سخرت قوى الخير الإعلام لنشر المبادئ الحقة ، والدعوات الصادقة ، وإزالة الكثير من الشبهات العالقة في عقول الناس ، وبالمقابل استغلته قوى الشر من أجل نشر مبادئها الهدّامة وتحقيق مآربها الشريرة ، فأقامت سياجا هائلاً من التعتيم على مبادئ الحق والعدل ، وشنت الحملات التشهيرية على رموزه ووضعتهم ـ زورا وبهتانا ـ في قفص الاتهام من أجل أن ينفضّ الناس من حولهم.
والإمام الحسين عليهالسلام ـ كما هو معروف ـ من الذين آمنوا بدور الإعلام الرّسالي الهادف في فضح وتعرية قوى الشر والعدوان ودحض أباطيلهم وكشف دخائل نفوسهم ، كما آمن بأنّ كلمة الحق الصادقة لابد وأن تجد لها في أُذن الباطل وقعا ، لذلك عمل ـ بلا كلل أو ملل ـ على الجهر بدعوته بعد أن رأى أن الحق لا يُعمل به والباطل لا يُتناهى عنه ، وبعد عدم اقتناعه بشرعية الحكم وصلاحية القائمين عليه ، فأخذ يُلقي حججه المدوّية المجلجلة فيقرع بها آذان أعدائه ويفحم بها ألسنتهم ، في وقت كان السكوت فيه من ذهب ، لأن الطرف المعادي كان يعتمد منطق القوة والتضليل وقلب الحقائق ، مع ذلك سرعان ما ارتدّت سهام اليزيديين إلى نحورهم ، وانكشف ـ للقاصي والداني ـ كذب إعلامهم ، فسخط الرأي العام الإسلامي عليهم بعد مقتل الحسين عليهالسلام ، ولم يستمر يزيد بعد ذلك إلا ثلاث سنين ، بفعل الانتفاضات والثورات التي عصفت بحكم بني اُمية فقوضت كيانهم ، وأصبحوا أثرا بعد عين.
ذلك الأمر بطبيعة الحال لم يتم صدفة أو ينطلق من فراغ ، بل حدث كل ذلك بفعل الإعلام الحسيني الهادف ، وكذلك مواقف العقيلة زينب (سلام اللّه عليها) وابن أخيها الإمام السجاد عليهالسلام وباقي السبايا ، الذين شهدوا معركة كربلاء الدامية بكل فصولها وتفاصيلها ، فكشفوا للرأي العام جرائم الحرب اليزيدية ، ولم يتركوا مناسبة إلاّ واغتنموها في سبيل الكشف عن جرائم بني أمية ودحض أباطيلهم وكشف زيف إعلامهم ، الأمر الذي أحدث هزةً عنيفة في نفوس الناس ، فانقلب موقفهم المهادن مع بني اُمية رأسا على عقب ، والأسئلة التي نطرحها هنا : ماهي الأساليب الإعلامية التي اتبعها الإمام الحسين عليهالسلام من أجل إعلان دعوته ، وتبيان أحقية موقفه ومواجهة إعلام أعدائه؟ وبالمقابل ماهي الأساليب الإعلامية اليزيدية التي طوّقت بستارٍ من التضليل عقول عدد غير قليل من الناس ودفعتهم إلى محاربة الإمام الحسين عليهالسلام والفتك به بتلك القسوة والوحشية المنقطعة النظير؟!
فالبحث ـ إذن ـ يتناول الأساليب الإعلامية للجبهتين :
الإعلام الحسيني في مقابل الإعلام اليزيدي :
لقد أمعنا النظر في عدة مصادر ، واستقرأنا الأساليب الإعلامية التي اتبعها الإمام الحسين عليهالسلام ، فوجدنا انها تتمثل بصورة أساسية بالأساليب التالية :ألف ـ الاتصال الشخصي والجمعي :
يقول علماء الإعلام بانهما من أقوى الوسائل الإعلامية قديما وحديثا ، فمن خلالهما تتم مناظرة أو محادثة شخص أو مجموعة أشخاص عن طريق الاتصال المباشر ، فيحصل تماس بين المُلقي والمتلقي منه فيكون التأثير فعالاً ، وسوف أورد شواهدَ على نوعي الاتصال بعد تبيان الفارق بينهما :١ ـ الاتصال الشخصي :
ويتم عن طريق اتصال الإمام الحسين عليهالسلام بنفسه أو أحد من أهل بيته أو أصحابه بشخص آخر ، فيشرح له دواعي نهضته وبطلان ادعاءات أعدائه.ومن أمثلة ذلك : اتصال الإمام الحسين عليهالسلام بزهير بن القين ، الذي كان يتحاشى ـ كما تذكر المصادر ـ اللِّقاء به ، فكان يساير الحسين عليهالسلام لما أقبل من مكة ، ولكن اذا أراد الإمام عليهالسلام النزول في مكان اعتزله ناحية ، فلما كان في بعض الايام نزل الإمام عليهالسلام في مكان لم يجد زهير بدا من أن ينزله.
