من المبادئ المهمّة في الاقتصاد الإسلامي مبدأ تدخّل الدولة في الحياة الاقتصاديّة ، الأمر الذي يمنح الاقتصاد الإسلامي القوّة والمرونة والقدرة على الاستيعاب والشمول . ويتّخذ تدخّل الدولة في الحياة الاقتصاديّة شكلين :
أحدهما : التدخّل لتطبيق الأحكام الثابتة في الشريعة . فالدولة تتدخّل في الحياة الاقتصاديّة ضمن تطبيق أحكام الإسلام التي تتّصل بحياة الأفراد من الناحية الاقتصاديّة ، فتحول مثلاً دون تعامل الناس بالربا ، أو السيطرة على الأرض بدون إحياء ، كما تمارس الدولة نفسها تطبيق الأحكام الشرعيّة التي ترتبط بها مباشرةً ، فتحقّق مثلاً الضمان الاجتماعي والتوازن الاجتماعي ، كما سترى في بحث مقبل .
والشكل الآخر لتدخّل الدولة ، هو تدخّلها في المجال التشريعي لملء الجوانب المفتوحة للتغيير في النظام الإسلامي . فقد عرفنا في بعض الفصول المتقدّمة أنّ النظام الإسلامي يشتمل على جوانب ثابتة من التشريع ، وجوانب مفتوحة للتغيير موكولة إلى اجتهاد وليّ الأمر . فالدولة تمارس تطبيق الجوانب الثابتة أو الإشراف على تطبيقها ، وتمارس أيضاً ملء الجوانب المفتوحة للتغيير وفقاً للظروف والملابسات .
ويمكن أن نطلق على هذه الجوانب اسم منطقة الفراغ في التشريع الإسلامي للحياة الاقتصاديّة . ولا تدلّ منطقة الفراغ هذه على نقص في الصورة التشريعيّة أو إهمال من الشريعة لبعض الوقائع والأحداث ، بل تعبّر عن استيعاب الصورة وقدرة الشريعة على مواكبة العصور المختلفة ، لأنّ الشريعة لم تترك منطقة الفراغ بالشكل الذي يعني نقصاً أو إهمالاً ، وإنّما حدّدت للمنطقة أحكامها بمنح كلّ حادثة صفتها التشريعيّة الأصليّة ، مع إعطاء وليّ الأمر صلاحيّة منحها صفة تشريعيّة ثانويّة حسب الظروف .
وقد كان وجود منطقة الفراغ هذه أمراً ضروريّاً للنظام الإسلامي ، لأنّ الإسلام لا يقدّم مبادئه التشريعيّة للحياة الاقتصاديّة بوصفها علاجاً مؤقّتاً ، أو تنظيماً مرحليّاً يجتازه التاريخ بعد فترة من الزمن إلى شكل آخر من أشكال التنظيم ، وإنّما يقدّمها باعتبارها الصورة النظريّة الصالحة لجميع العصور . فكان لا بدّ لإعطاء الصورة هذا العموم والاستيعاب ، أن ينعكس تطوّر العصور فيها ضمن عنصر متحرّك يمدّ الصورة بالقدرة على التكيّف وفقاً لظروف مختلفة . فمنطقة الفراغ إذاً ترتبط بجوانب التطوّر الذي تعيشه البشريّة عبر الزمن .
ولكي نأخذ فكرة عن منطقة الفراغ هذه بوصفها مجالاً للتدخّل التشريعي من قبل الدولة وحدود هذا التدخّل ، لا بدّ أن نفهم الجانب المتطوّر من حياة الإنسان الاقتصاديّة من وجهة نظر إسلاميّة ، ومدى تأثيره على الصورة التشريعيّة التي تنظّم تلك الحياة .
إنّ الجانب المتطوّر من وجهة النظر الإسلاميّة هو علاقات الإنسان بالطبيعة دون علاقات الإنسان بالإنسان . وتوضيح ذلك أنّ في الحياة الاقتصاديّة نوعين من العلاقات :
أحدهما علاقات الإنسان بالطبيعة أو الثروة ، وهذه العلاقات تتمثّل في أساليب الإنتاج المختلفة .
