
ليس في استدلال أصحابنا أن الزهراء عليها السلام كانت مستحقة للنصف ، بل إن البنت الواحدة ترث كلّ ما تركه مورثّها بالفرض والرد . إن الزهراء عليها السلام لن تطالب بنصف فدك بل كلّه .
إنّ صريح الأخبار الآتي بعضها هو أن « فدك » غير « خيبر » فليس قريةً بخيبر كما ذكر .
إنّ مطالبتها في خصوص فدك لم يكن إرثاً ، بل إنّها كانت تطالب برفع إستيلاء القوم على ذلك الملك الحاصل لها نحلةً من والدها رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ منذ عام خيبر .
أمّا أن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أعطاها فدكاً فذاك ما رواه كبار الحفّاظ عن غير واحد من الأصحاب (1) .
وأمّا أنّ أبابكر تعرّض لفدك واستولى عليه بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فذاك أمر ثابت لا خلاف فيه ، وفي عبارة ابن حجر المكي : « إن أبابكر انتزع من فاطمة فدكاً » (2) .
وعلى الجملة فلا ريب في أن فدكاً كان بيد الزهراء من قبل وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأبوبكر كان يعلم بذلك ، فهل انتزعه منها لكون يدها عدوانيةً ؟
وهلاّ طلب منها قبل الإنتزاع إقامة البيّنة لو فرض أنّه كان يرى بإجتهاده !! توقف استمرار يدها على ذلك .
وإذ طلب منها الشهود ـ وهو يعلم بكون فدك بيدها بالحق ـ فلما ذا ردّ شهادة أمير المؤمنين ؟ أكان يراه كاذباً أو كان اجتهاده ! على عدم كفاية الشاهد الواحد و إن بصدقة ؟ أمّا الأول فلا نظنّهم يلتزمون به وعلي من عرفه الكل . وأمّا الثّاني فيردّه حكم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بشهادة خزيمة بن ثابت ، فلهذا لقّب بذي الشّهادتين (3) .
ولو سلّم حصول الشك له فهلاّ طلب اليمين من فاطمة فيكون قد قضى بيمين وشاهد ، وهو ما نزل به جبرئيل على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم (4) وقضى به رسول الله كما في الصحيح (5) .
لكن في الكتاب : « لعله !! لم ير الحكم بشاهد ويمين » !!
سلّمنا ، أليس كان عليه أن يحلف حينئذ ؟ فلماذا لم يحلف والزهراء ما زالت مطالبةً ؟
هذا كلّه بغض النظر عن عصمة علي والزهراء والحسنين ، وفضلاً عن شهادة أن أم أيمن وهي المشهود لها بالجنة (6) .
5 ـ ثم إنّها طالبت أبابكر بإرثها من رسول الله صلّى الله عليه و آله وسلّم وقد شمل طلبها هذا فدكاً بعد أن ردّ طلبها بترك التعرض له ، لكون هذه الأرض ممّا لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ، فكان ملكاً خاصّاً لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم .
أخرج البخاري عن عائشة قالت : « إنّ فاطمة عليها السلام بنت النبي أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله ممّا أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر .
فقال أبو بكر : إن رسول الله قال : لا نورث ما تركنا صدقة ، إنما يأكل آل محمد في هذا المال ، وإني والله لا أغيرّ شيئاً من صدقة رسول الله عن حالها التي كان عليها في عهد رسول الله ، ولأعملنّ فيها بها عمل بها رسول الله .
فأبى أبوبكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً .
فوجدت فاطمة على أبي بكر ، فهجرته فلم تكلّمه حتّى توفّيت .
وعاشت بعد النبي ستة أشهر .
فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلاً ولم يوذن بها أبابكر ، وصلّى عليها .
وكان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة » (7) .
6 ـ لكنّ الكلام في الحديث الذي ذكره ، فإنّ القوم لم يتمكّنوا من إثبات تماميّته سنداً ودلالةً فقد جاء في الكتاب ما نصّه .
( حجية خبر الواحد والترجيح ممّا لا حاجة لنا إليه ههنا ، لأنه كان حاكماً بما سمعه من رسول الله ، فلا اشتباه عنده في سنده ) .
