حينما وجد الانحراف بعد وفاة الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلم) لم تكن الاُمّة على مستوى المراقبة.
الاُمّة بوصفها المجموعي لم تكن قادرةً على ضمان عدم وقوع هذا الحاكم -المنحرف بطبيعته- في سلوكٍ منحرف؛ لأنّ كون الاُمّة على مستوى هذا الضمان إنّما يكون فيما إذا وصلت الاُمّة بوصفها المجموعي إلى درجة العصمة، أي: إذا أصبحت الاُمّة -كاُمّةٍ- تعيش الإسلام عيشاً كاملاً، عميقاً، مستوعِباً، مستنيراً، منعكساً على مختلف مجالات حياتها.
وهذا ما لم يكن، بالرغم من أنّ الاُمّة الإسلاميّة وقتئذٍ كانت تشكِّل أفضل نموذجٍ للاُمّة في تاريخ الإنسان على الإطلاق. يعني: نحن الآن لا نعرف في تاريخ الإنسان اُمّةً بلغت -في مناقبها، وفضائلها، وقوّة إرادتها، وشجاعتها، وإيمانها، وصبرها، وجلالتها، وتضحيتها- ما بلغته هذه الاُمّة العظيمة حينما خلّفها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) .
الذي يقرأ تاريخ هؤلاء الناس -هذه الحفنة من الناس التي عاش معها النبي (صلّى الله عليه وآله)- تبهره أنوارُهم في المجال الروحي والفكري والنفسي، وفي مجال
الجهاد والتضحية في سبيل العقيدة.
ولكنّ هذه الأنوار التي تبهر المطالِع لم تكن نتيجةَ وعيٍ معمّقٍ تعيشه الاُمّة في أبعادها الفكريّة والنفسيّة، بل [كانت] نتيجةَ طاقةٍ حراريّةٍ هائلةٍ اكتسَبَتْها هذه الاُمّةُ بإشعاع النبي الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلم) عليها. هذه الاُمّة التي عاشت مع أكمل قائدٍ للبشريّة اكتسبت عن طريق الإشعاع من هذا القائد درجةً كبيرةً من الطاقة الحراريّة.هذه الدرجة الكبيرة من الطاقة الحراريّة صنعت المعاجز، وصنعت البطولات، وصنعت التضحيات التي يقلّ نظيرها في تاريخ الإنسان، ولا اُريد أن أذكر الأرقام.
طبعاً، أنتم قرأتم غزواتِ رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وقرأتم روحيّةَ المجاهدين في أيّام رسول الله، وإيثارَ كلِّ واحدٍ منهم للإسلام وللعقيدة، إيثارَه بكلّ وجوده، وبكلّ طاقاته وإمكاناته. هذه النماذج الرفيعة إنّما هي نتاج هذه الطاقة الحراريّة.
هذه الطاقة الحراريّة هي التي جعلت الاُمّة الإسلاميّة تعيش أيّامَ رسول الله محنةَ العقيدة بكلّ صبر، ثمّ تتحمّل مسؤوليّة هذه العقيدة بعد وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وتحمل لواء الإسلام -بكلّ شجاعةٍ وبطولةٍ- إلى مختلف أرجاء الأرض والعالم.
هذه هي طاقة حراريّة وليست وعياً.
ماهيّة الوعي والطاقة الحراريّة:
ويجب أن نفرّق ونميّز بين الطاقة الحراريّة وبين الوعي:1- الوعي هو عبارة عن الفهم الفعّال الإيجابي المحرِّك للإسلام في نفس الاُمّة، الذي يستأصل جذور المفاهيم الجاهليّة السابقة استئصالاً كاملاً، ويحوِّل تمام مرافق الإنسان من مرافق للفكر الجاهلي، للعاطفة الجاهليّة، للذوق الجاهلي، إلى مرافق للفكر الإسلامي والعاطفة الإسلاميّة والذوق الإسلامي. هذا هو الوعي.
2- وأمّا الحرارة، الطاقة الحراريّة، فهي عبارة عن توهّجٍ عاطفيٍّ حارٍّ مسعور(1)، قد يبلغ في مظاهره نفسَ ما يبلغه الوعيُ في ظواهره، بحيث يختلط الأمر؛ فلا يُميَّزُ بين الاُمّة التي تحمل مثل هذه الطاقة الحراريّة وبين اُمّةٍ تتمتّع بذلك الوعي إلّا بعد التبصّر. الفرق بين الاُمّة الواعية وبين الاُمّة ذات الطاقة الحراريّة:
إلّا أنّ الفرق ما بين الاُمّة الواعية والاُمّة التي تحمل الطاقة الحراريّة فرقٌ كبير:
1ـ تناقص الطاقة الحراريّة عند ابتعادها عن مركزها، بخلاف الوعي:
فإنّ الطاقة الحراريّة بطبيعتها تتناقص بالتدريج بالابتعاد عن مركز هذه الطاقة. المركز الذي كان يموّن الاُمّة بهذه الطاقة هو شخص القائد (عليه أفضل الصلاة والسلام)، وكان من طبيعة الحال أن يكون حالُ الاُمّة بعده في تناقصٍ مستمرّ، حال الشخص الذي يتزوّد من الطاقة الحراريّة للشمس أو النار، ثمّ يبتعد عن الشمس والنار؛ فإنّ هذه الطاقة تتناقص عنده باستمرار.
وهكذا كان: تاريخ الإسلام يثبت أنّ الاُمّة الإسلاميّة كانت في حالة تناقصٍ مستمرٍّ لهذه الطاقة الحراريّة التي خلّفها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) في اُمّته حين وفاته، بخلاف الوعي؛ فإنّ الوعي -بذلك المعنى المركَّز، الشامل، المستأصِل لجذور ما قبله، والذي يخلُف جميع المفاهيم والأفكار المسبقة- من طبيعته الثباتُ والاستقرار، بل التعمّق على مرّ الزمن؛ لأنّ هذا الوعي -بطبيعته- يمتدّ، ويخلق له -بالتدريج- مجالاتٍ جديدةً وفقاً لخطّ العمل ولخطّ الأحداث.