والآخر علاقات الإنسان بأخيه الإنسان التي تنعكس في الحقوق والامتيازات التي يحصل عليها هذا أو ذاك .
فالمبدأ التشريعي القائل مثلاً : إنّ الحقّ الخاصّ في المصادر الطبيعيّة يقوم على أساس العمل ، وإنّ الحقّ الخاصّ في الأرض يقوم على أساس الإحياء ، يعالج مشكلة عامّة يستوي فيها عصر المحراث البسيط وعصر الآلة المعقّد ، لأنّ طريقة توزيع المصادر الطبيعيّة على الأفراد مسألة قائمة في كلا العصرين .
ولكن هذا لا يعني جواز إهمال الجانب المتطوّر ، وهو علاقات الإنسان بالطبيعة ، لأنّ تطوّر قدرة الإنسان على الطبيعة ونموّ سيطرته على ثرواتها يطوّر وينمّي باستمرار خطر الإنسان على الجماعة ، ويضع في خدمته باستمرار إمكانات جديدة للتوسّع ، ولتهديد الصورة المتبنّاة للعدالة الاجتماعيّة .
فالمبدأ التشريعي القائل مثلاً : إنّ من عمل في أرض وأنفق عليها جهداً حتّى أحياها فهو أحقّ بها من غيره ... يعتبر في نظر الإسلام عادلاً ، لأنّ من الظلم أن يساوي بين العامل الذي أنفق جهده على الأرض وغيره ممّن لم يعمل فيها شيئاً .
ولكنّ هذا المبدأ بتطوّر قدرة الإنسان على الطبيعة ونموّها يصبح من الممكن استغلاله : ففي عصر كان يقوم إحياء الأرض فيه على الأساليب القديمة لم يكن يتاح للفرد أن يباشر عمليّات الإحياء إلّافي ساحات صغيرة . وأمّا بعد أن تنمو قدرة الإنسان ووسائل السيطرة لديه على الطبيعة ، فيصبح بإمكان أفراد قلائل ممّن تواتيهم الفرصة أن يحيوا مساحة هائلة من الأرض باستخدام الآلات الضخمة ، الأمر الذي يزعزع العدالة الاجتماعيّة . فكان لا بدّ للصورة التشريعيّة من منطقة الفراغ يمكن ملؤها حسب الظروف ، فيسمح بالإحياء سماحاً عامّاً في العصر الأوّل ، ويمنع الأفراد في العصر الثاني - منعاً تكليفيّاً - عن ممارسة الإحياء إلّا في حدود تتناسب مع أهداف الاقتصاد الإسلامي وتصوّراته عن العدالة .
وعلى هذا الأساس ، نعرف أنّ منطقة الفراغ هي المنطقة التي تتدخّل فيها الدولة تشريعيّاً لعلاج مضاعفات وانعكاسات تطوّر العلاقات البشريّة مع الطبيعة على علاقات الإنسان بالإنسان .
الدليل التشريعي :
والدليل على إعطاء وليّ الأمر صلاحيّات التدخّل التشريعي على النحو المتقدّم هو النصّ القرآني الكريم : «يا أ يّها الذين آمَنوا أطيعوا اللَّه وأطيعوا الرسول واُولي الأمر منكم »(1).والصلاحيّات التي يمنحها هذا النصّ الكريم لاُولي الأمر تضمّ كلّ فعل مباح تشريعيّاً بطبيعته ، فأيّ نشاط وعمل لم يرد نصّ تشريعي يدلّ على حرمته أو وجوبه يسمح لوليّ الأمر بإعطائه صفة ثانويّة بالمنع عنه أو الأمر به . فإذا منع الإمام عن فعل مباح بطبيعته أصبح حراماً ، وإذا أمر به أصبح واجباً . وأمّا الأفعال التي ثبت تشريعيّاً تحريمها بشكل عامّ - كالربا مثلاً - فليس من حقّ وليّ الأمر الأمر بها ، كما أنّ الفعل الذي حكمت الشريعة بوجوبه - كإنفاق الزوج علىزوجته - لا يمكن لوليّ الأمر المنع عنه ، لأنّ طاعة اُولي الأمر مفروضة في الحدود التي لا تتعارض مع طاعة اللَّه وأحكامه العامّة .
