المهدوية فکر ام واقع

ليس المهديّ تجسيداً لعقيدةٍ إسلاميةٍ ذات طابعٍ دينيّ فحسب ، بل هو عنوان لطموحٍ اتّجهت إليه البشرية بمختلف أديانها ومذاهبها ، وصياغة لإلهام فطريّ أدرك الناس من خلاله - على الرغم من تنوّع عقائدهم ووسائلهم إلى الغيب - أنّ للإنسانية يوماً موعوداً على
Monday, December 5, 2016
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
المهدوية فکر ام واقع
 المهدوية فکر ام واقع

 





 

ليس المهديّ تجسيداً لعقيدةٍ إسلاميةٍ ذات طابعٍ دينيّ فحسب ، بل هو عنوان لطموحٍ اتّجهت إليه البشرية بمختلف أديانها ومذاهبها ، وصياغة لإلهام فطريّ أدرك الناس من خلاله - على الرغم من تنوّع عقائدهم ووسائلهم إلى الغيب - أنّ للإنسانية يوماً موعوداً على الأرض ، تُحقّق فيه رسالات السماء بمغزاها الكبير وهدفها النهائي ، وتجد فيه المسيرة المكدودة للإنسان على مرّ التأريخ استقرارها وطمأنينتها بعد عناءٍ طويل .
بل لم يقتصر الشعور بهذا اليوم‏ الغيبي والمستقبل المنتظر على المؤمنين دينياً بالغيب ، بل امتدّ إلى غيرهم‏ أيضاً ، وانعكس حتى على أشدّ الإيديولوجيات والاتّجاهات العقائدية رفضاً للغيب والغيبيات ، كالمادية الجدلية التي فسّرت التأريخ على أساس التناقضات ، وآمنت بيومٍ موعود تُصفّى فيه كلّ تلك التناقضات ويسود فيه الوئام‏ والسلام .
وهكذا نجد أنّ التجربة النفسية لهذا الشعور التي مارستها الإنسانية على مرّ الزمن من أوسع التجارب النفسية وأكثرها عموماً بين أفراد الإنسان . وحينما يدعم الدين هذا الشعور النفسي العام ، ويؤكّد أنّ الأرض في نهاية المطاف ستمتلئ قسطاً وعدلاً بعد أن مُلِئت ظلماً وجوراً(ورد في الحديث الشريف : « لو لم يبقَ من الدهر إلّايومٌ لَبعَثَ اللََّهُ رجلاً من أهل بيتي يملؤها عدلاً كما مُلئت جوراً »)(1) يعطي لذلك الشعور قيمته الموضوعية ويحوِّله إلى إيمانٍ حاسمٍ بمستقبل المسيرة الإنسانية ، وهذا الإيمان ليس مجرّد مصدر للسلوة والعزاء فحسب ، بل مصدر عطاءٍ وقوة .
فهو مصدر عطاء ؛ لأنّ الإيمان بالمهديِّ إيمان برفض الظلم والجور حتى وهو يسود الدنيا كلّها ، وهو مصدر قوةٍ ودفع لا تنضب ؛ لأنّه بصيص نورٍ يقاوم اليأس في نفس الإنسان ، ويحافظ على الأمل المشتعل في صدره مهما ادلهمّت الخطوب وتعملق الظلم ؛ لأنّ اليوم الموعود يثبت أنّ بإمكان العدل أن يواجه عالماً مليئاً بالظلم والجور ، فيزعزع ما فيه من أركان الظلم ويقيم بناءه من جديد ، وأنّ الظلم مهما تجبّر وامتدّ في أرجاء العالم وسيطر على مقدّراته فهو حالة غير طبيعية ولا بدّ أن ينهزم . وتلك الهزيمة الكبرى المحتومة للظلم وهو في قمّة مجده تضع الأمل كبيراً أمام كلِّ فردٍ مظلوم وكلّ اُمةٍ مظلومةٍ في القدرة على تغيير الميزان وإعادة البناء .

