الاطراد التاريخي في القران‏

الاطّراد بمعنى‏ََ أنّ السنة التاريخية مطّردة ليست علاقة عشوائية ، وليست رابطة قائمة على‏ََ أساس الصدفة والحظ والاتّفاق ، وإنّما هي علاقة ذات طابع موضوعي لا تتخلّف في الحالات الاعتيادية التي تجري فيها الطبيعة والكون على‏ََ السنن العامة
Tuesday, December 6, 2016
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
الاطراد التاريخي في القران‏
 الاطراد التاريخي في القران‏

 





 

الاطّراد بمعنى‏ََ أنّ السنة التاريخية مطّردة ليست علاقة عشوائية ، وليست رابطة قائمة على‏ََ أساس الصدفة والحظ والاتّفاق ، وإنّما هي علاقة ذات طابع موضوعي لا تتخلّف في الحالات الاعتيادية التي تجري فيها الطبيعة والكون على‏ََ السنن العامة ، وكان التأكيد على‏ََ طابع الاطّراد في السنة تأكيداً على‏ََ الطابع العلمي للقانون التاريخي ؛ لأنّ القانون العلمي أهمّ مميز يميزه عن بقية المعادلات والفروض هو الاطّراد والتتابع وعدم التخلّف .
ومن هنا استهدف القرآن الكريم من خلال التأكيد على‏ََ طابع الاطّراد في السنة التاريخية ، استهدف أن يؤكد على‏ََ الطابع العلمي لهذه السنة وأن يخلق في الإنسان المسلم شعوراً واعياً على‏ََ جريان أحداث التاريخ ، متبصّراً لا عشوائياً ولا مستسلماً ولا ساذجاً .
«ولَن تَجِدَ لِسُنّةِ اللَّه تَبدِيلاً »(1)، «ولا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحوِيلاً »(2)، « ولا مُبدّلَ لِكَلِماتِ اللَّه »(3). هذه النصوص القرآنية تقدّم استعراضها ، تؤكد هذه النصوص طابع الاستمرارية والاطّراد ، أي طابع الموضوعية والعلمية للسنة التاريخية ، وتستنكر هذه النصوص الشريفة - كما تقدم في بعضها - أن يكون هناك تفكيرٌ أو طمع لدى‏ََ جماعة من الجماعات بأن تكون مستثناة من سنة التاريخ .
«أم حَسِبتُم أن تدخُلُوا الجنَة وَلَمّا يأتِكُم مَثَلُ الذِينَ خَلَوْا مِن قَبلِكُم مسّتهُمُ البأساءُ والضَرّاءُ وزُلزِلُوا حَتى‏ََ يَقُولَ الرسُولُ والذِينَ آمَنُوا مَعَه مَتَى‏ََ نَصرُ اللَّه ألا إنّ نَصرَ اللَّه قَرِيبٌ »(4).
هذه الآية تستنكر على‏ََ من يطمع في أن يكون حالة استثنائية من سنة التاريخ كما شرحنا فيما مضى .
إذن الروح العامة للقرآن تؤكد على‏ََ هذه الحقيقة الاُولى‏ََ وهي حقيقة الاطّراد في السنة التاريخية الذي يعطيها الطابع العلمي من أجل تربية الإنسان على‏ََ ذهنية واعية علمية يتصرّف في إطارها ومن خلالها مع أحداث التاريخ .

ربّانية السنّة التاريخية

ربانية السنة التاريخية ، أنّ السنة التاريخية ربانية مرتبطة باللَّه سبحانه وتعالى‏ََ ، سنة اللَّه ، كلمات اللَّه على‏ََ اختلاف التعبير ، بمعنى‏ََ أنّ كل قانون من قوانين التاريخ فهو كلمة من اللَّه سبحانه وتعالى‏ََ ، وهو قرار ربّاني .
هذا التأكيد من القرآن الكريم على‏ََ ربانية السنة التاريخية وعلى‏ََ طابعها الغيبي ، يستهدف شدّ الإنسان - حتى‏ََ حينما يريد أن يستفيد من القوانين الموضوعية للكون - باللَّه سبحانه وتعالى‏ََ ، وإشعار الإنسان بأنّ الاستعانة بالنظام الكامل لمختلف الساحات الكونية والاستفادة من مختلف القوانين والسنن التي تتحكم في هذه الساحات ، ليس ذلك انعزالاً عن اللَّه سبحانه وتعالى‏ََ ؛ لأنّ اللَّه يمارس قدرته من خلال هذه السنن ، ولأنّ هذه السنن والقوانين هي إرادة اللَّه ، وهي ممثلة لحكمة اللَّه وتدبيره في الكون .

