إنّ خط علاقات الإنسان مع الطبيعة مختلف مشكلةً وقانوناً عن خط علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان ، وذكرنا أنّ هذين الخطين كل واحد منهما مستقل استقلالاً نسبياً عن الخط الآخر ، لكن هذا الاستقلال النسبي لا ينفي التفاعل والتأثير المتبادل إلىََ حدّ ما بين هذين الخطين ، فلكل منهما لون من التأثير الطردي أو العكسي علىََ الخط الآخر .
وهذا التأثير المتبادل بين الخطين يمكن إبرازه ضمن علاقتين قرآنيتين بين هذين الخطين :
العلاقة الاُولىََ : تبرز مدىََ تأثير خط علاقات الإنسان مع الطبيعة علىََ خط علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان .
والعلاقة القرآنية الثانية : تبرز من الجانب الآخر مدىََ تأثير علاقات
الإنسان مع أخيه الإنسان علىََ علاقات الإنسان مع الطبيعة .
العلاقة الاُولىََ :
أما العلاقة الاُولىََ التي تُبرز تأثير علاقات الإنسان مع الطبيعة علىََ الخط الآخر ، فمؤدّىََ هذه العلاقة هو أ نّه كلّما نمت خبرة الإنسان علىََ الطبيعة واتّسعت سيطرته عليها وازداد اغتناءً بكنوزها ووسائل انتاجها ، تحقّقت بذلك إمكانية أكبر فأكبر للاستغلال علىََ خط علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان : «كلّا إنّ الإنسان ليطغىََ أن رآه استغنىََ »(1).هذه الآية الكريمة تشير إلىََ هذه العلاقة ، إلىََ أنّ الإنسانية بقدر ما تتمكن وتستقطب الطبيعة وتتوصّل إلىََ وسائل إنتاج أقوىََ وأدوات توليد أوسع ، تكون انعكاسات ذلك علىََ حقل علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان ، انعكاساته علىََ شكل إمكانيات وإغراءات وفتح الشهية للأقوياء لكي يستثمروا أداة الإنتاج في سبيل استغلال الضعفاء .
تصوّروا مجتمعاً يعيش علىََ الصيد باليد والحجارة والهراوة ، مثل هذا المجتمع لا يتمكن من أن يمارس بذور الأقوياء فيه ، بذور الوحوش فيه ، لا يتمكنون علىََ الأغلب من أن يمارسوا أدواراً خطيرة من الاستغلال الاجتماعي ؛ لأنّ مستوىََ الإنتاج محدود والقدرة محدودة وكل إنسان لا يكسب عادة بعرق جبينه إلّاقوت يومه ، فلا توجد إمكانية الاستغلال بشكله الاجتماعي الواسع وإن كان توجد ألوان اُخرىََ من الاستغلال الفردي .
ولكن لاحظوا من الجانب الآخر مجتمعاً متطوراً استطاع الإنسان فيه أن يصنع الآلة البخارية والآلة الكهربائية ، استطاع فيه أن يخضع الطبيعة لإرادته ، في مثل هذا المجتمع سوف تكون الآلة البخارية والآلة الكهربائية المعقّدة المتطورة الصنع تكون أداةً ، إمكانيةً علىََ ساحة علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان ، تشكّل بحسب مصطلح الفلاسفة ما بالقوة للاستغلال ، ويبقىََ أن يخرج ما بالقوة إلىََ ما بالفعل ، وذلك علىََ عهدة الإنسان ودوره التاريخي علىََ الساحة الاجتماعية .
فالإنسان هو الذي يصنع الاستغلال ، هو الذي يفرز النظام الرأسمالي المستغل حينما يجد الآلة البخارية والكهربائية ، ولكن الآلة البخارية والكهربائية هي التي تعطيه إمكانية هذا الاستغلال ، هي التي تهيّئ له فرصة ، تفتح شهيته ، توقظ مشاعره ، تحرّك جدله الداخلي وتناقضه الداخلي من أجل أن يبرز صيغة تتناسب مع ما يوجد علىََ الساحة من قوىََ الإنتاج ووسائل التوليد .
