
مسالة راي الشيعة في صحابة الرسول هي من أهم المسائل التي كانت ذريعة لمعارضة مذهب أهل البيت وانتشاره حيث إن موضوع الحديث عن عقيدة الشيعة في الصحابة هو أهم موضوع نريد أن نتحدث عنه وكان بودنا التجنب عن ذلك . فقد نسبوا إلى الشيعة ما لا يتفق مع الواقع في اعتقادهم حول الصحابة . وتقوّلوا عليهم بأنهم ( أي الشيعة ) يكفرون جميع الصحابة ـ والعياذ بالله ـ وأنهم لا يعتمدون على أحاديثهم ، ويطعنون فيهم إلى غير ذلك .
وجعلوا ذلك أساساً لقاعدة بنوا عليها الحكم بالزندقة ، وحلَّية إراقة الدماء فقالوا : من طعن في الصحابة فقد طعن على رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ومن طعن على رسول الله فهو زنديق .
وقالوا : إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب محمد فاعلم أنه زنديق .
وجعلوا الخوض فيما جرى بين الصحابة ، وحرية الرأي في مناقشتهم هو انتقاص لهم .
فلندرس هذا الموضوع بدقة ، ورجاؤنا معقود على إيلاء هذه الدراسة جلّ عنايتها ، وإعطائها وجهة النّظر بصورة خاصة ، لأن اتهام الشيعة بسب الصحابة ، وتكفيرهم أمر عظيم ، ومعضلة شديدة اتخذها خصوم أهل البيت وسيلة للقضاء على مبادئهم ، وانتشار مذهبهم ، عندما بان عجزهم عن اللحوق بهم وقد تدخل الدخلاء وأعداء الإسلام في اتساع شقة الخلاف بين صفوف الأمة ليجدوا طريقهم لبثّ آرائهم الفاسدة ، حتى أصبح من المقرّر في تلك العصور تكفير الشيعة ، وإبعادهم عن ذلك المجتمع ، كلّ ذلك مبعثة آراء السلطة وأغراضها التي قضت على الأمة بكبت الشعور ، وكم الأفواه وسلب الأفراد ، حريّة الرأي لأن الجمود الفكري هو الذي يخدم مصالحهم ، عندما حاولوا ربط العقائد بالدولة ، وإناطة الأراء بما تراه السلطة لا غير ، وفرضوا ربط التعليم بهم وضربوا سلطانهم على بعض العلماء ووجّهوهم حيث شاءت إرادتهم ، إلى غير ذلك من المحاولات التي كانوا يقصدون بها القضاء على أهل البيت ومعارضة مذهبهم ولكن شاء الله أن تذهب تلك المحاولات أدراج الرياح .
ويبقي ذكر أهل البيت على ممّر الدهور ، والأعوام ، ولم تقف تلك الدعايات الكاذبة والتهم المفتعلة أمام انتشاره ، وإن اتهام الشيعة بسب الصحابة وتكفيرهم أمر عظيم حاول خصومهم فيه تشويه سمعتهم ، لأنهم خصوم الدولة وأنصار أهل البيت ، ونحن لا نريد أن نرغم خصوم الشيعة على الاعتراف بالأخطاء التي ارتكبوها في تعبيرهم عنهم بعبارات التهجم التي تشمئز منها النفوس ، وتنفر منها الطباع .
ولا نريد منهم أن يغالطوا أنفسهم في مجاراتهم للأوضاع الحاضرة ، ولا نريد منهم أن يتركوا الخطأ الذي وقفوا عليه في زاوية الإهمال ، ولا إسدال الستر على العيوب التي عثروا عليها في المجتمع الشيعي . والنقص الذي لمسوه .
ولكنّا نريد منهم أن لا يكذبوا ، أو يتقوّلوا .
ونريد مهم أن يتحرروا من تقليد اقوام أعمتهم المادة ، وأخضعتهم السلطة ، فحملتهم على الافتعال ، والأكاذيب .
ونريد منهم أن يصرّحوا بلغة العلم ، والمنطق الصحيح عن الأمور التي استوجبت أن يرتكبوا بحقّ الشيعة ما ارتكبوه وليحاسبوا أنفسهم قبل يوم الحساب ، إن إهملوا محاسبة الوجدان ، والضمير الحر.
