كان الحسين عليه السلام يكتب باستمرار إلى أنصاره وشيعته في الولايات والبلدان ، وخاصة إلى اليمن والكوفة والبصرة ، وهي المناطق المعروفة بحب آل البيت عليهمالسلام وموالاتهم ، ينقل تعليماته إليهم ويطلع على كل المستجدات ، ولكن وسيلة المكاتبات هذه لا يمكن الاعتماد عليها كليا في الحصول على المعلومات ونقلها ، وذلك لأن حامل الكتاب في بعض الاحيان يقع في فخ مخابراتي ويُكتشف أمره ويتعرض بالتالي إلى العقوبة القاسية أو يتعرض للتعذيب من أجل الكشف عن الجهة المكلف بإرسال الكتاب إليها ، كما حصل مع قيس بن مسهر الصيداوي الذي كلفه الحسين عليه السلام بايصال كتاب سري للغاية إلى سليمان بن صرد الخزاعي والمسيب بن نجبة ورفاعة بن شداد وجماعة الشيعة بالكوفة ، فلما قارب دخول الكوفة اعترضه الحصين بن نمير ـ صاحب عبيد اللّه بن زياد ـ ليفتشه ، فأخرج قيس الكتاب ومزّقه ، فحمله الحصين بن نمير إلى عبيد اللّه ، فلما مَثُل بين يديه قال له : من أنت؟ قال : أنا رجل من شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وابنه.
قال : فلماذا خرَّقت الكتاب؟ قال : لئلا تعلم ما فيه. فحاول عبيد اللّه التحقيق معه وانتزاع الاعتراف منه. وقال له : وممن الكتاب وإلى من؟ قال : من الحسين عليه السلام إلى جماعة من أهل الكوفة لا أعرف أسماءهم ، فغضب ابن زياد وقال : واللّه لا تفارقني حتى تخبرني بأسماء هؤلاء القوم ، أو تصعد المنبر فتلعن الحسين بن علي وأباه وأخاه وإلا قطعتك إربا إربا ، فقال قيس : أما القوم فلا أخبرك بأسمائهم ، وأما لعن الحسين وأبيه وأخيه فأفعل. فصعد المنبر فحمد اللّه وأكثر من الترحم على علي والحسن والحسين ، ثم لعن عبيد اللّه بن زياد وأباه ، ولعن عُتاة بني أمية عن آخرهم ، ثم قال : أيها الناس ، أنا رسول الحسين اليكم ، وقد خلفته بموضع كذا فأجيبوه ، فأمر عبيد اللّه بإلقائه من أعالي القصر (١).
وفي رواية الشيخ المفيد قدسسره : « أنّه قال : أيّها الناس ، إنّ هذا الحسين بن عليٍّ خيرُ خلق اللّه ابن فاطمة بنت رسول اللّه وأنا رسوله إليكم فأجيبوه ، ثمّ لعن عبيداللّه بن زياد وأباه ، واستغفر لعليّ بن أبي طالب عليه السلام وصلى عليه » (٢).
من هذا الموقف يظهر لنا جليا بأن الإمام يختار حملة كُتبه من ذوي الخبرة والكفاءة والشجاعة والأمانة للتقليل من الآثار السلبية للمكاتبات التحريرية.
الاستطلاع
اتبع الحسين القائد عليه السلام هذا الأسلوب في مسيره نحو العراق ، كان يستطلع بنفسه وأحيانا يؤلف دورية استطلاع قليلة العدد ، تكون في طليعة قواته ، ليحصل من خلالها على المعلومات عن مدى اقتراب دوريات العدو التي تحاول صده عن الوصول إلى هدفه ، ويحاول التعرف على الطُرق ومصادر المياه ، ومن مصاديق ذلك أن الإمام الحسين عليه السلام عندما وصل منطقة الثعلبية ونزل بها ، نظر إلى سواد مرتفع ، فقال لأصحابه : « ما هذا السواد »؟ فقالوا : لا علم لنا بذلك. فقال : « انظروا ثانية ». فقالوا : خيلٌ مقبلة. فقال : « اعدلوا بنا عن الطريق ». لأنه لا يريد المواجهة العسكرية قبل الوصول إلى الكوفة. قال وهو واقف للاستطلاع : « فلما رأونا عدلنا عن الطريق عدلوا إلينا » (3).وإذا هم ألف فارس يقدمهم الحر بن يزيد الرياحي. وهذه الحادثة مفادها : أن الحسين عليه السلام عندما بلغ منطقة ذي حسم كبّر رجلٌ من أصحابه تكبيرة الإعجاب ، وكان ضمن قوات الاستطلاع التي وضعها الإمام في طليعة الرَّكب ، فقد تصور هذا الرجل أنه رأى نخيل الكوفة ، فلذلك أخذ يُكبّر بأعلى صوته ، مبشرا بالوصول إليها ، ولكن الجماعة المكلفة بالاستطلاع لم تقتنع بذلك ، وبعد التدقيق في صحة الخبر تبين لهم أنها رؤوس رماح ، تحكي عن قدوم قوة عسكرية ، فتحيز الحسين عليه السلام برحله إلى هضاب ذي حسم ، واتخذ وضعا دفاعيا مرتجلاً ، وأصدر تعليماته العسكرية فقد « خرج إلى أصحابه فأمرهم أن يقرّبوا بعض بيوتهم من بعض ، وأن يدخلوا الأطناب بعضها من بعض ، وأن يكونوا هم بين البيوت إلا الوجه الذي يأتيهم منه عدوهم » (4).