الاتجاه القرآني الموضوعي والاتجاه اللاهوتي الغيبي :

وقد يتوهم البعض أنّ هذا الطابع الغيبي الذي يلبسه القرآن الكريم للتاريخ وللسنن التاريخية ، يُبعد القرآن عن التفسير العلمي الموضوعي للتاريخ ، ويجعله يتّجه اتّجاه التفسير الإلهي للتاريخ الذي مثّلته مدرسة من مدارس الفكر اللاهوتي على‏ََ يد عدد كبير من المفكرين المسيحيين اللاهوتيين ، حيث فسّروا التاريخ تفسيراً إلهياً قد يخلط هذا الاتّجاه القرآني بذلك التفسير الإلهي الذي اتّجه إليه أغسطين وغيره من المفكرين اللاهوتيين ، فيقال بأن إسباغ هذا الطابع الغيبي على‏ََ السنة التاريخية يحوّل المسألة إلى‏ََ مسألة غيبية وعقائدية ، ويخرج التاريخ عن إطاره العلمي الموضوعي .
لكن الحقيقة أنّ هناك فرقاً أساسياً بين الاتّجاه القرآني وطريقة القرآن في ربط التاريخ بعالم الغيب وفي إسباغ الطابع الغيبي على‏ََ السنة التاريخية ، وبين ما يسمّى‏ََ بالتفسير الإلهي للتاريخ الذي تبنّاه اللاهوت . هناك فرق كبير بين هذين الاتجاهين وهاتين النزعتين . وحاصل هذا الفرق : هو أنّ الاتجاه اللاهوتي

