
كيف يتم التعبير موضوعياً عن القانون التاريخي في القرآن الكريم ؟
ما هي الأشكال التي تتخذها سنن التاريخ في مفهوم القرآن الكريم ؟
هناك ثلاثة أشكال تتّخذها السنة التاريخية في القرآن الكريم ، لابدّ من استعراضها ومقارنتها والتدقيق في أوجه الفرق بينها :
1 - شكل القضيّة الشرطيّة :
الشكل الأوّل للسنة التاريخية :هو شكل القضية الشرطية . في هذا الشكل تتمثّل السنة التاريخية في قضية شرطية تربط بين حادثتين أو مجموعتين من الحوادث علىََ الساحة التاريخية ، وتؤكد العلاقة الموضوعية بين الشرط والجزاء ، وأ نّه متىََ ما تحقّق الشرط تحقّق الجزاء . وهذه صياغة نجدها في كثير من القوانين والسنن الطبيعية والكونية في مختلف الساحات الاُخرىََ .
فمثلاً : حينما نتحدّث عن قانون طبيعي لغليان الماء ، نتحدّث بلغة القضية الشرطية ، نقول بأنّ الماء إذا تعرّض إلىََ الحرارة وبلغت الحرارة درجة معينة ، مئة مثلاً في مستوىََ معين من الضغط ، حينئذٍ سوف يحدث الغليان .
هذا قانون طبيعي يربط بين الشرط والجزاء ويؤكد أنّ حالة التعرض إلىََ الحرارة ضمن مواصفات معينة تذكر في طرف الشرط ، تستتبع حادثة طبيعية معينة وهي غليان هذا الماء ، تحوّل هذا الماء من سائل إلىََ غاز . هذا القانون مصاغ علىََ نهج القضية الشرطية .
ومن الواضح أنّ هذا القانون الطبيعي لا ينبّئنا شيئاً عن تحقّق الشرط وعدم تحقّقه ، لا ينبّئنا هذا القانون الطبيعي عن أنّ الماء هل سوف يتعرض للحرارة أو لا يتعرض للحرارة ؟ هل أنّ حرارة الماء ترتفع إلىََ الدرجة المطلوبة ضمن هذا القانون أو لا ترتفع ؟ هذا القانون لا يتعرض إلىََ مدىََ وجود الشرط وعدم وجوده ، ولا ينبئنا بشيء عن تحقق الشرط إيجاباً أو سلباً ، وإنّما ينبّئنا عن أنّ الجزاء لا ينفك عن الشرط ، متىََ ما وجد الشرط وجد الجزاء . فالغليان نتيجة مرتبطة موضوعياً بالشرط . هذا هو تمام ما ينبّئنا عنه هذا القانون المصاغ بلغة القضية الشرطية .
ومثل هذه القوانين تقدّم خدمة كبيرة للإنسان في حياته الاعتيادية وتلعب دوراً عظيماً في توجيه الإنسان ؛ لأنّ الإنسان ضمن تعرّفه علىََ هذه القوانين يصبح بإمكانه أن يتصرّف بالنسبة إلىََ الجزاء ، ففي كل حالة يرىََ أ نّه بحاجة إلىََ الجزاء يُعمِل هذا القانون ، يُوفّر شروط هذا القانون ، ففي كل حالة يكون الجزاء متعارضاً مع مصالحه ومشاعره يحاول الحيلولة دون توفّر شروط هذا القانون . متىََ ما كان غليان الماء مقصوداً للإنسان يطبّق شروط هذا القانون ، ومتىََ ما لم يكن مقصوداً للإنسان يحاول أن لا تتطبّق شروط هذا القانون .