وهذا هو الفرق بيننا وبين المادية التاريخية ، المادية التاريخية اعتقدت بأنّ الآلة هي التي تصنع الاستغلال ، هي التي تصنع النظام المتناسب لها ، ولكننا نحن لا نرىََ أنّ دور الآلة هو دور الصانع ، وإنّما دور الآلة هو دور الإمكانية ، دور توفير الفرصة والقابلية ، وأمّا الصانع الذي يتصرّف إيجاباً وسلباً ، أمانة وخيانة ، صموداً وانهياراً ، إنّما هو الإنسان وفقاً لمحتواه الداخلي ، لمثله الأعلىََ ، لمدىََ التحامه مع هذا المثل الأعلىََ . هذه هي العلاقة الاُولىََ .
العلاقة الثانية :
وأمّا العلاقة القرآنية الثانية التي تمثّل وتجسّد تأثير علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان علىََ ساحة علاقات الإنسان مع الطبيعة ، فمؤدّىََ هذه العلاقة القرآنية هو أ نّه كلّما جسّدت علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان العدالة ، وكلّما استطاعت أن تستوعب قيم هذه العدالة وأن تبتعد عن أي لون من ألوان الظلم والاستغلال من الإنسان لأخيه الانسان ، كلّما وقع ذلك ، ازدهرت علاقات الإنسان مع الطبيعة وتفتّحت الطبيعة عن كنوزها وأعطت المخبوء من ثرواتها ونزلت البركات من السماء ، وتفجّرت الأرض بالنعمة والرخاء .هذه العلاقة القرآنية هي العلاقة التي شرحها القرآن الكريم في نصوص عديدة ، قال سبحانه وتعالىََ : «وألَّو استَقامُوا علىََ الطريقةِ لأسقَيناهُمْ ماءً غَدَقاً »(2).
«ولو أَنّهم أقَامُوا التَوراة والإنجِيلَ وما اُنْزِلَ إليهِم مِن رَبِّهمْ لأكَلُوا مِنْ فَوقِهِمْ ومِن تَحت أرْجُلِهِمْ »(3).
«ولو أنّ أهْل الْقُرىََ آمَنُوا واتَّقوا لَفَتَحنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِن السماء والأرضِ ولكِن كذّبوا فأخَذْنَاهُمْ بما كَانوا يَكْسِبُونَ »(4).
هذه العلاقة مؤدّاها أنّ علاقات الإنسان مع الطبيعة تتناسب عكساً(طرداً وعكساً) مع ازدهار العدالة في علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان ، فكلّما ازدهرت العدالة في علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان أكثر فأكثر ازدهرت علاقات الإنسان مع الطبيعة ، وكلّما انحسرت العدالة عن الخط الأول انحسر الازدهار عن الخط الثاني ، أيّ أنّ مجتمع العدل هو الذي يصنع الازدهار في علاقات الإنسان مع الطبيعة ، ومجتمع الظلم هو الذي يؤدّي إلىََ انحسار تلك العلاقات ، علاقات الإنسان مع الطبيعة .
الفرق بين المثل الأعلى والمثل الفرعوني
وهذه العلاقة ليست ذات محتوىََ غيبي فقط ، نعم نحن نؤمن أيضاً بمحتواها الغيبي ، ولكن إضافة إلىََ محتواها الغيبي الرباني هي تشكل سنّة من سنن التاريخ بحسب مفهوم القرآن الكريم ؛ وذلك لأنّ مجتمع الظلم ، لأنّ مجتمع الفراعنة علىََ مرّ التاريخ ، مجتمع ممزّق مشتّت الفرعونية علىََ مرّ التاريخ ، حينما تتحكم في علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان تستهدف تمزيق طاقات المجتمع ، تشتيت فئاته ، بعثرة إمكانياته ، ومن الواضح أ نّه في تشتيتٍ وبعثرةٍ وتفتيتٍ وتجزئةٍ من هذا القبيل لا يمكن لأفراد المجتمع أن يحشّدوا قواهم الحقيقية ، وأن يجنّدوا كل بذور إبداعهم لكي تنمو نمواً طبيعياً في مجال التفاعل مع الطبيعة والسيطرة علىََ الطبيعة .وهذا هو الفرق بين المثل العليا المنخفضة الفرعونية وبين المثل الأعلىََ الحق ، مثل التوحيد [ للَّه] سبحانه وتعالىََ ، فإنّ المثل الأعلىََ يوحّد الجامعة البشرية ويلغي كل الفوارق والحدود باعتبار شمولية هذا المثل الأعلىََ ، باعتبار شموليته فهو يستوعب كل الحدود وكل الفوارق ، يهضم كل الاختلافات ، يصهر البشرية كلها في وحدة متكافئة ، لا يوجد ما يميز بعضها عن بعض ، لا من دم ولا من جنس ولا من قومية ولا من حدود جغرافية أو طبقية .