فبينما كان زهير يتغدّى مع جماعة من بني فزارة وبجيلة ، إذ أقبل رسول الحسين عليهالسلام حتى سلم ثم قال : يا زهير بن القين ، إن الحسين عليهالسلام بعثني إليك لتأتيه ، فتردّد زهير ، فقالت له زوجته : سبحان اللّه! أيبعث إليك ابن رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ثم لا تأتيه ، فلو أتيته فسمعت من كلامه.
فمضى إليه زهير بن القين ، فما لبث أن جاء مستبشرا قد أشرق وجهه! .. فأمر بفسطاطه وثقله ومتاعه فحول إلى الحسين عليهالسلام وغدا من خلّص أصحابه (١) وفوق ذلك تحول إلى وسيلة إعلامية ناطقة.
ومن الشواهد الأخرى على الاتّصالات الفردية التي قام بها الحسين عليهالسلام فقد اتّصل بعبيداللّه بن الحرّ الجعفي « وكان من أشراف أهل الكوفة ، وفرسانهم.
فأرسل الحسين إليه بعض مواليه يأمره بالمسير إليه ، فأتاه الرسول فقال : هذا الحسين بن علي يسألك أن تصير إليه. فقال عبيداللّه : واللّه ما خرجت من الكوفة إلاّ لكثرة من رأيته خرج لمحاربته وخذلان شيعته ، فعلمت أنّه مقتول ولا أقدر على نصره ، فلست أحبّ أن يراني ولا أراه. فانتعل الحسين حتى مشى ، ودخل عليه قبّته ، ودعاه إلى نصرته.
فقال عبيداللّه : واللّه إنّي لأعلم أنّ من شايعك كان السعيد في الآخرة ، ولكن ما عسى أن أُغني عنك ، ولم أخلف لك بالكوفة ناصرا ، فأنشدك اللّه أن تحملني على هذه الخطّة ، فإنّ نفسي لم تسمح بعد بالموت ، ولكن فرسي هذه الملحقة واللّه ما طلبت عليها شيئا قطّ إلاّ لحقته ، ولا طلبني وأنا عليها أحد قط إلاّ سبقته ، فخذها فهي لك ، قال الحسين : أما إذا رغبت بنفسك عنّا فلا حاجة لنا إلى فرسك » (٢).
٢ ـ الاتصال الجمعي :
وذلك من خلال مخاطبة الإمام الحسين عليهالسلام أو أحد أصحابه للجيش اليزيدي في عدة مواقف ، الأمر الذي دفع بقادة هذا الجيش أن يصدروا أوامر من أجل إحداث الضجيج والصياح والجلبة والحركة ليحجبوا كلامه عن أسماع المحاربين ، وهذا أسلوب يشبه نوعا ما التشويش الإذاعي الذي تتبعه بعض الحكومات في أوقات الحروب والأزمات في وقتنا الحاضر ، وكانت السلطات اليزيدية تظهر توجسا واضحا من النداءات والخطب والاتصالات التي يلقيها أو يقوم بها الإمام الحسين عليهالسلام وأصحابه ، والتي أحدثت تأثيرا واضحا على عقول ومواقف بعض أفراد الجيش اليزيدي ، فالتحقوا بجبهة الحسين عليهالسلام .ومنهم كبار الضباط أمثال : الحر بن يزيد الرياحي. وكشاهد على ذلك النوع من الاتصال ما روي انه « لما ضيقوا على الحسين عليهالسلام حتى نال منه العطش ومن أصحابه ، قام عليهالسلام واتكأ على قائم سيفه ونادى بأعلى صوته ، فقال : انشدكم اللّه هل تعرفون أن جدّي رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ؟ قالوا : اللّهم نعم.
