سلوك سيد الشهداء عليهالسلام وسيرته الأخلاقية تعكس سمو نفسه وتربيته في حجر جدّه محمد صلىاللهعليهوآله وأبيه علي عليهالسلام ، وتجسيده للقرآن الكريم في عمله وأخلاقه.
وقد تجسدت خصاله الكريمة وسجاياه السامية في مختلف الميادين والمواقف في ثورة الطف ، منها رفضه القاطع مبايعة يزيد ، فخرج من المدينة وامتنع عن مبايعته حتّى في أقسى الظروف التي مرت به في كربلاء من حصار وعطش ومختلف التحدّيات ، بل استقبل الموت بعزّة وشموخ ، وسقى الحرّ وجيشه طوال الطريق ، وقَبِل يوم عاشوراء توبة الحرّ.
ورفع البيعة عن أنصاره لينصرف من يشاء منهم الانصراف ، وكان يعطف على أطفال مسلم بن عقيل بعد شهادة أبيهم ، كما صبر على كل المصائب والشدائد التي واجهته في ذلك اليوم ومنها مقتل أصحابه وأهل بيته.
وعلى الرغم من كل تلك المواقف العصيبة والوحدة القاتلة والعطش الشديد ، قاتل أعداءه كالليث ولم ترهبه كثرتهم. كان يرى أنّ نهضته قائمة على مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأشار عدّة مرّات أثناء مسيره إلى كربلاء إلى هوان الدنيا وتصرّمها ، وبيّن زهده فيها ، وتحمّل في يوم الطفّ كل ما رآه من عدوّه من سوء الخلق ولؤم الطباع. وبعد استشهاده وجدوا على أكتافه آثار أكياس الطعام التي كان يحملها إلى الفقراء ، إلى غير ذلك من خصال نفسه الزكية وسمات نهضته الأخلاقية التي يمكن الإشارة إلى أهمها بالنقاط التالية :
١ ـ الإيثار :
وهو من أبرز المفاهيم والدروس المستقاة من واقعة الطف ، والايثار يعني الفداء وتقديم شخص آخر على النفس ، وبذل المال والنفس والنفيس فداءً لمن هو أفضل من ذاته. وفي كربلاء شوهد بذل النفس في سبيل الدين ، والفداء في سبيل الإمام الحسين عليهالسلام ، والموت عطشا لأجل الحسين عليهالسلام ، وأصحابه ما داموا على قيد الحياة لم يدعوا أحدا من بني هاشم يبرز إلى ميدان القتال ، إيثارا منهم على أنفسهم.
وفي ليلة عاشوراء لمّا رفع الإمام عليهالسلام عنهم التكليف لينجوا بأنفسهم ، قاموا الواحد تلو الآخر ، وأعلنوا عن استعدادهم للبذل والتضحية. يروي الشيخ المفيد رحمهالله : « أنّ الحسين عليهالسلام قال لأتباعه : ألا وإنّي لأظنّ أنّه آخر يوم لنا من هؤلاء ، ألا وإنّي قد أذنت لكم فانطلقوا جميعا في حلٍّ ليس عليكم منّي ذمام ، هذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً.
فقال له اخوته وأبناؤه وبنو أخيه وابنا عبداللّه بن جعفر : لم نفعل ذلك لنبقى بعدك؟! لا أرانا اللّه ذلك أبدا. بدأهم بهذا القول العباس بن علي رضوان اللّه عليه واتّبعته الجماعة عليه فتكلّموا بمثله ونحوه.
فقال الحسين عليهالسلام : يا بني عقيل ، حسبكم من القتل بمسلم ، فاذهبوا أنتم فقد أذنت لكم. قالوا : سبحان اللّه ، فما يقول الناس؟! يقولون إنّا تركنا شيخنا وسيّدنا وبني عمومتنا ـ خير الأعمام ـ ولم نرم معهم. بسهم ، ولم نطعن معهم برمح ، ولم نضرب معهم بسيف ، ولا ندري ما صنعوا ، لا واللّه ما نفعل ذلك ، ولكن نفديك أنفسنا وأموالنا وأهلونا ، ونقاتل معك حتى نرد موردك ، فقبّح اللّه العيش بعدك.
وقام إليه مسلم بن عوسجة فقال : انخلّي عنك ولمّا نعذر إلى اللّه سبحانه في أداء حقّك؟ أما واللّه حتى أطعن في صدورهم برمحي ، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة ، واللّه لا نخليك حتى يعلم اللّه أن قد حفظنا غيبة رسول اللّه صلىاللهعليهوآله فيك ، واللّه لو علمت أنّي أقتل ثمّ أحيا ثمّ أحرق ثمّ أحيا ثمّ أذرى ، يفعل ذلك بي سبعين مرّة ، ما فارقتك حتى ألقى حمامي » (١).