إذن القانون الموضوع بنهج القضية الشرطية موجّه عملي للإنسان في حياته . ومن هنا تتجلّىََ حكمة اللَّه سبحانه وتعالىََ في صياغة نظام الكون علىََ مستوىََ القوانين وعلىََ مستوىََ الروابط المطّردة والسنن الثابتة ؛ لأنّ صياغة الكون ضمن روابط مطّردة وعلاقات ثابتة هو الذي يجعل الإنسان يتعرّف علىََ موضع قدميه ، وعلىََ الوسائل التي يجب أن يسلكها في سبيل تكييف بيئته وحياته والوصول إلىََ إشباع حاجته . لو أنّ الغليان في الماء كان يحدث صدفة ومن دون رابطة قانونية مطّردة مع حادثة اُخرىََ كالحرارة ، إذن لما استطاع الإنسان أن يتحكم في هذه الظاهرة ، أن يخلق هذه الظاهرة متىََ ما كانت حياته بحاجة إليها ، وأن يتفاداها متىََ ما كانت حياته بحاجة إلىََ تفاديها ، إنّما كان له هذه القدرة باعتبار أنّ هذه الظاهرة وضعت في موضع ثابت من سنن الكون وطرح علىََ الإنسان القانون الطبيعي بلغة القضية الشرطية ، فأصبح ينظر في نور لا في ظلام ، ويستطيع في ضوء هذا القانون الطبيعي أن يتصرّف .
نفس الشيء نجده في الشكل الأول من السنن التاريخية القرآنية ، فإن عدداً كبيراً من السنن التاريخية في القرآن قد تمّت صياغته علىََ شكل القضية الشرطية التي تربط ما بين حادثتين اجتماعيتين أو تاريخيتين ، فهي لا تتحدّث عن الحادثة الاُولىََ أ نّها متىََ توجد ومتىََ لا توجد ، لكن تتحدّث عن الحادثة الثانية ، بأ نّه متىََ ما وجدت الحادثة الأولىََ وجدت الحادثة الثانية . قرأنا فيما سبق استعراضاً للآيات الكريمة التي تدلّ علىََ سنن التاريخ في القرآن ، جملة من تلك الآيات الكريمة مفادها هو السنة التاريخية بلغة القضية الشرطية . تتذكرون ما قرأناه سابقاً : «إنّ اللَّه لا يُغيِّرُ ما بِقَومٍ حتىََ يُغيّروا ما بأنفُسِهم »(1).
هذه السنة التاريخية للقرآن والتي تقدّم الكلام عنها ويأتي إن شاء اللَّه الحديث عن شرح محتواها . هذه السنة التاريخية للقرآن بُيّنت بلغة القضية الشرطية ؛ لأنّ مرجع هذا المفاد القرآني إلىََ أنّ هناك علاقة بين تغييرين : بين تغيير المحتوىََ الداخلي للإنسان ، وتغيير الوضع الظاهري للبشرية والإنسانية . مفاد هذه العلاقة قضية شرطية : أ نّه متىََ ما وجد ذاك التغيير في أنفس القوم وجد هذا التغيير في بناء القوم وكيان القوم . هذه القضية قضية شرطية بُيّن القانون فيها بلغة القضية الشرطية .
«وألّو استقامُوا علىََ الطرِيقَةِ لأسْقَيناهُم ماءً غَدَقاً »(2).
قلنا في ما سبق : إنّ هذه الآية الكريمة تتحدّث عن سنة من سنن التاريخ ، عن سنّة تربط وفرة الانتاج بعدالة التوزيع . هذه السنة أيضاً هي بلغة القضية الشرطية كما هو الواضح من صياغتها النحوية أيضاً .
«وإذا أردنا أن نُهلِكَ قَريةً أمَرنا مُترَفِيها فَفَسقُوا فِيها فَحَقّ عَلَيها القولُ فَدَمّرناها تَدمِيراً »(3).
أيضاً سنة تاريخية بُيّنت بلغة القضية الشرطية . ربطت بين أمرين : بين تأمير الفسّاق والمترفين في المجتمع وبين دمار ذلك المجتمع وانحلاله . هذا القانون التاريخي أيضاً مُبيَّن علىََ نهج القضية الشرطية ، فهو لا يبين أ نّه متىََ يوجد الشرط ، لكن يبين متىََ ما وجد هذا الشرط يوجد الجزاء . هذا هو الشكل الأول من أشكال السنة التاريخية في القرآن .