فألوان النشاط المباحة بطبيعتها في الحياة الاقتصاديّة هي التي تشكّل منطقة الفراغ .
الضمان الاجتماعي :
فرض الإسلام على الدولة ضمان معيشة أفراد المجتمع الإسلامي ضماناً كاملاً . وهي عادة تقوم بهذه المهمّة على مرحلتين :ففي المرحلة الاُولى تهيّئ الدولة للفرد وسائل العمل وفرصة المساهمة الكريمة في النشاط الاقتصادي المثمر ، ليعيش على أساس عمله وجهده .
فإذا كان الفرد عاجزاً عن العمل وكسب معيشته بنفسه كسباً كاملاً أو كانت الدولة في ظرف استثنائي لا يمكنها منحه فرصة العمل ، جاء دور المرحلة الثانية التي تمارس فيها الدولة تطبيق مبدأ الضمان ، عن طريق تهيئة المال الكافي لسدّ حاجات الفرد وتوفير حدّ خاصّ من المعيشة له .
ويمكن القول بأنّ الضمان الاجتماعي في الإسلام يقوم على أساس الإيمان بحقّ الجماعة كلّها في مصادر الثروة ، لأنّ هذه الموادّ الطبيعيّة قد خلقت للجماعة كافّة لا لفئة دون فئة : «خَلَق لكم ما في الأرض جميعاً »(2).
وهذا الحقّ يعني أنّ كلّ فرد من الجماعة له الحقّ في الانتفاع بثروات الطبيعة والعيش الكريم منها ، فمن كان من الجماعة قادراً على العمل في أحد القطاعات العامّة والخاصّة ، كان من وظيفة الدولة أن تهيّئ له فرصة العمل في حدود صلاحيّاتها . ومن لم تتح له فرصة العمل ، أو كان عاجزاً عنه ، فعلى الدولة أن تضمن حقّه في الاستفادة من ثروات الطبيعة بتوفير مستوى الكفاية من العيش الكريم .
والنصوص الإسلاميّة واضحة كلّ الوضوح في التأكيد على المسؤوليّة المباشرة للدولة في الضمان الاجتماعي :
ففي الحديث عن الإمام جعفر عليه السلام أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان يقول في خطبته : « من ترك ضياعاً فعليّ ضياعه ، ومن ترك ديناً فعليّ دينه »(3) .
وفي حديث آخر أنّ الإمام موسى بن جعفر عليه السلام قال محدّداً ما للإمام وما عليه : « إنّه وارث من لا وارث له ، يعول من لا حيلة له »(4) .
وفي خبر موسى بن بكر أنّ الإمام موسى عليه السلام قال له : « من طلب هذا الرزق من حلّه ليعود به على نفسه وعياله كان كالمجاهد في سبيل اللَّه ، فإن غلب عليه فليستدن على اللَّه وعلى رسوله ما يقوت به عياله ، فإن مات ولم يقضه كان على الإمام قضاؤه ، فإن لم يقضه كان عليه وزره ... إلخ »(5) .
وجاء في كتاب الإمام علي عليه السلام إلى واليه على مصر : « ثمّ اللَّه اللَّه في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين وأهل البؤس والزمنى ، فإنّ في هذه الطبقة قانعاً ومعترّاً ، واحفظ اللَّه ما استحفظك من حقّه فيهم ، واجعل لهم قسماً من بيت مالك وقسماً من غلّات صوافي الإسلام فى كلّ بلد ، فإنّ للأقصى منهم مثل الذي للأدنى ... إلخ »(6) .
