
قد يكون من أهمّ الخلافات الفلسفيّة التي عالجها الفكر البشري على مرّ العصور هو الخلاف حول مصدر المعرفة وأساسها .
وقد انقسم المفكّرون إزاء هذه المشكلة إلى قسمين :
القسم الأوّل : آمن بأنّ المعرفة البشريّة ذات أساس عقلي ، فهي تنتهي إلى اُسس ومبادئ يدركها العقل إدراكاً حدسيّاً مباشراً ، وعن طريق تلك الاُسس والمبادئ وفي ضوئها تستنبط سائر فروع المعرفة .
والقسم الثاني : آمن بأنّ التجربة هي الأساس العامّ الوحيد ، الذي يموّن الإنسان بكلّ ألوان المعرفة التي يزخر بها الفكر البشري ، ولا توجد لدى الإنسان أيّ معارف قبليّة بصورة مستقلّة عن التجربة . وحتّى ما يبدو في أعلى درجات التأصّل في النفس البشريّة من قضايا الرياضة والمنطق ، نظير 1 +1 = 2 ، والمثلّث له ثلاث زوايا ، واثنان نصف الأربعة ، والكلّ أكبر من جزئه . حتّى هذه القضايا ترجع في التحليل إلى التجربة التي عاشها الإنسان على مرّ الزمن .
فالإنسان حين يمارس التجارب الحياتيّة أو العلميّة ويحاول تفسيرها ، ليس أعزل - على الرأي الأوّل - بل هو مسلّح بتلك المعارف القبليّة التي تكوّن الرصيد الأساسي للمعرفة ، وتقوم بدور المصباح الذي ينير للتجربة طريقها ، ويوحي للإنسان بتفسير ما يمارسه من تجارب .
وأمّا على الرأي الثاني ، فالإنسان أعزل تماماً ، لا يملك شيئاً سوى بصيص النور الذي يجده في تجاربه ، فلا بدّ أن يفسّر تجربته على أساس هذا النور دون أن يستمدّ في موقفه ضوءاً من أيّ معرفة قبليّة .
وقد قام المنطق العقلي على أساس الرأي الأوّل ، وقام المنطق التجريبي الحديث على أساس الرأي الثاني .
المنطق التجريبي ورفض اليقين :
وكان من نتيجة تجريبيّة المنطق الحديث وإنكاره أيّ أساس عقلي مسبق ، اتّجاهه إلى رفض اليقين والقول بأنّ المعارف البشريّة العامّة لا تبلغ درجة اليقين ، مهما توفّرت الدلائل عليها وأيّدت التجارب صحّتها .خذ مثلاً معرفتنا بأنّ الماء يغلي إذا أصبح حارّاً بدرجة معيّنة ، فإنّ هذه المعرفة ليس لها مصدر إلّاالتجربة ، ومن الطبيعي أنّ التجربة لا يمكن أن تشمل كلّ المياه وفي جميع الحالات ، لأنّ العدد الذي يمارس الإنسان اختباره من أفراد الماء محدود على أيّ حال ، مهما امتدّت التجربة أو اتّسعت .
فالقاعدة العامّة إذن ( وهي : أنّ الماء يغلي عند درجة معيّنة من الحرارة ) لا يمكن استنتاجها بجميع أفرادها من التجربة استنتاجاً مباشراً ، وإنّما هي في الحقيقة تعميم لمدلولات التجربة . ففي المرحلة الاُولى نثبت بالتجربة أنّ هذا الماء غلى بالحرارة ، وذاك الماء غلى أيضاً بالحرارة ، وعدّة مياه اُخرى سجّلت نفس النتيجة في التجربة ..
وهكذا نعرف بصورة مباشرة من التجربة على كلّ فرد من المياه التي مارسناها ، قضيّة جزئيّة تختصّ بذلك الفرد ، وعند تجميع عدد كبير من هذه القضايا الجزئيّة ، التي تدلّ عليها التجربة دلالة مباشرة ، نصل إلى المرحلة الثانية ، وهي مرحلة التعميم على أساس الاستقراء العلمي ؛ فنعمّم مدلولات التجربة ، وننتزع من تلك القضايا الجزئيّة قضيّة عامّة تقول : إنّ كلّ ماء يغلي عند درجة معيّنة من الحرارة ، دون فرق بين الأفراد التي جرّبناها من الماء وغيرها من المياه ، التي لم تدخل في نطاق التجربة بعد .