التفسير الإلهي للتاريخ

يتناول الحادثة نفسها ويربط هذه الحادثة باللَّه سبحانه وتعالى‏ََ قاطعاً صلتها وروابطها مع بقية الحوادث ، فهو يطرح الصلة مع اللَّه بديلاً عن صلة الحادثة مع بقية الحوادث ، بديلاً عن العلاقات والارتباطات التي تزخر بها الساحة التاريخية والتي تمثّل السنن والقوانين الموضوعية لهذه الساحة ، بينما القرآن الكريم لا يسبغ الطابع الغيبي على‏ََ الحادثة بالذات ، لا ينتزع الحادثة التاريخية من سياقها ليربطها مباشرة بالسماء ، لا يطرح صلة الحادثة بالسماء كبديل عن أوجه الإرتباط والعلاقات والأسباب والمسبّبات على‏ََ هذه الساحة التاريخية ، بل إنّه يربط السنة التاريخية باللَّه ، يربط أوجه العلاقات والإرتباطات باللَّه ، فهو يقرر أوّلاً ويؤمن بوجود روابط وعلاقات بين الحوادث التاريخية ، إلّا أنّ هذه الروابط والعلاقات بين الحوادث التاريخية هي في الحقيقة تعبير عن حكمة اللَّه سبحانه وتعالى‏ََ وحسن تقديره وبنائه التكويني للساحة التاريخية .
إذا أردنا أن نستعين بمثال لتوضيح الفرق بين هذين الاتجاهين من الظواهر الطبيعية ، نستطيع أن نستخدم هذا المثال :
قد يأتي إنسان فيفسّر ظاهرة المطر التي هي ظاهرة طبيعية فيقول بأنّ المطر نزل بإرادة من اللَّه سبحانه وتعالى‏ََ ، ويجعل هذه الإرادة بديلاً عن الأسباب الطبيعية التي نجم عنها نزول المطر ، فكأنّ المطر حادثة لا علاقة لها ولا نسب لها ، وإنّما هي حادثة مفردة ترتبط مباشرة باللَّه سبحانه وتعالى‏ََ بمعزل عن تيار الحوادث .
هذا النوع من الكلام يتعارض مع التفسير العلمي لظاهرة المطر ، لكن إذا جاء شخص وقال بأنّ الظاهرة - ظاهرة المطر - لها أسبابها وعلاقاتها وأ نّها مرتبطة بالدورة الطبيعية للماء مثلاً ، الماء يتبخر فيتحول إلى‏ََ غاز والغاز يتصاعد سحاباً والسحاب يتحوّل بالتدريج إلى‏ََ سائل نتيجة انخفاض الحرارة فينزل المطر ، إلّا أنّ هذا التسلسل السببي المتقن ، هذه العلاقات المتشابكة بين هذه الظواهر الطبيعية هي تعبير عن حكمة اللَّه وتدبيره وحسن رعايته ، فمثل هذا الكلام لا يتعارض مع الطابع العلمي والتفسير الموضوعي لظاهرة المطر ؛ لأنّنا ربطنا هنا السنة باللَّه سبحانه وتعالى‏ََ ، لا الحادثة مع عزلها عن بقية الحوادث وقطع ارتباطها مع مؤثراتها وأسبابها .
إذن القرآن الكريم حينما يُسبغ الطابع الرباني على‏ََ السنة التاريخية لا يريد أن يتّجه اتّجاه التفسير الإلهي في التاريخ ، ولكنّه يريد أن يؤكّد أنّ هذه السنن ليست هي خارجة ومن وراء قدرة اللَّه سبحانه وتعالى‏ََ ، وإنّما هي تعبير وتجسيد وتحقيق لقدرة اللَّه ، فهي كلماته وهي سننه وإرادته وحكمته في الكون لكي يبقى‏ََ الإنسان دائماً مشدوداً إلى‏ََ اللَّه ، لكي تبقى‏ََ الصلة الوثيقة بين العلم والإيمان ، فهو في نفس الوقت الذي ينظر فيه إلى‏ََ هذه السنن نظرة علمية ، ينظر أيضاً إليها نظرة إيمانية .