ووقف بعض أصحاب الإمام الحسين عليهالسلام ظهيرة يوم عاشوراء ، عندما وقف لصلاة الظهر ، يقونه سهام العدو بصدورهم ، وخاض العباس نهر الفرات بشفاه عطشى ، ولما أراد تناول الماء تذكّر عطش الحسين والأطفال فلم يشرب منه ، وقال (٢) :
يا نفس من بعد الحسين هوني / وبعده لا كنت أن تكوني
هذا الحسين وارد المنون / وتشربين بارد المعين
تاللّه ما هذا فعال ديني
ورمت زينب عليهاالسلام بنفسها في الخيمة المشتعلة بالنار لإنقاذ الإمام زين العابدين منها ، وحينما صدر الأمر في مجلس يزيد بقتل الإمام السجّاد عليهالسلام فدته زينب عليهاالسلام بنفسها.
وهناك أيضا عشرات المشاهد الاُخرى التي يعتبر كل واحد منها أروع من الآخر ، وكل موقف منها يعطي درساً من دروس الايثار للأحرار ، فاذا كان المرء على استعداد للتضحية بنفسه في سبيل شخص آخر أو في سبيل العقيدة ، فهذا دليل على عمق إيمانه بالآخرة والجنّة وبالثواب الإلهي ، قال الإمام الحسين عليهالسلام في بداية مسيره إلى كربلاء : « من كان باذلاً فينا مهجته ، وموطِّنا على لقاء اللّه نفسه ، فليرحل معنا ، فإنّي راحل مصبحا إن شاء اللّه تعالى » (3).
وهذه الثقافة نفسها ـ ثقافة الإيثار ـ هي التي دفعت بعمرو بن خالد الصيداوي لأن يخاطب الحسين عليهالسلام في يوم عاشوراء قائلاً : « يا أبا عبداللّه جعلت فداك قد هممت أن ألحق بأصحابك وكرهت أن أتخلّف فأراك وحيدا بين أهلك قتيلاً. فقال له الحسين عليهالسلام : تقدّم فإنّا لاحقون بك عن ساعة. فتقدّم فقاتل حتى قتل رضوان اللّه عليه » (4).
كما أشارت زيارة عاشوراء إلى صفة الايثار التي يتحلّى بها أصحاب الحسين ، فوصفتهم بالقول : « الّذين بذلوا مُهجهم دون الحسين عليهالسلام » (5).
٢ ـ الشجاعة :
وهي الاقدام عند منازلة الخصوم وعدم تهيّب المخاطر ، واقتحام الخطوب ، وتعتبر الشجاعة من الصفات المهمّة التي تميّزت بها شخصية الإمام الحسين عليهالسلام وأصحابه وأهل بيته ، اذ نقرأ عن الاندفاع والحماس المنقطعي النظير الذي جسدوه في سوح الوغى ، والتسابق على بذل الأرواح رخيصةً فداءً للدين والمبادئ. ورسمت ملحمة كربلاء ـ منذ انطلاقها وحتى مراحلها الأخيرة ـ مشاهد تتجسد فيها معالم الشجاعة بشتى صورها .
والأمثلة على ذلك كثيرة ، فالتصميم الذي أبداه الإمام الحسين عليهالسلام في معارضة يزيد ورفض البيعة له ، وعزمه الراسخ على المسير نحو الكوفة والتصدّي لأنصار يزيد ، من أمثال ابن زياد ، وعدم انهيار معنوياته لسماع الأخبار والاوضاع التي كانت تجري في الكوفة ، واعلانه على الملأ عن الاستعداد لبذل دمه والتضحية بنفسه في سبيل إحياء الدين ، وعدم الخوف من كثرة الجيش المعادي على الرغم من كثرة عدده وعدته ، ومحاصرة هذا الجيش له في كربلاء ، مع عدم استسلامه ، والقتال العنيف الذي خاضه بعد ذلك مع جنوده واهل بيته ، وصور البطولة الفردية التي أبداها أخوه العباس ، وعلي الأكبر ، والقاسم ، وعامة أبناء علي وأبناء عقيل ، والخطب التي ألقاها الامام السجاد وزينب عليهماالسلام في الكوفة والشام وغيرها من المواقف والمشاهد البطولية تعكس بأجمعها عنصر الشجاعة الذي يعدّ من أوّليات ثقافة عاشوراء.