المهدي ، من الفكرة إلى الواقع :

وإذا كانت فكرة المهديّ أقدم من الإسلام وأوسع منه فإنّ معالمها التفصيلية التي حدّدها الإسلام جاءت أكثر إشباعاً لكلّ الطموحات التي انشدّت إلى هذه الفكرة منذ فجر التأريخ الديني ، وأغنى عطاءاً وأقوى إثارةً لأحاسيس المظلومين والمعذَّبين على مرّ التأريخ ؛ وذلك لأنّ الإسلام حوّل الفكرة من غيبٍ إلى واقع ، ومن مستقبلٍ إلى حاضر ، ومن التطلّع إلى منقذٍ تتمخّض عنه الدنيا في المستقبل البعيد المجهول إلى الإيمان بوجود المنقذ فعلاً ، وتطلّعه مع المتطلّعين إلى اليوم الموعود ، واكتمال كلّ الظروف التي تسمح له بممارسة دوره العظيم .
فلم يعد المهديّ فكرةً ننتظر ولادتها ، ونبوءةً نتطلّع إلى مصداقها ، بل واقعاً قائماً ننتظر فاعليته ، وإنساناً معيّناً يعيش بيننا بلحمه ودمه ، نراه ويرانا ، ويعيش مع آمالنا وآلامنا ، ويشاركنا أحزاننا وأفراحنا ، ويشهد كلّ ما تزخر به الساحة على وجه الأرض من عذاب المعذّبين وبؤس البائسين وظلم الظالمين ، ويكتوي بكلّ ذلك من قريبٍ أو بعيد ، وينتظر بلهفةٍ اللحظة التي يُتاح له فيها أن يمدَّ يده إلى كلّ مظلوم وكلّ محروم وكلّ بائس ويقطع دابر الظالمين .
وقد قُدِّر لهذا القائد المنتظر أن لا يعلن عن نفسه ، ولا يكشف للآخرين حياته على الرغم من أ نّه يعيش معهم انتظاراً للَّحظة الموعودة .
ومن الواضح أنّ الفكرة بهذه المعالم الإسلامية تُقرّب الهوّة الغيبية بين المظلومين كلّ المظلومين والمنقذ المنتظر ، وتجعل الجسر بينهم وبينه في شعورهم النفسي قصيراً مهما طال الانتظار .
ونحن حينما يراد منّا أن نؤمن بفكرة المهدي بوصفها تعبيراً عن إنسانٍ حيّ محدّدٍ يعيش فعلاً كما نعيش ويترقّب كما نترقّب يراد الإيحاء إلينا بأنّ فكرة الرفض المطلق لكلّ ظلمٍ وجورٍ التي يمثّلها المهدي تجسّدت فعلاً في القائد الرافض المنتظر ، الذي سيظهر وليس في عنقه بيعة لظالم ، كما في الحديث‏(2) ، وأنّ‏ الإيمان به إيمان بهذا الرفض الحيّ القائم فعلاً ومواكبة له .
وقد ورد في الأحاديث الحثّ المتواصل على انتظار الفرج ، ومطالبة المؤمنين بالمهدي أن يكونوا بانتظاره‏(3) .
وفي ذلك تحقيق لتلك الرابطة الروحية ، والصلة الوجدانية بينهم وبين القائد الرافض وكلّ ما يرمز إليه من قيم ، وهي رابطة وصلة ليس بالإمكان إيجادها ما لم يكن المهدي قد تجسّد فعلاً في إنسانٍ حيّ معاصر .
وهكذا نلاحظ أنّ هذا التجسيد أعطى الفكرة زخماً جديداً ، وجعل منها مصدر عطاءٍ وقوةٍ بدرجةٍ أكبر ، إضافة إلى ما يجده أيّ إنسانٍ رافضٍ من سلوةٍ وعزاءٍ وتخفيفٍ لما يقاسيه من آلام الظلم والحرمان ، حين يحسّ أنّ إمامه وقائده يشاركه هذه الآلام ويتحسّس بها فعلاً بحكم كونه إنساناً معاصراً يعيش معه ، وليس مجرّد فكرةٍ مستقبلية .

تساؤلات حول المهدي :

ولكن التجسيد المذكور أدّى‏ََ في نفس الوقت إلى مواقف سلبيةٍ تجاه فكرة المهدي نفسها لدى عددٍ من الناس الذين صعب عليهم أن يتصوّروا ذلك ويفترضوه .
