مشكلة القيادة في العمل الإسلامي من المشكلات التي صاحبت هذا العمل منذ بدايته بعد انقطاع الوحي بوفاة مؤسس الدولة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولأن القيادة صمام الأمان في كل مجتمع، وجدنا مجتمعاتنا فوضى، تعمل ولا نتيجة لعملها، وتزرع ولا تجني إلا قبض الريح.
ويميل بعض علماء السياسة والإجتماع الى رد الفشل في إفراز قيادة واحدة واعية إلى سوء الشعب أو (القوم) نفسه، بينما يرى البعض الآخر عكس ذلك، أي أن فشل القوم أساسه سوء القيادة وفشلها.
وكل من هؤلاء وأولئك يسوق لتأييد رأيه أدلة وبراهين.
والحقيقة أن العلاقة بين القيادة والشعب أو الجمهور أو القوم أو غير ذلك من مترادفات اصطلاحية سياسية للتعبير عن (الناس) إنما هي علاقة ديناميكية يؤثر فيها كل طرف في الطرف الآخر ويتأثر به.
فهي علاقة ازدواجية التفاعل لا أحاديته. ومن ثم وجدنا بين أيدينا أحاديث وأقوالاً ظاهرها التناقض وهى ليست كذلك. فيقال مثلاً (الناس على دين ملوكهم) ومعناه أن الحاكم إذا صلح صلحت الرعية وبالعكس.
ويقال أيضاً (كما تكونوا يولى عليكم) وهو ما يعني أن الشعب إذا صلح صلحت القيادة أو الحاكم والعكس بالعكس. لكن الأمر لا يخلو من تناقض إذ العلاقة بين الطرفين ـ كما أسلفت ـ علاقة ازدواجية متبادلة يؤثر فيها سوء أحد الطرفين أو صلاحه في الطرف الآخر سلباً وإيجاباً، فتقع المسئولية على كليهما.
ولقد ظهرت مشكلة القيادة في المجتمع الإسلامي بعد وفاة مؤسس الدولة وواضع منهجها والمشرف على سيرها رسول الله عليه وآله الصلاة والسلام، ثم اختلفت المذاهب الإسلامية بشأنها على النحو الموضح في كتب الكلام والعقيدة والسياسة لدى كل منها.
والحقيقة أن مطالعة ما عند الفرق الإسلامية من بضاعة في موضوع الإمامة أو الخلافة كما سموها يؤكد أن أهل السنة يخلطون الإمامة بالخلافة برئاسة الجمهورية، وأنهم استخدموا اصطلاح الإمامة حيناً والخلافة أحياناً للتعبير عن معنى واحد هو رئاسة الدولة.
فالإصطلاح عندهم غير محدد يستوى في ذلك القدماء كالماوردي وابن خلدون، والمحدثون كالمودودي ورشيد رضا وأبي زهرة. لكننا لا نقف على شيء من هذا الخلط عند الشيعة قديماً وحديثاً فنظرية الإمامة عندهم ـ والقيادة جزء منها ـ مؤصلة مؤطرة.
وما يهمنا في هذا كله ـ لوقد أغمضنا العين عن رؤية الخلط ـ حكم الإمامة أو القيادة الشرعي عند كليهما، فهي عند الشيعة أصل من أصول الدين يسوقون في تأييده أدلة عقلية ونقلية كثيرة لا يهمنا إيرادها هنا فالمجال مختصر محدود(1)
وهي عند السنة فرض كفاية كصلاة الجنازة ورد التحية وهو ما يوضح بذاته منزلة هذا المنصب الخطير في فكرهم السياسي. (2)
أما الدليل على أنها فرض كفاية، فليس عندهم غير إجماع الصحابة، دون نص من كتاب أو سنة. ولست أبغي ـ في هذا المجال الضيق ـ استقصاء آراء الأصوليين في هذه النقطة، وهل يتقرر الفرض فرضاً بإجماع الصحابة فعلاً أو قولاً أو تقريراً .
