
تلقّىََ النبي الاکرم صلى الله عليه و آله وسلم القرآن الكريم عن طريق الوحي ، ونظراً الىََ أ نّه صلى الله عليه و آله كان يتلقّىََ الوحي الالهي من جهةٍ عليا وهي اللَّه سبحانه يقال عادة : إنّ القرآن نزل عليه ، للاشارة باستعمال لفظ النزول الىََ علو الجهة التي اتصل بها النبي عن طريق الوحي وتلقّىََ عنها القرآن الكريم .
والوحي لغة هو : ( الاعلام في خفاء ) ، اي الطريقة الخفية في الاعلام ، وقد اطلق هذا اللفظ علىََ الطريقة الخاصة التي يتصل بها اللَّه تعالىََ برسوله ، نظراً الىََ خفائها ودقتها وعدم تمكّن الآخرين من الاحساس بها .
ولم يكن الوحي هو الطريقة التي تلقّىََ بها خاتم الانبياء وحده كلمات اللَّه ، بل هو الطريقة العامة لاتصال الانبياء باللَّه ، وتلقيهم للكتب السماوية منه تعالىََ ، كما حدّث اللَّه بذلك رسوله في قوله عز وجل :
«إنّا أوحينا اليك كما أوحينا الىََ نوح والنبيين من بعده وأوحينا الىََ ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والأسباط وعيسىََ وأيّوب ويونس وهارون وسليمان ... »(1).
صور الوحي :
ويبدو من القرآن الكريم أنّ الوحي هذا الاتصال الغيبي الخفي بين اللَّه وأصفيائه له صور ثلاث :إحداها :
القاء المعنىََ في قلب النبي أو نفثه في روعه بصورة يحس بأ نّه تلقّاه من اللَّه تعالىََ .
والثانية :
تكليم النبي من وراء حجاب ، كما نادىََ اللَّه موسىََ من وراء الشجرة (حول الشجرة) وسمع نداءه .
والثالثة :
هي التي متىََ اُطلقت انصرفت الىََ ما يفهمه المتديّن عادة من لفظة الايحاء حين يلقي ملك الوحي المرسل من اللَّه الىََ نبي من الانبياء ما كلّف القاؤه إليه ، سواء انزل عليه في صورة رجل أم في صورته الملكية ، وقد اشير الىََ هذه الصور الثلاث في قوله تعالىََ :
«وما كان لبشرٍ أنْ يكلمه اللَّه إلّاوحياً أو من وراء حجابٍ أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء إنّه عليٌّ حكيم »(2).
وتدلّ الروايات علىََ أنّ الوحي الذي تلقّىََ عن طريقه الرسالة الخاتمة وآيات القرآن المجيد كان بتوسيط الملك في كثير من الاحيان ، وبمخاطبة اللَّه لعبده ورسوله من دون واسطة في بعض الاحيان ، وكان لهذه الصورة من الوحي التي يستمع فيها النبي الىََ خطاب اللَّه من دون واسطة أثرها الكبير عليه ؛ ففي الحديث أنّ الامام الصادق سئل عن الغشية التي كانت تأخذ النبي أكانت عند هبوط جبرئيل فقال :
لا وإنّما ذلك عند مخاطبة اللَّه عز وجل إياه بغير ترجمان وواسطة(3) .
نزول القرآن الكريم علىََ النبي صلى الله عليه و آله مرتين :
وفي رأي عدد من العلماء أنّ القرآن الكريم نزل علىََ النبي مرتين :
احداهما : نزل فيها مرّة واحدة علىََ سبيل الاجمال .
والمرّة الاُخرىََ : نزل فيها تدريجاً علىََ سبيل التفصيل خلال المدة التي قضاها النبي في اُمته منذ بعثته الىََ وفاته .
