الحسين مع أبيه عليهما السلام

لقد بادر الإمام عليّ عليه السلام إلى إعادة الحقّ إلى نصابه ، والعدل إلى سيادته ، مُحيياً سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم في الاُمّة ، مُنتهجاً الطريق القويم. وما أسرع ما وقفت قوى الضلال ضدّ إصلاحات الإمام عليه السلام في مجال الإدارة ، وفي
Saturday, January 14, 2017
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
الحسين مع أبيه عليهما السلام
 الحسين مع أبيه عليهما السلام

 





 


لقد بادر الإمام عليّ عليه السلام إلى إعادة الحقّ إلى نصابه ، والعدل إلى سيادته ، مُحيياً سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم في الاُمّة ، مُنتهجاً الطريق القويم. وما أسرع ما وقفت قوى الضلال ضدّ إصلاحات الإمام عليه السلام في مجال الإدارة ، وفي مجال توزيع الأموال ، وفي مجال العدل في القضاء ، وفي مجال مراعاة شؤون الرسالة وشؤون المسلمين!
ولم يتردّد عليه السلام في التحرّك لفضح خطّ النّفاق والقضاء على الفساد واجتثاث جذوره ؛ لتسلم الرسالة والاُمّة منه ، وقام هو وأهل بيته عليهم‌السلام يخوضون غمار الحروب دفاعاً عن الإسلام مقتدين برسول الله صلى‌الله‌عليه‌ و آله و سلم. وشارك الإمام الحسين عليه السلام في جميع الحروب التي شنّها المنافقون ضدّ الإمام علي عليه السلام وكان يبرز إلى ساحة القتال بنفسه المقدّسة كلّما اقتضى الأمر وسمح له والده عليه السلام.
وقد سجّل المؤرّخون خطاباً للإمام الحسين عليه السلام وجّهه لأهل الكوفة لدى تحركهم إلى صفّين ، جاء فيه ـ بعد حمد الله تعالى والثناء عليه ـ : «يا أهل الكوفة ، أنتم الأحبّة الكرماء ، والشعار دون الدثار ، جدّوا في إطفاء ما وتر بينكم ، وتسهيل ما توعّر عليكم. ألا إنّ الحرب شرّها وريع ، وطعمها فظيع ، فمَنْ أخذ لها اُهبتها ، واستعدّ لها عُدّتها ، ولم يألم كُلومها قبل حلولها فذاك صاحبها ، ومَنْ عاجلها قبل أوان فرصتها ، واستبصار سعيه فيها فذاك قَمِن أن لا ينفع قومَه وإن يهلك نفسه ، نسأل الله بقوّته أن يدعمكم بالفيئة» (1).

حرص الإمام عليّ عليه السلام على سلامة الحسنين عليهما السلام :

قاتل الإمام الحسين عليه السلام في معركة صفّين كما قاتل في معركة الجمل ، مع أنّ بعض الروايات أفادت بأنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان يمنع الحسنين عليهما السلام من النزول إلى ساحة القتال خشية أن ينقطع نسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم ؛ إذ كان عليه السلام يقول : «املكوا عنّي هذا الغلام لا يَهُدَّني ، فإنّني أنفسُ بهذين ـ يعني الحسن والحسين عليهما السلام ـ على الموت لئلاّ ينقطع بهما نسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌ و آله و سلم» (2).
وجاء في نصوص اُخرى أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان يبعث ابنه محمّد ابن الحنفيّة إلى ساحات القتال مرّات عديدة دون أن يسمح للحسنين عليهما السلام بذلك ، وقد سُئل ابن الحنفيّة عن سرّ ذلك فأجاب : «إنّهما عيناه وأنا يمينه فهو يدفع عن عينه بيمينه» (3). ويعكس هذا الجواب مدى ما كان يحظى به

الحسنان عند الإمام علي عليه السلام.

وتفيد الأخبار بأنّ الإمام الحسين عليه السلام ظلّ مع أبيه بعد صفّين أيضاً في جميع الأحداث مثل قضية التحكيم ومعركة النهروان.
ومعلوم أنّ الأحداث التي عايشها الإمام الحسين مع أبيه عليهما السلام كانت مأساوية ومرّة جدّاً ، وقد بلغت المأساة ذروتها عندما تآمر الخوارج على قتل أسمى نموذج للإنسان الكامل ـ بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم ـ أي عندما ضرب المجرم عبد الرحمن بن ملجم المرادي الخارجي إمامه أمير المؤمنين عليه السلام على رأسه بالسيف وهو في محراب العبادة.