وهذا التعميم في المرحلة الثانية لا يقوم على أساس يقيني في رأي المنطق التجريبي ؛ لأنّ أساس المعرفة الوحيد هو التجربة ، وهي لم تمارس إلّامع عدد محدود من أفراد الماء .
فالتعميم إذن - أو المعرفة العامّة - لا يعتمد إلّاعلى استقراء ناقص ، وتجاوز عن الحدود التي شملها نطاق التجربة ، وما دام يستبطن هذا التجاوز عن النطاق التجريبي حتماً فلا يمكن أن ترقى المعرفة العامّة إلى درجة اليقين بحال من الأحوال ، بل تبقى احتماليّة ، ويزداد الاحتمال وتكبر درجته كلّما ازدادت التجارب وشملت عدداً أكبر من أفراد الطبيعة ، فإذا جرّبنا الماء في مئة حالة فوجدناه يغلي عند الحرارة ، يصبح إيماننا بالقاعدة العامّة ( وهي أنّ كلّ ماء يغلي عند درجة معيّنة من الحرارة ) أقوى من إيماننا حين كانت تجاربنا لا تتجاوز عشر حالات مثلاً ، ولكنّ إيماننا بالقاعدة على أيّ حال - ومهما ازدادت الحالات التي تشملها التجربة - لا يبلغ إلى مستوى اليقين ، ما دام يستبطن ذلك التعميم بدون تجربة مباشرة تدلّ عليه .
وعلى هذا الأساس ينتهي المنطق التجريبي إلى أمرين :
أحدهما : أنّ المعرفة العامّة احتماليّة وليست يقينيّة .
والآخر : أنّ المعرفة العامّة تزداد درجة احتمالها تبعاً لزيادة التجارب التي يعتمد الاستقراء عليها .
والمنطق التجريبي يطبّق هذين الأمرين على كلّ معرفة عامّة مهما كان نوعها وموضوعها؛ لأنّه يؤمن بأنّ التجربة هي الأساس الوحيد والمصدر الأساسي للمعرفة ، وأنّ كلّ معرفة عامّة لا تعدو أن تكون تعميماً لمعطيات التجربة ، وتجاوزاً عن مدلولاتها المباشرة إلى القاعدة العامّة على أساس الاستقراء .
مشكلة المنطق التجريبي :
وبهذا مني المنطق التجريبي بمشكلة خطيرة جدّاً ، وهي تفسير اليقين في القضايا الرياضيّة والمبادئ المنطقيّة ، وتبرير الفرق بينها وبين قضايا المعرفة في العلوم الطبيعيّة .والمشكلة تبدأ من إدراك الفرق بين قضايا العلوم الطبيعيّة ، وقضايا الرياضة والمنطق الأوّليّة من النواحي الآتية :
1 - أنّ قضايا الرياضة والمنطق تبدو يقينيّة، فهناك فرق كبير بين 1 +1 2، أو أنّ المثلّث له ثلاث أضلاع ، أو أنّ اثنين نصف الأربعة . وبين قضايا العلوم الطبيعيّة نظير : أنّ المغناطيس يجذب الحديد ، والمعدن يتمدّد بالحرارة ، والماء يغلي إذا صار حارّاً بدرجة مئة ، وكلّ إنسان يموت .
فإنّ القضايا الاُولى لا نتصوّر إمكانيّة الشكّ فيها بحال ، بينما يمكن أن نشكّ في القضايا الطبيعيّة من النوع الثاني . فلو أنّ عدداً كبيراً من الناس الموثوق بفهمهم وإدراكهم للتجارب العلميّة أخبرونا بوجود نوع من الماء لا يغلي بالحرارة أو أنّ بعض المعادن لا تتمدّد بالحرارة لتوقّف إيماننا بالقضيّة العامّة . بينما لا نستطيع أن نشكّ في الحقيقة الرياضيّة القائلة أنّ الاثنين نصف الأربعة ، ولو أخبرنا أكبر عدد ممكن من الناس ـ بأنّ الاثنين أحياناً تكون ثلث الأربعة .
2 - أنّ تكرار الأمثلة والتجارب لا أثر له بالنسبة إلى القضيّة الرياضيّة ، بينما يلعب دوراً إيجابيّاً كبيراً في القضايا الطبيعيّة . فنحن كلّما نجد أمثلة أكثر لتمدّد المعادن ، أو غليان الماء بالحرارة ، ونمارس عدداً أكبر من التجارب بهذا الصدد ، نزداد تأكّداً من القضيّة العامّة ووثوقاً بها . وإذا وجدنا قطعة مغناطيسيّة واحدة تجذب الحديد ، لم يكفنا ذلك لكي نؤمن بأنّ المغناطيس يجذب الحديد ، ما لم نكرّر التجربة ونستوعب عدداً أكبر من الأمثلة والنماذج .