قال : انشدكم اللّه هل تعلمون أن أبي علي بن أبي طالب؟ قالوا : اللّهم نعم. قال : انشدكم اللّه هل تعلمون أن أمي فاطمة الزهراء بنت محمد المصطفى صلىاللهعليهوآله ؟ قالوا : اللّهم نعم .. إلى أن قال : فبم تستحلون دمي وأبي صلوات اللّه عليه الذائد عن الحوض يذود عنه رجالاً كما يُذاد البعير الصادر عن الماء ..؟ قالوا : قد علمنا ذلك كله! ونحن غير تاركيك حتى تذوق الموت عطشا!! » (3).
وقد استمر الحسين عليهالسلام في اتصالاته وإلقاء خطبه المتتابعة على الجمع المعادي ، وكان يطمح بأن تتحرك ضمائرهم ويزيل الصدأ عن قلوبهم ، فرمى بآخر سهم من سهام الدعوة قبل أن يرمي بسهم واحد من سهام القتال.
وفي هذا الصدد كانت للبطل المجيد زهير بن القين كلمات في أهل الكوفة أمضى من السيوف والرّماح حيث تصيب ، فركب فرسه وتعرض لهم قائلاً : « يا أهل الكوفة! نذار لكم من عذاب اللّه نذار ، ان حقا على المسلم نصيحة أخيه المسلم ، ونحن حتى الآن أخوة على دين واحد وملّة واحدة ما لم يقع بيننا وبينكم السيف ، وأنتم للنصيحة منّا أهل ، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة وكنا أمة وأنتم أمة ، إن اللّه قد ابتلانا وإيّاكم بذرية نبيه محمد صلىاللهعليهوآله لينظر ما نحن وأنتم عاملون ، إنّا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية عبيداللّه بن زياد ، فانكم لا تدركون منهما إلاّ بسوء عمر سلطانهما كلّه ، ليسملان أعينكم ، ويقطعان أيديكم وأرجلكم ، ويمثلان بكم ، ويرفعانكم على جذوع النخل ، ويقتلان أماثلكم وقراءكم أمثال حجر بن عدي وأصحابه وهانى ء بن عروة وأشباهه » (4).
ب ـ الرّسل والمراسلات :
وهما وسيلتان إعلاميتان تمكّن الإمام الحسين عليهالسلام من خلالهما من إيصال صوته وتبيان موقفه إلى عدد من زعماء الأقاليم ووجوه القوم ، فقد كتب إلى جماعة من أشراف البصرة كتابا مع مولى له اسمه سليمان ويكنى أبا رزين ، يدعوهم فيه إلى نصرته ولزوم طاعته منهم : يزيد بن مسعود النهشلي ، والمنذر ابن الجارود العبدي ، جاء في بعض فقراته : « أنا أدعوكم إلى كتاب اللّه وسنّة نبيّه صلىاللهعليهوآله ، فإن السنّة قد أميتت ، وإنّ البدعة قد أحييت ، وإن تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد » (5).تقول المصادر التاريخية بأن أنصار الحسين عليهالسلام في البصرة ، قد استجابوا لدعوته هذه حتى أن أبا خالد يزيد بن مسعود النهشلي قد كتب إلى الإمام الحسين عليهالسلام كتابا جاء فيه : « .. فأقدم سعدت بأسعد طائر ، فقد ذلّلت لك أعناق بني تميم ، وتركتهم أشد تتابعا في طاعتك من الإبل الظماء لورود الماء يوم خامسها وكضّها ، وقد ذللت لك بني سعد وغسلت درن صدورها بماء سحابة مزن حين استهل برقها فلمع » فلما قرأ الحسين عليهالسلام الكتاب قال : « مالك آمنك اللّه يوم الخوف وأعزك وأرواك يوم العطش الأكبر » (6). فلما تجهز المشار إليه للخروج إلى الحسين عليهالسلام بلغه قتله قبل أن يسير!.
كما أجاب الإمام عليهالسلام على الكتب المتواترة التي تدفقت إليه كالسيول من أهل الكوفة ، يقول أرباب المقاتل بأنه قد ورد على الحسين عليهالسلام منها في وقت واحد ستمائة كتاب! ثم تواترت الكتب حتى اجتمع عنده منها في نوب متفرقة اثني عشر ألف كتاب (7).