ونريد منهم أن يصرحوا لنا عن نقاط الضعف التي وقفوا عليها فيما تدعيه الشيعة فأباحت لهم ذلك التهجم ، وليقولوا بكل صراحة فإنا نتقبل قول الحق .
ولا يهم الشيعة أقوال أهل التهريج والهوس ، ولا يعبأون بأقلام المستأجرين من قبل أعداء الإسلام الذين عظم عليهم انتشاره ، وأخضعهم بقوّة برهانه ، وأعطوه الجزية عن يد وهم صاغرون ، فالتجاوا إلى لغة الدس والخيانة .
ونريد منهم أن يتنّبهوا رويداً إلى التباين بين ما يدّعونه أو يفتعلونه على الشيعة وبين الواقع .
ونريد من الباحث أن يتحّرى ببحثه الدقة والتمحيص ، وأن يتثّبت قبل الحكم ، وأن يعرف الخطر الّذي ينجم من وراء ذلك ، فقد بلغ الأمر إلى أشدّ ما يكون من الخطورة .
ومن المؤلم أن تروج هذه الدعايات المغرضة ، أو الأكذوبة الكبرى فتصبح من الامور المسلّمة بها لا تحتاج إلى نقاش .
والواقع أن اتهام الشيعة كان سياسيّاً قائماً على مخالفة الواقع ، وإنكار الحقائق ، والجهل الفاضح .
الشيعـة والصحابـة
نحن أمام مشكلة كبرى ، وقف التاريخ أمامها ملجماً واختفت الحقيقة فيها وراء رُكام من الادعاءات الكاذبة ، والأقوال الفارغة ، فالتوت الطرق الموصلة إلىها . كما أثيرت حولها زوابع من المشاكل والملابسات ، ولم تعالج القضيّة بدراسة علميّة ليبدو جوهر المسألة واضحاً وتظهر الحقيقة كما هي .وعلى أي حال فقد تولع كثير من المؤرخين بذّم الشيعة ، ونسب أشياء إلىهم بدون تثّبت ، فهم يكتبون بدون قيد أو شرط ، ويتقولون بدون وازع ديني أو حاجز وجداني ، وقد اتسعت صدور الشيعة لتحمل أقوالهم ، بل تقوّلاتهم كما اتسعت سلّة المهملات لقبر شخصيّاتهم ، وترفعوا عن المقابلة بالمثل .
وإن أهمّ تلك التّهم هي مسألة الصحابة وتكفيرهم ( والعياذ بالله ) ممّا أوجب أن يحكم عليهم بالكفر والخروج عن الأسلام كما يأتي بيانه .
قال السيد شرف الدين : « إن من وقف على رأينا في الصحابة علم أنّه أوسط الآراء إذ لم نفرط فيه تفريط الغلاة الذين كفّروهم جميعاً ولا أفرطنا إفراط الجمهور الذين وثقوهم جميعاً ، فإن الكاملية ومن كان في الغلوّ على شاكلتهم قالوا : بكفر الصحابة كافة .
وقال أهل السنة بعدالة كلّ فرد ممّن سمع النبي أو رآه من المسلمين مطلقاً ، واحتجوا بحديث ( كل من دب ، أو درج منهم أجمعين أكتعين ) .
أما نحن فإن الصحبة بمجردها وإن كانت عندنا فضيلة جليلة لكنها بما هي من حيث هي غير عاصمة . فالصحابة كغيرهم من الرجال ، فيهم العدول وهم عظماؤهم وعلماؤهم ، وفيهم البغاة ، وفيهم أهل الجرائم من المنافقين ، وفيهم مجهول الحال ، فنحن نحتج بعدولهم . ونتولاهم في الدنيا والآخرة .
أماالبغاة على الوصّي ، وأخي النبي صلّى الله عليه وآله وسائر أهل الجرائم كابن هند ، وابن النابغة ، وابن الزرقاء ، وابن عقبة ، وابن أرطأة ، وأمثالهم فلا كرامة ولا وزن لحديثهم ، ومجهول الحال نتوقف فيه حتى نتبين أمره .
