سذاجة الفكـر السياسـي

ليس بعيب أن نعترف بسذاجة الفكر السياسي عندنا أهل السنة إذا اعتبرنا ما تركه لنا علماء المذهب منذ القرنين الرابع والخامس بعد الهجرة من آراء وأوراق فكراً سياسياً، فهذا المتوارث المتروك هش متناقض في بعضه، يشبه الغربال لكثرة ما به
Friday, December 30, 2016
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
سذاجة الفكـر السياسـي
 سذاجة الفكـر السياسـي

 






 

ليس بعيب أن نعترف بسذاجة الفكر السياسي عندنا أهل السنة إذا اعتبرنا ما تركه لنا علماء المذهب منذ القرنين الرابع والخامس بعد الهجرة من آراء وأوراق فكراً سياسياً، فهذا المتوارث المتروك هش متناقض في بعضه، يشبه الغربال لكثرة ما به من ثغرات، ومن هنا لا أعتقد أنه يصمد أمام نقاش علمي.
والسبب في أنني لا أرى في الإعتراف بهذا عيباً أنه ركام موضوع على أساس آراء أشخاص ماتوا لكنهم ما زالوا يحكموننا من قبورهم رغم بعد الأزمان والمسافات.
ولئن كان هذا الكتاب لا ينصب على هذا الموضوع رأساً، إلا أنه سيلمس ـ من بعيد ـ هذا الفكر لمساً خفيفاً، علَّ هذا اللمس يوقظ عقولاً في نصف غيبوبتها أو تكاد تفيق وكانت نتيجة اعتمادنا على هذا التراث المتروك وتقديسنا له ولواضعيه ، دون تفحص لعلاقتهم بالأنظمة التي حكمتهم، وبالقوى السياسية الأخرى التي تفاعلت في مجتمعاتهم آنذاك، أن عجزنا على مر السنين أن نفرز قيادة واحدة ، ليس والله هذا فحسب بل أفرزنا ـ ما شاء الله ـ أميراً في كل حارة، ومفتياً في كل شقة، وإذا الكبير منا والصغير أمام ظاهرة دينية سياسية خطيرة بعضنا يحوقل لها، وبعضنا يفتح لها فمه عجباً، ولا يعرف لها سبباً، ومنا من يعرف أصلها وفرعها لكنه يغمض عينيه ويضع في أذنه طيناً وفي الأخرى عجيناً ويؤثر السلامة.
ومن أراد حل المعضلة استعار لها مفهوم الغرب، فلم يزد حجمه عن قائد حزب، أو رئيس تنظيم، ودار كل أحد في حلقة مغلقة ليس منها مخرج، وأصبح الكل يسأل نفسه: ما الحل ؟ وما العمل ؟ أليس منا رجل رشيد ؟ .
والذين أزعجهم هذا الأمر، لم يردوه الى جذوره، ويبحثوا في الماضي ليفهموا الحاضر، بل علىالعكس تحزب كل منهم لجماعته، وتعصب لموقف شيوخه ـ أحياءً وأمواتاً ـ فازداد طيننا بلة واعتقادي أن الحاضر البائس الذي نعيشه مربوط بالماضي، ولا يمكن فهمه إلا بالرجوع الى الأصل والكشف عن الجذر، ومعالجته من العقم، لأن المجتمعات البشرية ـ خصوصاً الفكرية (الإيديولوجية) عملية حيوية ودورة دائمة كالدورة الدموية، لا تقف إلا إذا مات البشر كلهم، ومن هنا فإن حاضر الحركة الإسلامية ليس إلا امتداداً لماضيها، بل لا أبالغ إن قلت أنه امتداد للوضع السياسي الذي واجهته الأمة الإسلامية بعد وفاة المؤسس الأول عليه وآله الصلاة والسلام.
