
يقول القوم إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعث أبابكر إلى مكة أميراً للحاج ، وأمره أن يقرأ الآيات من سورة البراءة على المشركين في الموسم ، فلمّا خرج أبوبكر بدا لرسول الله في أمر تبليغ الآيات ، فبعث علياً لتبليغها ، وبقيت أمارة الحج لأبي بكر ، فيكون قد ولاّه صلّى الله عليه وآله وسلّم شيئاً من الأمور في حياته ...
قالوا : وإنما أتبع النبي علياً أبابكر ليأخذ منه الآيات فيبلّغها ، لأنّ الآيات كانت مشتملة على نبذ العهود التي كان بينه صلّى الله عليه وآله وسلّم وبين المشركين ، ومن عادة العرب في أخذ العهود ونبذها أن يتولاّه الرجل بنفسه أو أحد من بني عمه .
فكلامهم يشتمل على أمور ثلاثة :
الأول : الإقرار بأن علياً عليه السلام هو الذي أبلغ الآيات بعد أن كان المأمور بتبليغها أبوبكر .
والثاني : دعوى أنّ أبابكر دخل مكة وكانت إمارة الحاج في تلك السنة معه .
والثالث : السبب في تبليغ علي الآيات دون أبي بكر .
فنقول :
من الأفضل أن نذكر أولاً نصوصاً من الخبر عن عدة من الكتب المعتبرة عند القوم حتى تتضح حقيقة الحال ، ويتبين أن أصحابنا لا يتكلّمون إلاّ إستناداً إلى أخبارهم :
1 ـ أخرج أحمد بإسناده عن أبي بكر : « إنّ النبي بعثه ببراءة لأهل مكة ، لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ولا يدخل الجنّة إلاّ نفس مسلمة ، من كان بينه وبين رسول الله عهد فأجله إلى مدّته والله بريء من المشركين ورسوله .
قال : فسار بها ثلاثاً ثم قال لعلي : إلحقه فردً عليّ أبابكر وبلّغها أنت . ففعل ، فلمّا قدم على النبي أبوبكر بكى قال : يا رسول الله حدث فيّ شيء ؟ قال : ما حدث فيك إلاّ خير ، ولكن أمرت أن لا يبلّغه إلاّ أنا أو رجل مني » (1) .
2 ـ أخرج أحمد بإسناده عن علي عليه السلام قال : « لمّا نزلت عشر آيات من سورة براءة على النبي ، دعا النبي أبابكر فبعثه بها ، ثم دعاني النبي فقال لي : أدرك أبابكر فحيثما لحقته فخذ الكتاب منه فاذهب به إلى مكة فاقرأه عليهم ، فلحقته بالجحفة فأخذت الكتاب منه ورجع أبوبكر إلى النبي فقال : يا رسول الله نزل فيّ شيء ؟ قال : لا ولكن جبرئيل جاءني فقال : لن يؤدي عنك إلاّ أنت أو رجل منك » (2) .
3 ـ أخرج أحمد بإسناده عن النبي : « إن رسول الله بعث ببراءة مع أبي بكر إلى أهل مكة . قال : ثم دعاه فبعث بها علياً » (3) .
4 ـ أخرج الترمذي عن زيد بن يثبع قال : « سألنا علياً بأي شيء بعثت في الحجة ؟ قال : بعثت بأربع : أن لا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان بينه وبين النبي عهد فهو إلى مدّته ، ومن لم يكن له عهد فأجله إلى أربعة أشهر ، ولا يدخل الجنّة إلاّ نفس مؤمنة ، ولا يجتمع المشركون والمسلمون بعد عامهم هذا » (4) .
5 ـ أخرج الحاكم بأسناده عن ابن عمر في حديث قال : « ان رسول الله بعث أبابكر وعمر ببراءة إلى أهل مكة . فانطلقا فاذا هما براكب ، فقال : من هذا ؟ قال : أنا علي يا أبابكر ، هات الكتاب الذي معك ، فأخذ علي الكتاب فذهب به ورجع أبوبكر وعمر إلى المدينة فقالا : ما لنا يا رسول الله ؟ قال : ما لكما إلاّ خير ، ولكن قيل لي : لا يبلّغ عنك إلاّ أنت أو رجل منك (5) .
فنقول :
أمّا الإقرار ببعث أمير المؤمنين خلف أبي بكر وأخذه الآيات منه ... فلم يكن لهم مناص منه ...