هذا راينا في حملة الحديث من الصحابة والكتاب والسنة بنينا على هذا الرأي كما هو مفصل في مظانه من أصول الفقه . لكنّ الجمهور بالغوا في تقديس كلّ من يسمونه صحابياً ، حتّى خرجوا عن الاعتدال ، فاحتجوا بالغثّ منهم والسمين ، واقتدوا بكل مسلم سمع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو رآه اقتداء أعمى ، وأنكروا على كل حد من الحدود ، وما أشدّ إنكارهم علينا حين يروننا نرّد حديث كثير من الصحابة مصرحين بجرحهم أو بكونهم مجهولي الحال ، عملاً بالواجب الشرعي في تمحيص الحقائق الدينّية ، والبحث عن الصحيح من الآثار النبويّة .
وبهذا ظنوا بنا الظنونا ، فاتهمونا ، رجماً بالغيب ، وتهافتاً على الجهل ، ولو ثابت إليهم أحلامهم ، ورجعوا إلى قواعد العلم ، لعلموا أن أصالة العدالة في الصحابة ممّا لا دليل عليها ، ولو تدبروا القرآن الحكيم لوجدوه مشحوناً بذكر المنافقين منهم . وحسبك منه سورة التوبة والأحزاب (1) .
درجـات الصحـابة
لم يكن الصحابة طرازاً واحداً في الفقه والعلم ، ولا نمطاً متساوياً في الإدراك والفهم ، وإنّما كانوا في ذلك طبقات متفاوتة ، ودرجات متباينة ، شأن الناس جميعاً في هذه الحياة على مرّ الدّهور :( سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلاً ) .
قال ابن خلدون في مقدمته :
« إن الصحابة كلّهم لم يكونوا أهل فتيا ، ولا كان الدين يؤخذ عن جميعهم ، وإنما كان مختصاً بالحاملين للقرآن ، العارفين بناسخه ، ومنسوخه ، ومتشابهه ومحكمه ، وسائر دلالته ، بما تلقوه من النبى صلّى الله عليه وسلم ، أو ممّن سمعه منهم ، وعن عليتهم ، وكانوا يسمّون لذلك ( القراء ) ، أي الذين يقرأون الكتاب لأن العرب كانوا أمة أميّة ، فاختصّ من كان منهم قارئاً للكتاب بهذا الاسم لغرابته يومئذ ، وبقي الأمر كذلك صدر الملّة » .
وعن محمد بن سهل بن أبي خيثمة عن أبيه (2) قال :
« كان الذين يفتون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة نفر من المهاجرين ، وثلاثة نفر من الأنصار ، عمر وعثمان وعليّ ، وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت » .
وعن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه : أن أبابكر الصديق رضي الله عنه كان إذا نزل به أمر يريد فيه مشاورة أهل الرأي ، دعا رجالاً من المهاجرين ، والأنصار ، دعا عمر وعثمان وعليّاً ، وعبدالرحمن بن عوف ، ومعاذ بن جبل ، وأبي بن كعب ، وزيد بن ثابت .
وكلّ هؤلاء كان يفتي في خلافة أبي بكر ، وإنّما تصير فتوى الناس ألى هؤلاء ، فمضى أبوبكر على ذلك .
ثم ولى عمر فكان يدعو هؤلاء النفر .
وفي مسلم : عن مسروق قال :
« شاممت أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فوجدت علمهم انتهى ألى ستة :
إلى عمر وعلي وعبد الله ، ومعاذ (رواية ابن القيم في أعلام الموقعين ، وابي بن كعب بدل معاذ .) وأبي الدرداء وزيد بن ثابت ، فشاممت هؤلاء الستة فوجدت علمهم انتهى إلى علي وعبد الله » ( هو عبدالله بن مسعود .) .
وروى ابن القيم في أعلام الموقعين عن مسروق قال :
« جالست أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم فكانوا كالإخاذة :
الإخاذة : تروي الراكب ، والإخاذة : تروي الراكبين : والإخاذة : لو نزل بها أهل الأرض لأصدرهم ، وإن عبدالله من تلك الإخاذة » .
وروى البخاري ومسلم عن النبي قال :
« إن مثل ما بعثني به الله من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ، والعشب الكثير ، وكان منها أجادب أمسكت الماء ، فنفع الله بها الناس فشربوا ، وسقوا ، وزرعوا ، وأصاب بها طائفة أخرى ، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ » . (3)
وعن عامر قال :
« كان علماء هذه الأمة بعد نبيّها ستة :
عمر وعبدالله وزيد بن ثابت . فإذا قال عمر قولاً ، وقال هذان قولاً ، كان قولهما لقوله تبعاً ، وعليّ ، وأبي بن كعب ، وأبو موسى الأشعري ، فإذا قال على قولاً ، كان قولهما لقوله تبعاً » .