فالذين تميزوا بوضوح الرؤية من رجال الجيل الأول، وتبلورت لديهم المفاهيم، تمسكوا بها وبقوا بعيداً عن السلطة، وخضعوا للتقتيل والتشريد والمصادرة والحرمان السياسي والاقتصادي شأنهم شأن المعارضين في كل مكان كل بحسب نظريته، فنضجت أفهامهم واستوت، واكتملت نظريتهم، إذ كان عليهم عرضها وتقديمها للناس مزينة بالأدلة العقلية والنقلية، مكتملة من كل جوانبها أو تكاد، وظلوا كذلك منذ البداية، خصوصاً وأنهم رفضوا كل الحكومات التي ركبت المسلمين، واعتلت عليهم بسند أم بغير سند.
والذين وصلوا الى السلطة، واقترفوا ما هو مسطور في تاريخنا بما أملته عليهم السلطة، لم يحتاجوا الى نظرية سياسية مكتملة الجوانب قوية الأدلة، إذ كانوا قادرين على قمع المخالفين، ومد النفوذ إلى الخارج، والتعامل مع الآخرين لا بالحجة والمنطق، بل بما تتعامل به السلطة ـ أيُّ سلطة ـ مع القوى السياسة التي لا يعجبها حالها.
وتبلور الوضع العام في تاريخنا على هذين المحورين، وعاش أهل السلطة كما شاؤوا، وبقي المعارضون كما هم، وامتدت القرون. ولفترة ما حاول المعارضون أن يفعلوا شيئاً، ثم تحولوا في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري تقريباً الى المقاومة السلبية.
وفي الفترة الأولى عبروا عن أنفسهم في شكل انتفاضات وثورات ناضجة وغير ناضجة، وسلكت السلطات معهم سياسة ذات شقين، الأول: أبعادهم عن مسرح الحياة السياسية العامة، بل وحياة المسلمين العادية مرة بالقهر ومرة بالتشويه، والثاني:
تصفية رموز المعارضة تصفية بدنية، وقمع نهضاتهم على حساب كل المحرمات والمقدسات.
حتى إذا جاء دور كتابة السير والتاريخ ـ بعد قرون من وقوع حوادثه ـ فإذا بمن كتبوه يصيغونه من وجهة نظر رجال السلطة لا وجهة نظر الذين دفعوا الثمن من دمائهم وأرواحهم، ولذلك مجدوا كل من في السلطة، وقدحوا في كل من عارضهم، ولم يعطوا الثورات والإنتفاضات العظيمة حقها من التاريخ، أو حتى من الإنصاف والأمانة العلمية، واستمر الحال على هذه الوتيرة الى أن نزل الينا في الأصلاب وورثناه كابراً عن كابر، واذا بما فشا في أيدينا عبر قرون وقرون يصور لنا من في السلطة على أنهم أهل الحق، ومن عارضوها على أنهم مارقون خارجون عن الجماعة، وصدقناهم دون أن ننظر الى تاريخهم نظرة تحليل تدرس الظروف الإجتماعية والسياسية والإقتصادية التي عاش في ظلها هؤلاء الكتاب، وما تأثروا به ومن أثر فيهم.. الى غير ذلك من عوامل المجتمع التي تتحكم بالضرورة في صياغة التاريخ.
ولما دارت الدوائر، ونفذ القانون الإلهي الحضاري في الخلق، وأزيح تيار السلطة عن سلطته وانحسر أمام المد الاستعماري منذ أيام المغول حتى زمن الإستعمار الحديث وأفراخه الموجودين في السلطة اليوم، واشتاقت قلوبنا لأن نعيد مجد الخلافة الغابر، وجدنا أنفسنا في مكان المعارضة خارج السلطة، ووجدنا السلطة في يد آخرين، فأردنا إزاحتهم وولَّينا وجوهنا شطر ماضينا المسطور نستفتيه ونستلهم منه أسلوب التعامل مع من هم في السلطة، فلم نجد في أيدينا إلا كتابات ونظريات سلطانية أو سلطوية، فوقعنا في أكبر مأزق إذ أن فكر السلطة لا يقاوم بفكر السلطة ولا بكتابات سلطوية، مهما امتد البعد الزمني بين السلطتين ! ولم نخرج من مأزقنا بعد.
