأ عدم التناقض ، وهو المبدأ القائل : أنّ النفي والإثبات يستحيل اجتماعهما ؛ لأنّنا لو لم نؤمن بهذا المبدأ لكان من الممكن أن لا تكون « أ » هي « أ » وإنّما كانت « أ » على أساس استحالة اجتماع النقيضين في وقت واحد .
وإذا عرفنا أنّ مبدأ عدم التناقض هو أساس الضرورة واليقين في القضايا التكراريّة ، فما هو تفسير الضرورة واليقين في نفس هذا المبدأ بالذات ؟
ولا يمكن للمنطق الوضعي أن يجيب على ذلك بأنّ هذا المبدأ يشتمل على قضيّة تكراريّة أيضاً ؛ لأنّ القضيّة التي يعبّر عنها المبدأ إخباريّة وليست تكراريّة ، والاستحالة التي يحكم بها ليست مستبطنة في اجتماع النقيضين ؛ بمعنى أ نّنا حين نقول : اجتماع النقيضين مستحيل ، لا نستخرج هذه الاستحالة من نفس مفهوم
اجتماع النقيضين ؛ لأنّها ليست من عناصر هذا المفهوم ، ولهذا كان قولنا ذلك يختلف عن قولنا : اجتماع النقيضين هو اجتماع النقيضين . وهذا الفارق المعنوي بين القولين ، يبرهن على أنّ القول الأوّل ليس مجرّد قضيّة تكراريّة .
وما دام مبدأ عدم التناقض قضيّة إخباريّة تركيبيّة ، فالمشكلة تعود من جديد ؛ لأنّ المنطق التجريبي مطالب عندئذٍ بتفسير الضرورة واليقين في هذه القضيّة الإخباريّة . فإنّ زعم أنّ هذه القضيّة الإخباريّة مستمدّة من التجربة ، كسائر المعارف الرياضيّة الطبيعيّة أصبح عاجزاً عن تفسير الفرق بينها وبين القضايا الطبيعيّة .
وإذا اعترف المنطق التجريبي بأنّ مبدأ عدم التناقض يعبّر عن معرفة عقليّة سابقة على التجربة ، ويستمدّ ضرورته من طابعه العقلي الأصيل ، كان هذا يعني هدم القاعدة الأساسيّة في المنطق التجريبي وإسقاط التجربة عن وصفها المصدر الأساسي للمعرفة البشريّة .
وهكذا تبقى قصّة اليقين في القضايا الرياضيّة على أساس المنطق التجريبي معلّقة .
المصدر :
من کتابات الشهيد السيد محمد باقر الصدر نشر في مجلّة ( الإيمان ) ، السنة الثانية ، العدد ( 1 - 2 ) ، 1965 م

 



ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.