وقال : « قضاة هذه الأمة أربعة :
عمر وعلى وزيد ، وأبو موسى الأشعري .
ودهاة هذه الأمة أربعة :
عمرو بن العاص ، ومعاوية بن أبي سفيان ، والمغيرة بن شعبة ، وزياد » .
تفاوت الصحابة في صدق الرواية
فبعضهم أصدق من بعض صدّق عمر عبد الرحمن بن عوف وقال له : أنت عندنا العدل الرضا ـقال الذهبي في شرح الخبر : فأصحاب رسول الله ، وإن كانوا عدولاً ، فبعضهم أعدل من بعض ، فها هنا عمر قنع بخبر عبدالرحمن ، وفي قصة الاستئذان يقول لأبي موسى الأشعري :
ائت بمن يشهد معك (4) .
رواية الصحابة بعضهم عن بعض وروايتهم عن التابعين
ليس كل ما جاء من الأحاديث عن الصحابة مما رووه عن رسول الله ، ودوّن في الكتب ، قد سمعوه كلّه بآذانهم من النبي صلوات الله عليه مشافهة ، ولا اخذوه عنه تلقيناً ، وإنما كان يروي بعضهم عن بعض ، فمن لم يسمع من الرسول ، كان يأخذ ممّن سمع منه صلّى اللهعليه وسلم ، وإذا رواه غيره لم يعزه إلى الصحابي الذي تلقاه عنه ـ بل يرفعه إلى النبي بغير أن يذكر اسم هذا الصحابي ـ ذلك أن مجالس الرسول كانت متعددة ، وتقع في أزمنة وأمكنة مختلفة ، ولا يمكن أن يحضر الصحابة جميعاً كلّ مجلس من مجالسه ، فما يحضره منها بعض الصحابة لا يحضره البعض الآخر .
وقد ذكر الآمدي في كتاب « الإحكام في أصول الإحكام » (5):
أن ابن عباس لم يسمع من رسول الله سوى أربعة أحاديث لصغر سنه ، ولما روى عن النبي صلّى الله عليه وسلم « إنّما الربا في النسيئة » وأن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمي حجر العقبة ، قال في الجزء الأول لما روجع فيه قال :
أخبرني به أسامة بن زيد وفي الخبر الثاني : أخبرني به أخي الفضل بن العباس . ولما روى أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال :
من أصبح جنباً في رمضان فلا صوم له ، راجعوه في ذلك فقال :
ما أنا قتله ورب الكعبة ولكن محمداً قاله ! ثم عاد فقال :
حدثني به الفضل بن العباس (6) .
وروي عن البراء بن عازب قال :
« ما كل ما نحدثكم به سمعناه من رسول الله صلّى الله عليه وسلم ! ولكن سمعنا بعضه وحدثنا أصحابنا ببعضه » .
وأما التابعون : فقد كان من عادتهم إرسال الأخبار ، ويدل على ذلك ما روي عن الأعمش أنّه قال :
قلت لابراهيم النخعيّ : إذا حدثتني فأسند . فقال :
إذا قلت لك : حدثني فلان عن عبدالله فهو الذي حدثني ، وإذا قلت : حدثني عبدالله ، فقد حدثني جماعة عنه ، وقد قال الآمدي بعد ذلك ، ولم يزل ذلك مشهوراً فيما بين الصحابة والتابعين من غير نكير فكان إجماعاً .
وكما كان الصحابة يروي بعضهم عن بعض فإنّهم كذلك كانوا يروون عن التابعين و هذا أمر نص عليه علماء الحديث في كتبهم فارجع إليه إن شئت .
