إنّ الاُمّة - أيّة اُمّة - توجد نتيجةً لاستخراج عاملين : عامل الفكرة البنّاءة وعامل القيادة الرشيدة . وبقدر ما تحمل الفكرة من طاقات البناء وتجسّد القيادة من روح الفكرة ، تنمو الاُمّة وتشتدّ .
وبقدر ما تتّصف به الفكرة الرساليّة من رحابة اُفق وإنسانيّة في المفاهيم ، وما يتوفّر في القيادة من سعة قلب وموضوعيّة في العمل ، تمتدّ الاُمّة وتتّحد أبعادها .
فالفكرة الرساليّة والقيادة هما إذن القاعدة الاُولى لوجود الاُمّة وتحديد أبعادها المكانيّة والزمانيّة .
ونحن نملك هذه القاعدة لوجودنا بكلا حدّيها الفكري والقيادي ، فالفكرة الرساليّة هي الإسلام الذي وضع للاُمّة بذرتها الروحيّة والنظريّة وأعطاها مقوّماتها الفكريّة .
وعامل القيادة تمثّل في أبطال الرسالة كالحسين عليه السلام وغيره من تلامذة القائد الأعظم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الذين وضعوا للاُمّة بذرتها البشريّة وحدّدوا لها الطريق وجسّدوا الفكرة وأناروا الدرب وزوّدوا الاُمّة برصيدها من المثل والتضحيات .
وإذا كانت الاُمّة تولد بمولد الفكرة الرساليّة ومولد القيادة التي تجسّد الفكرة ، فمن الطبيعي أن تحتفل اُمّتنا الإسلاميّة العظيمة بيومٍ كهذا اليوم المبارك ، لأنّ مولد الحسين وأبي الحسين يحمل معنىً من معاني مولد الاُمّة .
وإذا كان يوم المبعث هو يوم مولد الفكرة التي تمخضت عنها السماء متمثّلةً في رسالة الإسلام الكبرى ، فإنّ أيّام الميلاد المباركة هي التي قدّمت للرسالة قادتها الميامين ، وأكملت بذلك القاعدة الأساسيّة في وجود الاُمّة ، فامتزجت الفكرة بالقيادة وأسفر ذلك عن اُمّة هي خيرُ اُمّة أخرجت للناس .
وهكذا نجد أنفسنا مشدودين إلى هذه الذكريات المباركة ومرتبطين بها ارتباط حياة ، لأنّها ذكريات وجودنا الأكبر كاُمّة تحت الشمس تحمل لواء الإسلام ومشعل التوحيد وتحمي كلمة السماء على وجه الأرض .
فذكرى الحسين عليه السلام في مولده أو شهادته أو ملحمة حياته الكبرى ليست بالنسبة إلينا مجرّد استرجاع لماضٍ مجيد ، وإنّما تعبّر عن جزءٍ من القاعدة التي يبتني عليها وجود الاُمّة .
فالاُمّة إذ تحتفل بذكريات الحسين وعلي عليهما السلام أو بسائر ذكريات الإسلام ، إنّما تؤكّد وجودها كاُمّة واعتنائها بكلّ المقوّمات الأساسيّة لهذا الوجود .
وعلى هذا الأساس ندرك أنّ كلّ محاولة لتعميق ربط الاُمّة بمصادر وجودها الرساليّة والقياديّة وشدّها إلى رسالتها الإسلاميّة الكبرى وقادتها الميامين هي في الحقيقة عملٌ في سبيل وجود الاُمّة بالذات .
وكلّ محاولة تستهدف تبعيد الاُمّة عن الإسلام أو قادته الميامين في أيّ مجالٍ من مجالات الحياة الفكريّة والعمليّة هي في الحقيقة مؤامرة على وجود الاُمّة ومحاولة لسرقة مقوّماتها الأساسيّة منها وتعريتها عن مبرّرات وجودها كاُمّة تحت الشمس .
وعلى هذا الأساس أيضاً نعرف أنّ إصرار الاُمّة المتمثّل في إرادتكم أ يّتها الجماهير المؤمنة على اختيار طريق الإسلام في كلّ مجالات الحياة الاعتقاديّة والاجتماعيّة والانطلاق في نفس اتّجاه القيادة الكبرى التي جسّدها الحسين وأبو الحسين عليهما السلام .
إنّ هذا الإصرار إنّما يعبّر عن إدراك الاُمّة أنّ هذا هو الطريق الوحيد لمواصلة وجودها وأصالتها والحصول على سعادة دنياها وآخرتها .
ومن خلال هذا الترابط الجذري الذي يشدّ الاُمّة إلى رسالتها الإسلاميّة وقيادتها الرائدة ، يمكنكم أن تعرفوا أ يّها الإخوة حقيقة الدور الذي تمارسه حوزة الإسلام الكبرى هنا في النجف .
حوزة الإمام جعفر بن محمّد عليه السلام التي نذرت نفسها خلال ألف عام تقريباً من تاريخها المجيد لتذكير الاُمّة دائماً بمقوّمات وجودها وربطها برسالتها المقدّسة والتضحية في سبيل مصالحها الحقيقيّة والكشف عن مؤامرات أعدائها والإعلان عن كلمة الإسلام دائماً وفي كلّ حين .
فهذه الحوزة الكبرى أ يّها الإخوة هي التي تسهر على حماية رسالتكم ، وهي التي تعبّر عن آلامكم وآمالكم الحقيقيّة ، وهي التي تضع طاقاتها في سبيل خيركم وسعادتكم .
وهي التي تحدّد لكم طريق الإسلام الواضح في كلّ مجالات الحياة التي يغني المسلمين عن استجداء الأفكار والأنظمة من معسكر الشرق أو الغرب والتطواف على موائد الرأسماليّة وغيرها من المذاهب الاجتماعيّة التي يرفضها الإسلام ويقدّم البديل الأفضل عنها متمثّلاً في نظامه الاقتصادي والاجتماعي وطريقته في تنظيم الفرد والمجتمع التي تشمل جميع مناحي الحياة .
إنّ هذه الحوزة هي همزة الوصل بين الاُمّة ورسالتها الكبرى ، وأيّ محاولة لتفتيت هذه الحوزة أو القضاء عليها يعني قطع همزة الوصل وفصل الاُمّة عن رسالتها الكبرى ، وبالتالي مقوّمات وجودها .
فبحرمة هذه الذكرى الشريفة وصاحبها العظيم صلوات اللَّه عليه ، [ نسأل اللَّه ] أن يحقّق إرادتها الواعية ويجسّد ارتباطها بدينها في كلّ مجالات الحياة ويحفظ الحوزة ويقيها شرَّ الأعداء لتكون دائماً التعبير الأصحّ عن الإسلام في الاُمّة ودليلها إلى خير الدنيا والآخرة .
المصادر : من مقال للسید محمد باقر الصدر قدس سره الشریف نشر في مجلّة ( الأضواء ) ، السنة الخامسة ، العدد ( 6 - 7 ) ، رمضان - شوّال / 1384 هـ