ومهما يكن من أمر فإن الحسين عليه السلام كان يستطلع أكثر الأوقات بنفسه أو بواسطة مفرزة استطلاع من أجل الحصول على المعلومات المتيسرة ـ ولو على وجه السُّرعة ـ عن العدو وعدد قواته وتجهيزاته وتحركاته.
تمحيص القوات وتطهيرها
سعى الإمام عليه السلام إلى تطهير قواته من عناصر الفتنة والخذلان وأصحاب الأهواء والمصالح ، إدراكا منه بأن قوة الجيش لاتُقاس بعدد جنوده بل بمدى تحلّيهم بعناصر الضَّبط الذي هو أساس الجندية ، ومدى درجة إيمانهم بحقانية الحرب التي سوف يخوضونها.ومعنى الضبط : هو إطاعة الأوامر وتنفيذها بحرص وأمانة وإخلاص وعن طيب خاطر ، وهذه الأمور يفتقد إليها بعض من التحق بجيش الإمام طلبا للمنصب أو المَغْنم ، فهؤلاء ـ أقصد أهل الأهواء والمطامع ـ بدأوا بالتفرُّق سرا وعلانيةً ، ليلاً ونهارا بمجرّد سماعم بشهادة مسلم بن عقيل (سلام اللّه عليه) ، الذي تناهى إلى أسماعهم في منطقة زبالة.
والحسين القائد عليه السلام لم يخفِ هذا الأمر الجلل عن جنده ، فقد عقد مؤتمرا عاما لأهل بيته وأصحابه ، وقام خطيبا فأطلعهم على ذلك الخبر المؤسف حول شهادة سفيره وعميد بيته مسلم بن عقيل (سلام اللّه عليه) ، ولم يبدِ من مظاهر الحزن سوى الإكثار من الاسترجاع ، وأخفى كل مشاعر حزنه في سويداء قلبه ، لأن العيون لدى الشدائد شاخصة إلى قائدها ، فإن بدا عليه لائحة حزن عمّ الغم وضعفت المعنويات وخارت العزائم ، مع ذلك فإن ثلّة من الملتحقين به بدأوا بالتخلي عنه إيثارا للراحة وطلبا للعافية.
يذكر الشيخ المفيد قدسسره أنه لما تناهي لهم في منطقة زبالة خبر مقتل مسلم ( سلام اللّه عليه ) أخرج الإمام الحسين عليه السلام للناس كتابا فقرأه عليهم ، وجاء فيه :
« بسم اللّه الرحمن الرحيم ، أمّا بعد فإنّه أتانا خبر فظيع؛ قتل مسلم بن عقيل ، وهانئ بن عروة ، وعبداللّه بن يقطر ، وقد خذلنا شيعتنا ، فمن أحبّ منكم الإنصراف فلينصرف غير حرج ، ليس عليه ذمام » (5).
بعدها دعا الحسين عليه السلام أصحابه للتفرُّق ، وبيّن لهم أن طرق النجاة مفتوحة أمامهم ، وليست هذه المرّة الأولى التي يطلب فيها الحسين عليه السلام من أصحابه بالتفرُّق عنه ، فقد جدَّد ذلك الطلب قبل معركة عاشوراء ، عندما جمع قواته وقال لهم : « ان القوم يطلبونني ولا يريدون بدلاً عني » وطلب منهم أن يتخذوا من اللَّيل جملاً ليستر انسحابهم ويحفظ ماء وجوههم ، قال لهم : « .. فجزاكم اللّه جميعا عني خيرا ، وهذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً ، وليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي ، وتفرّقوا في سواد هذا الليل ، وذروني وهؤلاء القوم ، فإنّهم لا يريدون غيري .. » (6).