وفي كلام ابن الصلاح وغيره في باب « رواية الأكابر عن الأصاغر » أن إبن عباس والعبادلة الثلاثة وأبا هريرة وغيرهم قد رووا عن كعب الأحبار اليهودي الذي أسلم خداعاً في عهد عمر وعدوّه من كبار التابعين ثم سوّده بعد ذلك على المسلمين . وهاك ماقاله السيوطي في ألفيّته :
وقد روى الكبار عن صغار *** في السنّ أو في العلم والمقدار
ومنه أخذ الصحب عن أتباع *** وتابـع عن تابـع الأتبـاع
كالحبرعن كعب وكالزهري *** عن مالك ويحيى الأ نصاري
وقال شارح الألفية الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله :
ومن هذا النوع رواية الصحابة عن التابعين كرواية الحبر عبد الله بن عباس وسائر العبادلة وأبي هريرة ومعاوية وأنس وغيرهم عن كعب الأحبار !
على أن الصحابة في روايتهم عن إخوانهم أو عن التابعين لم يكونوا ـ كما رأينا ـ يذكرون أن أحاديثهم قد جاءت من سبيل الرواية عن غيرهم ، بل يروون ما يروون في المناسبات التي تستدعي ذكر الحديث مهما طال الزمن من غير عزو إلى من سمعوا منه ثقة بهم ، ويرفعونها إلى النبي ، وظلوا على ذلك إلى أن وقعت الفتنة ، ومن ثم قالوا : سمّوا لنا رجالكم !
قال ابن سيرين : لم يكونوا يسألون عن الإسناد ، فلما وقعت الفتنة قالوا : سموا لنا رجالكم .
وأخرج مسلم عنه : لقد أتى على الناس زمان وما يسأل عن إسناد حديث ، فلما وقعت الفتنة ، سئل عن إسناد الحديث ..
في سنن الترمذي عنه :
كانوا في الزمن الأول لا يسألون عن الإسناد ! فلما وقعت الفتنة سألوا عن الإسناد ، إن الرجل ليحدثني فما اتهمه ، ولكن أتهم من هو فوقه .
وقد روى التابعون عن « تابعي التابعين » ومن رواية التابعين عن تابعي التابعين ... رواية الزهري ، ويحيى بن سعيد الأنصاري عن مالك وهو تلميذها .
ومن الطريف للفطن كما قال السيوطي في الفيّته :
أن يروي الصحابي عن تابعي ، عن صحابي آخر حديثاً ومن ذلك حديث السائب بن يزيد الصحابي عن عبدالرحمن بن عبد القاري التابعي عن عمر بن الخطاب عن النبي صلّى الله عليه وسلم :
« من نام عن حزبه ، أو عن شيء منه ، فقرأه فيما بين الصلاتين الفجر وصلاة الظهر ، كتب له كأنما قرأه في الليل » رواه مسلم في كتابه . ومن ذلك حديث :
« لا يستوي القاعدون » .
وقد جمع الحافظ العراقي من ذلك عشرين حديثاً .
نقد الصحابة بعضهم لبعض
لم يقف الأمر بالصحابة عند تشديدهم في قبول الأخبار من إخوانهم في الصحبة كما أسلفنا ؛ ولكنهّ تجاوز ذلك إلى أن ينقد بعضهم بعضاً .ولقد كان عمر ، وعلي ، وعثمان ، وعائشة ، وابن عباس ، وغيرهم من الصحابة ، يتصفحون على إخوانهم في الصحبة ، ويشكون في بعض ما يروونه عن الرسول ، ويردونه على أصحابه .
عن محمود بن الربيع ـ وكان ممن عقل عن رسول الله وهو صغير ـ أنه سمع عثمان بن مالك الأنصاري ، وكان ممّن شهد بدراً ، أن رسول الله قال :
إن الله حرّم النار على من قال : لا إله إلا الله يبغي بها وجه الله ـ وكان الرسول في دار عتبان ، فحدثها قوماً فيهم أبو أيوب صاحب رسول الله ـ فأنكرها على ( أبو ايوب ) وقال : والله ما أظن رسول الله قد قال ما قلت !
وقد استدلت المرجئة (المرجئة فرقة من كبار الفرق الإسلامية تقول . لا يضر مع الإيمان معصية ولا ينفع مع الكفر طاعة .) بهذا الحديث ونحنوه على مذهبهم .
وردت عائشة حديث عمر ، وابن عمر :
« إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه » فقالت :
إنكم لتحدثون عن غير كاذبين ولكن السمع يخطيء ، والله ما حدّث رسول الله أن الله يعذب المؤمن ببكاء أهله عليه ! وقالت :
حسبكم القرآن ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) .