فالاُمّة الواعية هي اُمّةٌ تسير في طريق التعمّق في وعيها. والاُمّة التي تحمل طاقةً حراريّةً هائلةً هي الاُمّة التي لو بقيت هي وحدها مع هذه الطاقة الحراريّة فسوف تتناقص هذه الطاقة الحراريّة باستمرار.
2- الوعي لا تهزّه الانفعالات، بخلاف الطاقة الحراريّة:
الفرق الآخر: أنّ الوعي لا تهزّه الانفعالات، الوعي يصمد أمام الانفعالات، وأمّا الطاقة الحراريّة فتهزّها الانفعالات. الانفعال حينئذٍ يفجّر المشاعر الباطنيّة المستترة، يبرز ما وراء الستار، ما وراء سطح النفس؛ لأنّ الطاقة الحراريّة طاقة تبرز على سطح النفس البشريّة. وأمّا الوعي، فهو شيءٌ يثبت في أعماق هذه النفس البشريّة.
ففي حالة الانفعال -سواء أَكان الانفعال انفعالاً معاكساً، يعني: حزناً وألماً، أو كان انفعالاً موافقاً، أي: فرحاً ولذّةً وانتصاراً، في كلا الحالين- سوف يتفجّر ما وراء الستار، ويبرز ما كان كامناً وراء هذه الطاقة الحراريّة في الاُمّة المزوَّدة بهذه الطاقة فقط.
أمّا الاُمّة الواعية، فوعيها يصمد ويتقوّى على مرّ الزمن، وكلّما مرّ بها انفعالٌ جديدٌ أكّدت شخصيّتها الواعية في مقابل هذا الانفعال، وصبغته بما يتطلّبه وعيُها من موقف.
هذا هو الفرق بين الوعي والطاقة الحراريّة.
الاُمّة الإسلاميّة حملت طاقةً حراريّةً ولم تحمل وعياً مستنيراً:
نحن ندّعي أنّ الاُمّة الإسلاميّة العظيمة التي خلّفها القائد الأعظم (صلّى الله عليه وآله)، والتي ضربت أعظم مَثَلٍ للاُمّة في تاريخ الإنسان إلى يومنا هذا، هذه الاُمّة كانت اُمّةً تحمل طاقةً حراريّةً هائلةً كبيرة، ولم تكن اُمّةً تحمل وعياً مستنيراً مستوعِباً مجتثّاً لاُصول الجاهليّة فيها.
والدليل على كلّ هذا واضحٌ من تاريخ الاُمّة نفسها: من يقرأ تاريخ الاُمّة يعرف أنّ الاُمّة كانت اُمّة طاقةٍ حراريّة، ولم تكن اُمّة وعيٍ مستنيرٍ تُجْتَثُّ فيه اُصول الجاهليّة. في حالات الانفعال -الانفعال الموافق، أو الانفعال المخالف- يبدو أنّ هذه الاُمّة لم تكن إلّا اُمّةَ طاقةٍ حراريّةٍ، ولم تكن اُمّة وعي.
1- موقف الأنصار من حرمانهم غنائم حُنين:
اُنظروا إلى غزوة حُنين، غزوة هوازن بعد فتح مكّة، ماذا صنعت هذه الاُمّة العظيمة ذات الطاقة الحراريّة في لحظة الانفعال؟
رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) خرج بجيشٍ مزيجٍ من الأنصار ومن قريش من أهل مكّة، فانتصر في معركته، وأخذ غنائم كثيرة، وكان من قراره (عليه الصلاة والسلام) توزيع هذه الغنائم جميعاً على من خرج معه من مسلمي مكّة، فوزّعها جميعاً على مسلمي مكّة، ولم يحظَ أحدٌ من الأنصار بشيءٍ منها.
هذه لحظة انفعال، لحظة انفعالٍ نفسيٍّ؛ لأنّ هؤلاء يَرَون أنفسهم أنّهم خرجوا مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) من المدينة ليفتحوا مكّة، وفتحوا مكّة، وحقّقوا للاُمّة أعظم انتصاراتها في حياة النبي بفتح مكّة، وبعد هذا يدخل معهم في الدعوة اُناسٌ جُدُد، فهؤلاء الاُناس الجدد يستقلّون بتمام المغانم ويأخذونها على يد النبي.
هذه لحظة انفعال، في هذه اللحظة من لحظات الانفعال لا تكفي الطاقة الحراريّة، هنا نحتاج إلى وعيٍ لتتثبَّت هذه الاُمّة، لتستطيع أن تتغلّب على لحظة الانفعال، فهل كان مثل هذا موجوداً؟
لا، لم يكن موجوداً؛ فإنّ الأنصار أخذ يشيع في ما بينهم هذا الهمس، الهمس القائل بأنّ محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلم) لقي أهله وقومه وعشيرته فنسي أصحابه وأنصاره! هؤلاء الذين شاركوه في محنته، هؤلاء الذين ضحّوا في سبيله، هؤلاء الذين قاوموا عشيرته في سبيل دعوته، أهملهم، أعرض عنهم؛ لأنّه رأى أحبّاءه، أولاد عمّه، رأى عشيرته.
اُنظروا إلى هذا التفسير! يبدو أنّ الأنصار كان المفهوم القَبَلي متركّزاً في نظرهم، متركّزاً في واقع نفوسهم، إلى درجةٍ يبدو لهم أنّ محمّداً (صلّى الله عليه وآله)، وهو الرجل الأشرف الأكمل الذي عاشوا معه، وعاشوا مع تمام مراحل حياته الجهاديّة، ولم يَبدُ في كلِّ مراحلهم الجهاديّة أيُّ لونٍ يعطي شعوراً قَبَليّاً أو قوميّاً، بالرغم من هذا، وبالرغم من خلوّ حياته من أيّ إشعارٍ سابقٍ بذلك... في لحظة انفعالٍ قالوا بأنّه وقع تحت تأثير العاطفة القَبَليّة، تحت تأثير العاطفة القوميّة.
هذه العاطفة القَبَليّة أو العاطفة القوميّة، هذا الترابط القَبَلي كيف كان قويّاً في نفوسهم؟! بحيث إنّهم اصطنعوه تفسيراً للموقف في لحظةٍ من لحظات الانفعال!
رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) سمع بالهمس، اطّلع على أنّ هناك بذورَ ردّةٍ فكريّة في الأنصار. أرسل على كبار الأنصار من الأوس والخزرج، جمعهم عنده، التفت إليهم، قال -وأنا أنقل بالمعنى طبعاً، لا باللفظ- : ما مقالةٌ تبلغني عن بعضكم في هذا الموضوع؟! أنّ محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلم) نسي أصحابه وأنصاره حينما التقى بقومه؟! فسكت الجميع، واعترف البعض بهذه المقالة.
حينئذٍ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) أخذ يعالج الموقف الآني، المشكلة الآنيّة يعالجها أيضاً عن طريق إعطاء مزيدٍ من الطاقة الحراريّة؛ لأنّ هذه المشكلة ذات حدّين: حدّ آنيّ، وحدّ على المدى الطويل:
الحدّ على المدى الطويل يجب أن يعالج عن طريق التوعية على الخطّ الطويل، وهو الشيء الذي كان يمارسه النبي (صلّى الله عليه وآله).
وأمّا المشكلة بحدّها الآني يجب أن تعالج أيضاً معالجةً آنيّة، والمعالجة الآنيّة لا تكون إلّا عن طريق إعطاء مزيدٍ من هذه الطاقة الحراريّة لتسيطر على لحظة الانفعال.
ماذا قال لهم؟ كيف ألهب عواطفهم؟
قال لهم: أَلا ترضون أن يذهب اُولئك -يرجعون إلى بلادهم- بمجموعة من الأموال الزائفة وأنتم ترجعون إلى بلادكم بمحمّد؟! ألا ترون أنّ غنيمتكم أكبر من غنيمتهم؛ لأنّكم ترجعون بالنبي إلى المدينة، وهؤلاء يرجعون بكومةٍ من الأموال لا تنفعهم إلّا برهةً من الزمان؟!
هذه كانت دفعةً حراريّةً كبيرةً جدّاً. تحوّل الموقف في لحظة: هذه الاُمّة التي تعيش اللحظات العاطفيّة هكذا يكون شأنها، تحوّلت هذه الاُمّة، أخذ يبكي هؤلاء الأوس والخزرج، يبكون أمام رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، يستغفرون ويعلنون ولاءهم، تضحيتهم، استعدادهم، يقينهم به.
أراد (صلّى الله عليه وآله وسلم) أن يعمّق أكثرَ هذا الموقفَ العاطفي؛ فبعد أن سكن بكاؤهم وهدأت عواطفهم قال لهم: ألا تقولون لي في مقابل هذا؟! أخذ يترجم بعض الأحاسيس المستترة في نفوسهم لأجل أن يهيّج عواطفهم تجاهه، ولأجل أن يُشيع في ذلك المجلس جوّاً عاطفيّاً روحيّاً يتغلّب على الموقف، إلى آخر القصّة(2).
هنا: الاُمّة التي تحمل الطاقة الحراريّة تنهار أمام لحظة انفعال.
2- نظرة المسلمين إلى النبوّة بوصفها سلطاناً:
لحظة انفعالٍ اُخرى أيضاً في تاريخ هذه الاُمّة بعد وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله). هذه لحظة انفعال، لحظة انفعالٍ كبيرة؛ لأنّ رحيل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) كان يشكّل أزمة نفسيّة هائلة بالنسبة إلى الاُمّة الإسلاميّة التي لم تكن قد تهيّأت بعدُ ذهنيّاً وروحيّاً لأنْ تفقد رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
في هذه اللحظة من الانفعال أيضاً المشاعرُ التي كانت في الأعماق برزت على السطح.
هناك تكلّمنا عن الأنصار، هنا نتكلّم عن المهاجرين: ماذا قال المهاجرون في لحظة الانفعال؟ هؤلاء المهاجرون، هؤلاء الذين هاجروا من بلادهم، تركوا دورَهم، عوائلهم، قومهم في سبيل الإسلام، ماذا قالوا؟ ماذا كان موقفهم؟
كان موقفهم أنّهم قالوا: إنّ السلطان سلطان قريش! إنّ سلطان محمّد سلطان قريش، وسلطان قريش نحن أولى به من بقيّة العرب، أولى به من بقيّة المسلمين(3).
هنا برز الشعور القَبَلي أو الشعور القومي في لحظة انفعال؛ لأنّ هذه اللحظة من الانفعال من طبيعتها أن تشكّل صدمةً بالنسبة إلى الطاقة الحراريّة، يصبح الإنسان في حالةٍ غير طبيعيّة، في هذه الحالة غير الطبيعيّة -حيث لا يوجد وعيٌ عاصم- ينهار(أي: الإنسان.) أمام تلك الأفكار المستترة، أمام تلك العواطف المختفية وراء الستار، تبرز هذه الأفكار وهذه العواطف.
إذاً، لحظة الانفعال هي التي تحدّد أنّ هذه الاُمّة هل تحمل وعياً أو تحمل طاقةً حراريّة؟!
3- استيلاء المسلمين على كنوز كسرى وقيصر:
صحيح أنّ عبادة بن الصامت حينما واجه ملك القبط في مصر واجهه بطاقةٍ حراريّةٍ كبيرةٍ هائلة، حينما سأله عن هدفه: هل يريد مالاً؟ هل يريد جاهاً؟ هل يريد مقاماً؟ قال: لا نُريد شيئاً من ذلك، وإنّما نريد أن ننقذ المظلوم من الظالم في أيّ مكانٍ على وجه الأرض، ونريد أن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الشيطان هي السفلى(قال عبادة بن الصامت للمقوقس في أحداث فتح مصر: «..وذلك أنّا إنّما رغبتنا وهمّتنا الجهاد في الله واتّباع رضوانه، وليس غزونا عدوَّنا ممّن حارب الله لرغبة في دنيا ولا طلباً للاستكثار منها» الاكتفاء بما تضمّنه من مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء نهاية الأرب في فنون الأدب فتوح مصر وأخبارها ولعلّ كلام ربعي بن عامر لرستم ملك الفرس جواباً عن سؤال ترجمانه حول علّة مجيئهم إلى فارس أوضح في ما قصد السيد محمد باقر الصدر (قدّس سرّه)؛ حيث قال: «الله جاء بنا، وهو بعثنا لنخرج من يشاء من عباده من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه).(4)
هذه طاقة حراريّة، هذه الطاقة الحراريّة تشبه الوعي تماماً؛ لأنّ عبادةبن الصامت لو كان يمثّل الاُمّة الواعية لقال نفس هذا الكلام.