2 - شكل القضيّة الفعليّة :
الشكل الثاني الذي تتّخذه السنن التاريخية :شكل القضية الفعلية الناجزة الوجودية المحققة ، وهذا الشكل أيضاً نجد لهأمثلة وشواهد في القوانين الطبيعية والكونية . مثلاً : العالم الفلكي حينما يصدر حكماً علمياً علىََ ضوء قوانين مسارات الفلك بأنّ الشمس سوف تنكسف في اليوم الفلاني أو أنّ القمر سوف ينخسف في اليوم الفلاني ، هذا قانون علمي وقضية علمية ، إلّاأ نّها قضية وجودية ناجزة ، ليست قضية شرطية . لا يملك الإنسان اتّجاه هذه القضية أن يغيّر من ظروفها ، أن يعدّل من شروطها ؛ لأنّها لم تُبيّن كلغة قضية شرطية ، وإنّما بيّنت علىََ مستوىََ القضية الفعلية الوجودية : الشمس سوف تنكسف ، القمر سوف ينخسف . هذه قضية فعلية تنظر إلىََ الزمان الآتي وتخبر عن وقوع هذه الحادثة علىََ أي حال .
كذلك الأنواء الجوية ، القرارات العلمية التي تصدر عن الأنواء الجوية : المطر ينهمر علىََ المنطقة الفلانية . هذا أيضاً يعبر عن قضية فعلية وجودية لم تُصغ بلغة القضية الشرطية ، وإنّما صيغت بلغة التنجيز والتحقيق بلحاظ مكان معين وزمان معين . هذا هو الشكل الثاني من السنن التاريخية ، وسوف اُشير فيما بعد إن شاء اللَّه تعالىََ - عند تحليل عناصر المجتمع - إلىََ أمثلة هذا الشكل من القرآن الكريم .
هذا الشكل من السنن التاريخية هو الذي أوحىََ في الفكر الاُوروبي بتوهّم التعارض بين فكرة سنن التاريخ وفكرة اختيار الإنسان وإرادته . نشأ هذا التوهّم الخاطىء الذي يقول بأنّ فكرة سنن التاريخ لا يمكن أن تجتمع إلىََ جانب فكرة اختيار الإنسان ؛ لأنّ سنن التاريخ هي التي تنظّم مسار الإنسان وحياة الإنسان ، إذن ماذا يبقىََ لإرادة الإنسان ؟
هذا التوهّم أدّىََ إلىََ أنّ بعض المفكرين يذهب إلىََ أنّ الإنسان له دور سلبي فقط حفاظاً علىََ سنن التاريخ وعلىََ موضوعية هذه السنن . ضحّىََ باختيار الإنسان من أجل الحفاظ علىََ سنن التاريخ فقال بأنّ الإنسان دوره دور سلبي وليس دوراً إيجابياً ، يتحرّك كما تتحرّك الآلة وفقاً لظروفها الموضوعية ، ولعله يأتي بعض التفصيل أيضاً عن هذه الفكرة .
وذهب بعض آخر في مقام التوفيق ما بين هاتين الفكرتين ولو ظاهرياً إلىََ أنّ اختيار الإنسان نفسه هو أيضاً يخضع لسنن التاريخ ولقوانين التاريخ . لا نضحّي باختيار الإنسان ، لكن نقول بأنّ اختيار الإنسان لنفسه حادثة تاريخية أيضاً ، إذن هو بدوره يخضع للسنن . هذه تضحية باختيار الإنسان لكن بصورة مبطنة ، بصورة غير مكشوفة .
وذهب بعض آخر إلىََ التضحية بسنن التاريخ لحساب اختيار الإنسان ، فذهب جملة من المفكرين الاُوروبيين إلىََ أ نّه مادام الإنسان مختاراً فلابدّ من أن تستثنىََ الساحة التاريخية من الساحات الكونية في مقام التقنين الموضوعي ، لابدّ وأن يقال بأ نّه لا سنن موضوعية للساحة التاريخية حفاظاً علىََ إرادة الإنسان وعلىََ اختيار الإنسان .
وهذه المواقف كلّها خاطئة ؛ لأنّها جميعاً تقوم علىََ ذلك الوهم الخاطئ ، وهم الاعتقاد بوجود تناقض أساسي بين مقولة السنة التاريخية ومقولة الاختيار ، وهذا التوهّم نشأ من قصر النظر علىََ الشكل الثاني من أشكال السنة التاريخية ، أي قصر النظر علىََ السنة التاريخية المصاغة بلغة القضية الفعلية الوجودية الناجزة .