المثل الأعلىََ بشموليته يوحّد البشرية ، ولكن المُثُل العليا المنخفضة تجزّئ البشرية وتشتّت البشرية . انظروا إلىََ المثل الأعلىََ كيف يقول : «إنَّ هَذه اُمّتُكُمْ اُمّةً واحدةً وأنا رَبُّكُم فَاعْبُدُونِ »(5).
«إنّ هذه اُمّتُكُم اُمّةً واحِدةً وأنا ربُّكم فاتَّقُونِ »(6).
هذا هو منطق شمولية المثل الأعلىََ التي لا تعترف بحدٍّ وبحاجز في داخل هذه الاُسرة البشرية . انظروا ، استمعوا إلىََ المثل المنخفض ، إلىََ مجتمع الظلم وآلهة مجتمع الظلم كيف يقولون ؟ أو كيف يتحدث عنهم القرآن الكريم :
«إنّ فِرعَونَ عَلَا في الأرضِ وجَعَلَ أهلَها شِيَعاً »(7)، فرعون المثل الأعلىََ المنخفض ، الفرعونية علىََ مرّ التاريخ التي تبني العلاقات بين الإنسان وأخيه الإنسان علىََ أساس الظلم والاستغلال ، الفرعونية تجزّئ المجتمع ، تبعثر إمكانيات المجتمع وطاقات المجتمع ، ومن هنا تهدر ما في الإنسان من قدرة علىََ الإبداع والنمو الطبيعي علىََ ساحة علاقات الإنسان مع الطبيعة .
طوائف المجتمع الفرعوني :
وعملية التجزئة الفرعونية للمجتمع تقسّم المجتمع إلى فصائل وجماعات :الطائفة الاُولى :
الجماعة الاُولىََ : ظالمون مستضعفون ، هذه الجماعة الاُولىََ في التقسيم الفرعوني هم الظالمون المستضغفون ، في نفس الوقت الظالمون الثانويون أو بحسب تعبير أئمتنا عليهم الصلاة والسلام « أعوان الظلمة » . هؤلاء الظالمون المستضعفون يشكّلون حماية لفرعون وللفرعونية وسنداً في المجتمع لبقاء الفرعونية واستمرار وجودها وإطارها . قال اللَّه سبحانه وتعالىََ : «ولو تَرىََ إذِ الظالِمونَ مَوقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِم يَرجِعُ بَعضُهم إلىََ بَعضٍ القولَ يَقُولُ الذِينَ استُضعِفُوا للذِينَ استَكْبَرُوا لو لا أنتُم لَكُنّا مُؤمنينَ »(8).هنا القرآن يتحدّث عن الظالمين يقول : «إذ الظالمون موقوفونَ »، لكنّ الظالمين صنّفهم إلىََ قسمين : إلىََ من استضعف منهم ، ومن استكبر منهم . إذن فالظالمون فيهم مستكبرون ، وهم الذين يمثّلون الفرعونية في المجتمع ، وفيهم المستضعفون .
فالطائفة الاُولىََ إذن في التجزئة الفرعونية لمجتمع الظلم هم الظالمون المستضعفون ، هؤلاء الذين يحشرون يوم القيامة في زمرة الظالمين ، ثم يقولون للمستكبرين من الظالمين : لو لا أنتم لكنا مؤمنين ، هذه هي الطائفة الاُولىََ التي تشكل الحماية والسند للفرعونية . *الطائفة الثانية :
الطائفة الثانية في عملية التمزقة الفرعونية لمجتمع الظلم : ظالمون يشكّلون حاشية ومتملّقون ، اُولئك الذين قد لا يمارسون ظلماً بأيديهم بالفعل ، ولكنهم دائماً وأبداً علىََ مستوىََ نزوات فرعون وشهوات فرعون ورغبات فرعون ، يسبقونه بالقول من أجل أن يصححوا مسلكه ومسيرته . قال اللَّه سبحانه وتعالىََ : « وقالَ الملاُ مِن قومِ فِرعَونَ أَتَذَرُ موسىََ وقَومَهُ ليُفسِدوا في الأرضِ ويَذَرَك وآلِهتَك قال سنُقتِّل أبناءهم ونستَحيي نِساءَهُمْ وإنّا فَوقَهُم قاهِرُون »(9).