لكنّ الفرق في لحظة الانفعال، في لحظة الانتصار، ماذا صنع المسلمون؟ في لحظة الانتصار والاستيلاء على كنوز كسرى وقيصر، الاستيلاء على العالم، ماذا صنع المسلمون؟
المسلمون في هذه اللحظة أخذوا يفكّرون في الدنيا، أخذوا يفكّرون في أن يقتنص كلُّ واحدٍ منهم أكبر قدرٍ ممكنٍ من هذه الدنيا.
4- موقف الخليفة الثاني من حكم الأرض المفتوحة:
والأزمة التي مرّت بعمر بن الخطّاب في تحقيق حال الأرض المفتوحة عنوة، وأنّ الأرض المفتوحة عنوةً: هل تقسّم على المقاتلين؟ أو أنّها تجعل لبيت المال وتجعل ملكاً عامّاً؟
هذه الأزمة تعطي في المقام كيف أنّ هذه الاُمّة تردّت في لحظة الانفعال؛ لأنّ وجوه المهاجرين والأنصار، هؤلاء الأبرار المجاهدين، هؤلاء الذين عاشوا كلَّ حياتهم الكفاحَ والجهادَ في سبيل الله، هؤلاء أخذوا يصرّون إصراراً مستميتاً على أنّ هذه الأراضي يجب أن توزّع عليهم، وعلى أنَّ كلَّ واحدٍ منهم يجب أن ينال أكبر قدرٍ ممكنٍ من هذه الأرض، إلى أن أفتى عليُّ بن أبي طالب (عليه الصلاة والسلام) بأنّ الأرض للمسلمين جميعاً، لمن هو موجود الآن ولمن يوجد بعد اليوم إلى يوم القيامة(5).
هذه اللحظات، لحظات الانفعال -لحظات الانفعال الانخذاليّة ولحظات الانفعال الانتصاريّة- هي التي تحدّد أنّ الاُمّة هل كانت تحمل طاقةً حراريّةً أو تحمل وعياً.
إذاً، فالاُمّة كانت تحمل وعياً، ولكنْ من وراء هذا الوعي يوجد قدرٌ كبيرٌ من الرواسب الفكريّة والعاطفيّة والنفسيّة التي لم تكن قد استؤصلت بعد.
عوامل انطماس النظريّة الإسلاميّة للحياة الاجتماعيّة:
قد يقول قائل: إذاً ماذا كان يصنع النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) إذا لم تكن قد استؤصلت هذه الرواسب؟!
الجواب على ذلك: بأنّ هذه الرواسب ليس استئصالها شيئاً سهلاً يسيراً، وذلك:
1- الدعوة الإسلاميّة طفرة وليست خطوة:
أمّا أوّلاً؛ فلأنّ الدعوة الإسلاميّة التي جاء بها النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) لم تكن مجرّد خطوة إلى الأمام، بل كانت طفرةً بين الأرض والسماء.
إذا لاحظنا حال العرب قبل الإسلام ولاحظنا مستوى الرسالة الإسلاميّة، نرى أنّ المستوى هو مستوى الطفرة بين الأرض والسماء، لا مستوى الحركات الإصلاحيّة التي توجد في المجتمعات العالميّة، وهي مستوى الخطوة إلى الأمام.
أيّ حركة إصلاحيّة تنبع من الأرض، وتنبع من عبقريّة الإنسان بما هو إنسان، هي تزحف بالمجتمع خطوةً إلى الأمام لا أكثر: المجتمع كان قد وصل إلى الخطوة السابعة، هذه الحركة الإصلاحية التي تنبع من الأرض تتقدّم به خطوة واحدة أو خطوتين أو ثلاث خطوات في خطّ التقدّم، وحينئذٍ من الممكن -في زمن قصير- أن تُستأصل رواسب الخطوة السابعة بعد الدخول في الخطوة الثامنة؛ لأنّ الفرق الكيفي بين الخطوة السابعة والخطوة الثامنة فرقٌ قليل، فرقٌ ضئيل، التشابه بين الخطوة السابعة والخطوة الثامنة تشابهٌ كبيرٌ جدّاً. هذا التشابه الكبير، ذاك التفاوت اليسير، يعطي في المقام إمكانيّة التحويل، إمكانيّة اجتثاث تلك الاُصول الموروثة من الخطوة السابقة.
ولكن ماذا ترون وماذا تقدّرون لو أنّ شخصاً جاء إلى شخصٍ آخر في الأرض فطار به إلى السماء؟!
في لحظةٍ من اللحظات جاء النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) إلى مجتمعٍ متناحرٍ يعيش الفكرة القبَليّة بأشدّ ألوانها، وبأضرى معارفها ونتائجها، وأخسّ مفاهيمها وأفكارها، جاء إلى المجتمع فألقى فيه فكرة المجتمع العالمي الذي لا فرق فيه بين قبيلةٍ وقبيلة، وبين شعبٍ وشعب، بين اُمّةٍ واُمّة، وقال بأنّ الناس سواسية كأسنان المشط(6)، وأنّ هؤلاء الناس يجب أن يشكّلوا اُسرةً واحدة، ومجتمعاً واحداً، ودولةً واحدة، تضمّ العالم كلَّه.
هذه الطفرة الهائلة -بكلّ ما تضمّ من تحوّلٍ فكري، وانقلاب اجتماعي، وتغيّرٍ في المشاعر والمفاهيم والانفعالات، هذه الطفرة- لم تكن شيئاً عاديّاً في حياة الإنسان، وإنّما كانت شيئاً هائلاً في حياة الإنسان.