وأمّا الدعوى بأنّ النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أمر أبابكر على الحجيج ولم يعزله عمّا ولاّه فليس لها شاهد في الأحاديث المذكورة ونحوها ، بل كلّ ما هنالك أنه بعثه « ببراءة لأهل مكة » ثمّ بيّن البراءة في الحديث الأول بقوله : « بعثه ببراءة لأهل مكة : لا يحجّ ... » ويفيد الحديث الثاني أنّ هذه الأمور هي مفاد « عشر آيات في سورة براءة » ... وذلك ما أخذه منه علي عليه السلام وبلّغه ... كما هو مفاد الأحاديث الأول والثاني والرّابع ... فأبن إمارة الحج ؟
ثم إنّ هذه الأحاديث وغيرها صريحة في أنّ علياً لحق أبابكر ـ أو هو وعمر ـ في الطريق ، وردّ أبابكر من حيث أدركه ، وفي بعضها أنه لحقه « بالجحفة ... ورجع أبوبكر إلى المدينة ... » فأين أمارة الحج ؟
إنه لم يكن في الواقع إلاذ أنه صلّى الله عليه و آله وسلّم بعث أبابكر بإبلاغ أهل مكة : « أن لا يطوف بالبيت عريان ...» وهي مفاد الآيات من سورة البراءة ، ثم أمر علياً عليه السلام أن يدركه في بعض الطريق فياخذ منه الكتاب ويبلّغه أهل مكة بنفسه ويرجع أبوبكر إلى المدينة ...
أمّا أن السبب في ذلك ... فليس في الأحاديث إلاّ أن النبي صلّى الله عليه وآلو وسلّم نزل عليه جبرائيل فقال : « لن يؤدي عنك إلاّ أنت أو رجل منك » كما هو نص الحديث الثاني الثاني وغيره .. فقولهم : « لأنّ عادة العرب ... » لا دليل عليه ، بل في الأحاديث قرائن عديدة على أن السبب ليس ما ذكروه ، ومنها :
أولاً : إنّه لو كان عادة العرب في ذلك ما ذكر فلماذا خالفها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بإرسال أبي بكر ؟ أكان جاهلاً بتلك العادة أم كان عالماً بها فخالفها عمداً تساهلاً بتنفيذ حكم الله عزّ وجلّ ؟
وثانياً : لو كان السبب ذلك ، فلماذا جاء أبوبكر يبكي مخالفة أن يكون قد نزل فيه شيء ؟ أكان جاهلاً بتلك العادة أن ماذا ؟
فتلخص : إنه لم يكن بعث أبي بكر لإمارة الحج ، وإنما لإبلاغ البراءة ، والنبي أرسل علياً عليه السلام خلفه بأمر من الله ، ليأخذ ذلك منه ، فيكون قائماً مقام النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في أداء تلك الوظيفة ... فيظهر أنّه الصالح لذلك ...
ولذا كانت هذا القضية خصيصة من خصائصه الدالة على إمامته وخلافته ، وعن بعض أكابر الصحابة أنّهم كانوا يتمنّون أن تكون لهم هذه المنقبة العظيمة والخصيصة الرفيعة ، فهذا سعد بن أبي وقاص ... قال الحارث بن مالك : « خرجت إلى مكة فلقيت سعد بن مالك فقلت له : هل سمعت لعلي منقبة ؟ قال : شهدت له أربعاً لئن يكون لي إحداهنّ أحبّ إلي من الدنيا ، أعمّر فيها ما عمّر نوح : إنّ رسول الله بعث أبابكر ببراءة من مشركي قريش فسار بها يوماً وليلة ثم قال لعلي : إلحق أبابكر فخذها منه فبلّغها وردّ عليّ أبابكر ، فرجع أبوبكر فقال : يا رسول الله هل نزل فيّ شيء ؟ ... » (6) .
ويظهر أيضاً : أنّ أبابكر غير صالح للقيام مقام النبي في ذلك ، ومن لم يصلح للقيام مقامه لأداء آيات كيف يصلح للقيام مقامه في الرياسة العامة الإلهية ...
صلاة أبي بكر في مرض النبي
وأمّا قضية الصّلاة بالناس وأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم « أمره بالصلاة بالناس في مرضه الذي توفي فيه » وأنّ « قولهم عزله عن الصلاة كذب وما نقلوه فيه مختلق ... » فكأنها أقوى أدلة الكتاب على المدعى ، ولذا أطنب الشارح في هذا المقام ...