وقد بلغ القرآن الكريم في حرصه على‏ََ تأكيد الطابع الموضوعي للسنن التاريخية وعدم جعلها مرتبطة بالصدف ، أنّ نفس العمليات الغيبية أناطها في كثير من الحالات بالسنة التاريخية نفسها أيضاً ، عملية الإمداد الإلهي بالنصر ، الإمداد الإلهي الغيبي الذي يساهم في كسب النصر ، هذا الإمداد جعله القرآن الكريم مشروطاً بالسنة التاريخية ، مرتبطاً بظروفها غير منفكّ عنها ، وهذه الروح أبعد ما تكون عن أن تكون روحاً تفسّر التاريخ على‏ََ أساس الغيب ، وإنّما هي روح تفسّر التاريخ على‏ََ أساس المنطق والعقل والعلم ، وحتى‏ََ ذاك الإمداد الإلهي الذي يساهم بالنصر - ذاك الإمداد أيضاً - رُبط بالسنة التاريخية .
قرأنا فيما سبق صيغة من صيغ السنن التاريخية للنصر حينما قرأنا قوله سبحانه وتعالى‏ََ : «أم حَسِبتُم أن تَدخُلُوا الجنّةَ ولمّا يأتِكُم مَثلُ الذين خَلوا مِن قَبلِكُم مَسَّتهُمُ البأساءُ والضّراءُ وزُلزِلوا حتى‏ََ يَقُولَ الرسُولُ والذينَ آمَنُوا مَعَهُ متى‏ََ نَصرُ اللَّه »(5).
الآن تعالوا نقرأ الآيات التي تتحدّث عن الإمداد الإلهي الغيبي لنلاحظ كيف أنّ هذه الآيات ربطت هذا الإمداد الإلهي الغيبي بتلك السنة نفسها أيضاً :
«إذْ تَقُولُ للمؤمنينَ ألَن يَكفيَكُم أن يُمِدّكم رَبكُم بِثلاثةِ آلافٍ مِن الملائكةِ مُنزَلينَ * بلى‏ََ إن تَصبِرُوا وتَتَّقُوا ويأتُوكُم مِن فورِهِم هذا يُمدِدكُم ربّكُم بخمسةِ آلافٍ مِن الملائكةِ مُسَوّمين * وما جَعَلَهُ اللَّه إلّابُشرى‏ََ لكم ولِتطمئِنّ قُلُوبُكُم به وما النّصرُ إلّامِن عِندِ اللَّه العزيزِ الحكِيمِ »(6).
هناك إمداد إلهي غيبي ولكنه شُرط بسنة التاريخ ، شرط بقوله : «بلى‏ََ إن تصبروا وتتقوا ». اُجملت هنا شروط التاريخ التي فصّلت في الآيات الاُخرى‏ََ . إذن هذا الإمداد الغيبي أيضاً مرتبط بسنة التاريخ : «إذ تَستَغِيثُونَ رَبّكُم فاستَجابَ لَكُم أنّي مُمِدّكُم بألفٍ من الملائكةِ مُردِفِينَ * وما جَعَلهُ اللَّه إلّابُشرَى‏ََ ولِتطمئنَّ به قُلُوبُكُم وما النصرُ إلّامن عِندِ اللَّه إنّ اللَّه عَزيزٌ حَكيمٌ »(7).
إذن فمن الواضح أنّ الطابع الرباني الذي يسبغه القرآن الكريم ليس بديلاً عن التفسير الموضوعي ، وإنّما هو ربط لهذا التفسير الموضوعي باللَّه سبحانه وتعالى‏ََ من أجل إكمال اتّجاه الإسلام نحو التوحيد بين العلم والإيمان في تربية الإنسان المسلم .