إذاً، كيف يمكن أن نتصوّر أنّ هذا المجتمع الذي طفر هذه الطفرة، مهما كان هذا المجتمع ذكيّاً، مهما كان صبوراً على الكفاح، مهما كان قويّاً ومؤمناً برسول الله (صلّى الله عليه وآله)؟ كيف يمكن أن نتصوّر -في الحالات الاعتياديّة- أنّ هذا المجتمع يودِّع تمام ما كان عنده من أفكارٍ ومن مشاعرَ ومن انفعالات، ويقلب صفحةً جديدةً كاملةً دون أيِّ اصطحابٍ لموروثات العهد السابق؟
هذا أمر غير ممكن، لا في فترة عشر سنوات، بل في فترةٍ أطول من عشر سنوات، فكيف وأنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) لم يعش كمجتمعٍ ودولةٍ، كمربٍّ تربيةً كاملةً مع المدينة إلّا عشر سنوات فقط؟! كيف وأنّ جزءاً كبيراً من المجتمع الإسلامي -الذي دخل الأحداث بعد وفاة رسول الله مباشرةً- هو مجتمع مكّة الذي كان قد دخل في حظيرة الدولة الإسلاميّة وقتئذٍ، ومكّة لم تكن قد دخلت الإسلام إلّا قبل سنتين من وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، كانت قد رأت النور قبل سنتين من وفاة الرسول؟! كيف يمكن أن نتصوّر في خلال هذه الأزمنة القصيرة ومع تلك الطفرة الهائلة الكبيرة يُمكن اجتثاث تلك الاُصول؟!
إذاً، فالاُصول كان من المنطقي والطبيعي أن تبقى، وكان من المنطقي والطبيعي أن لا تُجتثَّ إلّا خلال عملٍ طويل، وخلال عمليّة تستمرّ مع خلفاء الرسول بعد الرسول (صلّى الله عليه وآله). إلّا أنّ هذه العمليّة انقطعت بالانحراف، وتحوُّلِ خطِّ الخلافة من علي (عليه الصلاة والسلام) إلى الخلفاء الذين تولّوا الأمر بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
إذاً، فهذا لا يعطي أيضاً نقطة استغراب، أو يُعطي نقطة ضعفٍ بالنسبة إلى عمل الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله)، بل هذا ينسجم مع عظمة الرسالة ومع جلالها ومع تخطيط النبي (صلّى الله عليه وآله).
إذاً هذه هي الاُمّة، الاُمّة تحمل طاقةً حراريّة، ولكنّها اُمّة غير واعية. إذا كانت هي اُمّةً تحمل طاقةً حراريّةً ولكنّها اُمّة غير واعية، إذاً فهي غير قادرةٍ على حماية التجربة الإسلاميّة، وعلى وضع حدٍّ لانحراف الحاكم الذي تولّى الحكم بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؛ إذ إنّ الاُمّة بوصفها المجموعي ليست معصومةً، ما دامت هي تحمل طاقةً حراريّةً فقط ولا تحمل وعياً مستنيراً يجتثّ اُصول الجاهليّة، إذاً فهي بوصفها المجموعي ليست معصومة، وإذا لم تكن معصومةً بوصفها المجموعي، إذاً فلا تقف في وجه هذا الانحراف، ولا يمكن أن تكون ضماناً لعدم هذا الانحراف.
2- استبطان الذين تولَّوا الحكم قدراً كبيراً من الأفكار الجاهليّة:
يبقى الحاكم نفسه، هذا الحاكم نفسه أيضاً قلنا بأنّه حتّى لو أخذنا بالنسبة إلى الحاكم بغير مفهومنا عن هذا الحاكم، مع هذا تبقى في المقام طبيعةُ الأشياء وطبيعةُ الأحداث تفرض أن يكون هذا الحاكم عرضةً للانحراف، وعرضةً لتحطيم التجربة الإسلاميّة، وبالتالي تحطيم جميع الاُصول الموضوعيّة والإطار العام لهذه التجربة الشريفة المباركة؛ فإنّ الحاكم -أوّلاً- هو جزءٌ من هذه الاُمّة، جزءٌ عاديٌّ من هذه الاُمّة التي قلنا بأنّها لم تكن تحمل وعياً مستنيراً، بل كانت تحمل طاقةً حراريّة.
ولنفرض أنّ هذا الحاكم لم يكن شخصاً متميِّزاً عن هذه الاُمّة بانحرافٍ خاصٍّ، أو بتخطيطٍ سابق للاستيلاء على الحكم، أو بتصميمٍ على قتل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) في سبيل الاستيلاء على الحكم.. فلنفرض أنّ كلَّ هذا لم يكن، وإنّما هو جزءٌ عاديٌّ من هذه الاُمّة، لا تدلّ سوابقه -على أحسن تقدير- على أكثر من أنّه جزءٌ عاديٌّ من هذه الاُمّة التي كانت تحمل طاقةً حراريّةً، ولم تكن تحمل وعياً مستنيراً..
إذاً، فكونه جزءاً من هذه الاُمّة بهذا المعنى معناه: أنّ الحاكم يستبطن قدراً كبيراً من الأفكار الجاهليّة والعواطف الجاهليّة والمشاعر الجاهليّة(7).
وهذا كان واضحاً من اللحظة الاُولى في يوم السقيفة. من اللحظة الاُولى في يوم السقيفة، وفي الحجج التي أوردها المهاجرون ضدّ الأنصار، كان من الواضح أنّ تقييم الخلافة لم يكن تقييماً إسلاميّاً، وأنّ تقييم النبوّة لم يكن تقييماً إسلاميّاً(8).
إذاً، فهذه الرواسب الفكريّة والعاطفيّة للجاهليّة سوف تعمل عملَها في سلوك هذا الحاكم، وفي تخطيط هذا الحاكم، وفي كلِّ ما يتصّرف به هذا الحاكم.
3- نزعة الذين تولَّوا الحكم إلى الاستقلال بالرأي : (9)
نضيف إلى هذا أنّ هذا الحاكم بالخصوص كان يبدو منه في حياة الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلم) نزعة الاستقلال بالرأي وروح التمرّد على التعبّد. هذا أمرٌ كان ظاهراً فيهم، خاصّة في الخليفة الثاني عمر بن الخطّاب، كان من الظاهر فيه في حياة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) أنّه كان بعيداً عن نزعة التعبّد المطلق بكلّ ما يأتي به رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، بل كان فيه روح التمرّد على جملةٍ من التعاليم التي جاء بها(10)؛ لأنّها تُحدِث عنده حالةَ التناقض بين الدعوة الجديدة التي دخل فيها وبين مفاهيمه وأفكاره وعواطفه المسبقة التي صاغتها الجاهليّة له.