وعلى وجه العموم كان آل الرسول أمثلة خالدة في الشجاعة والاقدام وثبات الجنان ، وكانت قلوبهم خالية من الخوف من مواجهة الحتوف ، وكانت ساحات القتال في زمن الرسول صلىاللهعليهوآله وحروب علي عليهالسلام في الجمل وصفين والنهروان شاهدا يعكس شجاعة آل البيت عليهمالسلام.
وقد اعتبر الامام السجاد عليهالسلام الشجاعة من جملة الخصال البارزة التي منَّ اللّه بها على هذه الأسرة الكريمة ، وذلك لما قال في خطبته في قصر الطاغية يزيد : « فضلنا أهل البيت بستّ خصال : فضلنا بالعلم والحلم والشجاعة والسماحة والمحبّة والمحلّة في قلوب المؤمنين ، وآتانا ما لم يؤت أحدا من العالمين من قبلنا ، فينا مختلف الملائكة وتنزيل الكتب » (6).
وكان لهذه الشجاعة موارد مختلفة ، فهي في مجال القول واللسان ، وكذلك في تحمّل أهوال المنازلة ومقاتلة العدو ، والإغارة الفردية على صفوف جيشه ، وكذلك في تحمّل المصائب والشدائد ، وعدم الانهيار والقبول بالدنيّة. بدليل أنّه لما اشتدّ القتال ، قال : « أما واللّه لا أجيبهم إلى شيء ممّا يريدون حتى ألقى اللّه تعالى وأنا مخضّب بدمي » (7).
حتى أنّ العدو والصديق قد أثنى على شجاعة الحسين عليهالسلام وصحبه وأهل بيته ، ألم يخاطب عمر بن سعد قومه بالقول : « الويل لكم ، أتدرون من تبارزون! هذا ابن الأنزع البطين ، هذا ابن قتال العرب ، فاحملوا عليه من كلّ جانب » (8).
وما أمر المجرم عمر بن سعد بالهجوم الشامل على أفراد جيش الإمام ورميهم بالحجارة إلاّ دليلٌ على تلك الشجاعة الفريدة.
وكنتيجة لما يتحلّى الحسين عليهالسلام وأسرته من شجاعة حصّلوا على أكبر عدد من أوسمة الشهادة ، يقول عباس محمود العقاد : « فليس في العالم أسرة أنجبت من الشهداء من أنجبتهم أسرة الحسين عدّة وقدرة ... وحسبه أنّه وحده في تاريخ هذه الدنيا الشهيد ابن الشهيد أبو الشهداء في مئات السنين » (9).
ومع أنّ الأرقام التي تذكرها المقاتل عن عدد قتلى العدو نتيجة لهجوم أصحاب الامام عليهم ، قد تكون مبالغاً فيها ، إلاّ أن الأمر الثابت الذي لا يمكن إنكاره هو الشجاعة المثيرة لهذه الثلّة المؤمنة ، التي بذلت نفسها في سبيل اللّه ، ولم تطاوعها نفسها بترك قائدها في الميدان وحده.
٣ ـ الشهامة والمروءة :
وتعتبر من المعالم الاخلاقية والنفسية البارزة لدى الحسين عليهالسلام وأنصاره ، والتي تجسدت في ملحمة عاشوراء ، وهذه النفسية التي تجعل الانسان يشمئز من الطغاة ، ويرفض الانصياع لسلطان الظلم ، ويحب الحرية والفضيلة ، ويتجنّب الغدر ونقض العهد وظلم الضعفاء ، ويدافع عنهم ، ولا يتعرض للابرياء ، ويقبل العذر ، ويقيل العثرة ، ويعترف بالحق الانساني للآخرين. هذه الأمور كلها تعتبر من معالم الشهامة والمروءة التي تجسدت على أرض الطف.
لقد رفض سيد الشهداء عليهالسلام عار البيعة ليزيد ، ولما واجه جيش الكوفة في طريق كربلاء ، رفض اقتراح زهير بن القين الذي أشار عليه بمحاربة هذه الفئة من قبل أن يجتمع إليهم سائر الجيش ، وقال عليهالسلام : « وما كنت لأبدأهم بالقتال » (10) ، وهذا نموذج رائع من شهامة الحسين عليهالسلام.