وصايا أمير المؤمنين عليه السلام للإمام الحسين عليه السلام :

تدلُّ وصايا أمير المؤمنين عليه السلام لولده الحسين عليه السلام على شدّة اهتمامه به ومحبّته له ، وقد جاء في نهج البلاغة أنّ أمير المؤمنين عليه السلام لمّا ضربه ابن ملجم (لعنه الله) أوصى للحسن والحسين بالوصية التالية :
«اُوصيكما بتقوى الله ، وأن لا تبغيا الدنيا وإن بغتكما ، ولا تأسفا على شيء منها زُوِيَ عنكما ، وقولا بالحقّ ، واعملا للأجر ، وكونا للظالم خصماً ، وللمظلوم عوناً. اُوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم وصلاح ذات بينكم ؛ فإنّي سمعت جدّكما صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم يقول : صلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام. الله الله في الأيتام ، فلا تغبّوا أفواههم ، ولا يضيعوا بحضرتكم. والله الله في جيرانكم ؛ فإنّهم وصيّة نبيّكم ، ما زال يوصي بهم حتّى ظننّا أنّه سيورّثهم. والله الله في القرآن ، لا يسبقكم بالعمل به غيركم. والله الله في الصلاة ؛ فإنّها عمود دينكم. والله الله في بيت ربّكم ، لا تخلوه ما بقيتم ؛ فإنّه إن تُرك لم تُناظروا. والله الله في الجهاد بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم في سبيل الله. وعليكم بالتواصل والتباذل ، وإيّاكم والتدابر والتقاطع. لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولّى عليكم شراركم ، ثمّ تدعون فلا يستجاب لكم». ثمّ قال : «يا بني عبد المطلب ، لا ألفينّكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً ، تقولون : قُتل أميرُ المؤمنين. ألا لا تقتُلنّ بي إلاّ قاتلي. انظروا إذا أنا متُّ من ضربته هذه فاضربوه ضربةً بضربة ، ولا تُمثّلوا بالرجل ؛ فإنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم يقول : إيّاكم والمثلة ولو بالكلب العقور» (4).
وثمّة وصية اُخرى قيّمة وجامعة خاصّة بالإمام الحسين عليه السلام ذكرها ابن شعبة في تحف العقول ، ونحن ننقلها لأهمّيتها ؛ حيث تضمّنت حكماً غرّاء ووصايا أخلاقية خالدة. وإليك نصّ ما رواه ابن شعبة عن الإمام عليّ عليه السلام :
«يا بُنيّ ، اُوصيك بتقوى الله في الغنى والفقر ، وكلمة الحقّ في الرضا والغضب ، والقصد في الغنى والفقر ، وبالعدل على الصديق والعدوّ ، وبالعمل في النشاط والكسل ، والرضا عن الله في الشدّة والرّخاء. أي بُنيّ ، ما شرٌ بعده الجّنة بشرّ ، ولا خير بعده النار بخير ، وكلّ نعيم دون الجّنة محقور ، وكلّ بلاء دون النار عافية.
واعلم يا بُنيّ ، أنّه مَنْ أبصر عيب نفسه شُغل عن عيب غيره ، ومَنْ تعرّى من لباس التقوى لم يستتر بشيء من اللباس ، ومَنْ رضي بقسم الله لم يحزن على ما فاته ، ومَنْ سلّ سيف البغي قُتل به ، ومَنْ حفر بئراً لأخيه وقع فيه ، ومَنْ هتك حجاب غيره انكشفت عورات بيته ، ومَنْ نسي خطيئته استعظم خطيئة غيره ، ومَنْ كابد الاُمور عطب ، ومَنْ اقتحم الغمرات غرق ، ومَنْ أعجب برأيه ضلّ ، ومَنْ استغنى بعقله زلّ ، ومَنْ تكبّر على النّاس ذلّ ، ومَنْ خالط العلماء وُقّر ، ومَنْ خالط الأنذال حُقّر ، ومَنْ سفه على النّاس شُتم ، ومَنْ دخل مداخل السّوء اتُّهِم ، ومَنْ مزح استُخِفّ به ، ومَنْ أكثر من شيء عُرِف به ، ومَنْ كثر كلامه كثر خطؤه ، ومَنْ كثر خطؤه قلّ حياؤه ، ومَنْ قلّ حياؤه قلّ ورعه ، ومَنْ قلّ ورعه مات قلبه ، ومَنْ مات قلبه دخل النار.