التوازن الاجتماعي :
ووضع الإسلام للدولة مبدأ آخر يجب عليها تحقيقه ، وهو مبدأ التوازن الاجتماعي . وحين وضع الإسلام هذا المبدأ حدّد مفهومه عن التوازن ، فليس التوازن في مفهومه الإسلامي إلّاالتوازن بين أفراد المجتمع في مستوى المعيشة ، لا في مستوى الدخل . والتوازن في مستوى المعيشة معناه أن يكون المال موجوداً ومتداولاً بينهم إلى درجة تتيح لكلّ فرد العيش في المستوى العام ، أي أن يحيى جميع الأفراد مستوىً واحداً من المعيشة ، مع الاحتفاظ بدرجات داخل هذا المستوى الواحد تتفاوت بموجبها المعيشة ، ولكنّه تفاوت درجة وليس تناقضاً كلّيّاً في المستوى ، كالتناقضات الصارخة بين مستويات المعيشة في المجتمع الرأسمالي .وأمّا الاختلاف في الدخل ، فهو أمر يقرّه الإسلام نتيجة لإيمانه بتفاوت أفراد النوع البشري في مختلف الخصائص والصفات النفسيّة والفكريّة والجسديّة ؛ فهم يختلفون في الصبر والشجاعة ، وفي قوّة العزيمة والأمل ، ويختلفون في حدّة الذكاء وسرعة البديهة ، وفي القدرة على الإبداع والاختراع ، ويختلفون في قوّة العضلات ، وفي ثبات الأعصاب ، إلى غير ذلك من مقوّمات الشخصيّة الإنسانيّة التي وزّعت بدرجات متفاوتة على الأفراد .
وإيمان الإسلام بمبدأ التوازن الاجتماعي في مستوى المعيشة لا يعني أ نّه يفرض إيجاد هذه الحالة من التوازن في لحظة ، وإنّما يعني جعل التوازن الاجتماعي في مستوى المعيشة هدفاً تسعى الدولة في حدود صلاحيّاتها إلى تحقيقه والوصول إليه بمختلف الطرق والأساليب المشروعة التي تدخل ضمن صلاحيّاتها .
وقد قام الإسلام من جانبه بالعمل لتحقيق التوازن في مستوى المعيشة بضغط مستوى المعيشة من أعلى بتحريم الإسراف ، وبضغط المستوى من أسفل بالارتفاع بالأفراد الذين يحيون مستوىً منخفضاً من المعيشة إلى مستوى أرفع . وبذلك تتقارب المستويات حتّى تندمج أخيراً في مستوى واحد قد يضمّ درجات ولكنّه لا يحتوي على التناقضات الصارخة في مستوى المعيشة .
وفهمنا هذا لمبدأ التوازن الاجتماعي في الإسلام يقوم على أساس التدقيق في النصوص الإسلاميّة ، الذي يكشف عن إيمان هذه النصوص بالتوازن الاجتماعي كهدف ، وإعطائها لهذا الهدف نفس المضمون الذي شرحناه ، وتأكيدها على توجيه الدولة إلى(7) رفع معيشة الأفراد الذين يحيون حياة منخفضة تقريباً للمستويات بعضها من بعض بقصد الوصول أخيراً إلى حالة التوازن العامّ في مستوى المعيشة ، فقد جاء في الحديث أنّ الإمام موسى بن جعفر عليه السلام ذكر بشأن تحديد مسؤوليّة الوالي في أموال الزكاة أنّ الوالي يأخذ المال فيوجّهه الوجه الذي وجّهه اللَّه له على ثمانية أسهم : للفقراء والمساكين يقسمها بينهم بقدر ما يستغنون في سنتهم بلا ضيق ولا تقتير ، فإن فضل من ذلك شيء ردّ إلى الوالي ، وإن نقص من ذلك شيء ولم يكتفوا به كان على الوالي أن يموّنهم من عنده بقدر سعتهم حتّى يستغنوا(8) .
وهذا النصّ يحدّد بوضوح أنّ الهدف النهائي الذي يحاول الإسلام تحقيقه ويلقي مسؤوليّته على وليّ الأمر هو إغناء كلّ فرد في المجتمع الإسلامي .
وهذا ما نجده في كلام الشيباني على ما حدّث عنه شمس الدين السرخسي في المبسوط : إذ يقول : ( على الإمام أن يتّقي اللَّه في صرف الأموال إلى المصارف ، فلا يدع فقيراً إلّاأعطاه حقّه من الصدقات حتّى يغنيه وعياله ، وإن احتاج بعض المسلمين وليس في بيت المال من الصدقات شيء أعطى الإمام ما يحتاجون إليه من بيت مال الخراج ، ولا يكون ذلك ديناً على بيت مال الصدقة ، لما بيّنّا أنّ الخراج وما في معناه يصرف إلى حاجة المسلمين )(9) .