شكّلوا دور الإثارة لفرعون ، هؤلاء كانوا يعرفون أ نّهم بهذا الكلام يضربون علىََ الوترالحساس في قلب فرعون ، وأنّ فرعون كان بحاجة إلىََ كلام من هذا القبيل ، فتسابقوا إلىََ هذا الكلام لكي يجعلوا فرعون يعبّر عمّا في نفسه ويتّخذ الموقف المنسجم مع مشاعره وعواطفه وفرعونيته .
الطائفة الثالثة :
الطائفة الثالثة في عملية التجزئة الفرعونية لمجتمع الظلم : اُولئك الذين عبّر عنهم الإمام عليّ عليه الصلاة والسلام بـ « الهمج الرعاع » ، جماعة هم مجرّد آلات مستسلمة للظلم ، لا تحسّ حتىََ بالظلم ، لا تدرك أ نّها مظلومة ولا تدرك أنّ في المجتمع ظلماً . هي آلات تتحرك تحركاً آلياً ، تحركاً يشبه التحرك الميكانيكي للآلة ، تحرّك التبعية والطاعة دون تدبّر ، دون وعي . سلب فرعون منها تدبّرها ، عقلها ، وعيها . ربط يدها به لا عقلها به ، ولهذا فهي تحرّك يدها تحركاً آلياً وتستسلم للأوامر ، للأوامر الفرعونية دون أن تناقشها ، دون أن تتدبّرها ، حتىََ بينها وبين نفسها لا بينها وبين الآخرين .هذه الفئة طبعاً تفقد كل قدرة علىََ الإبداع البشري في مجال التعامل مع الطبيعة ، تفقد كل قابليات النمو ؛ لأنّها تحوّلت إلىََ آلات ، إذا وجد هناك إبداع في هذه الفئة إنّما هو إبداع من يحرك هذه الآلات ، إبداع تلك الفرعونية التي تحرّك هذه الآلات . وأمّا هذه الفئة فلم تعد اُناساً وبشراً يفكرون ويتدبّرون لكي يستطيعوا أن يحقّقوا لوناً من الإبداع علىََ هذه الساحة .
قال اللَّه سبحانه وتعالىََ : « وقالُوا رَبَّنا إنّا أطَعنا سادَتَنا وكُبَراءَنا فأضَلُّونَا السَبيلا »(10)لا يوجد في كلام هؤلاء ما يشعر بأ نّهم كانوا يحسّون بالظلم ، أو كانوا يحسّون بأ نّهم مظلومون ،وإنّما هو مجرد طاعة ، مجرد تبعية .
هؤلاء هم القسم الثالث في تقسيم مولانا أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام حينما قال : الناس ثلاثة : عالم رباني ، ومتعلّم علىََ سبيل نجاة ، وهمج رعاع ينعقون مع كل ناعق(11) .
وهذا القسم الثالث يشكّل مشكلة بالنسبة إلىََ أيّ مجتمع صالح ، وبقدر ما يمكن للمجتمع الصالح أن يستأصل هذا القسم الثالث بتحويله إلىََ القسم الثاني ، بتحويله إلىََ متعلّم علىََ سبيل النجاة علىََ حد تعبير الإمام ، إلىََ تابع بإحسان(12) علىََ حدّ تعبير القرآن ، إلىََ مقلِّد بوعي وتبصّر علىََ حدّ تعبير الفقه ، بقدر ما يمكن تحويل هذا القسم الثالث إلىََ القسم الثاني يمكن للمجتمع الصالح أن يستمر وأن يمتد ، ولهذا كان من ضرورات المجتمع الصالح في نظر الإمام عليه الصلاة والسلام هو شجب هذا القسم الثالث ، هؤلاء همج رعاع ينعقون مع كل ناعق ، ليس لهم لبّ مستقل ، عقل مستقل ، وإرادة مستقلة ، كان الإمام عليه السلام يرىََ أنّ هذا القسم الثالث يجب تصفيته من المجتمع الصالح وذلك لا بالقضاء عليه فردياً ، بل تحويله إلىََ القسم الثاني ضمن إحدى الصيغ الثلاثة التي ذكرناها ، لكي يستطيع المجتمع الصالح أن يواصل إبداعه ، ولكي يستطيع كل أفراد المجتمع الصالح أن يشكّلوا مشاركة حقيقية في مسيرة الإبداع .