فتفرَّق أصحاب الأهواء والمصالح ، وبقي معه خلّص أصحابه الَّذين بايعوه على الموت وأظهروا من السَّمع والطاعة لقيادته ما يصلح أن يكون نموذجا يُحتذى به .. كانوا يتسابقون إلى الموت ، ويقونه من السِّهام والرِّماح بأبدانهم ، ويذودون عن قائدهم كما تذود اللّبوة عن أشبالها. * الحوار وعدم البدء بالقتال
سار الحسين عليه السلام مع أهل بيته وخُلّص أصحابه سيرا حثيثا نحو العراق ، ولم يفتّ من عضده مقتل سفيره مسلم بن عقيل (سلام اللّه عليه) ، وخذلان أهل الكوفة له ، فقرر المضي إلى آخر الشوط ، فلما وصل على بعد مرحلتين من الكوفة ، ظهرت ـ كما أسلفنا ـ طلائع دورية الحر بن يزيد الرياحي القتالية المؤلفة من ألف فارس ، فقال الحسين عليه السلام للحر مستفهما : « ألنا .. أم علينا؟ ». طرح الإمام عليه السلام هذا السؤال لأن بعض القوات كانت تلتحق في صفوف جيشه أثناء تقدمه ، فقال الحر الرياحي : بل عليك يا أبا عبد اللّه! (7).
وبعد مناقشات ومشادات كلامية بين الجانبين ، حاول الإمام عليه السلام إقناع الحر بالسماح له بالمسير نحو الكوفة ، وعرض عليه الكتب المرسلة إليه من زعمائها وأهل الرأي فيها ، لكن الحر أصرّ على رفض هذا الأمر ، وتمخّض النقاش عن حلّ وسط يُرضي الطرفين ؛ وهو أن يسلك الإمام عليه السلام طريقا لا يدخله إلى الكوفة ولا يُرجعه إلى المدينة ، وكانت قوات الحر الرياحي تواكب سير قافلة الحسين (سلام اللّه عليه) حتى لا تحيد عن الخطة المرسومة لتحركها.
قال الشيخ المفيد قدسسره : « تردّد الكلام بينهما حتى قال له الحسين عليه السلام : فإذا كنتم على خلاف ما أتتني به كتبكم وقدمت به عليّ رسلكم ، فإنّني أرجع إلى الموضع الذي أتيت منه ، فمنعه الحرّ وأصحابه من ذلك. وقال : بل خذ يا ابن رسول اللّه طريقا لا يدخلك الكوفة ولا يوصلك إلى المدينة ، لأعتذر أنا إلى ابن زياد بأنّك خالفتني في الطريق ، فتياسر الحسين عليه السلام حتى وصل إلى عذيب الهجانات قال : فورد كتاب عبيداللّه بن زياد إلى الحرّ يلومه في أمر الحسين عليه السلام ، ويأمره بالتضييق عليه ، فعرض له الحرّ وأصحابه ومنعوه من السير ، فقال له الحسين عليه السلام : ألم تأمرنا بالعدول عن الطريق. فقال له الحرّ : بلى ، ولكن كتاب الأمير عبيداللّه قد وصل يأمرني فيه بالتضييق ، وقد جعل عليَّ عينا يطالبني بذلك » (8).
وهكذا انقلب الموقف رأسا على عقب بصدور أمرٍ عسكري صارمٍ من عبيد اللّه بن زياد يطلب فيه من الحر الرياحي أن يُضيق الحصار على قوات الإمام ويوقف مسيرتها ، وعيّن ابن زياد ضابط استخبارات عسكرية كلّفه بمراقبة مدى التزام الحر الرياحي بهذا الأمر الصادر إليه ، وكان النَّص الحرفي للأمر هو : « أما بعد ، فجعجع بالحسين ، حين يبلغك كتابي ، ويقدم عليك رسولي ، ولا تنزله إلا بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء ، فقد أمرت رسولي أن يلزمك ، ولا يفارقك حتى يأتيني بإنفاذك أمري والسلام » (9).