وفي رواية أنها لما سمعت أن ابن عمر يحدث بهذا الحديث قالت :
« وهل ! إنما قال : إنه ليعذب بخطيئته ، وذنبه ، وإن أهله ليبكون عليه » .
وفي رواية ثالثة :
إنه لم يكذب ولكنه نسي أو أخطأ وقالت مثل قوله ( ابن عمر ) :
إن رسول الله قال على القليب وفيه قتلى بدر من المشركين فقال :
إنهم ليسمعون ما أقول . وقالت : إنما قال :
إنهم الآن يعلمون أن ما كنت أقوله لهم حق ثم قرأت :
( إنك لا تسمع الموتي . وما أنت بمسمع من في القبور ) حين تبوأوا مقاعدهم من النار . والحديثان في البخاري ومسلم وغيرهما .
وردّت عائشة كذلك حديث رؤية النبي لربه ليلة الإسراء الذي رواه الشيخان عن عامر بن مسروق الذي قال لعائشة : يا أمتاه : هل رأى محمد ربّه ؟ فقالت :
لقد قفّ شعري مما قلت ! أين أنت من ثلاث ؟ من حدثكم فقد كذب (في مسلم : فقد اعظم على الله الفرية . وأحاديث الرؤية بلغت كما ذكر ابن القيم في ( حادي الأرواح ) ثلاثين حديثاً ، والمرفوع منها أكثر من عشرين حديثاً ، دع الموقوف والآثار .) :
من حدثك أن محمداً رأى ربه فقد كذب ، ثم قرأت :
( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ) .
( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلاّ وحيا أو من وراء حجاب ) .
ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب ، ثم قرأت :
( وما تدري نفس ماذا تكسب غداً ) .
ومن حدثك أنه كتم شيئاً فقد كذب ، ثم قرأت :
( يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك ) .
وفي مسلم : وكنت متكئاً فجلست فقلت :
ألم يقل الله : ( ولقد رآه نزلة أخرى ) . فقالت :
أنا أول من سأل رسول الله عن هذا فقلت يا رسول الله ، هل رأيت ربك ؟ فقال :
لا ، أنا رأيت جبريل منهبطاً . وفي حديث أبي ذر عن مسلم أنه سأل النبي عن ذلك .
فقال : نور أنى أراه ـ ولأحمد رأيت نوراً .
وردت خبر ابن عمر وأبي هريرة :
إن الشؤم في ثلاث ، فقال : إنّما كان رسول الله يحدث عن أحوال الجاهلية ، وذلك لمعارضتة الأصل القطعي من : « أنّ الأمر كلّه لله » .
ولما بلغها قول أبي الدرداء : من أدرك الصبح فلا وتر له . قالت :
لا ـ كذب ابو الدرداء ، كان النبي يصبح فيوتر ، ولما سمعت أن ابن عمر قال :
اعتمر رسول الله عمرة في رجب ، قضت عليه بالسهو ، وقالت عن أنس بن مالك ، وأبي سعيد الخدري :
ما علم أنس بن مالك وأبي سعيد بحديث رسول الله ؛ وإنما كانا غلامين صغيرين !
وكانت عائشة ترد كلّ ما روي مخالفاً للقرآن ـ وتحمل رواية الصادق من الصحابة على خطأ السمع ، أو سوء الفهم : وكذب عمران ابن حصين سمرة في حديث أن للنبي سكتتين في الصلاة عند قراءته .
والأمثلة على ذلك كثيرة وقد أتينا في تاريخ أبي هريرة بطائفة من الأحاديث التي انتقدوه فيها ، وردّوها عليه فراجعها هناك (7)
عدم تكفير القادح في أكابر الصّحابة
قال الشيخ محمد الرّاغب :الرابع من تلك الأبحاث (أبحاث التكفير .) :
فقد كفر الروافض ، والخوارج بوجوه :
الأول : إن القدح في أكابر الصحابة الذين شهد لهم القرآن ، والأحاديث الصحيحة بالتزكية ، والأيمان تكذيب للقرآن ، وللرسول عليه السلام ، حيث أثنى عليهم ، وعظمهم فيكون كفراً .