وبعض تلك الكتب ورد عليه من أقطاب الكوفة. فعلى سبيل المثال : قدم عليه هاني بن هاني السبيعي ، وسعيد بن عبداللّه الحنفي ، بكتاب هو آخر ما ورد على الحسين عليهالسلام من أهل الكوفة وفيه : « بسم اللّه الرحمن الرحيم ، للحسين بن علي أمير المؤمنين أما بعد : فإنّ الناس ينتظرونك لا رأي لهم غيرك فالعَجَلْ العَجَلْ يابن رسول اللّه ، فقد اخضرّت الجنات ، وأينعت الثمار ، وأعشبت الأرض ، وأورقت الأشجار ، فاقدم علينا إذا شئت ، وإنّما تُقدم على جند مجندة لك. والسلام عليك ورحمة اللّه وعلى أبيك من قبلك.
فقال الحسين عليهالسلام لهاني بن هاني السبيعي ، وسعيد بن عبداللّه الحنفي : خبِّراني من اجتمع على هذا الكتاب الذي كتب به إليَّ معكما؟ فقالا : يا بن رسول اللّه شبث بن ربعي ، وحجار بن أبجر ، ويزيد بن الحارث ، ويزيد بن رويم ، وعروة بن قيس ، وعمرو بن الحجاج ، ومحمد بن عمير بن عطارد » (8).
وهؤلاء من كبار رجالات الكوفة وأهل الحلّ والعقد فيها.
وقد كان مسلم بن عقيل حيث تحول إلى دار هانئ بن عروة قد بايعه ثمانية عشر ألفا ، وقد كتب إلى الإمام الحسين عليهالسلام : « أما بعد ، فإنّ الرائد لا يكذب أهله ، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفا ، فعجِّل الإقبال حين يأتيك كتابي » (9).
ولمّا تنصّلوا من بيعتهم خاطبهم الحسين عليهالسلام قائلا : « أيّها الناس إنها معذرة إلى اللّه عزّ وجل وإليكم ، إنّي لم آتكم حتى أتتني كتبكم ، وقَدِمَت عليّ رسلكم : أن اقدم علينا ... » (10).
وهنا يقتضي التنوية على أن هناك من يرى بأن هذه الكتب والرسائل هي عبارة عن مكيدة يزيدية للإيقاع بالحسين عليهالسلام في كمين بالعراق.
وفي هذا الخصوص يقول المحامي أحمد حسين يعقوب : « فليس معقولاً أن يبايع أربعون ألفا اليوم ويتنكروا غدا لبيعتهم فلا يثبت أحد منهم على الإطلاق!! والمعقول الوحيد أن البيعة قد كانت بالإتفاق مع دولة الخلافة ، مقابل جُعل للمبايعين ، وإن تنصّل المبايعين من بيعتهم قد تمَّ أيضا بالإتفاق مع دولة الخلافة!! وهو مايعرف بلغة المخابرات المعاصرة بالاختراق!! حيث ينظمّ إلى التنظيم المراد اختراقه مجموعة من العيون تتظاهر بعضويتها لهذا التنظيم ، وتنقل ماتسمعه ، أو تتدخل بمشاريعه!.
لقد اكتشف أهل الكوفة مكيدة الكتب والرسائل التي أُرسلت إلى الإمام الحسين عليهالسلام ، وأنها من تدبير الدولة لغايات استدراج الإمام إلى المكان الذي تريده!! ثم إنه لن يجرؤ أحد منهم على الإعلان عن عدم موالاته لدولة الخلافة ، لأن هذا الإعلان يؤدي إلى قطع العطاء ، ويؤدي إلى الموت أيضا! ولن يجرؤ أحد منهم على الإعلان عن ولائه لعلي بن أبي طالب عليهالسلام أو لأحد من أهل بيته ، لأن عقوبة هذا الإعلان هي الموت وهدم الدار ، وهذه العقوبة كانت سارية قبل قدوم مسلم وبعد موته ، مما يؤكد أن فكرة البيعة أيضا كانت من تدابير دولة الخلافة » (11).
وأيا كان الأمر مكيدةً أم حقيقة ، فقد أرسل الحسين عليهالسلام مسلم بن عقيل عليهالسلام ابن عمه وثقته من أهل بيته ، وسلّمه رسالة موجهة إلى أهل الكوفة ، يعدهم فيها بالقبول ، فسار مسلم بن عقيل بكتاب الحسين عليهالسلام حتى وصل الكوفة ، فلما وقفوا على كتابه كثر استبشارهم بقدومه ، ثم أنزلوه في دار المختار الثقفي ، وصارت الناس تختلف إليه ، فقرأ على جمع كبير منهم كتاب الحسين عليهالسلام وهم يبكون حتى بايعه منهم ثمانية عشر ألفا كما يقول ابن طاوُس (12).
