هو الرابع من أئمّة أهل البيت ، وجدّه الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وصيّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأوّل من أسلم به ، وكان منه بمنزلة هارون من موسى كما صحّ في الحديث عنه(1)
وجدّته فاطمة الزهراء بنت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وبضعته وفلذّة كبده وسيّدة نساء العالمين كما كان أبوها يصفها(2)
وأبوه الإمام الحسين أحد سيّدي شباب أهل الجنّة سبط الرسول وريحانته ، ومن قال فيه جدّه : « حسين منّي وأنا من حسين »(3)
وهو الذي استشهد في كربلاء يوم عاشوراء دفاعاً عن الإسلام والمسلمين .
وهو أحد الأئمّة الاثني عشر الذين أخبر عنهم النبيّ صلى الله عليه و آله كما جاء في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما إذ قال : « الخلفاء بعدي اثنا عشر كلّهم من قريش »(4) .
وقد ولد الإمام عليّ بن الحسين في سنة ثمان وثلاثين للهجرة ، وقيل قبل ذلك بسنة أو سنتين ، وعاش حوالي سبعة وخمسين عاماً(5) ، قضى بضع سنين منها في كنف جدّه الإمام عليّ عليه السلام ، ثمّ نشأ في مدرسة عمّه الحسن وأبيه الحسين سبطي الرسول ، وتغذّى من نمير علوم النبوّة واستقى من مصادر آبائه الطاهرين .
وبرز على الصعيد العلمي والديني إماماً في الدين ، ومناراً في العلم ، ومرجعاً في الحلال والحرام ، ومثلاً أعلى في الورع والعبادة والتقوى ، وآمن المسلمون جميعاً بعلمه واستقامته وأفضليّته ، وانقاد الواعون منهم إلى زعامته وفقهه ومرجعيّته .
قال الزهري : « ما رأيت هاشميّاً أفضل من عليّ بن الحسين ولا أفقه منه »(6)
وقال في كلام آخر : « ما رأيت قرشيّاً أفضل منه »(7) .
وقال سعيد بن المسيّب : « ما رأيت قطّ مثل عليّ بن الحسين »(8) .
وقال الإمام مالك : « سمّي زين العابدين لكثرة عبادته »(9) .
وقال سفيان بن عيينة : « ما رأيت هاشميّاً أفضل من زين العابدين ولا أفقه منه »(10) .
وعدّ الإمام الشافعي عليّ بن الحسين « أفقه أهل المدينة »(11) .
وقد اعترف بهذه الحقيقة حتّى حكّام عصره من خلفاء بني اُميّة - على الرغم من كلّ شيء - فلقد قال له عبد الملك بن مروان : « ولقد اُوتيت من العلم والدين والورع ما لم يؤته أحد مثلك قبلك إلّامن مضى من سلفك »(12)
وقال عمر بن عبد العزيز : « سراج الدنيا وجمال الإسلام زين العابدين »(13) .
وقد كان للمسلمين عموماً تعلّق عاطفي شديد بهذا الإمام وولاء روحي عميق له ، وكانت قواعده الشعبيّة ممتدّة في كلّ مكان من العالم الإسلامي ، كما يشير إلى ذلك موقف الحجيج الأعظم منه حينما حجّ هشام بن عبد الملك وطاف وأراد أن يستلم فلم يقدر على استلام الحجر الأسود من الزحام ، فنصب له منبر فجلس عليه ينتظر .
ثمّ أقبل زين العابدين وأخذ يطوف ، فكان إذا بلغ موضع الحجر انفرجت الجماهير وتنحّى الناس حتّى يستلمه لعظيم معرفتها بقدره وحبّها له على اختلاف بلدانهم وانتساباتهم . وقد سجّل الفرزدق هذا الموقف في قصيدة رائعة مشهورة(14) .
ولم تكن ثقة الاُمّة بالإمام زين العابدين على اختلاف اتّجاهاتها ومذاهبها مقصورة على الجانب الفقهي والروحي فحسب ، بل كانت تؤمن به مرجعاً وقائداً ومفزعاً في كلّ مشاكل الحياة وقضاياها بوصفه امتداداً لآبائه الطاهرين .
ومن أجل ذلك نجد أنّ عبد الملك ، حينما اصطدم بملك الروم وهدّده الملك الروماني باستغلال حاجة المسلمين إلى استيراد نقودهم من بلاد الرومان لإذلال المسلمين وفرض الشروط عليهم ، وقف عبد الملك متحيّراً وقد ضاقت به الأرض كما جاء في الرواية وقال : أحسبني أشأم مولود ولد في الإسلام ، فجمع أهل الإسلام واستشارهم فلم يجد عند أحد منهم رأياً يعمل به ، فقال له القوم : إنّك لتعلم الرأي والمخرج من هذا الأمر !