هذه النزعة، نزعة التحرّر، ونزعة التعويل على الرأي والتمرّد على التعبّد، لم تكن تشكّل خطراً في الوقت الذي كان هذا الرجل إنساناً عاديّاً في المجتمع الإسلامي وكان الرسول هو الحاكم في هذا المجتمع. ولكن في الوقت الذي تولّى هذا الشخصُ وأصحابُ هذا الشخص زمام قيادة التجربة، قيادة هذه السفينة، في هذا الوقت هذه النزعة أصبحت تشكّل خطراً في المقام.
فإذا أضفنا تلك الموروثات الجاهليّة إلى هذه النزعة، إلى نزعة الاستقلال بالرأي، سوف نستنتج طبيعيّاً في المقام أنّ هذا الحاكم سوف يسير في جملةٍ من قضاياه ومشاكله على وفق موروثاته الجاهليّة، وعلى وفق رواسبه العاطفيّة والنفسيّة التي خلّفها له آباؤه وأجداده، لا التي خلّفها له رسول الدعوة (صلّى الله عليه وآله).
4- عدم إعداد الذين تولَّوا الحكم إعداداً إلهيّاً(11) :
نضيف إلى ذلك أيضاً أنّ الحاكم لم يكن قد هُيِّئَ أبداً لأنْ يكون حاكماً. وللحاكم مشاكله الخاصّة، وسلوكه الخاص، وثقافته الخاصّة. الحاكم -خاصّةً إذا كان حاكماً في صدر دعوةٍ جديدة، ذات حضارة خاصّة وذات ثقافةٍ جديدة- لا بدّ وأن يكون مهيّأً بصورة مسبقة- ثقافيّاً، علميّاً، روحيّاً- لأنْ يكون حاكماً.
هنا نريد أن نقصد بعدم التهيّؤ: عدم التهيّؤ الثقافي والعلمي؛ يعني لم يكن قد استوعب الإسلام، ولم يكن قد حاول أن يدرس الإسلام في المقام.
عمر نفسه يقول: «بأنّه شَغَلَنا في أيّام رسول الله الصَّفْقُ في الأسواق»؛ تأتيه مشكلةٌ فلا يعرف الجواب عنها، يبعث على المهاجرين والأنصار ليستفتيهم، مرّةً اُخرى، مرّة ثالثة، مرّة رابعة.. حينما يتكرّر هذا المطلب منه ويقف موقفاً سلبيّاً تجاه المشاكل من الناحية الدينيّة يعتذر عن ذلك، يقول:
«شغلنا في أيّام رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) الصَّفْقُ في الأسواق»(12).
نعم، رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) لم يكن قد اشتغل لتهيئة مجموعةٍ من الاُمّة لتحكم الناس؛ لأنّه قد كان هيّأ قادةً معيَّنين من أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) ليحكموا. كان لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) درسان، كان له بحثان بحسب الاصطلاح الآخوندي(13):
1- كان له درسٌ وعمليّةُ توعيةٍ على مستوى الاُمّة، وهذه عمليّة توعية للاُمّة بوصفها رعيّةً، وبالمقدار الذي تتطلّبه الرعيّةُ الواعيةُ من فهمٍ وثقافة.
2- وكان له درسٌ آخر، وبحثٌ آخر، ومستوى آخر من التوعية للصفوة التي اختارها الله تعالى لتخلفه في قيادة هذه التجربة، وتلك كانت توعيةً على مستوى القيادة، وعلى مستوى الحاكميّة.
هؤلاء الذين تولَّوا الحكم بعد رسول الله لم يكونوا قد وُعّوا على هذا المستوى، ولم يكونوا هم أنفسُهم قد هيَّئوا أنفسَهم بصورةٍ مسبقةٍ لهذا المستوى من الناحية الفكريّة والثقافيّة.
أَلَسنا جميعاً نعلم أنّ الصحابة في أيّام أبي بكر وعمر اختلفوا في المسائل الواضحة جدّاً، اختلفوا في حكم مسألةٍ كان يمارسها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) أمام أعينهم طيلة السنة، اختلفوا في حكم صلاة الجنائز(14).
هذه المسألة البسيطة العباديّة الصرفة البعيدة عن كلّ مجالات الهوى، عن كلّ مجالات السياسة والاقتصاد ونحو ذلك، مسألة تعبّديّة صرفة، ليس فيها هوى؛ فالاختلاف هنا اختلافٌ ناشئٌ من جهلٍ حقيقةً، لا اختلافٌ ناشئٌ من هوى، ليس من قبيل الاختلاف في حكم الأرض، في حكم الغنيمة، في حكم الخمس؛ هناك قد يقال بأنّ هذا ليس جهلاً، هذا هوى، لكنْ صلاة الميّت!!
رسول الله كان كلّ ميّت يموت من المؤمنين يذهب إلى الخارج ويصلّي عليه مع المسلمين، والمسلمون يصلّون جماعةً مع النبي. عملٌ مكشوفٌ أمام أعينهم، مع هذا اختلف الناس فيه في ما بينهم، واختلف الخلفاء في ما بينهم، في أنّه كم عدد التكبيرات في صلاة الميّت؟!
كلّ هذا ينشأ من عدم التهيئة السابقة، من عدم الاستعداد السابق لممارسة الحكم، ولقيادة هذه التجربة.
5- التوسّع الكمّي للاُمّة الإسلاميّة في ظلّ غياب الاُطروحة الحيّة:
يضاف إلى كلِّ ذلك، يُضاف إلى أنّ الاُمّة كانت تحمل طاقةً حراريّةً ولم تكن واعية، وإلى أنّ الحاكم كان قاصراً ومقصِّراً، يضاف إلى ذلك: أنّ الإسلام كان على أبواب تحوّلٍ كمّيٍّ هائل، كان على أبواب أن يفتح أحضانه لاُممٍ جديدةٍ لم ترَ النبي (صلّى الله عليه وآله)، ولم تسمع آيةً من القرآن من فم النبي على الإطلاق.