قلنا : لا ثناء عليهم خاصة ، أي لا ثناء في القرآن على واحد من الصحابة بخصوصه ، وهؤلاء قد اعتقدوا أنّ من قدحوا فيه ليس داخلاً في الثناء العام الوارد فيه ، وإليه أشار بقوله :
ولاهم داخلون فيهم عندهم ، فلا يكون قدحهم تكذيباً للقرآن .
وأما الأحاديث الواردة في تزكية بعض معيّن من الصحابة والشهادة لهم بالجنة ، فمن قبيل الآحاد فلا يكفر المسلم بإنكارها .
أو نقول : ذلك الثناء عليهم ، وتلك الشهادة مقيدان بشرط سلامة العاقبة ولم يوجد عندهم ، فلا يلزم تكذيبهم للرسول .
الثاني : الإجماع منعقد من الامة على تكفير من كفر عظماء الصّحابة ، وكلّ واحد من الفريقين يكفر بعض أولئك العظماء فيكون كافراً ؟!!
قلنا : هؤلاء ، أي من كفّر جماعة مخصوصة من الصحابة ، لا يسلّمون كونهم من أكابر الصّحابة ، وعظمائهم فلا يلزم كفره .
الثالث : قوله صلّى الله عليه وسلم : من قال لأخيه المسلم : يا كافر فقد باء به أي بالكفر أحدهما .
قلنا : آحاد وقد اجتمعت الأمة على أن إنكار الآحاد ليس كفراً (8) .
هل يجوز تكفير المسلم في الشريعة الإسلامية ؟
قال الله تعالى في كتابه الكريم :
( ولا تقولوا لمن ألقى اليكم السلام لست مؤمناً... ) النساء : 94 .
وقال ابن الأثير : ومنه الحديث « من قال لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما » . لأنه إمّا يصدق عليه أو يكذب ، فإن صدق فهو كافر ، وإن كذب عاد إليه الكفر بتكفيره أخاه المسلم . (9) .
وقال ابن القيم : في طرق أهل البدع الموافقون على أصول الإسلام ولكنهّم مختلفون في بعض الأصول كالخوارج ، والمعتزلة ، والقدرية ، والرافضة ... فهؤلاء أقسام :
أحدها الجاهل المقلد الذي لا بصيرة له فهذا لا يكفر ، ولا يفسّق ، ولا ترد شهادته ... (10) .
وقال الشيخ محمد عبده : إن من أصول الدين الإسلامي : البعد عن التكفير ، وإن ممّا اشتهر بين المسلمين ، وعرف من قواعد أحكام دينهم أنّه إذا صدر قول قائل يحتمل الكفر من مئة وجه ، ويحتمل الإيمان من وجه واحد حمل على الإيمان ، ولا يجوز حمله على الكفر (11) .
ونقل الشيخ محمد راغب : عن الإمام أبي حامد الغزالي عن كتابه ( التفرقة بين الإسلام والزندقة ) :
الوصيّة أن تكف لسانك عن أهل القبلة ما أمكنك ما داموا قائلين : لا إله إلاّ الله محمد رسول الله غير مناقضين لها ، والمناقضة تجويزهم الكذب على الرّسول بعذر ، أو بغير عذر . إنتهى (12) .
وقال الإمام الغزالي : وكيف يقال لمن امن بالله واليوم الآخر وعبد الله بالقول الذّي ينزّه به ، والعمل الذي يقصد به المتعبد لوجهه الذي يستزيد به إيمانا ، ومعرفة له سبحانه ثم يكرمه الله تعالى على ذلك بفؤاد المزيد ، وينيله ما شرف من المخ ، ويريه إعلام الرضا ، ثم يكفّره أحد بغير شرع ، ولا قياس عليه ، والإيمان لا يخرج عنه إلاّ بنبذه واطراحه ، وتركه ، واعتقاد ما لا يتم الإيمان معه ، ولا يحصل بمقارنته (13) .
وقال الشيخ سليمان النجدي أخو محمد بن عبدالوهاب :
إجماع أهل السنة : إن من كان مقراً بما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلم ملتزماً له إنه وإن كان فيه خصلة من الكفر الأكبر ، أو الشرك أن لا يكفر حتى تقام عليه الحجة التي يكفر تاركها ، وان الحجّة لا تقوم إلا بالإجماع القطعي لا الظني ، وإن الذي يقوم الحجة : الإمام ، أو نائبه .
