
ليلة القدر التي شهدت مولد هذه الرسالة وهبوطها على الإنسان في الأرض متمثّلة في القرآن الكريم ، هي خير من ألف شهر ، لأنّ يوماً واحداً من حياة اُمّة رساليّة تحمل بيدها الرسالة التي تنير لها الدرب وتحدّد الأهداف هو أعظم بركة وأكثر عطاء في حياة الاُمم والشعوب من ألف شهر تعيشه اُمّة ضائعة لا تملك هدفاً ولا تعرف طريقاً ...
ولم يشهد هذا الشهر المبارك مولد الرسالة متمثّلة في نزول القرآن فحسب ، بل شهد أيضاً مولد القيادة الواعية المنبثقة عن تلك الرسالة والمحدّدة بإطارها ...
فالقرآن الذي أنزله اللَّه تعالى في ليلة القدر من شهر رمضان إنّما نزل في تلك الليلة المباركة لإيجاد القائد الرسالي ، فقد نزل ككلّ على شخص النبيّ في شهر رمضان لتثقيفه بالرسالة وإعداده لقيادة الاُمّة في معركتها الرساليّة ضدّ جاهليّات الأرض .
ثمّ نزل بعدها تدريجيّاً خلال ثلاثة وعشرين عاماً من عمر الدعوه لتثقيف الاُمّة وإعداد الجيش الواعي القادر على حماية الرسالة الجديدة .
وهكذا نزل القرآن الكريم مرّتين : نزل دفعة ككلّ لإعداد القائد ، ونزل تدريجيّاً كأجزاء لإعداد الاُمّة .
ونزول القرآن لإعداد القائد هو الذي يتحدّث عنه القرآن حين يقول : « شهر رمضان الذي اُنزل فيه القرآن »(1)
ويقول : «إنّا أنزلناه في ليلةٍ مباركة »(2)
ويقول : «إنّا أنزلناه في ليلة القدر »(3)...
وهنا نزل القرآن كلّه دفعة واحدة على النبيّ متمثّلاً في فيض إلهي من التوعية والإعداد الفكري والروحي لتحمّل مسؤوليّات القيادة لأنبل وأطهر معركة في تاريخ الإنسان .
ونزول القرآن لإعداد الاُمّة وجعلها «خير اُمّةٍ اُخرجت للناس »(4)
هو النزول التدريجي الذي يحدّث عنه القرآن الكريم حين يقول : «وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزّلناه تنزيلاً »(5).
ويلاحظ أنّ القرآن عبّر عن النزول على مستوى الاُمّة بالتنزيل لأنّه يتّفق مع تدرّج العمليّة ، وعبّر عن النزول على مستوى القائد بالإنزال لإبراز الدفعيّة فيه ، إذ نزل بروحه العامّة على الشخص الذي اختارته السماء لحمل المثل وإضاءة الطريق ...
وقد استطاعت ليلة القدر أن تحقّق معناها وهي تدخل حياة النبيّ القائد بوصفها بداية انفتاح في حياته على أعظم رسالة وأضخم مسؤوليّة ، وأيّ قدر أكبر من أن ترتفع به لحظة في ليلة مباركة لكي يعيش رسالة السماء ويعي أهدافها ويدرك مسؤوليّاتها ؟ !
وإذا كانت ليلة القدر استطاعت أن تحقّق معناها على أرفع مدى في حياة القائد الرائد ، فإنّها تظلّ دائماً ليلة قدر لكلّ فرد بالقدر الذي يستطيع الفرد فيها أن ينفتح على رسالته ويسمو إلى ربّه ويحقّق شيئاً من ذلك القدر الكبير الذي صنع القائد الكبير ...
وإذا كنّا في شهر رمضان نعيش ذكرى مولد الرسالة والقيادة معاً ، فنحن إذن نعيش ذكرى مولدنا كاُمّة ووجودنا كقوّة رائدة للبشريّة الذي لم يكن إلّانتيجة هذين العاملين : عاملَي الرسالة والقيادة اللذين تمثّلا في القرآن ومحمّد صلى الله عليه و آله حين تفاعلا في ليلة قدرٍ فريدة في تاريخ الإنسان ...