ومعنىََ نزوله علىََ سبيل الاجمال : هو نزول المعارف الالهية التي يشتمل عليها القرآن وأسراره الكبرىََ علىََ قلب النبي لكي تمتلئ روحه بنور المعرفة القرآنية .
ومعنىََ نزوله علىََ سبيل التفصيل هو نزوله بألفاظه المحددة وآياته المتعاقبة .
وكان انزاله علىََ سبيل الاجمال مرة واحدة ، لأن الهدف منه تنوير النبي وتثقيف اللَّه له بالرسالة التي أعدّه لحملها .
وكان انزاله علىََ سبيل التفصيل تدريجياً ، لأنه يستهدف تربية الاُمّة وتنويرها وترويضها علىََ الرسالة الجديدة ، وهذا يحتاج الىََ التدرج .
وعلىََ ضوء هذه النظرية في تعدد نزول القرآن يمكننا أنْ نفهم الآيات الكريمة الدالة علىََ نزول القرآن في شهر رمضان ، أو انزاله في ليلة القدر بصورة خاصة نحو قوله تعالىََ :
«شهر رمضان الذي اُنزل فيه القرآن هدىً للناس وبيّناتٍ من الهدىََ والفرقان ... »(41)
وقوله : «إنّا أنزلناه في ليلة القدر »(5)
وقوله : «إنّا أنزلناه في ليلةٍ مباركةٍ إنّا كنّا منذرين »(6)
فإنّ الانزال الذي تتحدث عنه هذه الآيات ليس هو التنزيل التدريجي الذي طال اكثر من عقدين ، وانما هو الانزال مرة واحدة علىََ سبيل الاجمال .
كما أنّ فكرة تعدد الانزال بالصورة التي شرحناها تفسّر لنا أيضاً المرحلتين اللتين أشار اليهما القرآن الكريم في قوله تعالىََ : «... كتاب اُحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير »(7)
فإنّ هذا القول يشير الىََ مرحلتين في وجود القرآن ، اُولاهما : إحكام الآيات ، والثانية : تفصيلها وهو ينسجم مع فكرة تعدد الانزال فيكون الانزال مرة واحدة علىََ سبيل الاجمال هي مرحلة الاحكام ، والانزال علىََ سبيل التفصيل تدريجاً هي المرحلة الثانية اي مرحلة التفصيل .
التدرّج في التنزيل :
استمر التنزيل التدريجي للقرآن الكريم طيلة ثلاث وعشرين سنة ، وهي المدة التي قضاها النبي صلى الله عليه و آله في اُمته منذ بعثته الىََ وفاته ، فقد بُعث صلى الله عليه و آله لأربعين سنة ، ومكث بمكة ثلاث عشرة سنة يوحىََ إليه ، ثم هاجر الىََ المدينة وظل فيها عشر سنين ، والقرآن يتعاقب ويتواتر عليه حتىََ مات وهو في الثالثة والستين من عمره الشريف .وقد امتاز القرآن عن الكتب السماوية السابقة عليه بانزاله تدريجاً . وكان لهذا التدرج في انزاله أثر كبير في تحقيق أهدافه وإنجاح الدعوة وبناء الاُمّة .
كما أ نّه كان آية من آيات الاعجاز في القرآن الكريم ، ويتّضح كل ذلك في النقاط التالية :
1 - مرّت علىََ النبي والدعوة حالات مختلفة جدّاً خلال ثلاث وعشرين سنة ، تبعاً لما مرت به الدعوة من محن وقاسته من شدائد وما احرزته من انتصار وسجّلته من تقدم ، وهي حالات يتفاعل معها الانسان الاعتيادي وتنعكس علىََ روحه وأقواله وأفعاله ويتأ ثّر بأسبابها وظروفها والعوامل المؤثرة فيها ، ولكن القرآن الذي واكب تلك السنين بمختلف حالاتها في الضعف والقوّة ، في العسر واليسر ، في لحظات الهزيمة ولحظات الانتصار ، والتنزيل تدريجاً خلال تلك الاعوام كان يسير دائماً علىََ خطه الرفيع لم ينعكس عليه أي لون من ألوان الانفعال البشري الذي تثيره تلك الحالات .