أما الذين بقوا في المعارضة أربعة عشر قرناً فقد تراكم لديهم تراث سياسي وحركي غزير الكثافة ثري الثمار عميق المفاهيم، صاغوه على تؤدة من خلال تجاربهم وهم يعارضون كل الأنظمة لأنها غير شرعية، فلما دارت الدوائر، وقضت قوانين التاريخ الإلهية أن يقع الصدام بينهم وبين امتداد سلطوي زائف ـ أوقل فرخ من أفراخ الإستعمار الحديث ـ كانوا فاهمين جاهزين، يعرفون كيف يتعاملون مع السلطة وهم أساتذة المعارضة، فأزاحوا هذا الفرخ، وهزموا من سند ظهره، ولو كانت الدنيا بأسرها، لأن التجربة التاريخية عبر القرون الطويلة أكسبتهم مراساً، وقوت عظمهم.

هذا تفسير ما حدث في ايران.

ولا يحسبن أحدكم أنني ألبس تاريخنا قديمه وحديثه ثوب الديمقراطية الغربية باستخدامي لاصطلاحات كالمعارضة والسلطة وغيرها، فتشابه الإصطلاحات اللفظية لا يعني بحال وحدة الفكر، لأن دلالات الألفاظ شيء، والإيمان بالنظريات التي تستخدم هذه المصطلحات شيء آخر.
إذا كنا نريد الخروج من هذا المأزق فأول ما علينا أن لا نقبل ما في أيدينا من تراث سياسي على أنه مسلمات لا يرقى إليها الشك، مهماً كانت تمس شخصيات لها مكانة في مذهبنا، بل إني أرى الشك في هذه الكتابات واجباً من أجل تحرير الإرادة والفكر، ولابد من فحص صلة كتَّابها بالقوى السياسية في المجتمعات التي عاشوا فيها، وعلاقتهم بحكومات تلك العصور، وتأثرهم بأساتذتهم وشيوخهم، ووضعهم الإجتماعي آنذاك، وعقائدهم وآرائهم الخاصة، والجو السياسي والإجتماعي العام الذي عاشوا فيه، بل ودوافع تأليف الكتب، من أجل أن نقيم رأياً في المادة السياسية التي تعرضها هذه الكتب، وهل هي موضوعية نزيهة، أم منحازة قليلاً، أم متاثرة بعوامل تحول شكنا يقيناً ؟
ثم علينا ونحن نستخلص موقفنا السياسي أن ننزع برقع الحياء ولا نخجل في تحليل وقائع تاريخنا، مهماً بلغ المشاركون في صنعها من علو المنزلة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فإن أدرنا وجوهنا عن هذه الوقائع يميناً أو شمالاً وقلنا تلك أمة قد خلت، فعلينا إذن أن نجيب على من يسألنا لماذا إذن تطلبون إعادة مجد هذه الأمة، وتتمسكون بها وتتخذونها نموذجاً ؟
وإن كنا نعتبرها مثالاً لنا، ونؤمن حقاً ـ لا مجرد كلام ـ أنها كانت أمة من البشر، ونعيب على غيرنا عصمتهم للبشر، فلا
مفر إذن من أن نعرض تصرفاتهم وممارساتهم على الحق فنعرف أهله به، لا أن نقدس أشخاصاً ـ وإن كانوا قادة ـ ثم نعتبر كل ما صدر عنهم من قول أو فعل أو حتى سكوت، حقاً لا يأتيه الباطل من أي مكان ! .
نحن في هذا أمام خيارين إما أن ننظر لأفعال وأحداث ماضينا نظرة علمية ترشدنا الى الحق، أو أن نبقي على نظرتنا العاطفية فلا نهتدي إلا الى امتداد الأخطاء، واتصال حلقاتها، وتراكم كمها وكيفها.