فهم يتساءلون :
إذا كان المهدي يعبّر عن إنسانٍ حيّ عاصر كلّ هذه الأجيال المتعاقبة منذ أكثر من عشرة قرون ، وسيظل يعاصر امتداداتها إلى أن يظهر على الساحة فكيف‏ تأتّى لهذا الإنسان أن يعيش هذا العمر الطويل ، وينجو من قوانين الطبيعة التي تفرض على كلّ إنسانٍ أن يمرّ بمرحلة الشيخوخة والهرم في وقتٍ سابقٍ على ذلك جدّاً ، وتؤدّي به تلك المرحلة طبيعياً إلى الموت ؟ أوَليس ذلك مستحيلاً من الناحية الواقعية ؟
ويتساءلون أيضاً :
لماذا كلّ هذا الحرص من اللََّه سبحانه وتعالى على هذا الإنسان بالذات ؟ فتُعطَّل من أجله القوانين الطبيعية ، ويُفعل المستحيل لإطالة عمره والاحتفاظ به لليوم الموعود ، فهل عقمت البشرية عن إنتاج القادة الأكفاء ؟ ولماذا لا يُترك اليوم الموعود لقائدٍ يولد مع فجر ذلك اليوم ، وينمو كما ينمو الناس ، ويمارس دوره بالتدريج حتى يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً ؟
ويتساءلون أيضاً :
إذا كان المهديّ اسماً لشخصٍ محدّدٍ هو ابن الإمام الحادي عشر من أئمّة أهل البيت عليهم السلام الذي ولد سنة 256 هـ (4)وتوفّي أبوه سنة 260 هـ ، فهذا يعني أ نّه كان طفلاً صغيراً عند موت أبيه لا يتجاوز خمس سنوات ، وهي سنّ لا تكفي للمرور بمرحلة إعدادٍ فكريّ وديني كاملٍ على يد أبيه ، فكيف وبأيِّ طريقةٍ يكتمل إعداد هذا الشخص لممارسة دوره الكبير دينياً وفكرياً وعلمياً ؟
ويتساءلون أيضاً :
إذا كان القائد جاهزاً فلماذا كلّ هذا الانتظار الطويل مئات السنين ؟
أوَليس في ما شهده العالم من المحن والكوارث الاجتماعية ما يبرّر بروزه‏ على الساحة وإقامة العدل على الأرض ؟
ويتساءلون أيضاً :
كيف نستطيع أن نؤمن بوجود المهدي حتى لو افترضنا أنّ هذا ممكن ؟ وهل يسوغ لإنسانٍ أن يعتقد بصحة فرضية من هذا القبيل دون أن يقوم عليها دليل علمي أو شرعي قاطع ؟ وهل تكفي بضع روايات تُنقل عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لا نعلم مدى صحّتها للتسليم بالفرضية المذكورة ؟
ويتساءلون أيضاً بالنسبة إلى ما اُعِدّ له هذا الفرد من دورٍ في اليوم الموعود :
كيف يمكن أن يكون للفرد هذا الدور العظيم الحاسم في حياة العالم ؟ مع أنّ الفرد مهما كان عظيماً لا يمكنه أن يصنع بنفسه التأريخ ويدخل به مرحلةً جديدة ، وإنّما تختمر بذور الحركة التأريخية وجذوتها في الظروف الموضوعية وتناقضاتها ، وعظمة الفرد هي التي ترشّحه لكي يشكّل الواجهة لتلك الظروف الموضوعية ، والتعبير العملي عمّا تتطلّبه من حلول ؟
ويتساءلون أيضاً :
ما هي الطريقة التي يمكن أن نتصوّر من خلالها ما سيتمّ على يد ذلك الفرد من تحوّلٍ هائلٍ وانتصارٍ حاسمٍ للعدل ورسالة العدل على كلّ كيانات الظلم والجور والطغيان ، على الرغم ممّا تملك من سلطانٍ ونفوذ ، وما يتواجد لديها من وسائل الدمار والتدمير ، وما وصلت إليه من المستوى الهائل في الإمكانات العلمية والقدرة السياسية والاجتماعية والعسكرية ؟
هذه أسئلة قد تتردّد في هذا المجال وتقال بشكلٍ وآخر ، وليست البواعث الحقيقية لهذه الأسئلة فكرية فحسب ، بل هناك مصدر نفسيّ لها أيضاً ، وهو الشعور بهيبة الواقع المسيطر عالمياً ، وضآلة أيّ فرصةٍ لتغييره من الجذور ، وبقدر ما يبعثه الواقع الذي يسود العالم على مرّ الزمن من هذا الشعور تتعمّق الشكوك وتترادف التساؤلات .