ولما لقي جيش الحر وقد أضرّ بهم العطش أمر بسقيهم الماء هم وخيلهم ، على الرغم من أنهم جاءوا لمجابهته واغلاق الطريق عليه ، وكان من بينهم علي بن الطعان المحاربي الذي ما كان قادرا على شرب الماء من فرط عطشه ، ويروي لنا القضية بنفسه ، قال : « كنت مع الحُرّ يومئذ فجئت في آخر من جاء من أصحابه ، فلما رأى الحسين عليهالسلام ما بي وبفرسي من العطش ، قال : أنخ الراوية. ثم قال : يابن أخي أنخ الجمل. فأنخته فقال : اشرب ، فجعلت كلما شربت سال الماء من السقاء ، فقال الحسين عليهالسلام : اخنث السقاء. أي اعطفه ، فلم أدر كيف أفعل ، فقام فخنثه فشربت ، وسقيت فرسي » (11). وهذا مثال آخر على مروءته عليهالسلام.
ولما عزم الحر الرياحي على مفارقة جيش عمر بن سعد والانضمام إلى معسكر الحسين عليهالسلام ، وقف الحر بين يدي الحسين عليهالسلام منكسرا معلنا توبته واستعداده للتضحية بنفسه قائلاً : هل لي من توبة؟ فقال له أبو عبد اللّه عليهالسلام : « نعم يتوب اللّه عليك ، فانزل » (12) ، وهذا نموذج آخر على مروءة الحسين عليهالسلام ، فهو يقبل عذر المعتذر ، ولا يغلق باب التوبة في وجهه.
وفي قيظ يوم عاشوراء واشتداد حر الرَّمضاء ، لما رأى الحسين عليهالسلام هجوم الجيش على خيام عياله صاح بهم يعنّفهم : « ويلكُم! إنْ لم يكن لكم دين ، وكنتم لا تخافون المعاد ، فكونوا في أمر دُنياكم أحرارا ذوي أحساب ، امنعوا رحلي وأهلي من طغامكم وجهّالكم » (13).
وهذا أيضا شاهد آخر على مروءته وشهامته ، فهو ما دام حيّا لم يكن قادرا على رؤية العدو وهو يهجم على عياله ، وقد شوهدت هذه الغيرة والحمية من الامام الحسين عليهالسلام وأنصاره في ساحة القتال يوم العاشر من المحرّم.
وهذه السجية قد استقاها من أبيه أمير المؤمنين عليهالسلام الذي غلب جيش الشام في صفين ، وانتزع منه شريعة الفرات ، ثم قال لجنده : « خلّوا بينهم وبينه » (14) ، ولكن لؤم معاوية الذي ورثه يزيد دعاه إلى منع الماء عن جيش الحسين بن علي عليهالسلام.
روى الشيخ الصدوق قدسسره أنّ عبيداللّه بن زياد كتب إلى عمر بن سعد : « إذا أتاك كتابي هذا ، فلا تمهلنّ الحسين بن علي ، وخذ بكظمه ، وحُلْ بين الماء وبينه » (15).
فالحسين عليهالسلام قد ورث الشهامة عن علي عليهالسلام ، ويزيد ورث الخسة عن معاوية.
٤ ـ العزة ورفض الذّل :
وهي من أهم الدروس الأخلاقية التي ميّزت نهضة كربلاء ، ومن أوّليات ثقافة عاشوراء. قال الحسين عليهالسلام : « موت في عز خيرٌ من حياة في ذل » (16).
وقال عليهالسلام لما عرضوا عليه الاستسلام والبيعة : « لا واللّه لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ، ولا أفرّ فرار العبيد » (17).
وفي كربلاء حينما خيّروه بين البيعة أو القتال ، قال : « ألا وإنّ الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين؛ بين السلّة والذلّة ، وهيهات منّا الذلّة ، يأبى اللّه ذلك لنا ورسوله والمؤمنين وحجور طابت وطهرت وأنوف حمية ونفوس أبية من أن نُؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام » (18).
وعند اندلاع معركة الطفّ كان يكرّ على صفوف العدو مرتجلاً (19) :
القتل أولى من ركوب العار / والعار أولى من دخول النار
لقد كانت نهضة كربلاء درسا عمليا من دروس العزة والكرامة ورفض الذل ، واستلهم الثوار منها روح المقاومة والتحرّر.
٥ ـ الصبر :
ويعني الثبات والصمود والمقاومة ، ومجابهة العوامل التي تعيق الإنسان عن بذل مساعيه في سبيل هدفه ، إضافة الى تحمّل المصاعب والشدائد في سبيل أداء الواجب وإحراز النصر.