فنحن نقرأ مثلاً في كتب السير والتاريخ أن الخلافة ـ وهي مثلنا الأعلى ـ انقلبت ملكاً عضوضاً منذ سنة إحدى وأربعين بعد الهجرة، أما لماذا انقلبت ؟ فهذا ما لم نقف إزاءه بجرأة وشجاعة، أو حتى بمنطق وعقل، وسكوتنا عن نقد أنفسنا شجع المستشرقين والمغرضين على أن يغمس كل منهم مغرفته في تاريخنا، ويستخرج منه ما يحلو له ويراه بعينه وعين قومه، مبتوراً عن سياق واقعي معترف به من قبل أهله، فأجابوا هم على ما تساءل عنه أبناؤنا والعقلاء منا، فانفتح بذلك علينا باب خطر عظيم وأعجب من العجب أولئك الذين عز عليهم الإعتراف بأن الخلافة الراشدة انقلبت وانتهت بعد ثلاثين عاماً فقط من وفاة المؤسس الأعظم، فألحقوا بنظام الإسلام ممارسات النظامين الأموي والعباسي وأفعال الملوك والسلاطين، ودافعوا عن ذلك دفاعهم عن الإسلام نفسه، فاختلط الأمر على من جاء بعدهم.
وقد تكون نوايا هؤلاء حسنة، لكن طريقة معالجتهم للأمور لم تكن عملية ولا إسلامية بل عاطفية لجأت في كثير من الأحيان الى تحسين كل قبيح، جهلاً بوسائل الدفاع، فعانت الأمة الإسلامية وخاصة الأجيال التالية من منهجهم هذا..
إن التحولات الإجتماعية والسياسة في أي مجتمع لا تقع في يوم وليلة، بل هي نتيجة عملية اجتماعية لها قوانينها وضوابطها التي وضعها الخالق وحتمها، ثم اكتشفها المخلوق ودونها وصاغها في شكل علم يدرس ويستفاد به.
إذ الإسلام إلهي من حيث النظرية، بشري من حيث التنفيذ، وسقوط الخلافة على يد معاوية أمر بشري مرتبط بالتنفيذ لا بالإسلام من حيث هو نظرية ربانية، فلماذا نخجل من تحليل وقائع السقوط بصراحة ؟ وهو الحدث الذي تضافرت فيه عدة عوامل على مدى حقبة من السنين فأنتجت ما هو مسطور في كتبنا، حيٌّ أمام أعيننا.
وعادة ما يحدث في الثورات ـ والإسلام نظرية ثورية بلا شك ـ أن يقع الإنحراف بعد وفاة المؤسس ولو خفيفاً كالشعرة، أو بدرجة واحدة غير ملحوظة ثم إذا به ـ إن أهمل ـ ما يفتأ يتسع يوماً بعد يوم حتى يصل الى مائة وثمانين درجة، فإذا بنا نرى الإتجاه المعاكس تماماً، لكنه يحمل اسم النظرية الأولى.
هذه العملية التحولية هي ما لا بد وأنها حدثت ـ وفق قوانين التاريخ والإجتماع ـ في فترة الثلاثين عاماً منذ وفاة المؤسس الأعظم عليه وآله الصلاة والسلام وحتى انقلاب معاوية.
ثم من بعدها لم تقم لنا دولة نموذجية، ولم تؤثر عنا نظرية سياسية معقولة.
والإعتقاد بأن الجيل الأول منزه عن الخطأ أثناء التنفيذ أو العملية الإجتماعية البشرية، أو أنهم خلوا من انفعالات النفس الإمارة بالسوء من حب للإمارة والتنافس عليها، وتحيز لذوي قربى أو صحبة، ومخالفة لأحكام الشرع ـ أحياناً ـ الى غير ذلك من مقتضيات البشرية لٌ يناقض سيرتهم المدونة، وأفعالهم وأقوالهم المأثورة، وليس في ذكره اليوم واستخلاص النتائج منه ما يشينهم أو يشيننا، مادام القصد علمياً، والهدف مشروعاً، وفرق ـ بالطبع ـ بين هذا المنهج وبين منهج حثو التراب في وجوه الناس بلا رؤية أو دراية.