ولكنّ الأمر بالنسبة إلى القضايا الرياضيّة يختلف اختلافاً كبيراً ، فإنّ الإنسان في اللحظة التي يستطيع فيها أن يجمع خمسة كتب وخمسة كتب اُخرى ، ويعرف أنّ مجموعهما عشرة ، يمكنه أن يحكم بأنّ كلّ خمستين تساوي عشرة ، سواء كانت الأشياء المعدودة كتباً أو أشياء اُخرى ، ولا يزداد اليقين بهذه الحقيقة بتكرار الأمثلة وجمع النماذج العديدة .
وبتعبير آخر . أنّ اليقين بهذه الحقيقة الرياضيّة يصل منذ اللحظة الاُولى من إدراكها إلى درجة كبيرة ، لا يمكن أن يتجاوزها ، بينما نجد اعتقادنا بالقضايا الطبيعيّة يزداد باستمرار كلّما تظافرت التجارب ، وأكّدت باستمرار صدق القضيّة وموضوعيّتها .
3 - إنّ قضايا العلوم الطبيعيّة وإن كانت تستبطن تعميماً وتجاوزاً عن حدود التجربة ولكنّ هذا التجاوز المستبطن لا يتعدّى حدود عالم التجربة ، وإن تعدّى نطاقها الخاصّ .
فنحن حين نقرّر أنّ الماء يغلي لدى درجة معيّنة من الحرارة ، نتجاوز المياه التي وقعت في نطاق تجاربنا الخاصّة إلى سائر المياه في هذا الكون ، ولكنّنا إذا اجتزنا عالم التجربة ، وتصوّرنا عالماً آخر غير هذا العالم الذي نعيش فيه ، فمن الممكن أن نتصوّر الماء في ذلك العالم وهو لا يغلي عند تلك الدرجة المعيّنة من الحرارة ، ولا نجد مسوّغاً لتعميم القضيّة القائلة بأنّ الماء يغلي عند درجة معيّنة لذلك العالم الآخر ، وهذا يعني أنّ التعميم في تلك القضيّة إنّما كان في حدود العالم الخارجي الذي وقعت التجربة فيه . وعلى عكس ذلك القضايا الرياضيّة ، فإنّ الحقيقة الرياضيّة القائلة : إنّ 2 * 2 4 صادقة على أيّ عالم نتصوّره ! ولا يمكننا أن نتصوّر عالماً تنتج فيه عن مضاعفة الاثنين خمسة ، ومعنى ذلك أنّ التعميم في القضيّة الرياضيّة يتخطّى حدود الكون المعاش ويشمل كلّ ما يمكن أن يعترض من أكوان وأفراد .
هذه فروق ثلاثة بين القضيّة الرياضيّة والقضيّة الطبيعيّة جعلت المنطق التجريبي في مشكلة ؛ لأنّه مطالب بتفسيرها مع أ نّه يعجز عن ذلك ما دام يؤمن بأنّ القضايا الرياضيّة والطبيعيّة جميعاً مستمدّة من التجربة بطريقة واحدة ، ولأجل ذلك اضطرّ المنطق التجريبي لفترة من الزمن أن يعلن المساواة بين القضيّة الرياضيّة والطبيعيّة ، وينزّل قضايا الرياضة عن درجة اليقين ! الأمر الذي يجعل الحقيقة القائلة أنّ 1 +1 2 قضيّة احتماليّة في رأي التجريبيّين تحمل كلّ نقاط الضعف المنطقيّة التي تشتمل عليها الطريقة العلميّة في الاستقراء ، أي طريقة التعميم وتجاوز حدود التجربة .
وكان هذا الإعلان والقول من المنطق التجريبي من أكبر الأدلّة ضدّه ، ومن الشواهد التي تدينه وتثبت فشله في تفسير المعرفة البشريّة ، بينما لم يكن المنطق العقلي مضطرّاً إلى التورّط فيما وقع فيه المنطق التجريبي ؛ لأنّ المنطق العقلي نظراً إلى إيمانه بوجود معارف قبليّة سابقة على التجربة ، أمكنه أن يفسّر الفرق بين القضيّة الرياضيّة والقضيّة الطبيعيّة : بأنّ قضايا الرياضة مستمدّة من معارف سابقة على التجربة ، وقضايا الوجود في الطبيعة مستمدّة من التجربة ، وما دامت طريقة المعرفة مختلفة فيهما فمن الطبيعي أن تختلفا في طبيعة المعرفة ودرجتها .