ولكن ابن زياد أخذ يزحزحهم عن مواقفهم بالتهديد والاغراء ، أو ما يطلق عليه حاليا سياسة العصا والجزرة ، فنقضوا البيعة وتفرقوا عن ابن عقيل الذي اُعتقل وقُتل بعد ذلك بصورة مروّعة!.
ج ـ استثمار موسم الحج :
بما أن موسم الحج يشكل ملتقىً إسلاميا كبيرا على مر العصور ، يجتمع فيه المسلمون الوافدون من كلّ فج عميق ، فقد استفاد منه دعاة الاصلاح والتغيير في بث الأفكار وكسب وتعبئة الأنصار. والإمام الحسين عليهالسلام بدوره قد أدرك مالهذا المكان المقدس من أهمية استثنائية بوجود بيت اللّه الذي يشكل أمانا للخائفين ، ويمنح حرية التحرك والتبليغ ، وخاصة أثناء موسم الحج الذي هو بمثابة مؤتمر إسلامي جماهيري سنوي ، يؤدي فيه المسلمون فريضة الحج ، ويتداولون فيه شؤون وشجون العالم الإسلامي.من هذا المنطلق ، توجه الحسين عليهالسلام إلى مكة لثلاث مضين من شعبان سنة ستين للهجرة ، فأقام بها باقي شعبان وشهر رمضان وشوال وذي القعدة. وأخذ خلال هذه المدة يبث فيها دواعي نهضته ويبين حقانية موقفه ، كما قام بفضح السلطة اليزيدية القائمة ، وكشف للملأ بأنها سلطة استبدادية وغير شرعية تقوم على مرتكزات انتهازية ومصلحية وقمعية ، وغدت أحاديثه على كل شفة ولسان ، وتركت آثارها على الرأي العام الإسلامي آنذاك ، فثارت ثائرة السلطة الحاكمة ، وأرادت بشتى السُبل احتواء وتحجيم ومن ثم إسكات الصوت الحسيني الهادر.
وحينما أدرك الإمام عليهالسلام ببصيرته وخبرته بأن السلطة تريد التخلص منه بمختلف الحيل ولو بالقتل في جوف الكعبة ، فخاف على حرمة الكعبة وقدسيتها من أن يُراق دمه فيها ، لذلك قرر الخروج من مكة قبل إكمال مناسك الحج ، فكان لخروجه المفاجى ء صدا إعلاميا كبيرا في أوساط المسلمين ، حتى أنه عليهالسلام لمّا سار نحو العراق ونزل بالثعلبية أتاه رجل من الكوفة يكنى ابا هرة الازدي ، فسلم عليه ثم قال : يا ابن رسول اللّه ، ما الذي أخرجك عن حرم اللّه وحرم جدك رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ؟!. فقال الحسين عليهالسلام : « ويحك يا أبا هرة ، إن بني أمية أخذوا مالي فصبرت ، وشتموا عِرضي فصبرت ، وطلبوا دمي فهربت ، وايم اللّه لتقتلني الفئة الباغية » (13).
د ـ الخطابة :
وهي وسيلة إعلامية قوية سواء قبل الإسلام أو بعده ، حيث ينقل الخطيب آراءه ومواقفه للجماهير بصورة مباشرة ، فيحدث فيهم التأثير المطلوب وخاصة إذا كان الخطيب مفوها يمتلك ناصية الفصاحة والبيان وقوة الحجة والقدرة على التأثير والإقناع ، وتأجيج المشاعر وإثارة العواطف ، وبالنتيجة سيتمكن من استمالتهم نحو قضيته.والإمام الحسين عليهالسلام كما يقول الكاتب الكبير عباس محمود العقاد : « قد أوتي ملكة الخطابة من طلاقة لسان وحسن بيان وغنة صوت وجمال إيماء » (14) لذلك استفاد من قدراته الخطابية ، فلم يترك فرصة إلاّ واغتنمها في سبيل إيصال صوته ، وكان لخطبه الأثر البالغ في زعزعة بعض أفراد الجيش المعادي عن مواقفهم والتحاق قسم منهم بمعسكره عليهالسلام ـ كما نوهنا سالفا ـ وقد استعرضنا شواهد من خطبه في فقرة الاتصال الجمعي
وهنا نلفت النظر إلى أن خطب الحسين عليهالسلام غير موجهة لأعدائه فحسب ، بل إنّ كثيرا ما خاطب أهل بيته وأصحابه ، فكانت خطبه بمثابة المصل الواقي الذي يمنحهم المناعة ضد جراثيم الدعاية اليزيدية التي تهدف إلى التشكيك بقضيتهم العادلة ، وفك عُرى التلاحم والتناصر فيما بينهم وبين قائدهم الإمام الحسين عليهالسلام. فكان ( سلام اللّه عليه ) يتبع مع أهل بيته وأصحابه مبدأ المصارحة والمكاشفة ، وهو أسلوب يقول عنه علماء الإعلام بأنه من أهم وسائل مكافحة الشائعات ، التي تكثر ـ عادة ـ أوقات الحروب والأزمات.