لو كنّا نقصر النظر علىََ هذا الشكل من سنن التاريخ ، ولو كنّا نقول بأنّ هذا الشكل هو الذي يستوعب كل الساحة التاريخية لا يبقي فراغاً لذي الفراغ ، لكان هذا التوهّم وارداً ، ولكنّا يمكننا إبطال هذا التوهّم عن طريق الالتفات إلىََ الشكل الأول من أشكال السنة التاريخية الذي تصاغ فيه السنة التاريخية بوصفها قضية شرطية .
وكثيراً ما تكون هذه القضية الشرطية في شرطها معبّرة عن إرادة الإنسان واختيار الإنسان ، يعني أنّ اختيار الإنسان يمثّل محور القضية الشرطية ، شرط القضية الشرطية . إذن فالقضية الشرطية كالأمثلة التي ذكرناها من القرآن الكريم تتحدّث عن علاقة بين الشرط والجزاء ، لكن ما هو الشرط ؟ الشرط هو فعل الإنسان ، هو إرادة الإنسان : «إنَّ اللَّه لا يُغيِّرُ ما بِقَومٍ حَتّىََ يُغيّروا ما بأنفُسِهِم »(4). التغيير هنا اُسند إليهم فهو فعلهم ، إبداعهم وارادتهم .
إذن السنة التاريخية حينما تصاغ بلغة القضية الشرطية ، وحينما يحتلّ إبداع الإنسان واختيار الإنسان موضوع الشرط في هذه القضية الشرطية ، في مثل هذه الحالة تصبح هذه السنة متلائمة تماماً مع اختيار الإنسان ، بل إنّ السنة حينئذٍ تطغي اختيار الإنسان ، تزيده اختياراً وقدرة وتمكّناً من التصرف في موقفه ، كيف أنّ ذلك القانون الطبيعي للغليان كان يزيد من قدرة الإنسان ؛ لأ نّه يستطيع حينئذٍ أن يتحكّم في الغليان بعد أن عرف شروطه وظروفه ، كذلك السنن التاريخية ذات الصيغ الشرطية ، هي في الحقيقة ليسيت علىََ حساب إرادة الإنسان ، وليست نقيضاً لاختيار الإنسان ، بل هي مؤكدة لاختيار الإنسان ، وتوضح للإنسان نتائج الاختيار لكي يستطيع أن يقتبس ما يريده من هذه النتائج ، لكي يستطيع أن يتعرف علىََ الطريق الذي يسلك به إلىََ هذه النتيجة أو إلىََ تلك النتيجة ، فيسير علىََ ضوء وكتاب منير . هذا هو الشكل الثاني للسنة التاريخية .
3 - السنّة المصاغة على صورة الاتجاه الطبيعي :
الشكل الثالث للسنة التاريخية :وهو شكل اهتمّ به القرآن الكريم اهتماماً كبيراً ، هو السنة التاريخية المصاغة علىََ صورة اتّجاه طبيعي في حركة التاريخ لا علىََ صورة قانون صارم حدّي . وفرق بين الاتّجاه والقانون . ولكي تتّضح الفكرة في ذلك لابدّ وأن نطرح الفكرة الاعتيادية التي نعيشها في أذهاننا عن القانون .
القانون العلمي كما نتصوّره عادة : عبارة عن تلك السنة التي لا تقبل التحدّي من قبل الإنسان ؛ لأنّها قانون من قوانين الكون والطبيعة فلا يمكن للإنسان أن يتحدّاها ، أن ينقضها ، أن يخرج عن طاعتها . يمكنه أن لا يصلّي ؛ لأنّ وجوب الصلاة حكم تشريعي وليس قانوناً تكوينياً ، يمكنه أن يشرب الخمر ؛ لأنّ حرمة شرب الخمر قانون تشريعي وليس قانوناً تكوينياً ، لكنه لا يمكنه أن يتحدّىََ القوانين الكونية والسنن الموضوعية ، مثلاً : لا يمكنه أن يجعل الماء لا يغلي إذا توفّرت شروط الغليان ، لا يمكنه أن يتحدّىََ الغليان ، أن يؤخرّ الغليان لحظة عن موعده المعين ؛ لأنّ هذا قانون ، والقانون صارم ، والصرامة تأبىََ التحدّي .