قاوم الحسين عليه السلام هذا الأمر الصارم بكل قوة وعزم ، لكنه أبقى باب الحوار مع الحر مفتوحا ، فكلما أراد الإمام المسير كانوا يمنعونه تارة ويسايرونه أُخرى حتى بلغ كربلاء في اليوم الثاني من المحرم.
ولم يكتف ابن زياد بالقوة الضاربة المؤلفة من ألف فارس التي أرسلها في طليعة قواته مع الحر الرياحي ، حتى أرسل قوةً أُخرى إضافية لتشديد الحصار المضروب على قوات الإمام عليه السلام ، وقد بلغت هذه القوة خمسة آلاف مقاتل بقيادة عمر بن سعد ، وكانت مكتملة التسليح والتجهيز ، وتملك مواد الإعاشة ووسائل التمويل من غذاء وماء.
وعندما أخذ الحل السِّلمي يتضاءل رويدا رويدا وباتت احتمالاته شبه معدومة ، اقترح بعض قادة جيش الحسين الميدانيين المبادرة بالقتال ، وفي هذا الصدد قال زهير بن القين : « إنِّي واللّه ما أراه يكون بعد الذي ترون إلا أشد مما ترون ، يا ابن رسول اللّه إن قتال هؤلاء الساعة أهون علينا من قتال من يأتينا بعدهم ، فلعمري ليأتينا بعدهم ما لا قِبَل لنا به ، فقال الحسين عليه السلام : ما كنت لأبدأهم بالقتال » (10).
وتجدر الإشارة إلى أن ابن القين لم يصل إلى قناعته بالحرب إلاّ بعد أن بالغ في النُّصح بحيث وصل الأمر إلى أن يُرمى بسهم من قبل شمر بن ذي الجوشن الذي عنّفه على المبالغة في نصحه ، وقال له : « اسكت .. أبرمتنا بكثرة كلامك ». علما بأنّ ابن القين ـ حسب رواية الطبري : « قد خرج على فرس له ذنوب ، شاكٍ في السلاح ، فقال : يا أهل الكوفة ، نذار لكم من عذاب اللّه نذار! إنّ حقّا على المسلم نصيحة أخيه المسلم ، ونحن حتى الآن إخوة ، وعلى دين واحد وملّة واحدة ، ما لم يقع بيننا وبينكم السيف ، وأنتم للنصيحة منّا أهل ، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة ، وكنّا أمّة وأنتم أمّة ...
قال : فسبُّوه ، وأثنوا على عُبيداللّه بن زياد ، ودعوا له ، وقالوا : واللّه لا نبرح حتى نقتل صاحبك ومن معه ، أو نبعث به وبأصحابه إلى الأمير عبيداللّه سِلما. فقال لهم : عباد اللّه ، إنّ ولد فاطمة رضوان اللّه عليها أحقّ بالودّ والنصر من ابن سُمَيّة ، فإن لم تنصروهم فأعيذكم باللّه أنْ تقتلوهم ، فخلّوا بين الرجل وبين ابن عمّه يزيد بن معاوية ، فلعمري إنّ يزيد ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين. قال : فرماه شِمر بن ذي الجوشن بسهم » (11).
وهكذا نلاحظ بأن الإمام عليه السلام قد بالغ مع أصحابه في الدعوة إلى السِّلم مع الحرص الشديد على مَدّ جسور الفهم والتفاهم مع أعدائه ، وعليه كان يحجم عن إصدار أوامر القتال على الرغم من تدفّق القوات المعادية من حوله كالسيول حرصا منه على حقن دماء المسلمين وحلّ النِّزاع بالطرق السِّلمية ، لاسيما وانه اتبع وسائل سلمية عديدة منها : تذكيرهم بالكتب المرسلة إليه والعهود التي قطعت له بالولاء والنصرة ، كما أنه عرّفهم بنفسه وحسبه ونسبه وقربه من رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ، زد على ذلك أنه عقد مباحثات مطولة مع أركان وقادة الجيش المعادي له.
يروي الطبري أنّ أحد الحضور في كربلاء قد أقرّ باتّباع الحسين عليه السلام للمنطق في حواره معهم لتبيان الحقائق ، قال : « فواللّه ما سمعت متكلّما قط قبله ولا بعده أبلغ في منطق منه ».