كان الحسين عليهالسلام يوجه خطبه أولاً إلى أصحابه بغية ترصين جبهته الداخلية وتخليصها من العناصر الدخيلة. ومن الشواهد الدالّة على ذلك أنه لما عزم على الخروج إلى العراق قام خطيبا فقال : « الحمد للّه ما شاء اللّه ، ولا قوة إلاّ باللّه ، وصلّى اللّه على رسوله ، خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة. وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخير لي مصرع أنا ملاقيه » ثم أضاف قائلاً : « من كان باذلاً فينا مهجته ، وموطّنا على لقاء اللّه نفسه ، فليرحل معنا فانني راحل مصبحا إن شاء اللّه تعالى » (15).
هذه خطبته في مستهل حركته ، أما عندما اشتدّ الخناق عليه بورود كتاب عبيد اللّه بن زياد إلى الحر الرياحي يأمره بالتضييق الشديد على الحسين عليهالسلام ، حينئذ قام بأصحابه خطيبا ، فحمد اللّه وأثنى عليه غاية الثناء ، وذكر جده المصطفى فصلى عليه ، ثم قال : « قد نزل ما ترون من الأمر ، وإن الدنيا قد تنكّرت وتغيرت وأدبر معروفها ، واستمرت حتى لم يبقَ منها إلاّ صبابة كصبابة الاناء ، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل ، ألا ترون إلى الحق لا يعمل به ، والباطل لا يتناهى عنه ، ليرغب المؤمن في لقاء اللّه ، فاني لا أرى الموت إلاّ سعادة ، والحياة مع الظالمين إلاّ برما » (16).
وكان لخطبته هذه وما سبقها تأثير فعال على عقول وقلوب الأصحاب ، فعبّروا عن عميق تأثرهم بعبارات بليغة ، استمع إلى رد فعل زهير بن القين على هذه الخطبة ، قال للحسين عليهالسلام : « قد سمعنا ـ هداك اللّه يا ابن رسول اللّه ـ مقالتك ، ولو كانت الدنيا لنا باقية وكنا فيها مخلدين لآثرنا النهوض معك على الاقامة! » (17).
هـ ـ الشعر :
لم يترك الإمام الحسين عليهالسلام وسيلة إعلامية في عصره إلاّ واستخدمها في سبيل الكشف عن زيف بني أمية وضلاهم ، بعد أن جعلوا بدعايتهم المضلّلة على القلوب أكنة ، وعلى الأسماع وقرا ، وعلى الأبصار غشاوة.فمن الضرورة بمكان أن يلجأ الحسين عليهالسلام إلى الوسائل الإعلامية السائدة والمتاحة له كالخطابة والمراسلات واللقاءات الفردية والجماعية ، وكذلك لجأ إلى الشعر كوسيلة مؤثرة في نفوس الناس ، ومن الشواهد على ذلك أنه لما قُتل مسلم ابن عقيل عليهالسلام ، استعبر الحسين عليهالسلام باكيا ، ثم قال : « رحم اللّه مسلما ، فلقد صار إلى روح اللّه وريحانه وجنته ورضوانه ، أما إنه قد قضى ما عليه وبقي ما علينا .. » ثم أنشأ يقول (18) :
فإن تكن الدنيا تعدّ نفيسة / فان ثواب اللّه أعلى وأنبلُ
وإن تكن الأبدان للموت أُنشئت / فقتل امرى ءٍ بالسيف في اللّه أفضلُ
وإن تكن الأرزاق قسما مقدّرا / فقلّة حرص المرء في السعي أجملُ
وإن تكن الأموال للترك جمعها / فما بال متروك به المرء يبخلُ
ومنها لما نزل الحسين عليهالسلام بأهل بيته وأصحابه ونزل الحرّ الرياحي قبل انضمامه لجبهة الحسين وأصحابه ناحية ، وجلس الحسين عليهالسلام يصلح سيفه ويقول (19) :
يا دهرُ أُفٍ لك من خليلِ / كم لك بالإشراق والأصيلِ