هذه هي الفكرة التي نتصوّرها عادة عن القوانين ، وهي فكرة صحيحة إلىََ حدّما ، لكن ليس من الضروري أن تكون كل سنّة طبيعية موضوعية علىََ هذا الشكل بحيث تأبىََ التحدّي ولا يمكن تحدّيها من قبل الإنسان بهذه الطريقة ، بل هناك اتّجاهات موضوعية في حركة التاريخ وفي مسار الإنسان ، إلّاأنّ هذه الاتجاهات لها شيء من المرونة بحيث إنّها تقبل التحدّي ولو علىََ شوط قصير ، وإن لم تقبل التحدّي علىََ شوط طويل ، لكن علىََ الشوط القصير تقبل التحدّي . أنت لا تستطيع أن تؤخّر موعد غليان الماء لحظة ، لكن تستطيع أن تجمّد هذه الاتجاهات لحظات من عمر التاريخ ، لكن هذا لا يعني أنها ليست اتّجاهات تمثل واقعاً موضوعياً في حركة التاريخ ، هي اتّجاهات ولكنّها مرنة تقبل التحدّي لكنّها تحطّم المتحدي ، حينما يتحدّىََ هذا المتحدّي تحطّمه بسنن التاريخ نفسها ، ومن هنا كانت اتجاهات ، هناك أشياء يمكن تحدّيها دون أن يتحطّم المتحدي ، لكن هناك أشياء يمكن أن تتحدّىََ علىََ شوط قصير ولكن المتحدّي يتحطّم علىََ يد سنن التاريخ نفسها ، هذه هي طبيعة الاتّجاهات الموضوعية في حركة التاريخ .
لكي اُقرّب الفكرة إليكم نستطيع أن نقول بأنّ هناك اتّجاهاً في تركيب الإنسان وفي تكوين الإنسان ، اتّجاهاً موضوعياً لا تشريعياً إلىََ إقامة العلاقات المعينة بين الذكر والاُنثىََ في مجتمع الإنسان ضمن إطار من اُطر النكاح والاتّصال ، هذا الاتّجاه ليس تشريعاً ، ليس تقنيناً اعتبارياً وإنّما هو اتّجاه موضوعي اُعملت العناية في سبيل تكوينه في مسار حركة الإنسان .
لا نستطيع أن نقول : إنّ هذا مجرّد قانون تشريعي ، مجرّد حكم شرعي ، لا وإنّما هذا اتّجاه ركّب في طبيعة الإنسان وفي تركيب الإنسان ، وهو الاتّجاه إلىََ الاتّصال بين الذكر والاُنثىََ وإدامة النوع عن طريق هذا الاتّصال ضمن إطار من اُطر النكاح الإجتماعي .
هذه سنّة ، لكنها سنة علىََ مستوىََ الاتّجاه لا علىََ مستوىََ القانون . لماذا ؟ لأنّ التحدّي لهذه السنّة لحظة أو لحظات ممكن . أمكن لقوم لوط أن يتحدّوا هذه السنّة فترة من الزمن ، بينما لم يكن بإمكانهم أن يتحدّوا سنّة الغليان بشكل من الأشكال ، لكنهم تحدّوا هذه السنّة إلّاأنّ تحدّي هذه السنة يؤدّي إلىََ أن يتحطم المتحدّي . المجتمع الذي يتحدّىََ هذه السنة يكتب بنفسه فناء نفسه ؛ لأنّه يتحدّىََ ذلك عن طريق ألوان اُخرىََ من الشذوذ التي رفضها هذا الاتّجاه الموضوعي ، وتلك الألوان من الشذوذ تؤدّي إلىََ فناء المجتمع وإلىََ خراب المجتمع . ومن هنا كان هذا اتّجاهاً موضوعياً يقبل التحدّي علىََ شوط قصير ، لكن لا يقبل التحدّي علىََ شوط طويل ؛ لأنّه سوف يحطم المتحدّي بنفسه .