وان الكفر لا يكون إلا بانكار الضروريات من دين الإسلام كالوجود ، والوحدانيّة ، والرسالة ، أو بإنكار الأمور الظاهرة كوجوب الصّلاة .
وإن المسلم المقر بالرسول إذا استند إلى نوع شبهة تخفى على مثلثه لا يكفر ، وإن مذهب أهل السنة والجماعة التحاشي عن تكفير من انتسب إلى الإسلام (14) .
وقال الشيخ محمد راغب :
قال صاحب « المواقف » في آخر الكتاب :
ولا نكفر أحداً من أهل القبلة إلا بما فيه نفي الصانع ، القادر ، العليم ، أو شرك ، أو إنكار ما علم مجيئه صلّى الله عليه وسلم به ضرورة ، أو إنكار المجمع عليه كاستحلال المحرّمات .
قال السيد في الشرح : التي أجمع على حرمتها فأن ذلك المجمع عليه مما علم ضرورة من الدين فذاك ظاهر داخل فيما ذكره ، وإلا فإن كان أجماعاً ظنياً فلا كفر بمخالفته ، وإن كان قطعيّاً ففيه خلاف .
قال في المواقف :
وأما ما عداه ـ أي ما عدا ما فيه نفي الصانع ، وما عطف عليه فالقائل به مبتدع غير كافر .
وقال أبو الحسن عليّ بن محّمد بن علي الحسيني الجرجاني الحنفي في شرحه :
فإن الشيخ أبا الحسن قال في أول كتاب : « مقالات الإسلاميّين » :
اختلف المسلمون بعد نبيّهم عليه الصلاة والسلام في أشياء : ضلّل بعضهم بعضاً ، وتبرأ بعضهم من بعض ، فصاروا فرقاً متباينين إلاّ أن الإسلام يجمعهم ، ويعمهم فهذا مذهبه ، وعليه أكثر أصحابنا وقد نقل عن الشافعي أنه قال :
لا أرد شهادة أحد من أهل الأهواء ، إلا الخطابية فانهم يعتقدون حلّ الكذب .
وحكي الحاكم صاحب « المختصر » في كتاب : « المنتقى » عن أبي حنيفة (رض) أنه لم يكفر أحداً من أهل القبلة .
وحكى أبو بكر الرازي مثل ذلك عن الكرخي ، وغيره (15) .
المصادر :
1- الإمام الصادق والمذاهب الأربعة : 1/ 589 ـ 592 ط بيروت .
2- طبقات ابن سعد 4/167.
3- وفي رواية طائفة طيبة . ارجع في هذه الأخبار كلها إلى طبقات ابن سعد 2ق / 109 ـ 110.
4- سير اعلام النبلاء للذهبي : 1/48 ، راجع ص 58 .
5- ص 178ـ 180 ج 2. وقال ابن القيم في ( الوابل الصهيب ) : إنّ ما سمعه ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يبلغ العشرين حديثاً . وعن أبن معين ، والقطان ، وأبي داود ، وفي السنن ، أنه روى تسعة أحاديث ، وذلك لصغر سنه ، ومع ذلك فقد أسند له أحمد في مسنده 1696 حديثاً .
6- لهذا الحديث قصة شائقة تقرؤها في تاريخ أبي هريرة الذي طبعناه باسم ( شيخ المضيرة ) مرتين .
7- راجع كتاب شيخ المضيرة الطبعة الثالثة لدار المعارف بمصر .(*) أضواء على السنة المحمدية ص 68ـ 75 الطبعة الثالثة ط دار المعارف بمصر .
8- سفينة الراغب ص 50 طبع دار الطباعة العامرة الكائنة ببولاق القاهرة عام 1255هـ .
9- النهاية في غريب الحديث والأثر : 4/ 185 مادة كفر
10- الصواعق الإلهية للشيخ سليمان النجدي طبع استانبول عام 1979 م .
11- الإسلام والنصرانية ص 55 طبع القاهرة .
12- سفينة الراغب ص 43 طبع بولاق القاهرة عام 1255 هـ .
13- الإملاء في إشكالات الأحياء ص 57 طبع مصر عام 1357 هـ .
14- الصواعق الإلهية ص 31 ط استانبول عام 1979 م .
15- سفينة الراغب ص 43 ط دار الطباعة العامرة ببولاق القاهرة ، 1255هـ .