فقال : ويحكم مَن ؟ قالوا : الباقي من أهل بيت النبيّ صلى الله عليه و آله ، قال : صدقتم ، وهكذا كان . فقد فزع إلى الإمام زين العابدين فأرسل عليه السلام ولده محمّد بن عليّ الباقر إلى الشام وزوّده بتعليماته الخاصّة فوضع خطّة جديدة للنقد الإسلامي وأنقذ الموقف(15) .
وقد قدِّر للإمام زين العابدين أن يتسلّم مسؤوليّاته القياديّة والروحيّة بعد استشهاد أبيه ، فمارسها خلال النصف الثاني من القرن الأوّل في مرحلة من أدقّ المراحل التي مرّت بها الاُمّة وقتئذٍ ، وهي المرحلة التي أعقبت موجة الفتوح الاُولى ، فقد امتدّت هذه الموجة بزخمها الروحي وحماسها العسكري والعقائدي ، فزلزلت عروش الأكاسرة والقياصرة وضمّت شعوباً مختلفة وبلاداً واسعة إلى الدعوة الجديدة ، وأصبح المسلمون قادة الجزء الأعظم من العالم المتمدّن وقتئذٍ خلال نصف قرن .
وعلى الرغم من أنّ هذه القيادة جعلت من المسلمين قوّة كبرى على الصعيد العالمي من الناحية السياسيّة والعسكريّة ، فإنّها عرّضتهم لخطرين كبيرين خارج النطاق السياسي والعسكري ، وكان لا بدّ من البدء بعمل حاسم للوقوف في وجههما .
أحدهما : الخطر الذي نجم عن انفتاح المسلمين على ثقافات متنوّعة وأعراف تشريعيّة وأوضاع اجتماعيّة مختلفة بحكم تفاعلهم مع الشعوب التي دخلت في دين اللَّه أفواجاً ، وكان لا بدّ من عمل على الصعيد العلمي يؤكّد في المسلمين أصالتهم الفكريّة وشخصيّتهم التشريعيّة المتميّزة المستمدّة من الكتاب والسنّة .
وكان لا بدّ من حركة فكريّة اجتهاديّة تفتح آفاقهم الذهنيّة ضمن ذلك الإطار لكي يستطيعوا أن يحملوا مشعل الكتاب والسنّة بروح المجتهد البصير والممارس الذكي الذي يستطيع أن يستنبط منها ما يفيده في كلّ ما يستجدّ له من حالات . كان لا بدّ إذن من تأصيل للشخصيّة الإسلاميّة ومن زرع بذور الاجتهاد .
وهذا ما قام به الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام ، فقد بدأ حلقة من البحث والدرس في مسجد الرسول صلى الله عليه و آله يحدّث الناس بصنوف المعرفة الإسلاميّة من تفسير وحديث وفقه ، ويفيض عليهم من علوم آبائه الطاهرين ، ويمرّن النابهين منهم على التفقّه والاستنباط ، وقد تخرّج من هذه الحلقة عدد مهمّ من فقهاء المسلمين ، وكانت هذه الحلقة هي المنطلق لما نشأ بعد ذلك من مدارس الفقه والأساس لحركته الناشطة .
وقد استقطب الإمام عن هذا الطريق الجمهور الأعظم من القرّاء وحملة الكتاب والسنّة ، حتّى قال سعيد بن المسيّب : « إنّ القرّاء كانوا لا يخرجون إلى مكّة حتّى يخرج عليّ بن الحسين ، فخرج وخرجنا معه ألف راكب »(15) .
وأمّا الخطر الآخر : فقد نجم عن موجة الرخاء التي سادت المجتمع الإسلامي في أعقاب ذلك الامتداد الهائل ، لأنّ موجات الرخاء تعرّض أيّ مجتمع إلى خطر الانسياق مع ملذّات الدنيا والإسراف في زينة هذه الحياة المحدودة وانطفاء الشعور الملتهب بالقيم الخلقيّة والصلة الروحيّة باللَّه واليوم الآخر ، وبما تضعه هذه الصلة أمام الإنسان من أهداف كبيرة ، وهذا ما وقع فعلاً ، وتكفي نظرة واحدة في كتاب الأغاني لأبي الفرج الإصبهاني ليتّضح الحال .