فتعميم الغنى هو الهدف الذي تضعه النصوص أمام وليّ الأمر .
ولكي نعرف المفهوم الإسلامي للغنى ، يجب أن نحدّد ذلك على ضوء النصوص أيضاً. وإذا رجعنا إليها وجدنا أنّ النصوص جعلت من الغنى الحدّ النهائي لتناول الزكاة ، فسمحت بإعطاء الزكاة للفقير حتّى يصبح غنيّاً ، ومنعت إعطاءه بعد ذلك كما جاء في الخبر عن الإمام جعفر عليه السلام ( تعطيه من الزكاة حتّى تغنيه )(10) .
فالغنى الذي يهدف الإسلام إلى توفيره لدى جميع الأفراد هو هذا الغنى الذي جعله حدّاً فاصلاً بين إعطاء الزكاة ومنعها .
ومرّةً اُخرى يجب أن نرجع إلى النصوص ونفتّش عن طبيعة هذا الحدّ الذي يفصل بين إعطاء الزكاة ومنعها ، لنعرف بذلك مفهوم الغنى في الإسلام ، ونواجه بهذا الصدد حديث أبي بصير الذي جاء فيه أ نّه سأل الإمام جعفر الصادق عليه السلام عن رجلٍ له ثمانمئة درهم ، وهو رجل خفّاف وله عيال كثير ، أ لَهُ أن يأخذ من الزكاة ؟ فقال له الإمام : يا أبا محمّد ، أيربح من دراهمه ما يقوت به عياله ويفضل ؟ فقال أبو بصير : نعم ، فقال الإمام : إن كان يفضل عن قوته مقدار نصف القوت فلا يأخذ الزكاة ، وإن كان أقلّ من نصف القوت أخذ الزكاة ، وما أخذه منها فضّه على عيالهحتّى يلحقهم بالناس(11) .
ففي ضوء هذا النصّ نعرف أنّ الغنى في الإسلام هو إنفاق الفرد على نفسه وعائلته حتّى يلحق بالناس ، وتصبح معيشته في المستوى المتعارف الذي لا ضيق فيه ولا تقيّة .
وهكذا نخرج من تسلسل المفاهيم إلى مفهوم الإسلام عن التوازن الاجتماعي ، ونعرف أنّ الإسلام حين وضع مبدأ التوازن الاجتماعي وجعل وليّ الأمر مسؤولاً عن تحقيقه بالطرق المشروعة ، شَرَحَ(12) فكرته عن التوازن وبيّن أ نّه يتحقّق بتوفير الغنى لسائر الأفراد وهو يسر معيشة الفرد إلى درجة تلحقه بمستوى الناس . وكما وضع الإسلام مبدأ التوازن الاجتماعي وحدّد مفهومه ، تكفّل أيضاً بتوفير الإمكانات اللازمة للدولة لكي تمارس تطبيقها للمبدأ في حدود تلك الإمكانات .
ويمكن تلخيص هذه الإمكانات في الاُمور التالية :
أوّلاً : فرض ضرائب ثابتة تؤخذ بصورة مستمرّة وينفق منها لرعاية التوازن العامّ .
وثانياً : إيجاد قطاعات لملكيّة الدولة وتوجيه الدولة إلى استثمار تلك القطاعات لأغراض التوازن .
وثالثاً - طبيعة التشريع الإسلامي الذي ينظّم الحياة الاقتصاديّة في مختلف الحقول .
1 - فرض ضرائب ثابتة :
وهي ضرائب الزكاة والخمس ؛ فإنّ هاتين الفريضتين لم تشرّعاً لأجل إشباع الحاجات الأساسيّة للفقير فحسب ، بل شرّعتا أيضاً لمعالجة الفقر بصورة أساسيّة ، والارتفاع بالفقير إلى مستوى المعيشة الذي يمارسه ميسور الحال ، تحقيقاً للتوازن الاجتماعي بمفهومه فيالإسلام .والدليل الفقهي على علاقة هذه الضرائب بأغراض التوازن وإمكان استخدامها في هذا السبيل ما يلي من النصوص :
أ - عن إسحاق بن عمّار قال قلت للإمام جعفر بن محمّد عليه السلام : « أعطي الرجل من الزكاة مئة ؟ قال : نعم ، قلت : مئتين ؟ قال : نعم ، قلت : ثلاثمائة ؟ قال : نعم ، قلت : أربعمائة ؟ قال : نعم ، قلت : خمسمائة ؟ قال : نعم حتّى تغنيه »(13) .