الاتّجاه إلىََ توزيع الميادين بين المرأة والرجل ، هذا الاتّجاه اتّجاه موضوعي ، وليس اتّجاهاً ناشئاً من قرار تشريعي . اتّجاه ركِّب في طبيعة الرجل والمرأة ، ولكن هذا الاتّجاه يمكن أن يتحدّىََ ، يمكن استصدار تشريع يفرض علىََ الرجل بأن يبقىََ في البيت ليتولّىََ دور الحضانة والتربية ، وأن تخرج المرأة إلىََ الخارج لكي تتولّىََ مشاق العمل والجهد . هذا بالامكان أن يتحقق عن طريق تشريع معيّن وبهذا يحصل التحدّي لهذا الاتجاه ، لكن هذا التحدّي سوف لن يستمر ؛ لأنّ سنن التاريخ سوف تجيب علىََ هذا التحدّي ، لأنّنا بهذا سوف نخسر ونجمّد كل تلك القابليات التي زوّدت بها المرأة من قبل هذا الاتّجاه لممارسة دور الحضانة والاُمومة ، وسوف نخسر كل تلك القابليات التي زوّد بها الرجل من أجل ممارسة دور يتوقّف علىََ الجلد والصبر والثبات وطول النفس . تماماً من قبيل أن تسلّم بناية ، تسلّم نجارياتها إلىََ حداد ، وحدادياتها إلىََ نجار . يمكن أن تصنع هكذا ويمكن أن تنشأ البناية أيضاً ، لكن هذه البناية سوف تنهار ، سوف لن يستمر هذا التحدّي علىََ شوط طويل ، سوف ينقطع في شوط قصير . كل اتّجاه من هذا القبيل هو في الحقيقة سنة موضوعية من سنن التاريخ ومن سنن حركة الإنسان ، ولكنّها سنّة مرنة تقبل التحدّي علىََ الشوط القصير ، ولكنّها تجيب علىََ هذا التحدّي .
الدين مصداق لهذا الشكل :
وأهمّ مصداق يعرضه القرآن الكريم لهذا الشكل من السنن ، هذا الشكل من السنن أهم مصداق يعرضه هو الدين . القرآن الكريم يرىََ أنّ الدين نفسه سنة من سنن التاريخ ، سنة موضوعية من سنن التاريخ ، ليس الدين فقط تشريعاً وإنّما هوسنة من سنن التاريخ ، ولهذا يعرض الدين علىََ شكلين : تارة يعرضه بوصفه تشريعاً ، كما يقول علم الاُصول بوصفه إرادة تشريعية ، مثلاً يقول :
«شَرَعَ لَكُم مِنَ الدِينِ ما وصّىََ به نُوحاً والذِي أوْحَينا إليكَ وما وصَّينا به إبراهيم ومُوسىََ وعِيسىََ أن أقِيمُوا الدِينَ ولا تَتَفَرّقُوا فيه كَبُرَ علىََ المشرِكِين ما تَدعُوهُم إليهِ »(5).
هنا يبين الدين كتشريع ، كقرار ، كأمر من اللَّه سبحانه وتعالىََ ، لكن في مجال آخر يبيّنه سنة من سنن التاريخ وقانوناً داخلاً في صميم تركيب الإنسان وفطرة الإنسان . قال سبحانه وتعالىََ :
«فأقِمْ وَجْهَكَ للدينِ حَنِيفاً فِطرةَ اللَّه التي فَطَرَ الناسَ عَليها لا تَبدِيلَ لخلْقِ اللَّه ذلِكَ الدينُ القيّمُ ولكنَّ أكثَر الناسِ لا يَعلَمُونَ »(6).
هنا الدين لم يعد مجرّد تشريع ، مجرّد قرار من أعلىََ وإنّما الدين هنا فطرة للناس ، هو فطرة اللَّه التي فطر عليها الناس ولا تبديل لخلق اللَّه . هذا الكلام كلام موضوعي خبري لا تشريعي إنشائي . لا تبديل لخلق اللَّه : يعني كما أ نّك لا يمكنك أن تنتزع من الإنسان أيّ جزء من أجزائه التي تقوِّمه ، كذلك لا يمكنك أن تنتزع من الإنسان دينه .