لقد كنا خير أمة أخرجت للناس، فاذا بخير أمة يلي أمرها البيت الذي ظل يقاتل مؤسس الدولة ورسالته حتى آخر وقت، فإذا بدفة الحكم في يد من لعنهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كمروان بن الحكم، ومن أباح دمه كابن أبي سرح، وأخيراً تربع على عرشها من لو وزن المسلمون آنذاك في ميزان الكفاءة والخلق والرجولة لكان أقلهم وأحقرهم كيزيد بن معاوية.
ولم تكن ممارسات هؤلاء وأشباههم إلا ثورة مضادة على الإسلام المحمدي، والنظرية الصافية.
ومتى ؟ فقط في غضون ثلاثين عاماً !!
نحن أمام حالة اجتماعية وسياسية ـ والله ـ جديرة بالدراسة، إذ المفروض في نظرية قوية كالإسلام منزلة من عند الله أن تستمر ـ إذا طبقت ـ قرناً على الاقل أو قرنين أو أكثر، قبل أن يدب في أتباعها الوهن.
وما حدث من التدهور السياسي السريع يضعنا أمام خيارين أثناء تحليل الأحداث لا ثالث لهما: إما أن نظرية الاسلام السياسية لم تطبق أصلاً، واما أن يكون ما طبق ـ بقطع النظر عن صوابه وخطئة ـ واعتبرناه نظرية الإسلام السياسية على درجة من الضعف، بحيث لم يستطع معها ملاءمة بقية جوانب النظرية، والحفاظ على تماسك الدولة أكثر من ثلاثة عقود من السنين.
وسواء كنا مع الرأي الأول أم الرأي الثاني، أم ملنا الى غير ذلك، فإن هذا التحول السياسي الضخم في تاريخنا ينبغي أن نحلله وفق مبادئ الإسلام نفسه، وقواعده التي وضعها في هذا الشأن، وحسب قوانين هذا العلم وسنن التاريخ، لكي نعرف
رأسنا من أرجلنا بدلاً من أن نعيش كقطع الفلين فوق ظهر الماء، يأخذها الموج الى حيث يريد في اتجاهات متعاكسة دون أن تملك من أمر نفسها شيئاً.
على أنني أدرك تماماً أن هذه المهمة صعبة للغاية في زمن نرى فيه ما نرى، وأهون نتائجها أن يرمى المضطلعون بها بشتى التهم، وربما يهدر دمهم ظلماً، لكن الأصعب والأخطر أن نسكت ونتعامى ونترك الناس حيرى، فهذا ذنب عظيم.
والسؤال الذي يوجع رأس الباحثين والمتحركين الآن هو:
كيف يتم تعيين القيادة في الحركة الإسلامية ؟ وإن كان لدينا ـ نحن أهل السنة ـ منهج واضح في هذا فما هو ؟ وكيف طبقه الجيل الأول ؟
وان لم يكن لنا هذا بضاعة فما هي النظرية، وما هو المنهج الذي نستطيع استنباطه من ممارسات الجيل الأول في هذا الشأن، في ضوء السير والتاريخ المكتوب باعتبار هؤلاء قدوة قد نقتدى بها في غياب النص ؟
والجواب على هذا السؤال يكون بطريقتين:
الأولى:
أنه لا يوجد في ذلك نص محدد، وأن الأسلاف اجتهدوا، ومنهم من أصاب ومنهم من أخطأ وسبب كارثة، والكل مأجور مهما فعل.
وهذا مذهب ابن خلدون وابن كثير وغيرهما من المؤرخين إذ أقروا بأن (كله تمام) وأن جميع الناس حتى هارون الرشيد وبعض أبنائه كانوا على صواب، وأن المأثور عن الأسلاف من ممارسات من لدن وفاة نبي الله عليه وآله الصلاة والسلام حتى بني العباس هو السياسة الشرعية التي على المسلم أن لا يترك التمسك بعروتها.
وهذه الإجابة تفضي بنا الى نتيجة حتمية هي أن الإسلام ليس فيه نظام سياسي محدد، ولا القيادة فيه يمكن تعيينها بدقة، وأن أفعال الجيل الأول بما فيها خاصة من قتل بعضهم للبعض، وسبي للمسلمات، وهدم للكعبة، وهتك لحرمات الصحابيات واغتصابهن، وقتل وسبي لأبناء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان حلالاً مشروعاً، ومن فعلوه مأجورون وإن أخطأوا في ذلك.