وخلافاً لذلك الفرعونية ، الفرعونية تحاول أن توسّع من هذا القسم الثالث .
هؤلاء الهمج الرعاع الذين ينعقون مع كل ناعق تحاول الفرعونية أنّ توسّع منهم ، وكلّما توسّعت هذه الفئة أكثر فأكثر قدّمت المجتمع نحو الدمار خطوة بعد خطوة ؛ لأنّ هذه الفئة لا تستطيع بوجه من الوجوه أن تدافع عن المجتمع إذا حلّت كارثة في الداخل أو طرأت كارثة من الخارج ، فكلّما توسّعت هذه الفئة ، هذا القسم الثالث ، هؤلاء الذين ينعقون مع كل ناعق ، كلّما توسّعوا في المجتمع ازداد خطر فناء المجتمع ، وبهذا تموت المجتمعات موتاً طبيعياً .
مفهوم الموت لدىََ القرآن للمجتمعات وللأقوام وللاُمم ، الموت الطبيعي للمجتمع لا الموت المخروم .
المجتمع له موتان : موت طبيعي وموت مخروم . الموت الطبيعي للمجتمع يكون عن طريق توسّع هذه الفئة الثالثة وازديادها نوعياً وعددياً في المجتمع إلىََ أن تحلّ الكارثة فينهار المجتمع .
هذه هي الطائفة الثالثة في عملية التجزئة الفرعونية .
الطائفة الرابعة :
الطائفة الرابعة : هم أولئك الذين يستنكرون الظلم في أنفسهم ، اُولئك الذين لم يفقدوا لبّهم أمام فرعون والفرعونية ، فهم يستنكرون الظلم ولكنهم يهادنون الظلم ويسكتون عن الظلم ، فيعيشون حالة التوتر والقلق في أنفسهم ، وهذه الحالة - حالة التواتر والقلق - أبعد ما تكون عن حالة تسمح للإنسان بالإبداع والتجديد والنموّ علىََ ساحة علاقات الإنسان مع الطبيعة . هؤلاء يسمّيهم القرآن الكريم بـ « ظالمي أنفسهم » .قال اللَّه سبحانه وتعالىََ : «إنّ الذينَ تَوَفّاهُم الملائِكَةُ ظالمي أنفُسِهِم قَالُوا فِيمَ كُنتُم قَالُوا كُنّا مُستَضعَفِينَ في الأرضِ قَالُوا أَلَم تَكُنْ أرضُ اللَّه واسِعَةً فتُهاجِرُوا فِيهَا »(13)، هؤلاء لم يظلموا الآخرين ، ليسوا من الظالمين المستضعفين كالطائفة الاُولىََ ، وليسوا من الحاشية المتملقين ، وليسوا أيضاً من الهمج الرعاع الذين فقدوا لبّهم ، لا بل بالعكس هم يشعرون بأ نّهم مستضعفون : « قالوا كُنّا مستضعفين في الأرض »، هؤلاء لم يفقدوا لبّهم ، يدركون واقعهم ولكنهم كانوا عملياً مهادنين ، ولهذا عبّر عنهم القرآن بأ نّهم ظلموا أنفسهم . هذه الطائفة هل يترقب منها أن تساهم بإبداع حقيقي في مجال علاقات الإنسان مع الطبيعة ؟ طبعاً كلا .
الطائفة الخامسة :
الطائفة الخامسة في عملية التجزئة الفرعونية للمجتمع هي : الطائفة التي تتهرّب من مسرح الحياة ، تبتعد عن المسرح وتتهرّب منه وتترهّب ، وهذه الرهبانية ظاهرة موجودة في كل مجتمعات الظلم علىََ مرّ التاريخ ، وهي تتخذ صيغتين :الاُولىََ صيغة جادّة ، رهبانية جادّة تريد أن تفرّ بنفسها لكي لا تتلوّث بأوحال المجتمع ، هذه الرهبانية الجادّة هي التي عبّر عنها القرآن الكريم بقوله : « ورهبانيةً ابتدَعُوها »(14)هذه الرهبانية يشجبها الإسلام ، لأنّها موقف سلبي تجاه مسؤولية خلافة الإنسان علىََ الأرض .