من طالبٍ وصاحبٍ قتيلِ / والدهرُ لايقنعُ بالبديلِ
وكلُ حيّ سالك سبيلِ / ما أقرب الوعد من الرحيلِ
وإنما الأمرُ إلى الجليل
ولمّا سايره الحرّ وقال له : « يا حسين إنّي أذكِّرك اللّه في نفسك ، فإنِّي أشهدُ لئن قاتلت لتُقتلنَّ ، فقال له الحسين عليهالسلام : أفبالموت تخوِّفُني؟ وهل يعدو بكم الخطبُ أن تقتلوني؟ وسأقول كما قال أخو الأَوس لابن عمّه ، وهو يُريد نصر رسول اللّه صلىاللهعليهوآله فخوّفه ابن عمّه وقال : أين تذهبُ؟ فإنّك مقتولٌ ، فقال (20) :
سأمضي فما بالموت عارٌ على الفتى / إذا ما نوى حقّا وجاهد مسلما
وآسى الرجال الصالحين بنفسه / وفارق مثبورا وباعد مجرما
فإن عشْتُ لم أندم وإن مت لم أُلَمْ / كفى بك ذُلاًّ أن تعيشَ وترغما»
كما استشهد بأبيات من الشعر عندما خاطب أهل الكوفة ، بعد أن استكبروا وأصروا على محاربته ، فبعد أن ألهبهم بسياط كلمات التأنيب والتقريع ، ومنها قوله : « تبا لكم أيتها الجماعة وترحا ، أحين استصرختمونا والهين ، فاصرخناكم موجفين ، سللتم علينا سيفا لنا في أيمانكم ، وحششتم علينا نارا اقتدحناها على عدونا وعدوكم ، فأصبحتم إلبا لأعدائكم على أوليائكم! » وبعد أن أكمل خطبته المدوية ، تمثل بأبيات فروة بن مسيك المرادي (21) :
فإن نُهزم فهزّامون قُدما / وإن نُغلب فغير مغلَّبينا
وما إن طبنا جُبن ولكن / منايانا ودولة آخرينا
إلى أن قال :
فقل للشامتين بنا أفيقوا / سيلقى الشامتون كما لقينا
ولما برز إلى القتال قرع أسماعهم بسنان بيانه قبل أن يقرعهم بحدِّ سيفه. يروي ابن شهرآشوب (22) أنّه « حمل على الميمنة وقال :
الموت خيل من ركوب العار / والعار أولى من دخول النار
ثمّ حمل على الميسرة وقال :
أنا الحسين بن علي / أحمي عيالات أبي
آليت أن لا أنثني / أمضي على دين النبي »
من جميع هذه الشواهد الشعرية يتبين لنا بأن الحسين عليهالسلام قد استخدم
الشعر كوسيلة إعلامية عبّر من خلاله عن مكنون نفسه وشكواه من أهل زمانه ، وكشف بواسطته عن عزمه على مواجهة الحقيقة المرّة ، المتمثلة بشهادته المحققة ، بعد أن أدرك بأنه يخوض معركة خاسرة من الناحية العسكرية الصرفة ، ولكنها سوف تحقق نصرا مبدئيا مؤزرا بعد حين ، وعندها سيُعاد للحق مكانته ويخسر الباطل جولته ، وهو ماحصل بالفعل بعد شهادته.
وتجدر الإشارة إلى أن الرّوايات قد تواترت على أن الحسين عليهالسلام كان ينشد الشعر ولكن لأغراض الحكمة ، يقول الأديب الكبير عباس محمود العقاد : « ولخبرته بالكلام وشهرته بالفصاحة ، كان الشعراء يرتادونه وبهم طمع في إصغائه أكبر من طمعهم في عطائه » (23).
فيما تقدم استعرضنا الأساليب الإعلامية الرئيسية ، التي اتبعها الإمام الحسين عليهالسلام من أجل إظهار دعوته وسحب البساط الإعلامي المتهرى ء من تحت أرجل أعدائه الذين صوروا للرأي العام بأنه طالب ملك ، وأنّ غايته من ثورته ليست دينية إسلامية عامَّة وإنما هي غاية شخصية ، وعندما يئس من تحقيق هدفه أبدى استعداده للخضوع والتسليم.