لكن الحق الواقع الذي يتوصل إليه المحقّق النقّلب :
أولاً : إنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يأمره بالصلاة .
وثانياً : إنّه لمّا علم بخروجه إلى الصلاة في موضعه خرج معتمداً على أمير المؤمنين ورجل آخر ، وصلّى تلك الصلاة بنفسه .
وثالثاً : إنّ النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يقتد بأحدٍ أبداً .
ورابعاً : إنه على فرض كلّ ذلك فقد أمر صلّى الله عليه وآله وسلّم غير أبي بكر بالصّلاة بالناس في مواضع عديدة ، ولم يكن ذلك دليلاً علي شيء .
وبيان ذلك بإيجاز هو : إنهم وإن رووا عن عائشة وعدّة من الصحابة أن رسول الله عليه وآله وسلّم بأن يصلي أبوبكر بالنّاس في مرضه . لكن أسانيد تلك الأخبار كلّها ساقطة بضعف رجالها ، على أنها جمعاً تنتهي إلى عائشة ، وهي في مثل هذا الأمر ـ لكونها بنت أبي بكر ومناوئةً لعلي عليه السلام ـ متهمة ، فلا يعتمد على خبرها هذا .
هذا من حيث السند .
وأمّا من حيث الدلالة فإنها وإن اشتملت على أمره صلّى الله عليه وآله وسلّم أبابكر بالصلاة في موضعه لكنها جميعاً مشتملة على خروجه إلى المحراب وصلاته بالناس بنفسه الشريفة (7) .
فهذا ما جاء في نفس تلك ألاخبار المخرجة في الصحاح وغيرها المستدل بها على أمره أبابكر بالصّلاة بالناس ، وليست أخباراً أخرى ، وخروجه للصّلاة بنفسه ـ بعد أمره أبابكر بالصلاة ـ عزل له عن ذلك .
فمن قال بأنه « عزله عن الصلاة » فإنما أراد هذا المعنى ، ولم يرد ورود حديث في مصادر أهل السنة مشتمل على لفظ العزل حتى يقال بأن هذا القول كذب « وما نقلوه فيه مختلق » !
هذا ولم يتعرض الماتن إلى دعوى صلاة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم خلف أبي بكر ، ولعله لعدم ورود شيء يفيد ذلك في شيء من الصحاح والسنن ، ومن المعلوم أن مجرد صلاة أحد في مكان النبي لا يدل على استحقاقه للخلافة من بعده ، وإلاّ لزم استحقاق كلّ من أمره صلّى الله عليه وآله وسلّم بذلك من الصحابة ، حتى ابن أم مكتوم الأعمى ، فاستدلاله باطل على فرض ثبوت أصل الخبر .
أمّا الشّارح فكأنّه إلتفت ـ كغيره ـ إلى سقوط هذا الإستدلال فأضاف دعوى أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم خرج إلى المسجد وصلّى خلف أبي بكر ، وزعم أن ما روى البخاري مما دلّ على عزله عن المحراب « فهو إنما كان في وقت آخر » .
لكنّ مستند هذه الدعوى بعض الأخبار الضعيفة التي أعرض عنها البخاري ومسلم وكبار أئمة الحديث ، وممّن نصّ على عدم الاعتداد بهذه الأخبار وسقوطها عن الإعتبار الحافظ ابن الجوزي والحافظ ابن عبد البر والحافظ النووي (8) وأما الجمع بين هذه الأخبار وما دلّ في الصحاح على عزله بتعدد الواقعة فهو :
أولاً : فرع على صحة هذه الأخبار المزعومة .
وثانياً : على تكرار صلاة أبي بكر بالناس حتى يكون في مرةٍ إماماً للنبي وفي أخرى مأموماً له ، لكن الذي عليه الأئمة أنّ صلاته بالناس لم تكن إلاّ مرةً واحدة ، وهي التي حضر فيها النبي فكان الإمام (9) .
ثم إنه يؤكد كذب أصل خبر أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم : كون أبي بكر في ذلك الوقت في جيش أسامة في خارج المدينة (10) الذي لعن من تخلف عنه (11) فإنه صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يعود ـ والحال هذه ـ فيأمره بالصلاة بالناس .