وهذا ـ مضافاً إلى أنّ أبابكر لم يكن حاكماً في القضية بل كان خصماً ـ فرار عن البحث ، لأن غاية هذا الكلام حسن الظن بأبي بكر ، فلما ذا لم يحسن الظن بعلي وفاطمة والعباس وأزواج النبي ... الذين طالبوا بارثهم من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم منكرين لهذا الحديث الذي انفرد أبوبكر بروايته !! ولا أقلّ من حسن الظن بكلا الطرفين ، فلم يثبت المخصّص لعمومات الإرث .
هذا ، وقد وجدنا في حفّاظ أهل السّنة من تجرّأ فقال الحق وتحمّل في هذا السّبيل الطّعن والطّرد ، فصرّح ببطلان هذا الحديث ... ألا وهو الحافظ أبو محمد عبدالرحمن بن يوسف المعروف بابن خراش ، البغدادي ، المتوفي سنة 283 ، قال ابن المديني : « كان من المعدودين المذكورين بالحفظ والفهم للحديث والرجال » وقال الخطيب : « كان أحد الرّحالين في الحديث إلى الأمصار وممّن يوصف بالحفظ والمعرفة » وقال أبو نعيم : « ما رأيت أحفظ منه » وقال السّيوطي : « ابن خراش الحافظ البارع الناقد » إلى غير ذلك من كلماتهم في تكريمه وتجليله ، وقد رووا عن عبدان أنه قال « قلت لابن خراش : حديث لا نورّث ما تركنا صدقة . قال باطل . قلت : من تتهّم به ؟ قال : مالك بن أوس » ولهذا رموه بالتشيع ، وتهجّم عليه الذهبي وابن حجر . (8)
فالحديث باطل سواء كان من أبي بكر أو مالك بن أوس .
وممّا يؤكد ذلك عمل عمر وعثمان وعمر بن عبدالعزيز خامس الخلفاء الراشدين عندهم وسائر أمراء المسلمين في عقيدتهم في فدك ، فهم جميعاً مكذّبون عملاً للحديث المذكور .
هذا في ناحية السند .
وكذا كلامه في ناحية المتن والدلالة حيث قال : ( وعلم أيضاً دلالته على ما حمله من المعنى ، لانتفاء الاحتمالات التي يمكن تطرّقها اليه بقرينة الحال ، فصار عنده دليلاً قطعيّاً مخصّصاً للعمومات الواردة في باب الإرث ) .
فهلاً احتمل ـ في أقل تقدير ـ أن يكون أبوبكر قد أخطأ في دلالة هذا الحديث وقد صرّح سابقاً بعدم عصمته ؟
إن الحديث ذو وجهين :
أحدهما : أن يكون كلمة « صدقة » مرفوعةً على الاخبار به من « ما » الموصولة في « ما تركناه » .
والآخر : أن يكون « ما » منصوبةً محلاً على المفعولية لـ « تركناه » وتكون « صدقة » حالاً من « ما » .
وإثبات الأول ليتم الإحتجاج به في غاية الإشكال ـ بل يبعّده ، بل يبطله ـ عدم علم أمير المؤمنين علي وفاطمة وأهل البيت عليهم السلام والعباس وأزواج النبي وسائر المسلمين ... بهذا الذي ذكره أبوبكر ... بل إنّ هذا الحديث لم يسمع من أبي بكر قبل ذلك اليوم !! بل إنّ كلامه في آخر حياته حيث كان يتمنى لو سأل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن حقّ أهل البيت في الخلافة ـ وإن كان في نفسه تضليلاً ـ دليل على ندمه على تصدّي الأمر وما ترتّب عليه من أفعال وتروك .