وهكذا تؤدّي الهزيمة والضآلة والشعور بالضعف لدى الإنسان الى أن يحسّ نفسياً بإرهاقٍ شديدٍ لمجرّد تصوّر عملية التغيير الكبرى للعالم التي تفرغه من كلّ تناقضاته ومظالمه التأريخية ، وتعطيه محتوىً جديداً قائماً على أساس الحقّ والعدل ، وهذا الإرهاق يدعوه إلى التشكّك في هذه الصورة ومحاولة رفضها لسببٍ وآخر .
ونحن الآن نأخذ التساؤلات السابقة تباعاً لنقف عند كلّ واحدٍ منها وقفةً قصيرةً بالقدر الذي يتّسع له صدر قارئنا الکریم
إمكانيّة العمر الطويل للإنسان :
وبكلمة اُخرى : هل بالإمكان أن يعيش الإنسان قروناً كثيرةً كما هو المفترض في هذا القائد المنتظر لتغيير العالم ، الذي يبلغ عمره الشريف فعلاً أكثر من ألفٍ ومئةٍ وأربعين سنة ، أي حوالي 14 مرّةً بقدر عمر الإنسان الاعتيادي الذي يمرّ بكلّ المراحل الاعتيادية من الطفولة إلى الشيخوخة ؟
وكلمة « الإمكان » هنا تعني أحد ثلاثة معانٍ : الإمكان العملي ، والإمكان العلمي ، والإمكان المنطقي أو الفلسفي .
وأقصد بالإمكان العملي : أن يكون الشي‏ء ممكناً على نحوٍ يُتاح لي أو لك أو لإنسانٍ آخر فعلاً أن يحقّقه ، فالسفر عبر المحيط والوصول إلى قاع البحر والصعود إلى القمر أشياء أصبح لها إمكان عمليّ فعلاً . فهناك مَن يمارس هذه الأشياء فعلاً بشكلٍ وآخر .
وأقصد بالإمكان العلمي : أنّ هناك أشياء قد لا يكون بالإمكان عملياً لي أو لك أن نمارسها فعلاً بوسائل المدنية المعاصرة ، ولكن لا يوجد لدى العلم ولا تشير اتّجاهاته المتحرّكة إلى ما يبرّر رفض إمكان هذه الأشياء ووقوعها وفقاً لظروفٍ ووسائل خاصّة ، فصعود الإنسان إلى كوكب الزهرة لا يوجد في العلم ما يرفض وقوعه ، بل إنّ اتّجاهاته القائمة فعلاً تشير إلى إمكان ذلك وإن لم يكن الصعود فعلاً ميسوراً لي أو لك ؛ لأنّ الفارق بين الصعود إلى الزهرة والصعود إلى القمر ليس إلّافارق درجة ، ولا يمثّل الصعود إلى الزهرة إلّامرحلة تذليل الصعاب الإضافية التي تنشأ من كون المسافة أبعد ، فالصعود إلى الزهرة ممكن علمياً وإن‏ لم يكن ممكناً عملياً فعلاً .
وعلى العكس من ذلك الصعود إلى قرص الشمس في كبد السماء فإنّه غير ممكنٍ علمياً ، بمعنى أنّ العلم لا أمل له في وقوع ذلك ؛ إذ لا يُتصوّر علمياً وتجريبياً إمكانية صنع ذلك الدرع الواقي من الاحتراق بحرارة الشمس التي تمثّل أتّوناً هائلاً مستعراً بأعلى درجةٍ تخطر على بال إنسان .
وأقصد بالإمكان المنطقي أو الفلسفي : أن لا يوجد لدى العقل وفق ما يدركه من قوانين قَبْلية - أي سابقة على التجربة - ما يبرّر رفض الشي‏ء والحكم باستحالته .
فوجود ثلاثة برتقالاتٍ تنقسم بالتساوي وبدون كسرٍ إلى نصفين ليس له إمكان منطقي ؛ لأنّ العقل يدرك - قبل أن يمارس أيّ تجربةٍ - أن الثلاثة عدد فردي وليس زوجاً ، فلا يمكن أن تنقسم بالتساوي ؛ لأنّ انقسامها بالتساوي يعني كونها زوجاً ، فتكون فرداً وزوجاً في وقتٍ واحد ، وهذا تناقض ، والتناقض مستحيل منطقياً .