وأيضاً فالنبّي كان ملتزماً بالحضور للصلاة بنفسه ، فقد صلّى بالناس في مرضه الأخير إلاّ في الصلاة الأخيرة من عمره الشريف حيث اشتد حاله فلم يحضر (12) ، وهذه هي التي خرج إليها معتمداً على رجلين أحدهما علي عليه السلام (13) ، فصلّى تلك الصلاة أيضاً بنفسه ، لأنّه لم يكن قد أمره بذلك .
والذي يؤكّد كذب ما روي من صلاة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم خلفه أنّ الله تعالى قد نهى المؤمنين عن المتقدّم على رسول الله حيث قال : ( يا أيّها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ) (14) ، وقد استدل بهذه الآية وأدلة أخرى مالك بن أنس وأتباعه وجماعة آخرون فذهبوا إلى أنه لا يصح التقدّم بين يديه لا في الصّلاة ولا في غيرها ، ولا لعذر ولا لغيره (15) .
هذا موجز الكلام على هذه القضية ، ولنا فيها رسالة مستقلة .
( الثالث من تلك الوجوه : شرط الامام أن يكون أعلم الأمة بل عالماً بجميع الأحكام كما مر ، ولم يكن أبو بكر كذلك ... قلنا : الأصل ممنوع ... ) .
جهل ابي بكر
أقول :
كيف يمنع اشتراط كون الامام أعلم الأمة ، وقد دلّت عليه آيات الكتاب والسنة العتبرة ونصّ عليه كبار العلماء ، بل هو مذهب أكثر أهل السنة ؟
قال التفتازاني في ( شرح المقاصد ) : « ذهب معظم أهل السنة وكثير من الفرق إلى أنّه يتعيّن للامامة أفضل أهل العصر ، وقد طابق الكتاب والسنة والإجماع على أنّ الفضل بالعلم والتقوى .
قال الله تعالى : ( ان أكرمكم عند الله أتقاكم ) .
وقال : ( هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) .
وقال الله تعالى : ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ) .
وقال القاضي البيضاوي بتفسير : ( إنّي جاعل في الأرض خليفة ... ) :
إعلم أنّ هذه الآيات تدل على شرف الإنسان زمزية العلم وفضله على العبادة ، وأنه شرط في الخلافة ، بل العمدة فيها (16) .
أقول :
ومن أوضح آيات الكتاب دلالة في هذا الباب قوله عزّ وجلّ : ( أفمن يهدي إلى الحق أحق ان يتبع أمن لا يهدّي الا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون ) (17) .
فإنّه إشارة إلى أمر عقلي مركوز في أذهان العقلاء ، وهو في نفس الوقت دليل آخر على اعتبار العصمة في الشخص المتصدي أم هداية الخلق إلى الحق .
وعلى هذا الغرار جاءت الأحاديث النبوية المتفق عليها ، يكفي منها ما أخرجه مسلم وغيره عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال : « من استعمل عاملاً من المسلمين وهو يعلم أن فيهم أولى بذلك منه وأعلم بكتاب الله وسنّة نبيّه فقد خان الله ورسوله وجميع المسلمين » .
وأمّا أن أبابكر لم يكن كذلك فهذا ما لا خلاف فيه لأحد ، وتدل عليه كتب السير والتاريخ ، وابوبكر نفسه معترف به ...
لكن عليّاً عليه السلام ادعى الأعلمية ـ وهو الصادق المصدق ـ واعترف له بذلك كبار الصحابة ، ورجوعهم اليه في المعضلات والمشكلات ، واعترافهم أمامه بالجهل ، مشهور ... فيكون هو الامام .
احراق أبي بكر فجاءة
(لأنه أحرق فجاءة المازني بالنار وكان يقول أنا مسلم ) .
فأجاب بقوله : إحراق فجاءة إنما كان باجتهاده ، وعدم قبول توبته لأنّه زنديق ، ولا تقبل توبة الزنديق في الأصح ) .
أقول :
ظاهر قوله : « لأنه ... » أنّ ما يذكره أصحابنا من المطاعن في هذا الباب ينحصر بهذه الموارد الثلاثة التي ذكرها ، والحال أنه ليس كذلك ... ففي التجريد مثلاً : « ولم يكن عارفاً بالأحكام ، حتى قطع يسار سارقه ، وأحرق بالنار فجاءة السلمي ، ولم يعرف الكلالة ، ولا ميراث الجدة ، واضطراب في أحكامه ، ولم يحد خالداً ولا اقتص منه » (18) .