ولا يزال وجودنا كاُمّة رائدة مرتبطاً بعامل الرسالة التي مثّلها القرآن في مطلع تاريخنا وعامل القيادة الواعية على تلك الرسالة وهمومها الكبيرة ...
ولا يزال القرآن الكريم كما كان بالأمس وحده القادر على إعطاء هذه الرسالة وإنشاء الاُمّة على أساسها كقوّة رائدة إلى طريق الخلاص للبشريّة كلّها ...
وكما نزل القرآن مرّتين : مرّة لإعداد القائد ومرّة لإعداد الاُمّة فأدّى دوره العظيم خلال ذلك ، فهكذا اليوم يجب لكي يؤدّي القرآن الكريم دوره من جديد أن ينشئ القيادة الصالحة ثمّ الاُمّة الواعية ، فلا بدّ للمسلمين أن يختمر القرآن في عقول القادرين منهم على الارتفاع إلى مستوى الرسالة الإسلاميّة والاندماج في إطارها ليحصل القرآن عن هذا الطريق على قيادة واعية تعبّد له الطريق إلى قلوب الناس جميعاً وعقولهم ، ليمارس بالتدريج بناء الاُمّة وتربيتها .
وأنتم أ يّها الأعزّاء مدعوّون جميعاً للارتفاع إلى مستوى الرسالة التي يمثّلها القرآن ، وبالتالي للمساهمة في قيادة الاُمّة وللتسامي بها إلى رسالتها الحقيقيّة التي يجسّدها الإسلام ...
فليصنع كلّ واحد منكم لنفسه ليلة القدر كما صنعها الرائد الأعظم صلى الله عليه و آله ، ولن تكون ليلة لكلّ واحد إلّابقدر ما يرتفع في علاقته باللَّه وإدراكه للرسالة وانفتاحه على آفاقها الرحيبة .
وأنتم أ يّها الأعزّاء إذا حقّقتم قدراً جديداً فسوف تعيدون بذلك إلى الاُمّة قدرها وكرامتها ، وتخوضون بها معركة النصر الحقيقيّة ضدّ كلّ أعدائها ، ولن يضيركم بعد هذا أن يقول أعداء ليلة القدر الذين لم يستطيعوا أن يهتدوا بنورها : إن هي إلّاأساطير الأوّلين ، فقد أطلقت الجاهليّة هذا الشعار في وجه كلّ مواكب السماء
قال اللَّه تعالى : «وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم »(6)...
ولم يكن على سبيل الصدفة أن تدّعي الجاهليّة في كلّ عصر الجدة وتتّهم رسالة السماء بالقدم ، فإنّ الجاهليّة دائماً - بالرغم من أ نّها حلقة من تاريخ الجاهليّة العامّ الذي يضعه الإنسان المنقطع عن اللَّه - تنكر تاريخها وتحاول الهروب من ماضيها والظهور بثوب جديد لأنّ تاريخها لا يشرّفها .
فهي تجهد باستمرار على أن تقطع صلتها بتاريخها وحلقاتها السابقة وتبدو جديدة . وعلى عكس ذلك التجارب الخيّرة لرسالات السماء ، فإنّ كلّ تجربة منها تعتبر وجودها استمراراً لما سبقها ، وتعتزّ بتاريخها لوحدة الهدف واشتراكها جميعاً في قيادة أنبل معركة ضدّ الظلم والانحراف .
وأخيراً فارفعوا أ يّها الأعزّاء أيديكم إلى اللَّه تعالى في هذه الليلة المباركة ضارعين إليه أن يتوب علينا جميعاً .
ويحقّق للاُمّة انتصارها الشامل في معاركها الكبرى ، ويمسح عنها ذلّ الهزيمة ، ويدلّها على طريق الخلاص من العذاب الأليم الذي يعيشه المسلمون ...
«يا أ يّها الذين آمنوا هل أدلّكم على تجارةٍ تنجيكم من عذابٍ أليم تؤمنون باللَّه ورسوله وتجاهدون في سبيل اللَّه بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون »(7)
المصادر :
1- البقرة : 185
2- الدخان : 3
3- القدر : 1
4- آل عمران : 110
5- الإسراء : 106
6- الأحقاف : 11
7- الصفّ : 10