وهناك صيغة مفتعلة للرهبانية : يترهّب ويلبس مسوح الرهبان ولكنه ليس راهباً في أعماق نفسه ، وإنّما يريد بذلك أن يخدّر الناس ويشغلهم عن فرعون وظلم فرعون ويسطو عليهم نفسياً وروحياً ، وهذا هو الذي عبّر عنه القرآن الكريم بقوله : «إنّ كَثِيراً من الأحَبارِ والرهبَانِ ليأكُلُونَ أموالَ الناسِ بالباطِلِ ويَصُدُّونَ عَنْ سبيلِ اللَّه »(15).
الطائفة السادسة :
الجماعة السادسة والأخيرة في عملية التجزئة الفرعونية للمجتمع : هم المستضعفون . الفرعونية حينما جزّأت المجتمع إلىََ طوائف ، فرعون حينما اتّخذ من قومه شيعاً استضعف طائفة معينة منهم ، خصّها بالاستضعاف والإذلال وهدر الكرامة ؛ لأنّها كانت هي الطائفة التي يتوسّم هو أن تشكّل إطاراً للتحرّك ضدّه ، ولهذا استضعفها بالذات : «وإذْ نجّيناكُم مِن آلِ فِرعَونَ يَسُومُونَكم سُوءَ العذابِ يُذبِّحونَ أبناءَكُم ويَستَحيُونَ نِساءَكُمْ وفي ذَلكم بَلاءٌ من ربِّكُمْ عَظيمٌ »(16).هذه هي الطائفة السادسة .
تبدّل المواقع بحسب تبدّل العلاقة :
وقد علّمنا القرآن الكريم - ضمن سنّة من سنن التاريخ أيضاً - أنّ موقع أي طائفة في التركيب الفرعوني لمجتمع الظلم يتناسب عكساً مع موقعه بعد انحسار الظلم ، وهذا معنىََ قوله سبحانه وتعالىََ : «ونُرِيدُ أنْ نَمُنَّ علىََ الذينَ استُضعِفُوا في الأرضِ ونَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً ونَجْعَلَهُمُ الوارِثينَ »(17).
تلك الطائفة السادسة التي كانت هي منحدر التركيب يريد اللَّه سبحانه وتعالىََ أن يجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين ، وهذه علاقة اُخرىََ وسنّة تاريخية اُخرىََ يأتي الحديث عنها إن شاء اللَّه تعالىََ .
إذن فإلىََ هنا استخلصنا هذه الحقيقة : وهي أنّ المجتمع يتناسب مع مدىََ الظلم فيه تناسباً عكسياً مع ازدهار علاقات الإنسان مع الطبيعة ، ويتناسب مدىََ العدل فيه تناسباً طردياً مع ازدهار علاقات الإنسان مع الطبيعة .
مجتمع الفرعونية المجزّأ المشتّت مهدور القابليات والطاقات والإمكانيات ، ومن هنا تحبس السماء قطرها وتمنع الأرض بركاتها ، وأمّا مجتمع العدل فهو علىََ العكس تماماً ، هو مجتمع تتوحّد فيه كل القابليات وتتساوىََ فيه كل الفرص والإمكانيات . هذا المجتمع الذي تحدّثنا الروايات عنه ، تحدّثنا عنه من خلال الروايات ، تحدّثنا عنه من خلال ظهور الإمام المهدي عليه الصلاة والسلام ، تحدّثنا عمّا تحتفل به الأرض والسماء في ظلّ الإمام المهدي عليه السلام من بركات وخيرات ، وليس ذلك إلّا لأنّ العدالة دائماً وأبداً تتناسب طرداً مع ازدهار علاقات الإنسان مع الطبيعة . هذه هي العلاقة الثانية بين الخطين .
المصادر :
1- العلق : 6 - 7
2- الجن : 16
3- المائدة : 66
4- الأعراف : 96
5- الأنبياء : 92
6- المؤمنون : 52
7- القصص : 4
8- سبأ : 31
9- الأعراف : 127 .
10- الأحزاب : 67
11- يُراجع نهج البلاغة ، قصار الحكم : 147 ، وفيه : « الناس ثلاثة : فعالم رباني ، ومتعلّم على سبيل النجاة ، وهمج رعاع أتباع كل ناعق ... »
12- انظر قوله تعالى : «والسابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار والذين اتّبعوهم بإحسان ... »التوبة : 100
13- النساء : 97
14- الحديد : 27
15- التوبة : 34
16- البقرة : 49
17- القصص : 5