أمّا إحراق فجاءة .. فقد اضطربت الكلمات في توجيهه فمنهم من أجاب كما في الكتاب ، وتبعه صاحب ( الصواعق ) بقوله : « وإذا ثبت أنّه مجتهد فلا عتب عليه في التحريق ، لأن ذلك الرجل كان زنديقاً ، وفي قبول توبته خلاف ، وأما النهي عن النهي عن التحريق فيحتمل أنه لم يبلغه وتأوّله على غير نحو الزنديق » (19) .
لكن لا تعرض في الكتاب لنهي النبي صلّى الله عليه وآله عن الإحراق ، كما في صحيح البخاري (20) أما في ( الصواعق ) فقد نبّه على أن اجتهاد أبي بكر مخالف للنص فأجاب باحتمال أنه « له يبلغه » لكن هذا قدح في أبي بكر فاستدركه بأنّه يحتمل أنه بلغه لكن « تأوّله » .
ثم إنّ هذا كلّه مبني على أن يكون الرجل زنديقاً ، لكنه لم يكن زنديقاً ، وكان يقول : « أنا مسلم » كما ذكر في الكتاب ، بل قيل إنه كان يلهج بالشهادتين حتى احترق وصار فحمةً ، وغاية ما هناك أنّه قطع الطرق ونهب أموال المسلمين كما ذكر المؤرخون كالطبري ، ومثله لا يكون زنديقاً ...
ولذا عدل بعض المعتزلة المدافعين عن أبي بكر كابن أبي الحديد إلى التوجيه بأسلوب آخر فقال : « والجواب : إن الفجاءة جاء إلى أبي بكر ـ كما ذكر أصحاب التواريخ ـ فطلب منه سلاحاً يتقوى به على الجهاد في أهل الردة ، فأعطاه ، فلما خرج قطع الطرق ونهب أموال المسلمين وأهل الردة جميعاً وقتل كل من وجد ـ كما فعلت الخوارج حيث خرجت ـ فلمّا ظفر به أبوبكر حرٌقه بالنار إرهاباً لأمثاله من أهل الفساد ونحوه ، وللإمام أن يخص النصّ العام بالقياس الجلي عندنا » .
فتراه لم يدع زندقة الرجل ، بل ذكر له توجيهاً ثبت في محلّة بطلانه جداً ...
وحيث رأى بعض المتكلّمين الأشاعرة سقوط هذا التوجيه كغيره اضطر إلى أن يقول :
« أحراقه فجاءة السلمي بالنار من غلطه في اجتهاده ، فكم مثله للمجتهدين » (21) .
لكن الإعتراف بغلط أبي بكر في الإجتهاد لا يبرء ساحته ، ولا يكون له عذراً يوم القيامة ، مع وجود النص الصّريح الصّحيح في حرمة التحريق بالنار ، فهو قادح في عدالة أبي بكر وخلافته ، ولذا اضطّر بعضهم كالشيخ عبدالعزيز الدهلوي في كتابه ( التحفة الاثنا عشرية ) (22) إلى إنكار أصل القضيّة ، ودعوى أنها من افتراءات الشيعة . فإنكار أصل القضيّة يشهد بأن لا توجيه صحيح له ، لكن الإنكار لا يجدي فالقضية من المسلّمات ، والمصادر الناقلة لها كثيرة معتبرة ، وإلاّ لم احتاج الآخرون إلى تلك التوجيهات الفاسدة الباردة ...
وفوق ذلك كلّه ... كلام أبي بكر في آخر حياته ... الدالّ على ثبوت القضيّة وسقوط كلّ التوجيهات : « وددت أني لم أكن حرّقت الفجاءة السلمي ... » .
قطع يسار السارق
( وأمّا قطع البيسار فلعلّه من غلط الجلاّد ، أو رآه في المرة الثالثة من السرقة ، وهو رأي الأكثر من العلماء ) .
أقول :
في هذه العبارة اعترف بأمرين أحدهما : وقوع أصل القضية . والآخر : كون العمل خلاف الشرح ، وهل يكفي في الدفاع أن يقال : « ليت » و « لعلّ » ؟!
أمّا قوله : « فلعلّه من غلط الجلاّد » فاحتمال سخيف لا يصغى إليه ...