الثانية:
أن الإسلام له في ذلك نظام محدد لكن الجيل الأول غلبته النفس البشرية، فخالف ما هو مرسوم في هذا الصدد، اقتضاء لما عليه الفطرة البشرية، فارتكب البعض خطأ، وانحرفوا عن الدستور شعرة ثم ما لبث هذا الإنحراف أن اتسع وتعاظم حتى أفلت زمام الأمور من أيديهم، وأن التحول السياسي والإجتماعي الذي طرأ على الدولة الإسلامية الوليدة فجعل رأسها مكان أرجلها، إنما وقع تدريجياً نتيجة أخطاء أولية تراكمت عليها أخطاء فأخطاء، وبمرور الزمن أدت هذه التراكمات الى سقوط الخلافة.
وهذه الإجابة تقودنا الى تحديد الإنحراف، وبالتالي معرفة الصواب، ومن بعد إصلاح المسيرة البشرية خلال العملية التنفيذية في العصر الحاضر.
لكن بألف حسرة وأسف راقت الإجابة الأولى للكثرة وأعجبتها على ما فيها من جنينية في التفكير ومخالفة للمنطق والعقل، ومن هنا فقدت الكثرة المنهج التحليلي السليم، وانساقت وراء هزات العواطف ـ ومشايخنا أساتذة مهرة في هزها ـ ثم خطت خطوة أكبر فكفرت كل من حاول أو يحاول أن يجيب إجابة مختلفة عن اجابتها، وهكذا ظلت الأمة دون فكر محدد تريد أن تصلح حاضرها في الوقت الذي تخجل فيه من أن ترفع إصبعها الى ما كان من ماضيها يستحق الإصلاح.
وانتقلت وجهة النظر العاطفية من صلب الى صلب حتى وصلت عصرنا الحاضر، فإذا بها تنعكس على الجو الحركي العام الذي يضم كل العاملين للإسلام فتؤثر فيه على نحو كبير، حائلة دون تحكيم المنطق والعقل.
وهكذا دخلت الحركة الإسلامية دوامة المتناقضات، فلم تنجح في إسقاط طاغوت أو اجتياز عقبة لسبب بسيط هو أنها في الوقت الذي تمسكت فيه أشد التمسك بتاريخنا السياسي القديم، واعتبرت أخطاء شخصياته منجزات ومفاخر إسلامية عظيمة، إذا بها تريد مواجهة الأنظمة المعاصرة وهي أيضاً متناقضة تراكمت فيها الأخطاء، علاوة على فسقها وكفرها، فلما نظرنا فيما في أيدينا من عُدة سياسية، وتراث حركي وجدناه هشاً لا يقوم على أساس متين، ففشلنا في إسقاط النظم، وأسقطنا بدلاً منها حرمة المسلمين، فكفرنا كل من لفت نظرنا الضعيف الى مخالفة ـ ولو صريحة ـ لمبادئ الإسلام الذي نطالب باقامته.
وقد يكون من الأجمل استعراض الأحداث السياسية الكبرى في تاريخنا ـ أن كنا خير أمة ـ مما هو متصل بموضوع واحد فحسب من موضوعات علم السياسة والقانون الدستوري، وهو في نفس الوقت موضوع الكتاب، أعني (القيادة) وتعيينها، لنرى كيف أثرت هذه الأحداث، واستولت على وجدان الأمة وعقلها الباطن، وكمنت فيه لتحكم فيما بعد سلوك أفرادها، وتوجه تصرفاتهم، ولننظر أيضاً كيف وقف علماؤنا تجاهها، وما استنبطوه منها من أحكام، واستخرجوه من وقائعها من مواد سياسية ودستورية فرضوها على المسلمين، وأمروهم بتقديسها على أنها (إسلام).
المصدر : من کتاب الامامة والقيادة / د. احمد عز الدين

 



ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.