ب - عن عبد الرحمن بن حجّاج قال : « سألت الإمام موسى بن جعفر عن الرجل يكون أبوه وعمّه أو أخوه يكفيه مؤونته ، أيأخذ من الزكاة فيوسع بها إن كانوا لا يوسعون عليه في كلّ ما يحتاج إليه ؟ فقال : لا بأس »(14) .
ج - عن سماعة قال : « سألت جعفر بن محمّد عليه السلام عن الزكاة ؛ هل تصلح لصاحب الدار والخادم ؟ فقال الإمام : نعم »(15) .
د - عن أبي بصير أنّ الإمام الصادق عليه السلام تحدّث عمّن تجب عليه الزكاة وهو ليس موسراً ، فقال : « يوسع بها على عياله في طعامهم وكسوتهم ، ويبقي منها شيئاً يناوله غيرهم ، وما أخذ من الزكاة فضّه على عياله حتّى يلحقهم بالناس »(16) .
هـ - عن إسحاق بن عمّار قال : « قلت للصادق : أعطي الرجل من الزكاة ثمانين درهماً ؟ قال : نعم وزده ، قلت : أعطيه مئة ؟ قال : نعم وأغنه إن قدرت على أن تغنيه »(17) .
و - عن حمّاد بن عيسى أنّ الإمام موسى بن جعفر عليه السلام قال - وهو يتحدّث عن نصيب اليتامى والمساكين وابن السبيل من الخمس - أنّ الوالي يقسم بينهم على الكتاب والسنّة ما يستغنون به في سنتهم ، فإن فضل عنهم شيء فهو للوالي ، وإن عجز أو نقص عن استغنائهم كان على الوالي أن ينفق من عنده بقدر ما يستغنون به(18) .
فهذه النصوص تأمر بإعطاء الزكاة إلى أن يلحق الفرد بالناس ، أو إلى أن يصبح غنيّاً ، أو لإشباع حاجاته الأوّليّة والثانويّة على اختلاف التعابير ، وكلّها تستهدف غرضاً واحداً ؛ وهو تعميم الغنى بمفهومه الإسلامي وإيجاد التوازن الاجتماعي في مستوى المعيشة .
وعلى هذا الضوء نستطيع أن نحدّد مفهوم الغني والفقير عند الإسلام بشكل عامّ :
فالفقير هو من لم يظفر بمستوى من المعيشة يمكنه من إشباع حاجاته الضروريّة وحاجاته الكماليّة بالقدر الذي تسمح به حدود الثروة في البلاد ، أو هو بتعبير آخر من يعيش في مستوى تفصله هوّة عميقة عن المستوى المعيشيللأثرياء في المجتمع الإسلامي .
والغني من لا تفصله في مستواه المعيشي هذه الهوّة ، ولا يعسر عليه إشباع حاجاته الضروريّة والكماليّة بالقدر الذي يتناسب مع ثروة البلاد ودرجة رقيّها المادّي ، سواء كان يملك ثروة كبيرة أو لا .
وبهذا نعرف أنّ الإسلام لم يعطِ للفقر مفهوماً مطلقاً ومضموناً ثابتاً في كلّ الظروف والأحوال ؛ فلم يقل مثلاً أنّ الفقر هو العجز عن الإشباع البسيط للحاجات الأساسيّة ، وإنّما جعل الفقر بمعنى عدم الالتحاق في المعيشة بمستوى معيشة الناس كما جاء في النصّ ، وبقدر ما يرتفع مستوى المعيشة يتّسع المدلول الواقعي للفقر .