وذكر الطبري كذلك أنّ الحسين عليه السلام خاطبهم قائلاً : « أمّا بعد فانسبوني فانظروا من أنا؟ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها ، فانظروا هل يحلّ لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيّكم صلىاللهعليهوآله ، وابن وصيّه ، وابن عمّه ، وأوّل المؤمنين باللّه والمصدّق لرسوله بما جاء به من عند ربه؟ أوليس حمزة سيد الشهداء عمّ أبي؟ أوليس جعفر الشهيد الطيّار ذو الجناحين عمي؟ أولم يبلغُكم قول مستفيض فيكم : إنّ رسول اللّه صلىاللهعليهوآله قال لي ولأخي : هذان سيّدا شباب أهل الجنّة! فإنْ صدّقتموني بما أقول ـ وهوالحقّ ـ فواللّه ما تعمّدت كذبا مذ علمت أنّ اللّه يمقت عليه أهله ، ويضرّ به من اختلقه ، وإن كذّبتموني فإنّ فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم ... أفما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي! فقال له شمر بن ذي الجوشن : هو يعبد اللّه على حرف إن كان يدري ما يقول! فقال له حبيب بن مظاهر : واللّه إني لأراك تعبد اللّه على سبعين حرفا ، وأنا أشهد أنّك صادق ما تدري ما يقول ، قد طبع اللّه على قلبك » (12).
يذكر أبو مخنف في مقتله : بان الحسين عليه السلام كان يجلس مع ابن سعد ليلاً ويتحدثان طويلاً حتى يمضي من اللّيل شطره ، قال : « فتكلما فأطالا حتى ذهب من اللّيل هزيع ، ثم انصرف كل واحد منهما إلى عسكره بأصحابه » (13).
وكانت أساليب الحسين عليه السلام السِّلمية تقابلها نزعة حربية طاغية ورغبة ملحّة بتعجيل القتال من قبل بعض قادة الجيش المعادي كشمر بن ذي الجوشن الذي كان يصرّ على القتال ووضع الحدّ للحوار الدائر بين الجيشين ، وقد استغرب الحر الرياحي من اندفاع شمر للقتال ، وتعجله بالشر ، فالتفت الحر الرياحي لابن سعد ، وقال : أمقاتل أنت هذا الرجل؟! فقال ابن سعد : إي واللّه قتالاً أيسره أن تقطع الأيدي وتطيح الرؤوس. عندئذ انعقدت الدهشة لسان الحر وأصابه مثل الإفكل ـ أي الرِّعدة ـ فقال له المهاجر بن أوس : واللّه إنّ أمرك لمريب ، ولو قيل لي من أشجع أهل الكوفة لما عدوتك ، فما هذا الذي أرى منك؟ فقال : واللّه إنّي أُخيِّر نفسي بين الجنّة والنار ، فواللّه لا أختار على الجنّة شيئا ولو قطّعت وأُحرقت. ثم التحق بصفوف الحسين عليه السلام (14).
تجدر الإشارة إلى أن موقف ابن سعد القائد الميداني كان مترددا في البداية بالقتال ، وكان بين الاقدام والاحجام ، ويلتمس العذر في بداية الأمر ، ولكن المغريات التي قُدمت اليه كالحصول على ولاية الرّي قد قلبت قناعته رأسا على عقب ، فرجَّح خِيارَ الحربِ على السِّلم ، واطلق إشارة بدأ القتال بسهم من قوسه معلنا الحرب على أبناء الرسول صلىاللهعليهوآله !
الأعمال التمهيدية
أدرك الحسين عليه السلام أن القتال أصبح خيارا لا مفرّ منه ، بعد أن تلاشت آماله في السَّلام المشرِّف ، وواجه الحقيقة المرّة من حيث كونه محاصر من جميع الجهات ، ومصدود عن الماء ووسائل التموين والإعاشة ، مع كل ذلك لم يقف مكتوف اليدين ، بل أعدّ قواته للدفاع المستميت ، وقام بجملة من الأعمال التمهيدية ، كان من أبرزها ما يلي :١ـ انتخب موضعا بنى فيه مقر قيادته ، حيث أمر بفسطاط فنصب عند الصباح من يوم المواجهة.
٢ـ رتّب موضعه الدفاعي بالعمق ، فبعد أن وجد معسكره في بقعة جرداء لا تتوفر فيها مزايا الدفاع ، سبرَ غور الوهاد والأنجاد ، وأشرف على سلسلة هضاب وروابي تليق حسب مزاياها الطبيعية بأن تتخذ للحرم والخيم ، وكانت الرَّوابي والتلال متدانية على شاكلة الهلال ، وهو المسمى ( الحير ) أو ( الحائر ) ..