أي بنيّ ، مَنْ نظر في عيوب النّاس ورضي لنفسه بها فذاك الأحمق بعينه ، ومَنْ تفكّر اعتبر ، ومَنْ اعتبر اعتزل ، ومَنْ اعتزل سلم ، ومَنْ ترك الشّهوات كان حرّاً ، ومَنْ ترك الحسد كانت له المحبّة عند النّاس.
أي بُنيّ ، عِزّ المؤمن غناه عن النّاس ، والقناعة مال لا ينفد ، ومَنْ أكثر من ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير ، ومَنْ علم أنّ كلامه من عمله قلّ كلامه إلاّ فيما ينفعه.
أي بُنيّ ، العَجَبُ ممّن يخاف العقاب فلم يكفّ ، ورجا الثواب فلم يتُب ويعمل.
أي بُنيّ ، الفكرة تورث نوراً ، والغفلة ظلمة ، والجهالة ضلالة ، والسّعيد مَنْ وعِظَ بغيره ، والأدب خير ميراث ، وحسن الخُلق خير قرين. ليس مع قطيعة الرحم نماء ، ولامع الفجور غنى. أي بُنيّ ، العافية عشرة أجزاء ؛ تسعة منها في الصمت إلاّ بذكر الله ، وواحدة في ترك مجالسة السّفهاء.
أي بُنيّ ، مَنْ تزيّا بمعاصي الله في المجالس أورثه الله ذلاًّ ، ومَنْ طلب العلم علم.
أي بُنيّ ، رأس العلم الرفق ، وآفته الخرق ، ومِنْ كنوز الإيمان الصبر على المصائب ، والعفاف زينة الفقر ، والشكر زينة الغنى. كثرة الزيارة تورث الملالة ، والطمأنينة قبل الخبرة ضدّ الحزم ، وإعجاب المرء بنفسه يدلّ على ضعف عقله. أي بُني ، كم نظرة جلبت حسرة ، وكم مِنْ كلمة سلبت نعمة.
أي بُنيّ ، لا شرف أعلا من الإسلام ، ولا كرم أعزّ من التقوى ، ولا معقل أحرزُ من الورع ، ولا شفيع أنجح من التوبة ، ولا لباس أجمل من العافية ، ولا مال أذهب بالفاقة من الرضى بالقوت ، ومَنْ اقتصر على بُلغة الكفاف تعجّل الراحة وتبوّأ خفض الدعة.
أي بُنيّ ، الحرص مفتاح التعب ، ومطيّة النصب ، وداعٍ إلى التقحّم في الذنوب ، والشّره جامع لمساوئ العيوب ، وكفاك تأديباً لنفسك ما كرهته من غيرك. لأخيك عليك مثل الذي لك عليه ، ومَنْ تورّط في الاُمور بغير نظر في العواقب فقد تعرّض للنوائب. التدبيرُ قبل العمل يؤمنك الندم. مَنْ استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ. الصبر جُنّة من الفاقة. البخل جلباب المسكنة. الحرص علامة الفقر. وصول مُعدم خير من جافٍ مكثر. لكلّ شيء قوت وابن آدم قوت الموت.
أي بُنيّ ، لا تؤيّس مذنباً ، فكم من عاكف على ذنبه خُتم له بخير ، وكم من مقبل على عمله مُفسد في آخر عمره ، صائر إلى النار.
أي بُنيّ ، كم من عاصٍ نجا ، وكم من عامل هوى. مَنْ تحرّى الصدق خفّت عليه المؤن. في خلاف النفس رُشدُها. الساعاتُ تنتقص الأعمار. ويلٌ للباغين من أحكم الحاكمين وعالم ضمير المضمرين!
يا بُنيّ ، بئس الزادُ إلى المعاد العدوانُ على العباد. في كلّ جُرعة شرق ، وفي كلّ أكلة غصص. لن تُنال نعمة إلاّ بفراق اُخرى.
ما أقرب الراحة من النّصب ، والبؤس من النّعيم ، والموت من الحياة ، والسّقم من الصحة! فطوبى لمَنْ أخلص لله عمله وعلمه ، وحبّه وبغضه ، وأخذه وتركه ، وكلامه وصمته ، وفعله وقوله ، وبخٍ بخٍ لعالم عمل فجدّ ، وخاف البيات فأعدّ واستعدّ ، إن سُئل نصح ، وإن تُرك صمت ، كلامه صوابٌ ، وسكوته من غير عيّ جواب.
والويل لمَنْ بُلي بحرمان وخذلان وعصيان ، فاستحسن لنفسه ما يكرهه من غيره ، وأزرى على النّاس بمثل ما يأتي!
واعلم أي بُنيّ ، أنّه مَنْ لانت كلمتُه وجبت محبّته. وفّقك الله لرشدك ، وجعلك من أهل طاعته بقدرته ، إنّه جواد كريم (5).