وهذه المرونة في مفهوم الفقر ترتبط بفكرة التوازن الاجتماعي ؛ إذ أنّ الإسلام لو كان قد أعطى بدلاً عن ذلك مفهوماً ثابتاً للفقر - وهو العجز عن الإشباع البسيط للحاجات الأساسيّة - وجعل من وظيفة الزكاة وما إليها علاج هذا المفهوم الثابت للفقر ، لما أمكن العمل لإيجاد التوازن الاجتماعي في مستوى المعيشة عن طريقها ، ولاتّسعت الهوّة بين مستوى عوائل الزكاة وما إليها ومستوى المعيشة العامّ للأغنياء الذي يزحف ويرتفع باستمرار .
2 - إيجاد قطاعات عامّة :
ولم يكتفِ الإسلام بالضرائب الثابتة التي شرّعها لأجل إيجاد التوازن ، بل جعل الدولة مسؤولة عن الإنفاق من القطّاع العامّ لهذا الغرض ؛ فقد مرّ بنا في الحديث عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام أنّ على الوالي في حالة عدم كفاية الزكاة أن يموّن الفقراء من عنده بقدر سعتهم حتّى يستغنوا .وكلمة ( من عنده ) تدلّ على أنّ غير الزكاة من موارد بيت المال يتّسع لاستخدامه في سبيل إيجاد التوازن بإغناء الفقراء ورفع مستوى معيشتهم .
والمفهوم من النصوص الإسلاميّة أنّ تشريع ملكيّة الدولة في المجتمع الإسلامي كان يستهدف خدمة التوازن الاجتماعي ، واستخدام ما يدخل في نطاق ملكيّة الدولة في تحقيق هذا التوازن . وقد وضع الإسلام مصطلحاً خاصّاً لملكيّة الدولة وما يدخل في نطاقها من ثروات ، وهو اسم الأنفال في العرف الإسلامي ، وهو ما تملكه الدولة في المجتمع الإسلامي . قال اللَّه تعالى : «يسألونك عن الأنفال قُل الأنفال للََّهوالرسول »(19).
وقد تطلق كلمة الفيء للتعبير عن ملكيّة الدولة بدلاً عن كلمة الأنفال ؛ فالفيء والأنفال يستخدمان في النصوص الإسلاميّة للتعبير عن معنى واحد ؛ كما جاء في حديث محمّد بن مسلم عن الباقر عليه السلام أنّ الفيء والأنفال ما كان من أرض خربة أو بطون أودية ، وقوم صولحوا أو أعطوا بأيديهم ، وما كان من أرض خربة أو بطون أودية فهو كلّه من الفيء(20) .
فالأنفال والفيء إذن تعبيران عن القطاع الذي تملكه الدولة أي منصب النبيّ والإمام .
وآية الفيء في القرآن الكريم تشرح دور الفيء في التشريع الإسلامي ، والهدف الذي يجب أن يحقّقه . قال اللَّه تعالى : «ما أفاء اللَّه على رسوله من أهل القرى فللّه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دُولَةً بين الأغنياء منكم »(21).
وهذا النصّ واضح في أنّ الفيء معدّ للإنفاق منه على الفقراء ، كما هو معدّ للإنفاق منه على المصالح العامّة المرتبطة باللَّه والرسول . وتدلّ الآية على أنّ عداد الفيء للإنفاق منه على الفقراء يستهدف جعل المال متداولاً وموجوداً لدى جميع أفراد المجتمع ، ليحفظ بذلك التوازن الاجتماعي العامّ ولا يكون دولة بين الأغنياء خاصّة .
وهكذا نستنتج من ذلك كلّه أنّ ملكيّة الدولة شرّعت لكي تكون أداة فعّالة بيد وليّ الأمر لإيجاد التوازن الاجتماعي بمفهومه الإسلامي .
وملكيّة الدولة في المجتمع الإسلامي تمثّل قطّاعاً واسعاً من الثروة الطبيعيّة ، تضمّ عدداً كبيراً من مرافق الطبيعة نذكر منها ما يلي :
أوّلاً : كلّ أرض دخلت دار الإسلام وهي ليست عامرة .
ثانياً : المعادن والمناجم .
ثالثاً : الأنهار والبحار .