وتعكس هذا المظهر رواية ورد فيها « أن الحسين قال لعمر بن سعد : إذهب بي إلى يزيد أضع يدي في يده ». والذي يدلّ على كذب هذا الخبر مارواه كثير من المؤرخين الأثبات عن عقبة بن سمعان ، وكان مولىً للسيدة الرباب زوجة الإمام الحسين وهو من الرجال القليلين الذين سلموا من المذبحة في كربلاء ، فهو شاهد عيان ، قال : « صحبت الحسين من المدينة إلى مكة ، ومن مكة إلى العراق ، ولم أفارقه حتى قتل ، وسمعت جميع مخاطباته الناس إلى يوم مقتله ، فواللّه ما أعطاهم ما يتذاكر به الناس من أنه يضع يده في يد يزيد ، ولا أن يسيّروه إلى ثغر من ثغور المسلمين ، ولكنه قال : دعوني أرجع إلى المكان الذي أقبلت منه ، أو دعوني أذهب في هذه الأرض العريضة حتى ننظر إلامَ يصير إليه أمر الناس ، فلم يفعلوا » (24).
إن هذه المحاولة فشلت في تحقيق نجاح يذكر بعد أن تصدى شهود العيان لدحضها وتكذيبها.
والمحاولة الثانية هي تصوير الحسين وأنصاره للرأي العام بأنهم خوارج ، أو أنهم بغاة خرجوا على الشرع والشرعية المتمثلة بيزيد بن معاوية ، وتمرَّدوا على إمامهم ، وشقوا عصا الطاعة ، وشتَّتوا الجماعة. ولقد حاول ابن زياد منذ وصل إلى الكوفة وباشر بقمع حركة مسلم بن عقيل ، أن يترك في أذهان الناس انطباعا بأن الحركة هي من صنع الذين خرجوا على الشرعية. ولاشك في أن المساعي المبذولة لطبع ثورة الحسين بهذا الطابع قد غدت أكثر جدّيَّة وكثافة لأجل تطويق ردود الفعل السلبية لدى الجماهير. ولم تفلح هذه المحاولة في كسب تصديق الجماهير ، وبدلاً من أن توضع ثورة الحسين خارج الشرعية ، فقد وضع النظام الأموي برمته خارج الشرعية ورفضته أعداد متزايدة من الناس بعد أن وعت بفعل النهضة الحسينية مدى بعده عن الصدق في دعواه تمثيل الإسلام.
المصادر :
1- روضة الواعظين / الفتال النيسابوري : ١٧٨ ، منشورات الشريف الرضي ، قم ، تحقيق : السيد محمد مهدي السيد حسن الخرسان ، مقتل الحسين / أبو مخنف : ٧٤.
2- الأخبار الطوال / الدينوري : ١٨٨.
3- اللهوف في قتلى الطفوف / السيد ابن طاوُس : ٥٢ ـ ٥٣.
4- تاريخ الطبري ٦ : ٢٢٩ ، حوادث سنة إحدى وستين ، البداية والنهاية / ابن كثير ٨ : ١٩٤.
5- تاريخ الطبري ٦ : ١٨٦ ، حوادث سنة ستين.
6- اللهوف : ٢٨.
7- اللهوف : ٢٤.
8- اللهوف : ٢٤ ـ ٢٥.
9- تاريخ الطبري ٦ : ١٩٧ ، حوادث سنة ستين.
10- تاريخ الطبري ٦ : ٢١٤ ، حوادث سنة ستين.
11- كربلاء الثورة والمأساة / المحامي أحمد حسين يعقوب : ٩١.
12- اللهوف / السيد ابن طاوُس : ٢٥.
13- اللهوف / السيد ابن طاوُس : ٤٣.
14- المجموعة الكاملة لأعمال العقّاد ـ الحسين أبو الشهداء ٢ : ١٩١ ، دار الكتاب اللبناني ، ط١ ـ ١٩٧٤ م.
15- اللهوف : ٣٨.
16- مناقب آل أبي طالب ٤ : ٦٨.
17- اللهوف : ٤٥.
18- مثير الأحزان : ٣٢.
19- اللهوف : ٤٩.
20- الإرشاد ٢ : ٨١.
21- اللهوف : ٥٩.
22- مناقب آل أبي طالب ٤ : ١١٠.
23- المجموعة الكاملة لأعمال العقاد ـ الحسين عليهالسلام أبو الشهداء ٢ : ١٩٤.
24- البداية والنهاية / ابن كثير ٨ : ١٩٠ ، دار إحياء التراث العربي ، ط ١ ـ ١٤٠٨هـ.