وقد رسمت واقعة كربلاء أجمل صور الصمود والثبات في سبيل العقيدة وتحمّل الصعاب ، حتى أضحت سببا لمجد وخلود تلك الملحمة ، وكما قال أمير المؤمنين عليهالسلام : « الصبر يهوّن الفجيعة » (20) .
فقد هانت بعين الحسين عليهالسلام هذه المصيبة الجسيمة بفعل الصبر والصمود الذي تجسد في يوم عاشوراء ، لقد أنزل اللّه تعالى عليه الصبر بقدر التحديات والمصائب التي ألّمت به ، وصدق الإمام الصادق عليهالسلام « إن اللّه ينزل الصبر على قدر المصيبة » (21).
وفي ملحمة كربلاء كان الصبر مشهودا في القول والعمل لدى سيد الشهداء عليهالسلام وأهل بيته وأصحابه الصابرين الأوفياء ، فلما أراد الخروج من مكة إلى العراق ألقى خطبة قال فيها : « رضى اللّه رضانا أهل البيت ، نصبر على بلائه ويوفينا أجر الصابرين » (22).
وخاطب أصحابه في أحد المنازل على طريق العراق ليلفت أنظارهم الى خطورة الموقف وصعوبة ما هم مقبلين عليه فقال : « أيها الناس ، من كان منكم يصبر على حدّ السّيف وطعن الأسنّة فليقم معنا ، وإلاّ فلينصرف عنّا » (23) .
ولكن أصحابه لم يبدر منهم إلاّ ما أحبّ هو من الصبر عند لقاء الأقران ، وتحمّلوا شدّة العطش ، وضراوة هجوم العدو ، نتيجة الصبر والثبات على الشهادة على الرغم من قلّة الناصر ، بل كانوا في غاية الفرح والسرور ، حتى ان بعضهم كان يمازح في تلك الساعة ، كما سيأتي. وكان الحسين عليهالسلام يكرر على أسماعهم ويذكرهم بأهمية الصبر ، قائلاً : « صبرا يا بني عمومتي ، صبرا يا أهل بيتي ، فواللّه لا رأيتم هوانا بعد هذا اليوم أبدا » (24).
وعلّم درس الصبر للنساء لعلمه باتصافهن بالرّقة وسرعة الجزع عند المصيبة ، فقد جمع أخته زينب عليهاالسلام ونساءه ودعاهن الى الصبر والتحمل قائلاً : « يا أختاه تعزّي بعزاء اللّه ، فإنّ سكّان السماوات يفنون ، وأهل الأرض كلّهم يموتون ، وجميع البرية يهلكون ، ثمّ قال : يا أختاه يا أمّ كلثوم ، وأنت يا زينب وأنت يا فاطمة وأنت يا رباب ، انظرن إذا أنا قتلت فلا تشققن عليَّ جيبا ، ولا تخمشن عليَّ وجها ، ولا تقلن هجرا » (25).
وكانت كل لحظة من وقائع الحادثة تعبيرا عن المقاومة والثبات ، وحتّى الكلمات الأخيرة التي تلفّظ بها سيد الشهداء حين سقط على الأرض إنّما تعكس هذه الروح من الصبر والصمود ، إذ قال مخاطبا ربّه : « صبرا على قضائك ، ولا معبود سواك ، يا غياث المستغيثين » (26).
٦ ـ الوفاء :
الوفاء معناه التمسك بالعهد والثبات على الميثاق والعمل بالواجب الانساني والاسلامي في ازاء شخص آخر جدير بذلك. وهذه الخصلة من أولويات معجم عاشوراء ، ولها في قاموس الشهداء مكانة رفيعة ، وهي من أشرف الخصال ودليل على المروءة. قال علي عليهالسلام : « أشرف الخلائق الوفاء » (27).
وكانت عاشوراء ساحة وفاء من جهة ، وغدر من جهة اُخرى ، وضرب العباس بن علي عليهالسلام مثلاً في الوفاء ، فقد رفض كتاب الأمان الذي عرضه شمر بن ذي الجوشن عليه. ولم يترك أخاه الحسين وحيدا ، وقدم أخوته الثلاثة فداءً له.
وعلى الضدّ من موقف أهل الكوفة الذين كتبوا الى الحسين عليهالسلام يدعونه ، ولما جاءهم غدروا به ، وهبّوا لقتاله ، وقف آخرون على العهد وضحّوا بأنفسهم فداءً للحسين عليهالسلام ، وهم الذين أشارت اليهم الزيارة : « السلام على الأرواح التي حلّت بفِنائك » (28).