الدين ليس مقولة حضارية مكتسبة علىََ مرّ التاريخ يمكن إعطاؤها ويمكن الاستغناء عنها ؛ لأنّها في حالة من هذا القبيل لا تكون فطرة اللَّه التي فطر الناس عليها ولا تكون خلق اللَّه الذي لا تبديل له ، بل تكون من المكاسب التي حصل عليها الإنسان من خلال تطوراته المدنيّة والحضارية علىََ مرّ التاريخ . القرآن يريد أن يقول بأن الدين ليس مقولة من هذه المقولات بالإمكان أخذها وبالإمكان إعطاؤها ، الدين خلق اللَّه : «فِطرة اللَّه التي فَطَرَ الناس عليها» و «لا تبديل لخلق اللَّه ». هذا الكلام ( لا ) هنا ليست ناهية بل نافية ، يعني هذا الدين لا يمكن أن ينفك عن خلق اللَّه مادام الإنسان إنساناً ، فالدين يعتبر سنة لهذا الإنسان .
هذه سنة ولكنّها ليست سنة صارمة علىََ مستوىََ قانون الغليان ، سنة تقبل التحدّي علىََ الشوط القصير ، كما كان بالإمكان تحدّي سنة النكاح ، سنة اللقاء الطبيعي والتزاوج الطبيعي ، كما كان بالإمكان تحدّي ذلك عن طريق الشذوذ الجنسي لكن علىََ شوط قصير ، كذلك يمكننا أيضاً تحدّي هذه السنة علىََ شوط قصير عن طريق الإلحاد وغمض العين عن هذه الحقيقة الكبرىََ ، بإمكان الإنسان أن لا يرىََ الشمس ، أن يغمض عينه عن الشمس ويلحد ولا يرىََ هذه الحقيقة ، ولكن هذا التحدّي لا يكون إلّاعلىََ شوط قصير ؛ لأنّ العقاب سوف ينزل بالمتحدّي . العقاب هنا ليس بمعنىََ العقاب الذي ينزل علىََ من يرتكب مخالفة شرعية علىََ يد ملائكة العذاب في السماء في يوم القيامة ، ليس هو ذاك العقاب الذي ينزل علىََ من يخالف القانون علىََ يد الشرطي ، يضربه بالعصا علىََ رأسه ، وإنما العقاب هنا ينزل من سنن التاريخ نفسها ، سنن التاريخ نفسها تفرض العقاب علىََ كل اُمّة تريد أن تبدّل خلق اللَّه سبحانه وتعالىََ ، ولا تبديل لخلق اللَّه .
«وَيَستَعجِلُونَكَ بالعَذَابِ ولَنْ يُخلِفَ اللَّه وَعدَهُ وإنّ يوماً عندَ رَبّكَ كألفِ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ »(7).
نحن نقول بأن السنن التاريخية من الشكل الثالث إذا تحدّاها الإنسان فسوف يأخذ العقاب من السنن التاريخية ، سرعان ما ينزل عليه العقاب من السنن التاريخية نفسها ، لكن كلمة ( سرعان ) هنا يجب أن تؤخذ بمعنىََ السرعة التاريخية لا السرعة التي نفهمها في حياتنا الاعتيادية ، وهذا ما أرادت أن تقوله هذه الآية الكريمة ، هذه الآية الكريمة في المقام تتحدّث عن العذاب ، واقعة في سياق العذاب الجماعي الذي نزل بالقرىََ السابقة الظالمة ، ثم بعد ذلك تقول ، يتحدّث عن استعجال الناس في أيام رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ، الناس يستعجلون رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ويقولون له : أين هذا العقاب ؟ أين هذا العقاب ؟ لماذا لم ينزل بنا نحن الآن ؟ كفرنا بك ، تحدّيناك ، لم نؤمن بك ، صممنا آذاننا عن قرآنك ، لماذا لا ينزل بنا هذا العذاب ؟
هنا القرآن يتحدّث عن السرعة التاريخية التي تختلف عن السرعة الاعتيادية يقول : «ويستعجلونَكَ بالعذابِ ولن يخلِف اللَّه وَعْدَهُ »؛ لأنّها سنة ، سنة تاريخية ، والسنة التاريخية ثابتة ، لكن «وإنّ يوماً عند ربك كألفِ سَنَةٍ ممّا تُعُدّونَ »اليوم الواحد في سنن التاريخ عند ربك ، باعتبار أنّ سنن التاريخ هي كلمات اللَّه كما قرأنا في ما سبق ، كلمات اللَّه سنن التاريخ . إذن في كلمات اللَّه ، في سنن اللَّه ، اليوم الواحد ، المهلة القصيرة هي ألف سنة .