ثم أن الإمام الحسين عليه السلام رأى بجنب هذه وجنوبها رابية مستطيلة أصلح من اختها للتحصن ، لأن المحتمي بفنائها يكتنفه من الشمال والغرب ربوات تقي من عاديات العدو برماة قليلين من صحب الإمام الحسين عليه السلام ، اذا اختبأوا في الرَّوابي ، وتبقى من جهتي الشرق والجنوب جوانب واسعة تحميها أصحاب الإمام الحسين عليه السلام ورجاله ، ومنها يخرجون إلى لقاء العدو أو تلقّي الرُّكبان ، فنقل إلى هذا الموضع حرمه ومعسكره ويُعرف الآن ( المخيم ).
فصارت منطقة الحائر منطقة حرام (بالاصطلاح العسكري المعاصر) فاصلة بينه وبين معسكر الأعداء ، وأمر أصحابه أن يقربوا البيوت بعضها من بعض ، حتى تتمكن قواته من خوض المعركة بقوة أقل ، وتوقع بالعدو خسائر أكثر ، قال أبو مخنف : « فقال الحسين عليه السلام : أما لنا ملجأ نلجأ إليه نجعله في ظهورنا ونستقبل القوم في وجه واحد ، فقلنا له : بلى هذا ذو حسم ( اسم جبل ) إلى جنبك تميل إليه عن يسارك ، فان سبقت القوم إليه فهو كما تريد ، قال : فأخذ إليه ذات اليسار ، قال : وملنا معه ، فما كان بأسرع من أن طلعت علينا هوادي الخيل فتبيناها وعدلنا ، فلما رأونا وقد عدنا عن الطريق عدلوا إلينا ، كأن أسنتهم اليعاسيب ، وكأن راياتهم أجنحة الطير. قال : فاستبقنا إلى ذي حُسُم فسبقناهم إليه ، فنزل الحسين عليه السلام ، فأمر بأبنية فضربت ، وجاء القوم وهم ألف فارس مع الحر بن يزيد التميمي » (15).
وهذا النص يثبت لنا بأن الحسين عليه السلام كان يفكر تفكيرا عسكريا راقيا ، وكان لا يستبدّ برأيه بل يستشير أصحابه ، ويسأل دائما عن المكان المناسب لكي يُتّخذ كموضع دفاعي ، والنصّ صريح ـ أيضا ـ بأن كل طرف كان يتسابق مع الطرف الآخر ، ويسعى للحصول على المكان المناسب لخوض الحرب.
٣ ـ قام بمحاولات جريئة للوصول إلى شاطى ء الفرات المحروس بقوات محصنة تحصينا جيدا ، وموزعة كمائنها على المشرعة بصورة شبكة يصعب اختراقها ، ولكن رواة المعركة ـ كأبي مخنف ـ قد اعترفوا بأن العباس ( سلام اللّه عليه ) تمكن من اختراق صفوف القوات المكلفة بحراسة المشرعة ، وجلب الماء (16) .
ولكن في محاولته الثانية لجلب الماء تمكنت الكمائن المنصوبة في طريقه من منعه من إيصال ماء القربة إلى العيال والأطفال ، بواسطة قناصيها المنتشرين بين النَّخيل ، فقد أمطروه بسيل من السِّهام ، نفذ أحدها إلى القربة وأراق ما فيها من الماء ، ثم أن أحد أفراد هذه الكمائن تمكن من إصابة العباس ( سلام اللّه عليه ) بعمود من حديد على هامته.
ضمن هذا السياق يُروى أن الحسين عليه السلام قام ـ أيضا ـ باختراق تحصينات وحشود العدو المنتشرة على المشرعة ، ودخل الفرات ، وأراد أن يشرب الماء لولا الخدعة التي منعته من ذلك ، وهي : مناداة القوم عليه بأن الأعداء قد هجموا على حرمه وخيمه ، فكيف يهنأ ابن الزهراء بشرب الماء وقد هتكت حُرمة حَرمه!.
٤ ـ حفر خندقا حول المخيم ، وملأه حطبا ، وأضرم فيه نارا ، لأجل أن تكون جبهة الحرب ضيقة ومن جهة واحدة ، ويبدو أن شمر بن ذي الجوشن كان يخطط لتطويق قوات الإمام الحسين عليه السلام ، وكان يحاول الالتفاف على هذه القوات من الخلف ، ولكن خبرة الإمام عليه السلام بشؤون الحرب وتحسّبه لكل الاحتمالات الطارئة قد أحبطت هذه المحاولة.