رابعاً : الغابات والأحراش .
خامساً : سواحل البحار .
ويمكننا أن نقدّر على أساس هذه الامتدادات لملكيّة الإمام - رئيس الدولة في المجتمع الإسلامي - ضخامة الإمكانات التي يضعها الإسلام بين يدي الدولة ، لكي تمارس عن طريقها مسؤوليّتها في إيجاد التوازن الاجتماعي وتعميم تداول المال بين جميع أفراد المجتمع .
3 - طبيعة التشريع الإسلامي :
والتوازن العامّ في المجتمع الإسلامي مدين بعد ذلك لمجموعة التشريعات الإسلاميّة في مختلف الحقول ، فإنّها تساهم عند تطبيق الدولة لها في حماية التوازن .ويكفي أن نشير هنا إلى محاربة الإسلام لاكتناز النقود ، وإلغائه للفائدة ، وتشريعه لأحكام الإرث ، وإعطاء الدولة صلاحيّات ضمن منطقة الفراغ المتروكة لها في التشريع الإسلامي ، وإلغاء الاستثمار الرأسمالي للثروات الطبيعيّة الخام .
فالمنع عن اكتناز النقود وإلغاء الفائدة يقضي على دور المصارف الرأسماليّة في إيجاد التناقض والإخلال بالتوازن ، عن طريق امتصاصها الجزء الكبير من ثروة البلاد بقوّة إغراء الفوائد الربويّة . والقضاء على دور المصارف الرأسماليّة ينتج طبيعيّاً عدم قدرة المال الفردي غالباً على التوسّع في حقول الإنتاج . والتجارة إنّما تعتمد في مجتمع كالمجتمع الرأسمالي على المصارف الرأسماليّة التي تمدّ تلك المشاريع بحاجتها من المال ، نظير فائدة محدودة ، فإذا منع الاكتناز وحرمت الفائدة لم يتيسّر للمصارف أن تكدّس في خزائنها النقد بشكلٍ هائل ، ولا أن تمدّ المشاريع الفرديّة بالقروض ، فتبقى النشاطات الخاصّة على الصعيد الاقتصادي في الحدود المعقولة التي تواكب التوازن العامّ ، وتترك طبيعيّاً المشاريع الكبرى في الإنتاج إلى الملكيّات العامّة للدولة .
ويضاف إلى ذلك أنّ امتلاك الدولة للموادّ الأوّليّة للصناعة ( المعادن ) وللجزء الأكبر من الأرض ، يجعل بإمكانها الإشراف وقيادة جميع قطّاعات الإنتاج الزراعي والصناعي الخاصّة ، وتوجيهها الوجهة الإسلاميّة الصحيحة . وتشريع أحكام الإرث - الذي تقسم التركة بموجبه غالباً على عدد الأقرباء الورثة - يعتبر ضماناً آخر لأنّه يفتّت الثروات باستمرار ويحول دون تكدّسها .
المصادر :
1- النساء : 59
2- البقرة : 29
3- تهذيب الأحكام 6 : 211 ، الحديث 11
4- الكافي 1 : 541 ، الحديث 4
5- الكافي 5 : 93 ، الحديث 3
6- نهج البلاغة : 436 ، الرسالة 53
7- في المصدر : « لا إلى »
8- اُنظر الكافي 1 : 541 ، الحديث 4
9- المبسوط للسرخسي 4 : 18
10- الكافي 3 : 548 ، الحديث 4
11- اُنظره كاملاً في : الكافي 3 : 560 ، الحديث 3
12- في المصدر : « بالطريق المشروعة بشرح » ، وقد صحّحنا العبارة وفقاً لما جاء في : اقتصادنا : 788
13- تهذيب الأحكام 4 : 63 ، الحديث 6
14- الكافي 3 : 561 ، الحديث 5
15- المصدر نفسه : 560 ، الحديث 4
16- الكافي 3 : 560 ، الحديث 3
17- تهذيب الأحكام 4 : 14 ، الحديث 7
18- الكافي 1 : 539 ، الحديث 4
19- الأنفال : 1
20- التهذيب 4 : 134 ، الحديث 10 ، بالمعنى
21- الحشر : 6