طبعاً في آية اُخرىََ عبّر بخمسين ألف سنة ، لكن اُريد بذلك أيام القيامة لا يوم الدنيا وهذا هو وجه الجمع بين الآيتين ، الكلمتين . في آية اُخرىََ قيل : « تعْرُجُ الملائكةُ والروحُ إليهِ في يومٍ كانَ مِقدارُهُ خمسِينَ ألفَ سَنَةٍ * فاصْبِرْ صَبراً جَمِيلاً * إنّهُم يَروْنَهُ بَعِيداً * ونَراهُ قَرِيباً * يَوم تَكُونُ السماءُ كالمُهْلِ »(8) هذا ناظر إلىََ يوم القيامة ، إلىََ يوم تكون السماء كالمهل ، فيوم القيامة قدّر بخمسين ألف سنة ، أمّا هنا فيتكلم عن يوم توقيت نزول العذاب الجماعي وفقاً لسنن التاريخ ، يقول : «وإنّ يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدّون ».
إذن فهذا شكل ثالث من السنن التاريخية ، هذا الشكل هو عبارة عن اتّجاهات موضوعية في مسار التاريخ وفي حركة الإنسان وفي تركيب الإنسان ، يمكن أن يُتحدّىََ علىََ الشوط القصير ، ولكن سنن التاريخ لا تقبل التحدّي علىََ الشوط الطويل ، إلّاأنّ الشوط القصير والطويل هنا ليس بحسب طموحاتنا ، بحسب حيتاتنا الاعتيادية يوم أو يومين ؛ لأنّ اليوم الواحد في كلمات اللَّه وفي سنن اللَّه كألف سنة ممّا نحسب .
هذا هو الشكل الثالث ، الدين هو المثال الرئيسي للشكل الثالث ، من أجل أن نعرف كيف أنّ الدين سنّة من سنن التاريخ ؟ ما هو دوره ؟ ما هو موقعه ؟ لماذا أصبح سنّة من سنن التاريخ ، ليس مجرّد تشريع وإنّما هو سنّة ، يعني حاجة أساسية موضوعية ، حاله حال قانون الزوجية بين الذكر والأنثىََ ، هو سنّة موضوعية ، لماذا صار هكذا ؟ وكيف صار هكذا ؟ وما هو دوره كسنّة تاريخية من سنن التاريخ ؟
لكي نعرف ذلك يجب أن نأخذ المجتمع ، نحلّل عناصر المجتمع علىََ ضوء القرآن الكريم لنصل إلىََ مغزىََ قولنا : إنّ الدين سنة من سنن التاريخ .
كيف نحلّل عناصر المجتمع ؟ نحلّل عناصر المجتمع علىََ ضوء هذه الآية الكريمة : «وإذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكةِ إنّي جاعلٌ في الأرضِ خَليفةً قَالوا أتجعلُ فيها مَنْ يُفسِدُ فيها ويَسْفِكُ الدِماءَ ونَحنُ نُسبّحُ بحمدِكَ ونُقدِّسُ لَكَ قالَ إنّي أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ »(9)علىََ ضوء هذه الآية التي تعطينا أروع وأدق وأعمق صيغة لتحليل عناصر المجتمع سوف ندرس هذه العناصر ونقارن ما بينها ، لنعرف في النهاية أنّ الدين سنة التاريخ ، وليس مجرّد حكم شرعي قد يطاع وقد يعصىََ .
المصادر :
1- الرعد : 11
2- الجن : 16
3- الإسراء : 16
4- الرعد : 11
5- الشورىََ : 13
6- الروم : 30
7- الحج : 47
8- المعارج : 4 - 8
9- البقرة : 30