ومما يعزز ذلك ، ما نقله أبو مخنف عن الضحاك المشرقي ، قال : « لما اقبلوا نحونا فنظروا إلى النار من ورائنا لئلا يأتونا من خلفنا ، إذ أقبل الينا منهم رجل يركض على فرس ، فلم يكلّمنا حتى مرّ على أبياتنا ، فنظر إلى أبياتنا فإذا هو لا يرى إلاّ حطبا تلتهب النار فيه ، فقفل راجعا. فنادى بأعلى صوته : ياحسين استعجلت النار في الدنيا قبل القيامة ، فقال الحسين : من هذا كأنه شمر بن ذي الجوشن ، فقالوا : نعم أصلحك اللّه هو هو ، فقال : يابن راعية المعزى أنت أولى بها صِليّا » (17).
وفي موقف آخر يكشف أبو مخنف تفاصيل أكثر عن خطة الدفاع التي وضعتها القيادة الحسينيّة عند نشوب المعارك الحربية ، فيقول : « وكان الحسين عليه السلام أتى بقصب وحطب إلى مكان من ورائهم منخفض كأنه ساقية ، فحفروه في ساعة من اللّيل فجعلوه كالخندق ، ثم ألقوا فيه ذلك الحطب والقصب وقالوا : إذا عَدَوا علينا فقاتلونا ألقينا فيه النار كيلا نؤتى من ورائنا ، وقاتلنا القوم من وجه واحد ، ففعلوا وكان لهم نافعا » (18).
وأيضا ما رواه أبو مخنف من أن ( جبيرة الكلبي ) وقيل ( ابن حوزة ) قال للحسين عليه السلام بعد أن وقف بإزاء الخندق : « اتعجلت بالنار في الدنيا قبل الآخرة؟! .. فدعا عليه الحسين عليه السلام قائلاً : ابشر بالنار ـ أو ـ اللهمّ حُزه إلى النار » (19).
وكشف لنا الدَّينوري ـ بإيجاز ـ عن الملامح العامّة للأسلوب الميداني الذي اتّبعه الحسين عليه السلام ، قال : « وأمر الحسين أصحابه أن يضموا مضاربهم بعضهم من بعض ، ويكونوا أمام البيوت ، وأن يحفروا من وراء البيوت أخدودا ، وأن يضرموا فيه حطبا وقصبا كثيرا ، لئلا يؤتوا من أدبار البيوت ، فيدخلوها » (20).
٥ ـ عقد الحسين عليه السلام مؤتمرا حربيا لقادته وقواته واختار اللّيل وقتا لانعقاده ، حتى لا تنكشف استعداداته من قبل مراصد العدو ، فقد أطلعهم على الموقف العصيب الذي يواجهونه ، وبين لهم بأن الحرب وشيكة الوقوع ، وسمح لمن أراد الانسحاب منهم بالذهاب وأحلّه من بيعته ، وأمر الباقين بالصبر والجهاد حتى يقضي اللّه أمرا كان مفعولاً.
٦ ـ جمع الحسين عليه السلام قواته وقسمها حسب التقسيم التقليدي السائد إلى ميمنة وميسرة وقلب ، فجعل زهير بن القين ومعه عشرون فارسا على الميمنة ، يقول أبو مخنف : « وعبّأ الحسين أصحابه وصلى بهم صلاة الغداة ، وكان معه اثنان وثلاثون فارسا ، وأربعون راجلاً ، فجعل زهير بن القين في ميمنة أصحابه ، وحبيب بن مظاهر في ميسرة أصحابه ، وأعطى رايته العباس بن علي أخاه ، وجعلوا البيوت من ظهورهم » (21) .
وأدخل الأطفال والحرم إلى الخيمة. وتمكن من ترتيب قواته بحيث تبقى تحت تصرفه قوة عسكرية احتياطية يعالج بها المواقف الطارئة.
٧ ـ أجّج معنويات جنوده إلى درجة أصبحوا يستأنسون بالموت والشهادة استئناس الرضيع بمحالب اُمّه ، ويستبشرون بالجنة ويعدون الساعات إليها ، حتى أن البعض منهم كبُرير كان يضحك ويمازح أصحابه وكأن شيئا لم يكن!.