وأسأل: إذا كان الصحابة رضوان الله عليهم قد شعروا بخطورة هذا المنصب وأهميته فأجمعوا على ضرورة إيجاده ـ وهذا كله عملية عقلية محضة ناتجة عن إعمال العقل والفكر في غياب النص ـ فهل يتوقع منهم كمال العقل وإدراك حاجة الدولة ونظامها، ولا يتوقع ذلك من الله ورسوله وهو الذي نص على أن الدين قد اكتمل،
والكتاب قد تم (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) (3)
(وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (4)
وأختلف بشدة مع ابن خلدون في أن الخـلافـة ـ وهي عندي كما قلـت قيادة ـ لم تكن مهمة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ثم لم يترك فيها شيئاً. (5)
ومع أن أبا يعلى يقول أن طريق وجوبها السمع لا العقل إلا أنه لم يقدم لنا نصاً مسمو عاً يؤيد مذهبه، إلا أن يكون قد أراد سماع أحداث السقيفة وما تلاها فنعود الى نفس العقدة، وهي محل ألف نظر. (6)
كما أن أحكام مشايخنا ـ نحن أهل السنة ـ واعتبارهم القيادة من أمور الدنيا والمصالح العامة المتروكة للخلق يفعلون بها ما شاؤواتتناقض وتاريخنا،(7)
ولولا أن القيادة حجر زاوية في ديننا لما استشهد في سبيل تطهيرها من دنس الطواغيت أبرارنا منذ القدم حتى اليوم.
فهل هي حقاً من أصول ديننا كما يعتقد إخواننا الشيعة(8)
وإذا كانت المسألة ليس فيها نص مما جعل ابن خلدون والماوردي ومن سار سيرتهما من كتَّاب السلاطين وزعماء التبرير، يجتهدون ويفتون بما أفتوا، فلماذا نقيد حياتنا في القرن العشرين بآراء هؤلاء وقد عاشوا في بيئة غير بيئتنا، وظروف اجتماعية وسياسية غير ظروفنا، وتحت نظم حكم غير التي تحكمنا ؟
ولماذا نقدس من لا يستحق التقديس ؟.
إن هذا الأمر يحتاج الى صرخة قوية في وجه علمائنا أن يجتهدوا ويبينوا لنا وفق روح العصر حكم الإسلام في القيادة التي هي أهم أمر في جميع الدول وأنظمتها، ولئن كنت أعتقد أن قحط الرجال قد عم وغلب، لكني لا أعتقد أن البقية الباقية من الرجال قد ابتليت بقحط الفكر.
ولقائل أن يقول إن شيخ الإسلام ابن تيمية اعتبرها من أعظم واجبات الدين، وأقول: صحيح وقد قال (إن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصالحتهم إلا بالإجتماع لحاجة بعضهم الى البعض، ولابد لهم عند الإجتماع من رأس، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم...
فالواجب إتخاذ الإمارة ديناً وقربة يتقرب بها الى الله، فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات)(9)
لكن كلامه هذا عن جميع المناصب لا عن القيادة خاصة فدخل فيه إمارة بيت المال والقضاء وغيره من مناصب الدولة.
كما أنه أيضاً لم يأت بدليل صريح على هذا، بل استنبطه استنباطاً بالعقل من أحاديث عامة كما ترى.
على أن رأيه لا يمثل كثرة أهل السنة، ولم يذكر كيف تُعين القيادة العامة بل ردد نفس المقولات التي مرت بنا من قبل.
المصادر:
1- الشيعة في عقائدهم وأحكامهم، أمير محمد الكاظمي القزويني ص42 وما بعدها، لبنان1972.
2- الاحكام السلطانية للمارودي ص3 طبع المطبعة المحمودية مصر بدون تاريخ، الأحكام السلطانية لأبي يعلي الحنبلي ص3، مصر 1938، المقدمة لابن خلدون ص191، لبنان، الطبعة الخامسة 1984.
3- المائدة ـ 3
4- الأنعام ـ 38.
5- المقدمة ص213.
6- الأحكام السلطانية ص3.
7- مقدمة ابن خلدون ص212. الملل والنحل للشهرستاني: هامش ص144 ج1، مصر1948.
8- الكافي، حديث رقم (1) من باب في فضل الإمام وصفاته.
9- السياسة الشرعية، نشر دار المتنبي ببغداد، ص165 ـ 166.