موقف المنطق الوضعي من المشكلة :
وبقي المنطق التجريبي يعاني هذه المشكلة أو هذا النقص في تفسير المعرفة ، حتّى حاول المناطقة الوضعيّون المحدثون أن يسدّوا هذا النقص ويعالجوا تلك المشكلة علاجاً واقعيّاً قائماً على أساس الاعتراف بالفرق بين القضيّة الرياضيّة والقضيّة الطبيعيّة ، بدلاً عن التهرّب من هذه الحقيقة وإنكارها كما كان يصنع المنطق التجربي .ويتلخّص موقف المنطق الوضعي في القول بأنّ مردّ الضرورة واليقين في القضايا الرياضيّة إلى كونها قضايا تكراريّة لا تخبر عن شيء إطلاقاً ، فيقيننا بأنّ 2 +2 4 ليس نتيجة لوجود خبر مضمون الصحّة ومؤكّد التطابق مع الواقع في هذه القضيّة الرياضيّة ، وإنّما هو نتيجة لخلوّ هذه القضيّة من الإخبار وكونها تكراريّة .
ولكي تتّضح فكرة الموقف يجب أن نشير إلى معنى القضايا الإخباريّة والتكراريّة .
فإنّ المنطق الوضعي يقسّم القضايا إلى قسمين :
أحدهما :
القضايا الإخباريّة وهي : كلّ قضيّة تتحفنا بعلم جديد وتصف الموضوع بوصف لم يكن مستبطناً في الموضوع نفسه ، فإنّ الإنسان مثلاً بوصفه إنساناً ليس معناه أ نّه يموت ، وسقراط بوصفه إنساناً معيّناً لا يعني أ نّه اُستاذ إفلاطون ، فإذا قلنا إنّ كلّ إنسان يموت أو أنّ سقراط اُستاذ إفلاطون كنّا نقرّر بذلك وصفاً جديداً للإنسان غير مجرّد أ نّه إنسان ، ووصفاً جديداً لسقراط غير مجرّد أ نّه سقراط ، وبذلك تكون القضيّة إخباريّة تركيبيّة .
والقسم الآخر :
القضايا التكراريّة ، وهي : كلّ قضيّة تكرّر عناصر الموضوع
بعضها أو كلّها ، فلا تضيف إلى علمنا به شيئاً جديداً سوى إبرازها لتلك العناصر ، بحيث تصبح مذكورة ذكراً صريحاً بعد أن كانت متضمّنة ، نظير قولك : الأعزب ليس له زوجة ، فإنّ هذا الوصف السلبي متضمّن في كلمة الأعزب ؛ لأنّ الأعزب هو عبارة عمّن لا زوجة له من الرجال ، فلم تضف هذه القضيّة إلى علمنا بالأعزب علماً جديداً وبذلك تكون قضيّة تكراريّة .
ففيما يتّصل ببحثنا الذي نعالجه الآن يحاول المناطقة الوضعيّون من التجريبيّين أن تدرج قضايا الرياضة كلّها في القضايا التكراريّة ، ويفسّر الضرورة واليقين فيها على أساس خلوّها عن الإخبار وعقمها عن إعطاء معرفة بالموضوع . ففي الحقيقة الرياضيّة القائلة إنّ 1 +1 2 لا نجد إلّاتكراراً عقيماً ؛ لأنّ 2 رمز يدلّ على نفس ما يدلّ عليه 1 +1 ، فقد استخدمنا في هذه القضيّة رمزين متكافئين يدلّان على عدد معيّن ، وقلنا إنّ أحدهما يساوي الآخر ، فهو في قوّة قولنا أنّ 2 2 ، وكذلك الأمر في القضيّة الهندسيّة القائلة أنّ المربّع له أربعة أضلاع ، فإنّ الوصف مستبطن في الموضوع ، فتكون العمليّة في القضيّة عمليّة اجترار من الموضوع ، لا عمليّة تركيب بين الموضوع ووصف جديد .