قال : إني لا آسى على شيء من الدنيا إلاّ على ثلاث فعلتهنّ ووددت أني تركتهنّ ، وثلاث تركتهنّ وددت أني فعلتهنّ ، وثلاث وددت أني سألت عنهنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم . فأما الثلاث اللأّتي وددت أني تركتهن : فوددت أنّي لم أكشف بيت فاطمة وإن كانوا قد غلّقوه على الحرب ، ووددت أني لم أكن حرّقت الفجأة السلمي وإني كنت قتلته سريحاً أو خلّيته نجيحاً ، ووددت أني يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين ـ يريد عمر وأبا عبيدة ـ فكان أحدهما أميراً وكنت وزيراً ... ووددت أني سألت رسول الله : لمن هذا الأمر ؟ فلا ينازعه أحد ، ووددت أني كنت سألته هل للأنصار في هذا لاأمر نصيب ؟ ووددت أني كنت سألته عن ميراث ابنة الآخ والعمة فإن في نفسي مهما شيئاً » (9) .
( قولهم : فاطمة معصومة . قلنا : ممنوع ، لأن أهل البيت يتناول أزواجه أقربائه كما رواه الضحّاك ، فإنّه نقل بإسناده عن النبي عليه السلام أنه قال حين سألته عائشة عن أهل بيته ... وقوله عليه السلام : بضعة مني مجاز قطعاً ... ) .
عصمة الزهراء عليها السلام
ليس دليل عصمةالزهراء محصوراً بالآية والحديث المذكورين .أمّا الآية المباركة فقد تواتر النقل عن الفريقين أن أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً فيها إنما هم : النبي وعلي وفاطمة والحسنان عليهم الصلاة والسلام ، وكفاك في هذا المقام الحديث الذي رواه أعلام الأئمة الحفّاظ وصحّحوه عن السيدة أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها التي على يدها دار الحديث وفي بيتها نزلت الآية ...
فقد أخرج الترمذي وصحّحه وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه من طرق عن أمّ سلمة رضي الله عنها قالت : في بيتي نزلت : ( إنما يريد ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ) وفي البيت : فاطمة وعلي والحسن والحسين ، فجلّلهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكساء كان عليه ثم قال : هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً (10) .
وفي حديث آخر رواه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عنها : قالت أم سلمة رضي الله عنها فأدخلت رأسي في الستر فقلت : يا رسول الله وأنا معكم ؟ فقال : إنك إلى خير ـ مرتين ».
وفي آخر : « قالت أم سلمة فرفعت الكساء لأدخل معهم ، فجذبه من يدي وقال : إنك على خير » (11) .
وأما الحديث الذي ذكر في الكتاب عن الضحّاك ففيه
أولاً : إنّه لم يعلم من راويه وما سنده ؟
وثانياً : ( الضحّاك بن مزاحم ) كان يروي عمّن لم يلقه ، وكان شعبة لا يحدّث عنه ، وقال يحيى بن سعيد ، كان الضحّاك عندنا ضعيفاً . وقال البخاري بعد أن روى عنه حديثاً عن ابن عمر : لا أعلم أحداً قال سمعت ابن عمر إلاً أبو نعيم (12) .
وثالثاً : إنّ الحديث عن عائشة ، وهي في هكذا موضع بالخصوص متّهمة في النقل .
ورابعاً : إنّ الحديث يعارضه ما رواه القوم عن أم سلمة وجماعة من الصحابة وهو المشهور روايةً والمعتبر سنداً .
وخامساً : إنّ الحديث معارض بحديث آخر من عائشة نفسها ـ ومن رواته
مسلم بن الحجاج ـ قال الحافظ السيوطي : « وأخرج ابن أبي شيبه وأحمد ومسلم وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم عن عائشة قالت : خرج رسول الله غداة وعليه مرط مرجّل من شعر أسود فجاء الحسن والحسين فأدخلهما معه ثم جاء علي فأدخله معه ثم قال : إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً » (13) .
ثم إن الآية الكريمة تدل على عصمة الخمسة ، لأن الرجس فيها كما نص عليه الزمخشري (14) وغيره هو « الذنوب » وقد تصدرت الآية بأداة الحصر ، فدلّت على أنّ إرادة الله تعالى في حقهم مقصورة على إذهاب الذنوب كلّها عنهم ، وهذا واقع العصمة .