وأشار الحسين عليهالسلام في خطبه وكلماته على طول الطريق الى غدر وخذلان وغرور ونكث أهل الكوفة ، ونقضهم العهد ، وخلعهم البيعة ، وعاب فيهم هذه الصفات. أما الحسين عليهالسلام فقد وفى بعهده مع ربّه ، وكثيرا ما تطالعنا الزيارات بعبارات ، من قبيل : « أشهد أنك بلغت ونصحت ووفيت وأوفيت » (29).
وجاء في زيارة العباس عليهالسلام : « وأُشهد اللّه أنّك مضيت على ما مضى عليه البدريون والمجاهدون في سبيل اللّه ... فجزاك اللّه أفضل الجزاء ، وأكثر الجزاء ، وأوفر الجزاء ، وأوفى جزاء ممن وفى ببيعته ، واستجاب له دعوته ، وأطاع ولاة أمره » (30).
صفوة القول وصفت ثورة الحسين عليهالسلام بأنها قامت على أساس الأخلاق والمروءة. وكانت جهادا للقضاء على الرذيلة ونشر الفضيلة. وكانت تنتهج الأسلوب الشريف عند مواجهة الخصم ، وتحلّى أفرادها بالغيرة والشجاعة والتضحية ، والصبر عند الشدائد ، والثبات على طريق الحق.
1- الإرشاد٢ : ٩١ ـ ٩٢.
2- ينابيع المودّة ، القندوزي ٢ : ١٦٥ / الباب الحادي والستّون.
3- كشف الغمّة / الإربلي ٢ : ٣٣٩ ، دار الأضواء ، بيروت ، ط٢ ـ ١٤٠٥ ه ، اللهوف : ٣٨.
4- اللهوف : ٦٥.
5- اللهوف : ٥ ، مصباح المتهجّد / الشيخ الطوسي : ٧٧٦ ، مؤسّسة فقه الشيعة ، بيروت ـ ط١ ـ ١٤١١ ه ، كامل الزيارات / ابن قولويه : ٣٢٢ ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، قم ، ط١ ـ ١٤١٧ هـ.
6- مناقب آل أبي طالب٤ : ١٦٨.
7- اللهوف : ٦١.
8- مناقب آل أبي طالب ٤ : ١١٠.
9- المجموعة الكاملة ـ الحسين عليهالسلام أبو الشهداء٢ : ٢٨٠.
10- الإرشاد٢ : ٨٤.
11- الإرشاد ٢ : ٧٨.
12- لواعج الأشجان : ٢١٩.
13- تاريخ الطبري ٦ : ٢٤٤ ، حوادث سنة إحدى وستين.
14- شرح ابن أبي الحديد ٣ : ٣١٩.
15- الأمالي : ٢٢٠ ، المجلس الثلاثون.
16- مناقب آل أبي طالب ابن شهر آشوب ٤ : ٢٢٤.
17- الإرشاد ٢ : ٩٨.
18- اللهوف : ٥٩.
19- اللهوف : ٧٠.
20- عيون الحكم والمواعظ / علي بن محمد الليثي الواسطي : ٣٣ ، دار الحديث ط١ ـ ١٣٧٦ ش.
21- مستطرفات السرائر / ابن ادريس الحلي : ٥٥٠ ، مؤسسة النشر الإسلامي ، ط ٢ ـ ١٤١١ه ، من لايحضره الفقيه / الشيخ الصدوق ٤ : ٤١٦ ، جامعة المدرسين ، قم ط٢ ـ ١٤٠٤ ه.
22- مثير الأحزان : ٢٩ ، واللهوف : ٣٨.
23- ينابيع المودّة ، القندوزي ٣ : ١٦٣ / الباب الحادي والستون.
24- اللهوف : ٦٨.
25- اللهوف : ٥٠.
26- ينابيع المودّة / القندوزي ٢ : / ١٧٤ الباب الحادي والستون.
27- غرر الحكم : ٢٨٥٩ ، عيون الحكم والمواعظ / الليثي الواسطي : ١١٧.
28- كامل الزيارات / ابن قولويه : ٣٧٦ ، مؤسّسة النشر الإسلامي ط١ ـ ١٤١٧ هـ.
29- الكافي / الكليني ٤ : ٥٧٦ ، دار الكتب الإسلامية ط٣ ـ ١٣٦٧ ه.
30- كامل الزيارات / ابن قولويه : ٤٤١.