مناقشة الموقف الوضعي :
وهذه الفكرة القائلة بأنّ القضايا الرياضيّة مجرّد تكرار ليست صحيحة في رأينا ؛ لأنّ عدداً من القضايا الرياضيّة لا يمكن ادّعاء ذلك فيها ، فمثلاً القضايا القائلة إنّ الخطّ المستقيم أقصر خطّ يصل بين نقطتين ، لا يمكن القول بأ نّها قضيّة تكراريّة ، بل هي قضيّة إخباريّة تركيبيّة ؛ لأنّ ( الخطّ المستقيم ) وهو موضوع القضيّة صفة كيفيّة ، و ( أقصر خطّ ) وهو الوصف الذي منحته القضيّة إيّاه صفة كمّيّة ، والصفة الكمّيّة ليست مستبطنة في الصفة الكيفيّة ، فالقضيّة إذن إخباريّة ، وكذلك قولنا ( 2 نصف 4 ) ، إذ نواجه صفتين مختلفتين ، فإنّ مفهوم النصف يختلف عن مفهوم العدد ( 2 ) ، فيكون الحكم بأحدهما على الآخر تركيباً وإخباراً ، لا تكراراً واجتراراً .ولا نريد في مجالنا المحدود هذا أن نتوسّع في نقد هذه الفكرة ، وإنّما نريد أن نتناولها بالنقد بالقدر الذي يتّصل بموضوع البحث ، أي نريد أن نعرف مدى نجاح هذه المحاولة الوضعيّة لإنقاذ المنطق التجربي من المأزق الذي تورّط فيه .
إذا سلّمنا افتراضاً أنّ القضايا الرياضيّة تكراريّة كلّها ، فهل يكفي القول بذلك لحلّ المشكلة وتفسير الفرق بين القضيّة الرياضيّة والقضيّة الطبيعيّة على أساس المنطق التجريبي ؟
ونجيب على ذلك بالنفي ؛ لأنّ من حقّنا أن نطالب المنطق التجريبي بتفسير الضرورة واليقين في القضايا التكراريّة .
ولنأخذ القضيّة التكراريّة النموذجيّة القائلة بأنّ ( أ ) هي ( أ ) فإنّ مردّ اليقين بهذه القضيّة إلى الإيمان بمبدأ عدم التناقض ، وهو المبدأ القائل : أنّ النفي والإثبات يستحيل اجتماعهما ؛ لأنّنا لو لم نؤمن بهذا المبدأ لكان من الممكن أن لا تكون « أ » هي « أ » وإنّما كانت « أ » على أساس استحالة اجتماع النقيضين في وقت واحد .
وإذا عرفنا أنّ مبدأ عدم التناقض هو أساس الضرورة واليقين في القضايا التكراريّة ، فما هو تفسير الضرورة واليقين في نفس هذا المبدأ بالذات ؟
ولا يمكن للمنطق الوضعي أن يجيب على ذلك بأنّ هذا المبدأ يشتمل على قضيّة تكراريّة أيضاً ؛ لأنّ القضيّة التي يعبّر عنها المبدأ إخباريّة وليست تكراريّة ، والاستحالة التي يحكم بها ليست مستبطنة في اجتماع النقيضين ؛ بمعنى أ نّنا حين نقول : اجتماع النقيضين مستحيل ، لا نستخرج هذه الاستحالة من نفس مفهوم
اجتماع النقيضين ؛ لأنّها ليست من عناصر هذا المفهوم ، ولهذا كان قولنا ذلك يختلف عن قولنا : اجتماع النقيضين هو اجتماع النقيضين . وهذا الفارق المعنوي بين القولين ، يبرهن على أنّ القول الأوّل ليس مجرّد قضيّة تكراريّة .
وما دام مبدأ عدم التناقض قضيّة إخباريّة تركيبيّة ، فالمشكلة تعود من جديد ؛ لأنّ المنطق التجريبي مطالب عندئذٍ بتفسير الضرورة واليقين في هذه القضيّة الإخباريّة . فإنّ زعم أنّ هذه القضيّة الإخباريّة مستمدّة من التجربة ، كسائر المعارف الرياضيّة الطبيعيّة أصبح عاجزاً عن تفسير الفرق بينها وبين القضايا الطبيعيّة .
وإذا اعترف المنطق التجريبي بأنّ مبدأ عدم التناقض يعبّر عن معرفة عقليّة سابقة على التجربة ، ويستمدّ ضرورته من طابعه العقلي الأصيل ، كان هذا يعني هدم القاعدة الأساسيّة في المنطق التجريبي وإسقاط التجربة عن وصفها المصدر الأساسي للمعرفة البشريّة .
وهكذا تبقى قصّة اليقين في القضايا الرياضيّة على أساس المنطق التجريبي معلّقة .
المصدر :
من کتابات الشهيد السيد محمد باقر الصدر نشر في مجلّة ( الإيمان ) ، السنة الثانية ، العدد ( 1 - 2 ) ، 1965 م