كانت الميزة الأساسية لقوات الإمام الحسين عليه السلام تتمثل بالقوة المعنوية العالية ، فقد أثبتت كل الحروب في جميع أدوار التاريخ أنّ التسليح والتنظيم الجيّدين والعدّة العددية غير كافية لنيل النصر والصمود في وجه العدو ما لم يتحلَّ المقاتلون بالمعنويّات العالية.
ولعل من أبرز العوامل التي عملت على شحذ معنويات القوات الحسينيّة ، هو إحساسهم بعدالة القضية التي يقاتلون من أجلها ، وكذلك حقانية ومظلومية الإمام الحسين عليه السلام ، كما لعبت العبادة وخاصة الصلاة دورا في شحن العزائم وشحذ الهمم .. يقول الرواة : « بات الحسين عليه السلام وأصحابه تلك الليلة ـ ليلة عاشوراء ـ ولهم دويّ كدويّ النحل ، ما بين راكع وساجد وقائم وقاعد ، فعبر عليهم في تلك الليلة من عسكر عمر بن سعد اثنان وثلاثون رجلاً » (22).
ويبدو أن المعنويات العالية التي كان يتحلى بها أفراد الجيش الحسيني ، جعلت بعض أفراد جيش يزيد يتيقن صدق وحقانية جبهة الحسين ، فالتحقوا بجبهته ، كما نقل الرواة أيضا بأن الحسين عليه السلام طلب من أخيه العباس أن يحاول تأجيل القتال ما استطاع إلى ذلك سبيلاً ، قال له : « فان استطعت أن تؤخرهم إلى الغُدوَةِ ، وتدفعهم عنا العشية لعلنا نصلي لربنا الليلة وندعوه ونستغفره ، فهو يعلم أني قد أحبُّ الصلاة له ، وتلاوة كتابه ، والدُّعاء والاستغفار » (23).
يبدو أن الحسين عليه السلام يريد بذلك إضافة إلى الجانب العبادي أن يُؤجج العامل المعنوي في نفوس مقاتليه القليلي العدد والعُدة ، ليصمدوا في المعركة غير المتكافئة التي يخوضونها. يقول (توماس كارليل) ، الفيلسوف والمؤرخ الانكليزي : « أسمى درس نتعلمه من مأساة كربلاء ؛ هو أن الحسين وأنصاره كان لهم إيمان راسخ باللّه ، وقد أثبتوا بعملهم ذاك أن التفوق العددي لا أهمية له حين المواجهة بين الحقّ والباطل ، والذي أثار دهشتي هو انتصار الحسين رغم قلّة الفئة التي كانت معه » (24).
المصادر :
1- اللهوف : ٤٦ ـ ٤٧.
2- الإرشاد ٢ : ٧١.
3- الإرشاد ٢ : ٧٧.
4- تاريخ الطبري ٦ : ٢٢٦ ، حوادث سنة إحدى وستين.
5- الإرشاد ٢ : ٧٥.
6- اللهوف : ٥٥.
7- اللهوف : ٤٧.
8- اللهوف : ٤٧ ـ ٤٨.
9- الإرشاد ٢ : ٨٣.
10- الإرشاد ٢ : ٨٤ ، تاريخ الطبري ٦ : ٢١٨ ، حوادث سنة إحدى وستين.
11- تاريخ الطبري ٦ : ٢٢٩ ، حوادث سنة إحدى وستين.
12- تاريخ الطبري ٦ : ٢٢٨ ، حوادث سنة إحدى وستين.
13- تاريخ الطبري ٦ : ٢٢١ ، حوادث سنة إحدى وستين.
14- اللهوف : ٦١ ـ ٦٢.
15- تاريخ الطبري ٦ : ٢١٣ ، حوادث سنة إحدى وستين.
16- تاريخ الطبري ٦ : ٢٢٠ ، حوادث سنة إحدى وستين.
17- مقتل الحسين / أبو مخنف : ١١٦ ، الإرشاد ٢ : ٩٦.
18- مقتل الحسين / أبو مخنف : ١١٣ ، تاريخ الطبري ٦ : ٢٢٧ ، حوادث سنة إحدى وستين.
19- مقتل الحسين / أبو مخنف : ١٢٥ ، الإرشاد ٢ : ١٠٢.
20- الأخبار الطوال : ١٩١.
21- مقتل الحسين / أبو مخنف : ١١٣ ، انظر : الإرشاد ٢ : ٩٥.
22- اللهوف : ٥٧.
23- الإرشاد ٢ : ٩٠ ـ ٩١.
24- موسوعة عاشوراء : ٢٩١.