وأيضاً : فقد أصحابنا هذه الآية المباركة في أدلة إمامة أمير المؤمنين عليه السلام . لأنه قد إدّعى الخلافة لنفسه ، وإدّعاها له فاطمة والحسنان ، وهم لا يكونون كاذبين ، لأنّ الكذب من الرجس الذي أذهبه الله عنهم .
وأمّا الحديث الشّريف : « فاطمة بضعة منّي ... » فهو أيضاً من الأحاديث الصحيحة المتفق عليها ، وممّن أخرجه : أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة والحاكم ... وهو يدلّ على عصمتها صدراً وذيلاً .
وأما صدراً فلكلمة « بضعة » ، قوله : « مجاز قطعاً » منه : أنّ الأصل هو الحقيقة فلابدّ من حمل الكلام عليها ، ثم من أين يحصل القطع بكونه مجازاً ؟ وممّا يشهد بحمله على الحقيقة فهم كبار الحفاظ من ذلك بشرحه كالحافظ أبي القاسم السهيلي شارح السيرة النبوية ... فقد قال المناوي شرح الحديث : « إستدل به السّهيلي على أنّ من سبّها كفر لأنه يغضبه وأنها أفضل من الشيخين » (15) .
فإنّ دلالته على الأفضلية منهما لا يكون إلاّ بلحاظ كون الزهراء « بضعة »
من النبي وهو أفضل الخلائق أجمعين .
وكالحافظ السمهودي فإنّه قال : « ومعلوم أنّ أولادها بضعة منها فيكونون بواسطتها بضعة منه » (16) فإنّ هذا لا يتم إلاّ بحمل « البضعة » على الحقيقة كما هو مقتضى الأصل . فتأمّل .
ومتى تعذّر حمل الكلام على الحقيقة فأقرب المجازات هو المتعيّن كما تقرّر في موضعه ، وهو أيضاً كافٍ لاثبات المطلوب كما لا يخفى .
ويشهد بما ذكرنا أن الكلمة جاءت في بعض الروايات بلفظ « مضغة » (17) وبلفظ « شجنة » (18) .
وأما ذيلاً فإنّ في ذيل الحديث : « فمن أغضبها أغضبني » (19) وفي لفظ : يقبضني ما يقبضها ويبسطها » (20) وفي ثالث « يؤذيني ما آذاها » (21) .
وكيف تنكر عصمة من يكون رضا النبي وغضبه دائراً مدار رضاه وغضبه ؟
( الثاني من الوجوه الدّالة على نفي أهليته للإمامة أنه لم يولّه النبي عليه السلام شيئاً في حال حياته ... قلنا : لا نسلّم أنه لم يؤلّه شيئاً بل أمّره على الحجيج سنة تسع وأمره بالصلاة بالناس في مرضه ... ) .
المصادر:
1- الدر المنثور : 4 / 177 .
2- الصواعق المحرقة : 31 .
3- سنن أبي داود 3 / 418 .
4- كنز العمال ـ كتاب الخلافة 5 / 508 .
5- صحيح مسلم كتاب الأقضية ، سنن أبي داود 3 / 419 .
6- كما في ترجمتها في طبقات ابن سعد والإصابة وغيرهما .
7- صحيح البخاري : باب غزوة خيبر . صحيح مسلم كتاب الجهاد والسيّر .
8- لاحظ : تذكره الحفاظ 2 / 684 وميزان الاعتدال 2 / 600 ولسان الميزان 3 / 444 وطبقات الحفاظ : 297 .
9- تاريخ الطبري 4 / 52 وغيره .
10- الدر المنثور 5 / 198 .
11- الدر المنثور 5 / 198 .
12- تهذيب التهذيب 4 / 398 .
13- الدر المنثور 5 / 199 .
14- الكشاف 3 / 538 وكذا في غيره من التفاسير .
15- فيض القدير 4 / 421 .
16- فيض القدير 4 / 421 .
17- صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة ، باب فضائل فاطمة بن النبي .
18- المستدرك 3 / 154 ، مسند أحمد 4 / 322 .
19- صحيح البخاري باب مناقب قرابة رسول الله .
20- مسند أحمد 4 / 332 ، المستدرك 3 / 158 .
21- صحيح مسلم باب فضائل فاطمة من فضائل الصحابة .