وهذا من مظاهر الاعجاز في القرآن التي تبرهن علىََ تنزيله من لدن علي حكيم ؛ ولم يكن القرآن ليحصل علىََ هذا البرهان لولا انزاله تدريجاً في ظروف مختلفة وأحوالٍ متعددة .
2 - إنّ القرآن بتنزيله تدريجاً كان امداداً معنوياً مستمراً للنبي صلى الله عليه و آله كما قال اللَّه تعالىََ :
«وقال الذين كفروا لولا نُزّل عليه القرآن جملةً واحدةً كذلك لنثبّت به فؤادك ورتّلناه ترتيلاً »(8).
فإنّ الوحي إذا كان يتجدد في كل حادثة كان أقوىََ للقلب وأشد عناية بالمرسل إليه ، ويستلزم ذلك نزول الملك إليه وتجدد العهد به وتقوية أمله في النصر ، واستهانته بما يستجد ويتعاقب من محن ومشاكل .
ولهذا نجد أنّ القرآن ينزل مسلياً للنبي مرة بعد مرة مهوناً عليه الشدائد كلما وقع في محنة ، يأمره تارة بالصبر أمراً صريحاً ، فيقول : «واصبر علىََ ما يقولون واهجرهم هَجْراً جميلاً »(9)
وينهاه تارة اُخرىََ عن الحزن كما في قوله :
« ولا يحزنك قولهم إنّ العزّة للَّه جميعاً ... »(10)
ويذكِّره بسيرة الانبياء الذين تقدموه من اُولي العزم ، فيقول : «... فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرّسل ... »(11)
ويخفف عنه احياناً ، ويعلمه أنّ الكافرين لا يجرحون شخصه ولا يتهمونه بالكذب لذاته ، وانما يعاندون الحق بغياً كما هو شأن الجاحدين في كل عصر كما في قوله : «قد نعلم انه ليحزنك الذي يقولون فانّهم لا يكذّبونك ولكنّ الظالمين بآيات اللَّه يجحدون »(12).
3 - إنّ القرآن الكريم ليس كتاباً كسائر الكتب التي تؤلف للتعليم والبحث العلمي ، وانما هو عملية تغيير الانسان تغييراً شاملاً كاملاً في عقله وروحه وإرادته ، وصنع اُمّة وبناء حضارة ، وهذا العمل لا يمكن ان يوجد مرة واحدة وانما هو عمل تدريجي بطبيعته .
ولهذا كان من الضروري ان ينزل القرآن الكريم تدريجاً ، ليحكم عملية البناء وينشئ أساساً بعد اساس، ويجتذ جذور الجاهلية ورواسبها بأناة وحكمة .
وعلىََ أساس هذه الأناة والحكمة في عملية التغيير والبناء نجد أنّ الاسلام تدرج في علاج القضايا العميقة بجذورها في نفس الفرد أو نفس المجتمع ، وقاوم بعضها علىََ مراحل حتىََ استطاع ان يستأصلها ويجتث جذورها ، وقصة تحريم الخمر وتدرّج القرآن في الاعلان عنها من أمثلة ذلك ، فلو أنّ القرآن نزل جملة واحدة بكل احكامه ومعطياته الجديدة لنفر الناس منه ، ولما استطاع أن يحقق الانقلاب العظيم الذي أنجزه [ في ] التأريخ .
المصادر :
1- النساء : 163
2- الشورىََ : 51
3- بحار الأنوار 18 : 260
4- البقرة : 185
5- القدر : 1
6- الدخان : 3
7- هود : 1
8- الفرقان : 32
9- المزمل : 10
10- يونس : 65
11- الاحقاف : 35
12- الانعام : 33