ولكنّ دخول الإنسان في النار دون أن يحترق ، وصعوده للشمس دون أن تحرقه الشمس بحرارتها ليس مستحيلاً من الناحية المنطقية ؛ إذ لا تناقض في افتراض أنّ الحرارة لا تتسرّب من الجسم الأكثر حرارةً إلى الجسم الأقل حرارة ، وإنّما هو مخالف للتجربة التي أثبتت تسرّب الحرارة من الجسم الأكثر حرارةً إلى الجسم الأقلّ حرارةً إلى أن يتساوى الجسمان في الحرارة .
وهكذا نعرف أنّ الإمكان المنطقي أوسع دائرةً من الإمكان العلمي ، وهذا ـ أوسع دائرةً من الإمكان العملي .
ولاشكّ في أنّ امتداد عمر الإنسان آلاف السنين ممكن منطقياً ؛ لأنّ ذلك ليس مستحيلاً من وجهة نظرٍ عقليةٍ تجريدية ، ولا يوجد في افتراضٍ من هذا القبيل أيّ تناقض ؛ لأنّ الحياة كمفهومٍ لا تستبطن الموت السريع ، ولا نقاش في ذلك .
كما لا شكّ أيضاً ولا نقاش في أنّ هذا العمر الطويل ليس ممكناً إمكاناً عملياً ، على نحو الإمكانات العملية للنزول إلى قاع البحر أو الصعود إلى القمر ؛ ذلك لأنّ العلم بوسائله وأدواته الحاضرة فعلاً والمتاحة من خلال التجربة البشرية المعاصرة لا يستطيع أن يمدد عمر الإنسان مئات السنين ، ولهذا نجد أنّ أكثر الناس حرصاً على الحياة وقدرةً على تسخير إمكانات العلم لا يُتاح لهم من العمر إلّا بقدر ما هو مألوف .
وأمّا الإمكان العلمي فلا يوجد علمياً اليوم ما يبرّر رفض ذلك من الناحية النظرية . وهذا بحث يتّصل في الحقيقة بنوعية التفسير الفسلجي لظاهرة الشيخوخة والهرم لدى الإنسان ، فهل تعبِّر هذه الظاهرة عن قانونٍ طبيعيّ يفرض على أنسجة جسم الإنسان وخلاياه - بعد أن تبلغ قمّة نموّها - أن تتصلّب بالتدريج وتصبح أقلّ كفاءةً للاستمرار في العمل إلى أنْ تتعطّل في لحظةٍ معيّنةٍ ، حتى لو عزلناها عن تأثير أيِّ عاملٍ خارجي ؟ أو أنّ هذا التصلّب وهذا التناقص في كفاءة الأنسجة والخلايا الجسمية للقيام بأدوارها الفيسيولوجية نتيجة صراعٍ مع عوامل خارجيةٍ كالميكروبات أو التسمّم الذي يتسرّب إلى الجسم من خلال ما يتناوله من غذاءٍ مكثّف أو ما يقوم به من عملٍ مكثّف أو أيّ عاملٍ آخر ؟
وهذا سؤال يطرحه العلم اليوم على نفسه ، وهو جادّ في الإجابة عليه ، ولا يزال للسؤال أكثر من جوابٍ على الصعيد العلمي .
فإذا أخذنا بوجهة النظر العلمية التي تتّجه إلى تفسير الشيخوخة والضعف الهرمي بوصفه نتيجة صراعٍ واحتكاكٍ مع مؤثّراتٍ خارجيةٍ معيّنةٍ ، فهذا يعني أنّ بالإمكان نظرياً إذا عُزلت الأنسجة - التي يتكوّن منها جسم الإنسان - عن تلك المؤثّرات المعيّنة أن تمتدّ بها الحياة وتتجاوز ظاهرة الشيخوخة وتتغلّب عليها نهائياً .