وكذلك إحتمال أنّه « رآه في المراة الثالثة من السرقة وهو رأي الاكثر من العلماء لعدم الدليل على هذا الإحتمال ، على فرضه فلا فائدة في موافقة أكثر العلماء ، لأنّ الذي يعترض على أبي بكر لا يعتني بموافقة الأكثر له لو كان ؟
ومن هنا كان هذا الموضع من المواضع التي اضطراب فيها القوم فذكروا توجيهاتٍ كلّها احتمالات عارية عن الدليل (23) ...
فكان الأولى لهم الإعراض عن هذه التوجيهات بعد الإعتراف بأن ما وقع خلاف الشرع ، ولذا قال بعض محقّقيهم : « وقد قطع يسار السارق وهو خلاف الشرع ، والظاهر أن القضاء بغير علمٍ ذنب ، وما كان هو معصوماً » (24) .
الجهل بميراث الجدّة
( ووقوفه في مسألة الجدّة ورجوعه إلى الصحابة في ذلك ، لأنّه غير بدع من المجتهد البحث عن مدارك الأحكام ) .
أقول :
قد روى خبر جهله بهذه المسألة أكابر محدّثيهم مثل مالك بن أنس في الموطأ 1/ 335 وأبي داود في السنن 2/ 17 وإبن ماجة في السنن 3 / 163 وأحمد في المسند 4 / 224 ... واعترف بذلك كبار علمائهم في العقائد والكلام كما في الكتاب ...
ولا يخفى أن غرض المستدلّ هو ذكر بعض الموارد المثبتة لجهل الرجل بأحكام الشريعة الإسلامية ...
ومن الطريف أنّه قد وجد العلم بذلك عند المغيرة بن شعبة ، واضطر إلى الأخذ بقول هذا الفاسق اللّعين !
( الرابع من الوجوه النافية لصلوحه للإمامة : عمر مع أنه حميمه وناصره وله العهد من قبله قد ذمّه ، حيث شفع إليه عبدالرحمن بن أبي بكر في الحطيئة الشاعر فقال : دويبة سوء وهو خير من أبيه ... قلنا : نسبه الذمّ اليه من الأكاذيب الباردة ... )
المصادر:
1- مسند أحمد 2 /1 .
2- مسند أحمد 1 / 151 ، الخصائص : 20 ، المستدرك 2 / 51 ، تفسير ابن كثير 2 / 333 ، الدر المنثور 3 / 209 .
3- مسند أحمد 3 / 283 ، وكذا الحديث عن أنس عند الترمذي تفسير سورة التوبة ، الخصائص : 20 ، البداية والنهاية 5 / 38 ، إرشاد الساري 7 / 136 روح المعاني 3 / 268 .
4- صحيح الترمذي تفسير سورة التوبة .
5- المستدرك 3 / 51 .
6- كنز العمال : 2 / 417 .
7- البخاري بشرح ابن حجر 2 / 132 ، 137 ، 162 ، مسلم بشرح النووي ـ هامش إرشاد الساري 3 / 54 ، 61 .
8- فتح الباري 2 / 120 ، عمدة القاري 5 / 191 ، المنهاج في شرح مسلم 3 / 52 .
9- فتح الباري 2 / 138 .
10- فتح الباري 8 / 124 .
11- الملل والنحل 1 / 29 وهو في الكتاب عن الآمدي 8 / 376 .
12- صحيح البخاري بشرح ابن حجر 3 / 137 ، صحيح مسلم بشرح النووي 3 / 54 .
13- فتح الباري 2 / 123 وغيره .
14- سورة الحجرات : 2 .
15- نيل الأوطار 3 / 195 ، السيرة الحلبية 3 / 365 ، فتح الباري 3 / 139 .
16- تفسير البيضاوي : 25 .
17- سورة يونس : 35 .
18- التجريد وشرحه : 296 .
19- الصواعق المحرقة : 32 .
20- صحيح البخاري 6 / 113 بشرح ابن حجر .
21- شرح التجريد للقوشجي : 379 .
22- التحفة الإثنا عشرية : 283 .
23- انظر الصواعق المحرقة : 33 .
24- تعليقة على شرح الخطابي للعقائد النسفية ، لإسماعيل القرماني المعروف بقرّه كمال المتوفى سنة 920 ترجمته في معجم المؤلّفين 2 / 287 .