تلك الاُمّة التي خلّفها النبي كانت تحمل طاقةً حراريّةً، لكن بعد أن اتّسعت الاُمّة كمّيّاً وضمّت إليها شعوباً كثيرةً، ضمّت إليها الشعب العربي بكامله تقريباً في أيّام عمر بن الخطّاب، وضمّت إليها كثيراً من الشعوب الاُخرى: الفارسيّة والتركيّة والكرديّة(15).
ما بال هذه الشعوب التي لم تكن قد رأت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ولا سمعت منه كلمةَ قرآن، ولا صلَّت معه صلاةً واحدة! هل يترقّب أن يكون لها وعيٌ؟! أو يترقّب أن يكون لها طاقة حراريّة كتلك الطاقة الحراريّة؟!
تلك الطاقة الحراريّة كانت نتيجةَ كفاحٍ مستمرٍّ مع أشرف قائد على وجه الأرض. أمّا هذه الشعوب التي دخلت في حظيرة الإسلام، لم تكن قد عاشت هذا الكفاح المستمرَّ مع أشرف قائدٍ على وجه الأرض.
إذاً، فهذا الانفتاح الهائل على شعوبٍ اُخرى أيضاً أضعَفَ من مناعة هذه الاُمّة، وأضعف من قدرة هذه الاُمّة على الحماية، وفَتَحَ مجالاتٍ جديدةً للقصور والتقصير أمام الحاكم أيضاً.
الحاكم الذي لم يكن مهيّأً نفسيّاً لأنْ يحكم في مجتمع المدينة، كيف يكون مهيّأً نفسيّاً، كيف يكون مهيّأً فكريّاً وثقافيّاً لأنْ يحكم على بلاد كسرى وقيصر؟ لأنْ يقوِّض ويجتثَّ اُصول الجاهليّة الفارسيّة والهنديّة والكرديّة والتركيّة، إضافةً إلى اجتثاث اُصول الجاهليّة العربيّة؟! هذه الجاهليّات التي كلُّ واحدةٍ منها كانت تحتوي على قدرٍ كبيرٍ من الأفكار والمفاهيم المنافية مع الأفكار والمفاهيم الاُخرى أيضاً، جاهليّات عديدة متضاربة في ما بينها، متضاربة عاطفيّاً، متضاربة فكريّاً، كلّها اندمجت في مجتمعٍ واحدٍ، في حالة عدم وجود ضمانٍ، لا على مستوى الحاكم ولا على مستوى الاُمّة.
لئن كان اُولئك الذين خلّفهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قد رَأَوا باُمّ أعينهم -ولو لحظةً قصيرة- تجسيداً واقعاً حيّاً للنظريّة الإسلاميّة للحياة وللمجتمع في أيّام رسول الله، لئن كانوا قد رَأَوا تصرّفات رسول الله في المجال السياسي والاقتصادي والعسكري والاجتماعي، لئن كانوا قد سمعوا من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) أنّه يقول: إنّ «الناس سواسية كأسنان المشط»(16)، فهذه الشعوب التي دخلت في الإسلام جديداً لم تكن قد سمعت كلَّ هذا، بل سمعت خلاف هذا من الحكّام الجدد الذين كانوا يتولّون زعامة التجربة.
إذاً، فكان كلُّ هذا الذي قلناه يمهّد لانطماس النظريّة الإسلاميّة للحياة الاجتماعيّة انطماساً كاملاً؛ لأنّ هذه النظريّة الاجتماعيّة الإسلاميّة للحياة الاجتماعيّة كان أمينُها حاكماً منحرفاً، وكانت الاُمّة غير قادرة على مواجهة هذا الانحراف، وكانت على أبواب توسّعٍ هائلٍ يضمّ شعوباً لا تعرف شيئاً أصلاً عن هذه النظريّة الإسلاميّة للحياة الاجتماعيّة، وإنّما تعرف الواقع الذي تَجَسَّد خارجاً، والذي عاشته كواقعٍ فاتحٍ مسلَّحٍ سيطر على بلادها.
إذاً، فكان من المفروض ومن المنطقي -بحسب طبيعة الأشياء- أن تتحوّل النظريّة الإسلاميّة للحياة الاجتماعيّة إلى نظريّة اُخرى على وفق خطّ الحاكم. يعني: كان من المنطقي أن يعيش المسلمون ذهنيّاً وفكريّاً نظريّة أبي بكر وعمر وعثمان للحكم، كما [عاشوها] واقعيّاً وسياسيّاً، وأن تنطمس تلك الاُطروحة الحقيقيّة -تلك الاُطروحة الصالحة- فكريّاً وروحيّاً كما انطمست سياسيّاً واقتصاديّاً في يوم السقيفة.
هذا كان أمراً طبيعيّاً، وهذا الأمر الطبيعي قد خطّط لحماية الإسلام من قبل قادة أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام)، وذلك عن طريق الدخول في الصراع السياسي مع خلفاء الجور.