وإذا أخذنا بوجهة النظر الاُخرى التي تميل إلى افتراض الشيخوخة قانوناً طبيعياً للخلايا والأنسجة الحيّة نفسها ، بمعنى أ نّها تحمل في أحشائها بذرة فنائها المحتوم ، مروراً بمرحلة الهرم والشيخوخة وانتهاءاً بالموت ، أقول : إذا أخذنا بوجهة النظر هذه فليس معنى هذا عدم افتراض أيِّ مرونةٍ في هذا القانون الطبيعي ، بل هو - على افتراض وجوده - قانون مَرن ؛ لأنّنا نجد في حياتنا الاعتيادية ولأنّ العلماء يشاهدون في مختبراتهم العلمية أنّ الشيخوخة - كظاهرةٍ فيسيولوجيةٍ لا زمنية - قد تأتي مبكِّرةً وقد تتأخّر ولا تظهر إلّافي فترةٍ متأخّرة ، حتى أنّ الرجل قد يكون طاعناً في السنّ ولكنّه يملك أعضاءاً ليّنةً ولا تبدو عليه أعراض الشيخوخة ، كما نصّ على ذلك الأطبّاء ، بل إنّ العلماء استطاعوا عملياً أن يستفيدوا من مرونة ذلك القانون الطبيعي المفترض ، فأطالوا عمر بعض الحيوانات مئات المرّات بالنسبة إلى أعمارها الطبيعية ؛ وذلك بخلق ظروفٍ وعوامل تؤجّل فاعلية قانون الشيخوخة .
وبهذا يثبت علمياً أنّ تأجيل هذا القانون بخلق ظروفٍ وعوامل معيّنةٍ أمر ممكن علمياً ، ولئن لم يُتَح للعلم أن يمارس فعلاً هذا التأجيل بالنسبة إلى كائنٍ معقّدٍ معيّنٍ كالإنسان ، فليس ذلك إلّالفارق درجةٍ بين صعوبة هذه الممارسة بالنسبة إلى الإنسان وصعوبتها بالنسبة إلى أحياء اُخرى .
وهذا يعني أنّ العلم من الناحية النظرية وبقدر ما تشير إليه اتّجاهاته المتحرّكة لا يوجد فيه أبداً ما يرفض إمكانية إطالة عمر الإنسان ، سواء فسّرنا الشيخوخة بوصفها نتاج صراعٍ واحتكاكٍ مع مؤثّراتٍ خارجيةٍ ، أو نتاج قانونٍ طبيعيّ للخليّة الحيّة نفسها يسير بها نحو الفناء .
ويتلخّص من ذلك : أنّ طول عمر الإنسان وبقاءه قروناً متعدّدةً أمر ممكن منطقياً وممكن علمياً ، ولكنّه لا يزال غير ممكنٍ عملياً ، إلّاأنّ اتّجاه العلم سائر في طريق تحقيق هذا الإمكان عبر طريقٍ طويل .
وعلى هذا الضوء نتناول عمر المهدي ( عليه الصلاة والسلام ) وما اُحيط به من استفهامٍ أو استغراب .
ونلاحظ : أ نّه بعد أن ثبت إمكان هذا العمر الطويل منطقياً وعلمياً ، وثبت أنّ العلم سائر في طريق تحويل الإمكان النظري إلى إمكانٍ عمليّ تدريجاً لا يبقى للاستغراب محتوىً إلّااستبعاد أن يسبق المهديّ العلم نفسه ، فيتحوّل الإمكان النظري إلى إمكانٍ عمليّ في شخصه قبل أن يصل العلم في تطوره إلى مستوى القدرة الفعلية على هذا التحويل ، فهو نظير من يسبق العلم في اكتشاف دواء ذات السحايا أو دواء السرطان .
وإذا كانت المسألة هي أ نّه كيف سبق الإسلام - الذي صمّم عمر هذا القائد المنتظر - حركة العلم في مجال هذا التحويل ؟
فالجواب : أ نّه ليس ذلك هو المجال الوحيد الذي سبق فيه الإسلام حركة العلم .