اختيار الإنسان ودوره في السنن التاريخية :

الحقيقة التي أكّد عليها القرآن الكريم من خلال النصوص‏المتقدمة - : هي حقيقة اختيار الإنسان وإرادة الإنسان ، وهذه الحقيقة التأكيد عليها في مجال استعراض سنن التاريخ مهم جداً ؛ إذ سوف يأتي إن شاء اللَّه تعالى‏ََ بعد محاضرتين أنّ البحث في سنن التاريخ خلق وهماً ، وحاصل هذا الوهم الذي خلقه هذا البحث عند كثير من المفكرين : أنّ هناك تعارضاً وتناقضاً بين حرية الإنسان واختياره وبين سنن التاريخ ، فإمّا أن نقول بأنّ للتاريخ سننه وقوانينه ، وبهذا نتنازل عن إرادة الإنسان واختياره وعن حريته ، وإمّا أن نسلّم بأنّ الإنسان كائن حرّ مريد مختار ، وبهذا يجب أن نلغي سنن التاريخ وقوانينه ونقول بأن هذه الساحة قد اُعفيت من القوانين التي لم تعف منها بقية الساحات الكونية .
هذا الوَهْمُ ، وهم التعارض والتناقض بين فكرة السنة التاريخية أو القانون التاريخي وبين فكرة اختيار الإنسان وحرّيته ، هذا الوهم كان من الضروري للقرآن الكريم أن يزيحه وهو يعالج هذه النقطة بالذات .
ومن هنا أكد سبحانه وتعالى‏ََ على‏ََ أن المحور في تسلسل الأحداث والقضايا إنّما هو إرادة الإنسان . وسوف أتناول إن شاء اللَّه تعالى‏ََ بعد محاضرتين الطريقة الفنية في كيفية التوفيق بين سنن التاريخ وإرادة الإنسان ، وكيف استطاع القرآن الكريم أن يجمع بين هذين الأمرين من خلال فحص للصيغ التي يمكن في إطارها صياغة السنة التاريخية . سوف أتكلم عن ذلك بعد محاضرتين . لكن يكفي الآن أن نستمع إلى‏ََ قوله سبحانه وتعالى‏ََ : «إنّ اللَّه لا يُغيِّر ما بِقَومٍ حتى‏ََ يُغيِّروا ما بأنفُسِهِم »(8).
«وألّو استَقامُوا على‏ََ الطرِيقَةِ لأسقَيناهُم ماءً غَدَقاً »(9).
«وتلك القُرى‏ََ أهلَكناهُم لمّا ظَلَمُوا وَجَعَلنا لِمَهلِكهم موعِداً »(10).
انظروا كيف أنّ السنن التاريخية لا تجري من فوق رأس الإنسان بل تجري من تحت يد الإنسان ، فإنّ اللَّه لا يغيّر ما بقوم حتى‏ََ يغيّروا ما بأنفسهم وأن لو استقاموا على‏ََ الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً . إذن هناك مواقف إيجابية للإنسان تمثّل حريته واختياره وتصميمه ، وهذه المواقف تستتبع ضمن علاقات السنن التاريخية ، تستتبع جزاءاتها المناسبة ، تستتبع معلولاتها المناسبة . إذن فاختيار الإنسان له موضعه الرئيسي في التصوّر القرآني لسنن التاريخ ، وسوف أعود إلى‏ََ هذه النقطة مرة اُخرى‏ََ إن شاء اللَّه تعالى‏ََ .
إذن نستطيع أن نستخلص مما سبق أنّ السنن التاريخية ، أنّ السنن القرآنية للتاريخ ، ذات طابع علمي ؛ لأنّها تتميز بالاطّراد الذي يميّز القانون العلمي ، وذات طابع رباني ؛ لأنّها تمثّل حكمة اللَّه وحسن تدبيره على‏ََ الساحة التاريخية ، وذات طابع إنساني ؛ لأنّها لا تفصل الإنسان عن دوره الإيجابي ولا تعطّل فيه إرادته وحريته واختياره ، وإنّما تؤكد أكثر فأكثر مسؤوليته على‏ََ الساحة التاريخية .