وقد أحسّ الإمام عليّ بن الحسين بهذا الخطر وبدأ بعلاجه ، واتّخذ من الدعاء أساساً لهذا العلاج . وكانت الصحيفة السجّاديّة التي بين يديك من نتائج ذلك ، فقد استطاع هذا الإمام العظيم بما اُوتي من بلاغة فريدة وقدرة فائقة على أساليب التعبير العربي وذهنيّة ربّانيّة تتفتّق عن أروع المعاني وأدقّها في تصوير صلة الإنسان بربّه ووجده بخالقه وتعلّقه بمبدئه ومعاده وتجسيد ما يعبّر عنه ذلك من قيم خلقيّة وحقوق وواجبات .
أقول : قد استطاع الإمام عليّ بن الحسين بما اُوتي من هذه المواهب أن ينشر من خلال الدعاء جوّاً روحيّاً في المجتمع الإسلامي يساهم فى تثبيت الإنسان المسلم عندما تعصف به المغريات ، وشدّه إلى ربّه حينما تجرّه الأرض إليها ، وتأكيد ما نشأ عليه من قيم روحيّة لكي يظلّ أميناً عليها في عصر الغنى والثروة كما كان أميناً عليها وهو يشدّ حجر المجاعة على بطنه .
وقد جاء في سيرة الإمام أ نّه كان يخطب الناس في كلّ جمعة ويعظهم ويزهّدهم في الدنيا ويرغّبهم في أعمال الآخرة ويقرع أسماعهم بتلك القطع الفنّيّة من ألوان الدعاء والحمد والثناء التي تمثّل العبوديّة المخلصة للَّهسبحانه وحده لا شريك له .
وهكذا نعرف أنّ الصحيفة السجّاديّة تعبّر عن عمل اجتماعي عظيم كانت ضرورة المرحلة تفرضه على الإمام ، إضافة إلى كونها تراثاً ربّانيّاً فريداً يظلّ على مرّ الدهور مصدر عطاء ومشعل هداية ومدرسة أخلاق وتهذيب ، وتظلّ الإنسانيّة بحاجة إلى هذا التراث المحمّدي العلوي ، وتزداد حاجةً كلّما ازداد الشيطان إغراءً والدنيا فتنةً .
فسلام على إمامنا زين العابدين يوم ولد ويوم أدّى رسالته ويوم مات ويوم يُبعث حيّاً .
المصادر :
1- الكافي 1 : 107 ، الحديث 80
2- من لا يحضره الفقيه 4 : 179 ، الحديث 5404
3- الإرشاد 2 : 127
4- صحيح البخاري 8 : 127 ؛ صحيح مسلم 6 : 3 ؛ البداية والنهاية 6 : 248 ؛ وانظر : بحار الأنوار 36 : 298 ( بالمضمون )
5- إعلام الورى بأعلام الهدى 1 : 480
6- العدد القويّة : 318 ؛ المناقب 4 : 159 ؛ بحار الأنوار 46 : 97 نقلاً عنه ، وفي الأخيرين : « زين العابدين » ؛ وانظر : المعرفة والتاريخ 1 : 544 ، وفيه : « وما رأيت أحداً كان أفقه منه »
7- أنساب الأشراف 3 : 146 ؛ تاريخ الإسلام 6 : 432 ، وفيهما : « أفضل من عليّ بن الحسين » ؛ البداية والنهاية 9 : 104 ، وفيه : « أورع » بدل « أفضل » ؛ بحار الأنوار 46 : 67
8- تاريخ اليعقوبي 2 : 229 ، وفيه : « أفضل من » بدل « مثل » . وانظر : العدد القويّة : 318 ؛ بحار الأنوار 46 : 144 ، نقلاً عنه ؛ كشف الغمّة 2 : 80
9- نور الأبصار في مناقب آل النبيّ المختار : 280
10- المناقب 4 : 159 ؛ بحار الأنوار 46 : 97 ، نقلاً عنه ؛ وفي : المعرفة والتاريخ 1 : 544 أنّ سفيان يرويه عن الزهري
11- شرح نهج البلاغة 15 : 273
12- بحار الأنوار 46 : 56
13- تاريخ اليعقوبي 2 : 305
14- شذرات الذهب 2 : 59 ؛ مستدرك الوسائل 10 : 394 ؛ أعيان الشيعة 1 : 634 ؛ مستدركات أعيان الشيعة 3 : 295
15- البداية والنهاية 9 : 104 ؛ مستدرك الوسائل 7 : 84 - 86 ؛ سيرة الأئمّة الاثني عشر 2 : 212 - 213
16- بحار الأنوار 46 : 149