أوَليست الشريعة الإسلامية ككلّ قد سبقت حركة العلم والتطور الطبيعي للفكر الإنساني قروناً عديدة ؟
أوَلَمْ تُنادِ بشعاراتٍ طَرحت خُططاً للتطبيق لم ينضج الإنسان للتوصّل إليها في حركته المستقلّة إلّابعد مئات السنين ؟
أوَلَمْ تأتِ بتشريعاتٍ في غاية الحكمة لم يستطع الإنسان أن يدرك أسرارها ووجه الحكمة فيها إلّاقبل برهةٍ وجيزةٍ من الزمن ؟
أوَلَمْ تكشف رسالة السماء أسراراً من الكون لم تكن تخطر على بال إنسان ثمّ جاء العلم ليثبتها ويدعمها ؟
فإذا كنّا نؤمن بهذا كلّه فلماذا نستكثر على مرسِل هذه الرسالة سبحانه وتعالى أن يسبق العلم في تصميم عمر المهدي ؟
وأنا هنا لم أتكلّم إلّاعن مظاهر السبق التي نستطيع أن نحسّها نحن بصورةٍ مباشرة ، ويمكن أن نضيف إلى ذلك مظاهر السبق التي تُحدِّثنا بها رسالة السماء نفسها .
ومثال ذلك : أ نّها تخبرنا بأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قد اُسري به ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى‏(5) ، وهذا الإسراء إذا أردنا أن نفهمه في إطار القوانين الطبيعية فهو يعبِّر عن الاستفادة من القوانين الطبيعية بشكلٍ لم يُتَح للعلم أن يحقّقه إلّابعد مئات السنين ، فنفس الخبرة الربانية التي أتاحت للرسول صلى الله عليه و آله و سلم التحرّك السريع قبل أن يُتاح للعلم تحقيق ذلك أتاحت لآخِر خلفائه المنصوصين العمر المديد قبل أن يُتاح للعلم تحقيق ذلك .
نعم ، هذا العمر المديد الذي منحه اللََّه تعالى للمنقذ المنتظر يبدو غريباً في حدود المألوف حتى اليوم في حياة الناس وفي ما اُنجز فعلاً من تجارب العلماء .
ولكن أوَليس الدور التغييري الحاسم الذي اُعِدَّ له هذا المنقذ غريباً في حدود المألوف في حياة الناس وما مرّت بهم من تطورات التأريخ ؟
أوَليس قد اُنيط به تغيير العالم وإعادة بنائه الحضاري من جديدٍ على‏أساس الحقّ والعدل ؟
فلماذا نستغرب إذا اتّسم التحضير لهذا الدور الكبير ببعض الظواهر الغريبة والخارجة عن المألوف كطول عمر المنقذ المنتظر ؟ فإنّ غرابة هذه الظواهر وخروجها عن المألوف - مهما كان شديداً - لا يفوق بحالٍ غرابة نفس الدور العظيم الذي يجب على اليوم الموعود إنجازه . فإذا كنّا نستسيغ ذلك الدور الفريد تأريخياً على الرغم من أ نّه لا يوجد دور مناظر له في تأريخ الإنسان ، فلماذا لا نستسيغ ذلك العمر المديد الذي لا نجد عمراً مناظراً له في حياتنا المألوفة ؟
ولا أدري هل هي صدفة أن يقوم شخصان فقط بتفريغ الحضارة الإنسانية من محتواها الفاسد وبنائها من جديد ، فيكون لكلّ منهما عمر مديد يزيد على أعمارنا الاعتيادية أضعافاً مضاعفة ؟
أحدهما مارس دوره في ماضي البشرية وهو نوح ، الذي نصّ القرآن الكريم‏ (6) على أ نّه مكث في قومه ألف سنةٍ إلّاخمسين عاماً ، وقُدِّر له من خلال الطوفان أن يبني العالم من جديد .
والآخر يمارس دوره في مستقبل البشرية ، وهو المهدي الذي مكث في قومه حتى الآن أكثر من ألف عام ، وسيُقدَّر له في اليوم الموعود أن يبني العالم من جديد .
فلماذا نقبل نوحاً الذي ناهز ألف عامٍ على أقلّ تقديرٍ ولا نقبل المهدي ؟ !
المصادر :
1- صحيح سنن المصطفى لأبي داود 2 : 207 ، والتاج الجامع للاُصول للشيخ منصور علي ناصف 5 : 343
2- ورد عنه عليه السلام أ نّه سيظهر وليس في عنقه بيعة لظالم . راجع الاحتجاج للطبرسي 2 : 545
3- منتخب الأثر : 493 - 500
4- كمال الدين : 432 ، اُصول الكافي 1 : 514
5- قال تعالى : «سُبْحَانَ الَّذِي أسْرَى‏ََ بِعَبدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى الْمَسْجِدِ الْأقْصَى ... »الإسراء : 1
6- العنكبوت : 14

 



ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.