هدف الأئمّة (عليهم السلام) من دخول الصراع مع الزعامة المنحرفة:
الأئمّة (عليهم الصلاة والسلام) دخلوا في صراع مع الخلفاء المنحرفين ومع الزعامات المنحرفة، دخلوا في صراعٍ معها يحملون بأيديهم مشعلَ تلك النظريّة الإسلاميّة للحياة الاجتماعيّة بكلّ بهائها ونورها وجمالها وكمالها، ولم يكونوا يستهدفون من هذا أن يعيدوا خطَّ التجربة؛ لأنّ المؤسف -وهذا ما سوف نتحدّث عنه في يومٍ آخر، في يومٍ عن أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) - أنّ خطّ التجربة لم يكن بالإمكان أن يعود مرّة اُخرى إلى الاستقامة بعد أن انحرف، لم يكن الصراع السياسي يستهدف في المقام أن يعيد التجربة إلى خطّها المستقيم وعلى المدى الطويل الطويل(وذلك في المدى المنظور وفي ظلّ القيادة غير المعصومة؛ بقرينة تعبيره (قدّس سرّه) بـ-«الهدف الآني»، ولهذا يأتي منه بعد قليل: «أنّ عود التجربة الإسلاميّة إلى الخطّ المستقيم على المدى البعيد البعيد لم يكن بالإمكان أصلاً»، كما يأتي في المحاضرة الثامنة أنّ «أمير المؤمنين (عليه السلام) حينما تولّى الحكم لم يكن يستهدف من تولّي الحكم تحصين التجربة أو الدولة بقدر ما كان يستهدف تقديم المثل الأعلى للإسلام؛ لأنّه كان يعرف أنّ التناقضات في الاُمّة الإسلاميّة بلغت إلى درجةٍ لا يمكن معها أن ينجح عمل إصلاحي إزاء هذا الانحراف». ولا يقصد السيد الصدر (قدّس سرّه) المدى غير المنظور؛ فـ-«الحدُّ على المدى الطويل يجب أن يعالج عن طريق التوعية على الخطّ الطويل» كما تقدّم في هذه المحاضرة. وسيأتي أيضاً في المحاضرة السادسة أنّ «الأمر الأوّل الذي كان الأئمّة يمارسونه في حياتهم هو محاولة القضاء على الانحراف الموجود في تجربة المجتمع الإسلامي، وإرجاع التجربة إلى وضعها الطبيعي؛ وذلك بإعدادٍ طويلِ المدى»، وأنّ الظروف الموضوعيّة «تجعل في قدرة الإمام المعصوم أن يحاول إعادة التجربة الإسلاميّة إلى وضعها الطبيعي ووضعها الصحيح». )، لم يكن هذا هو الهدف الآني للصراع السياسي، وإنّما كان الهدف الآني للصراع السياسي هو أن يُسمعوا المسلمين، يُسمعوا الشعوبَ الجديدة، ويُوعّوا الشعوب الاُخرى التي كانت، يوعّوها على النظريّة الحقيقيّة للإسلام عن الحياة، عن المجتمع، عن الدولة، عن الاقتصاد، عن السياسة، عن الاُخوّة، عن التعامل والتعاضد... ما هو مفهوم الإسلام في كلّ هذه المجالات يجب أن يبيَّن للناس، يجب أن توضع هذه النظريّة في ذهن الناس.صحيح أنّ هذه النظريّة كانت موجودةً في القرآن، وكانت موجودةً في النصوص، لكنْ وجودها في القرآن وفي النصوص لا يكفي وحده:
أوّلاً: النظريّات حينما تكون حبراً على ورقٍ لا تكفي لأنْ تعطي صورةً واضحةً في أذهان الناس.
وثانياً: بأنّ القرآن والسنّة لم تكن قد فهمتهما هذه الشعوبُ الجديدة التي دخلت في الإسلام جديداً:
أمّا السنّة: لم يكونوا قد سمعوا منها شيئاً، وإنّما سوف يسمعون عنها عن طريق الصحابة.
وأمّا القرآن الكريم: لم يكونوا قد سمعوا شيئاً من تفسيره أيضاً، وإنّما يسمعون تفسيرَه عن طريق الصحابة.
إذاً، فكان لا بدّ من تجسيدٍ حيٍّ لهذه النظريّة الإسلاميّة. وحيث لم يكن بالإمكان عن طريق الحكم بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) مباشرةً، ولهذا عن طريق المعارضة مع الزعامات المنحرفة على يد عليّ (عليه الصلاة والسلام) والحسن والحسين (عليهم الصلاة والسلام)، أئمّة المرحلة الاُولى.
المصادر :
1- أي: مهيّج (المفردات في غريب القرآن: 411).
2- السيرة النبويّة (ابن هشام) 499 :2؛ الطبقات الكبرى 117 :2؛ الكتاب المصنّف في الأحاديث والآثار (ابن أبي شيبة) 416 :7؛ المسند (ابن حنبل) 188 :3؛ الجامع المسند الصحيح المختصر (البخاري) 59 :4؛ الجامع الصحيح (مسلم) 106 :3؛ تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 94 :3؛ الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد 145:1؛ دلائل النبوّة 173 :5؛ تاريخ الإسلام 600 :2؛ البداية والنهاية 357 :4.
3- الإمامة والسياسة 25 :1، 29؛ تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 220 :3. وقد عبّر عن هذه العقيدة أبو سفيان، الذي قال للعبّاس يوم فتح مكّة: «يا أبا الفضل! لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيماً! قال: قلت: يا أبا سفيان! إنّها النبوّة» البداية والنهاية 290 :4.
4- مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء 14 :4 - 15؛ نهاية الأرب في فنون الأدب 291 :19؛ فتوح مصر وأخبارها 146 :1. / تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 520 :3؛ المنتظم في تاريخ الاُمم والملوك 168 :4؛ الكامل في التاريخ 463 :2؛ البداية والنهاية 39 :7. )
5- تاريخ اليعقوبي 151 :2 - 152. / فتوح البلدان: 261؛ معجم البلدان 44 :1/ (اقتصادنا: 503)، .
6- البيان والتبيين 14 :2؛ من لا يحضره الفقيه 379 :4، الحديث 5798؛ الاختصاص: 341.
7- البيان والتبيين 14 :2؛ من لا يحضره الفقيه 379 :4، الحديث 5798؛ الاختصاص: 341.
8- الإمامة والسياسة 25 :1، 29؛ تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 220 :3.
9- التشيّع والإسلام (بحث حول الولاية): 52،
10- المغازي 606 :2؛ تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 634 :2]، شرح نهج البلاغة 21 :12.
11- راجع للشهيد الصدر (قدّس سرّه) المدرسة القرآنيّة، علوم القرآن: 315، .
12- المسند (ابن حنبل) 400 :4؛ الجامع الصحيح (مسلم) 179 :6.
13- المدرسة القرآنيّة، علوم القرآن: 323، التفسير في عصر الرسول (صلّى الله عليه وآله).
14- تاريخ المدينة المنوّرة 390 :1؛ الحاوي الكبير 55 :3. / التشيّع والإسلام (بحث حول الولاية): 34.
15- راجع حول الفتوحات في عهد الخليفة الثاني: الأخبار الطوال: 113 وما بعد.
16- البيان والتبيين 14 :2؛ من لا يحضره الفقيه 379 :4، الحديث 5798؛ الاختصاص: 341.