مجال السنن على الساحة التاريخية :

الآن بعد أن استعرضنا الخصائص الثلاث التي تتميز بها السنن التاريخية في القرآن الكريم نواجه هذا السؤال : ما هو ميدان هذه السنن التاريخية ؟
كنا حتى‏ََ الآن نعبّر ونقول بأنّ هذه السنن تجري على‏ََ الساحة التاريخية ، لكن هل أن الساحة التاريخية بامتدادها هي ميدان للسنن التاريخية ؟ أو أنّ ميدان السنن التاريخية يمثل جزءاً من الساحة التاريخية ، بمعنى‏ََ أنّ الميدان الذي يخضع للسنن التاريخية بوصفها قوانين ذات طابع نوعي مختلف عن القوانين الاُخرى‏ََ الفيزيائية والفسلجية والبيولوجية والفلكية ، هذا الميدان الذي يخضع لقوانين ذات طابع نوعي مختلف ، هذا الميدان هل تتسع له الساحة التاريخية ؟ هل يستوعب كل الساحة التاريخية ، أو يعبر عن جزء من الساحة التاريخية ؟
لكن قبل هذا يجب أن نعرف ماذا نقصد بالساحة التاريخية ؟ الساحة التاريخية : عبارة عن الساحة التي تحوي تلك الحوادث والقضايا التي يهتم بها المؤرّخون ، المؤرّخون أصحاب التواريخ يهتمون بمجموعة من الحوادث والقضايا ، يسجّلونها في كتبهم ، والساحة التي تزخر بتلك الحوادث التي يهتم بها المؤرّخون ويسجّلونها هي الساحة التاريخية .
فالسؤال هنا إذن هو هكذا : هل أنّ كلّ هذه الحوادث والقضايا التي يربطها المؤرّخون وتدخل في نطاق مهمتهم التاريخية والتسجيلية ، هل كلها محكومة بالسنن التاريخية ، بسنن التاريخ ذات الطابع النوعي المتميز عن سنن بقية حقول الكون والطبيعة ؟ أو أنّ جزءاً معيناً من هذه الحوادث والقضايا هو الذي تحكمه سنن التاريخ ؟
الصحيح أنّ جزءاً معيناً من هذه الحوادث والقضايا هو الذي تحكمه سنن التاريخ . هناك حوادث لا تنطبق عليها سنن التاريخ ، بل تنطبق عليها القوانين الفيزيائية أو الفسلجية أو قوانين الحياة أو أي قوانين اُخرى‏ََ لمختلف الساحات الكونية الاُخرى‏ََ .
مثلاً : موت أبي طالب ، موت خديجة في سنة معينة(لقد وقعت وفاة أبي طالب رضوان اللَّه عليه ووفاة اُمّ المؤمنين خديجة رضوان اللَّه عليها في العاشر بعد البعثة النبويّة وسمّي ذلك العام بعام الحزن ) ، حادثة تاريخية مهمة تدخل في نطاق ضبط المؤرّخين ، وأكثر من هذا هي حادثة ذات بعد في‏ التاريخ ترتّبت عليها آثار كثيرة في التاريخ ، ولكنها لا يحكمها سنن التاريخ ، تحكمها قوانين فسلجية ، وتحكمها قوانين الحياة التي فرضت أن يموت‏ أبو طالب ( رضوان اللَّه عليه ) وأن تموت خديجة عليها السلام في ذلك الوقت المحدّد . هذه الحادثة تدخل في نطاق صلاحيات المؤرّخين ، ولكن الذي يتحكم في هذه الحادثة هي قوانين فسلجة جسم أبي طالب وجسم خديجة ، قوانين الحياة التي تفرض المرض والشيخوخة ضمن شروط معينة وظروف معينة .
حياة عثمان بن عفان ، طول عمر الخليفة الثالث هذا حادثة تاريخية .
الخليفة الثالث ناهز الثمانين ، طبعاً هذه الحادثة التاريخية كان لها أثر عظيم في تاريخ الإسلام ، لو قدّر لهذا الخليفة أن يموت موتاً طبيعياً وفقاً لقوانينه الفسلجية قبل يوم الثورة كان من الممكن أن تتغير كثير من معالم التاريخ ، كان من المحتمل أن يأتي الإمام أمير المؤمنين عليه السلام إلى‏ََ الخلافة بدون تناقضات وبدون ضجيج وبدون خلاف ، لكن قوانين فسلجة جسم عثمان بن عفان اقتضت أن يمتدّ به العمر إلى‏ََ أن يُقتل من قبل الثائرين عليه من المسلمين .
هذه حادثة تاريخية - بمعنى‏ََ أ نّها تدخل في اهتمامات المؤرخين ولها بُعد تاريخي أيضاً - لعبت دوراً سلباً أو إيجاباً في تكييف الأحداث التاريخية الاُخرى‏ََ ، ولكنّها لا تتحكم فيها سنن التاريخ . إنّ الذي يتحكم في ذلك قوانين بنية جسم عثمان بن عفان ، قوانين الحياة ، وقوانين جسم الإنسان التي أعطت لعثمان بن عفان عمراً طبيعياً ناهز الثمانين .
مواقف عثمان بن عفان ، تصرّفاته الإجتماعية تدخل في نطاق سنن التاريخ ، ولكن طول عمر عثمان بن عفان مسألة اُخرى‏ََ ، مسألة حياتية أو مسألة فسلجية أو مسألة فيزيائية ، وليست مسألة تتحكم فيها سنن التاريخ .
إذن سنن التاريخ لا تتحكم على‏ََ كل الساحة التاريخية ، لا تتحكم على‏ََ كل القضايا التي يدرجها الطبري في تاريخه ، بل على‏ََ ميدان معين من هذه الساحة يأتي الحديث إن شاء اللَّه عنها .
المصادر :
1- الأحزاب : 62
2- الإسراء : 77
3- الأنعام : 34
4- البقرة : 214
5- البقرة : 214
6- آل عمران : 124 - 126
7- الأنفال : 9 - 10
8- الرعد : 11
9- الجن : 16
10- الكهف : 59

 



ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.