الإمام الحسين مع أبيه عليهما السلام في لحظاته الأخيرة :

كان آخر ما نطق به أمير المؤمنين عليه السلام هو قوله تعالى : (لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ) ، ثمّ فاضت روحه الزكية ، تحفّها ملائكة الرحمن ، فمادت أركان العدل في الأرض ، وانطمست معالم الدين.
لقد مات ملاذ المظلومين والمحرومين الذي كرّس جهده لإقامة دولة تُنهي دور الإثرة والاستغلال ، وتقيم العدل والحقّ بين النّاس.
وقام سبطا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم بتجهيز أبيهما المرتضى عليه السلام ، فغسّلاه وأدرجاه في أكفانه. وفي الهزيع الأخير من الليل حملاه إلى قبره في النجف الأشرف ، وقد واروا أكبر رمز للعدالة والقيم الإنسانيّة المثلى كما اعترف بذلك خصومه. وكتب المؤرّخون : أنّ معاوية لمّا بلغه مقتل الإمام علي عليه السلام خرج واتّخذ يوم قتله عيداً في دمشق ، فقد تحقّق له ما كان يأمله ، وتمّ له ما كان يصبو إليه من اتّخاذ الملك وسيلة لاستعباد المسلمين وإرغامهم على ما يكرهون (6).

الإمام الحسين في عهد أخيه الإمام الحسن عليهما السلام

حالة الاُمّة قبل الصلح مع معاوية :
لم يكن تفتّتُ أركان المجتمع الإسلامي ـ الذي كان يؤمن بأقدس رسالة سماوية وأعظمها وأشملها ـ في ظلّ حكم معاوية بن أبي سفيان وليد جهود آنيّة ؛ فقد بدأ الانحراف من يوم السقيفة ، إذ تولّى زمام اُمور الاُمّة مَنْ كان لا يملك الكفاءة والقدرة المطلوبة ، وإنّما تصدّى لها مَنْ تصدّى على أساس العصبية القبلية (7) ، ويشهد لذلك قول أبي بكر : وُلّيت أمركم ولست بخيركم (8).
وانحدرت الاُمّة في واد آخر يوم ميّز عمر بن الخطاب في العطاء بين المسلمين ، مخالفاً سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم ، ومبتدعاً نظاماً طبقياً جديداً ، حتّى إذا حكم عثمان بن عفّان استفحل الفساد ، واستشرى في جهاز الحكم والإدارة حين سيطر فسّاق النّاس وشرارهم على اُمور النّاس ؛ فراحوا يعيثون في الاُمّة فساداً ، كالوليد بن عقبة والحكم بن العاص ، وعقبة بن أبي معيط وسعيد بن العاص وعبد الله بن سعد بن أبي سرح (9).
وأصبحت العائلة الاُمويّة التي لم تنفتح على الإسلام لتشكل قوّة اقتصادية جرّاء نهبهم لثروات الاُمّة ، وعطايا عثمان لهم بغير حق ، وتغلغلوا في أجهزة الحكم ، وتمكّن معاوية بن أبي سفيان خلال ولايته على الشام منذ عهد عمر أن يُنشئ مجتمعاً وفق ما تهوى نفسه الحاقدة على الإسلام والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌ و آله و سلم وأهل بيته عليهم‌السلام ؛ فقد دخل هو وأبوه الإسلام مقهورين موتورين يوم فتح مكة ، ودخل في عداد الطلقاء ، بعد أن كان قد فقد جدّه وخاله وأخاه في الصّراع ضدّ الإسلام قبل فتح مكّة.
على أنّ طوال هذه الفترة ـ منذ وفاة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم إلى نهاية حكم عثمان ـ لم يعتنِ النظام الحاكم بالدعوة الإسلاميّة ونشرها وترسيخها في النفوس ، ولم يسعَ لاجتثاث العقد والأمراض والعادات القبلية ، بل كان همّ الحاكمين هو الاندفاع في الفتوحات طمعاً في توسعة الدولة وزيادة الأموال.
وقد عمل الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام منذ وفاة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم جاهداً على أن لا تفقد الاُمّة شخصيتها الإسلاميّة وحاول تقليل انحرافها ، فكان يتدخّل ويُعِين الفئة الحاكمة تارةً باللين واُخرى بالشدّة متجنّباً الصدام المباشر معهم ؛ لأجل استرداد حقّه الشرعي في الخلافة ، مؤثراً مصلحة الإسلام العامّة على ما سواها من المصالح (10).
لقد فُجعت الاُمّة بمصلحها الكبير ـ يوم استشهد الإمام علي عليه السلام ـ وانهارت بين يدي الإمام الحسن بن عليّ عليهما السلام بعد أن أنهكتها حروب الإصلاح ضدّ الناكثين والقاسطين والمارقين ؛ إذ أسرعت القوى النفعية والمنافقة والحاقدة على الإسلام إلى الوقوف في وجه الإمام عليّ عليه السلام متنكرة لأوامر الله سبحانه ورسوله صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم غير مبالية بمصلحة الاُمّة ، بالرغم من تجسيده للزعامة الحقيقية التي تقود إلى منهج الحقّ والعدل الإلهي ، وهم يعلمون بشرعيته التي اكتسبها من الرسالة والرسول صلى‌الله‌عليه‌ و آله و سلم. وهذا ما كان يشكّل خطراً حقيقياً من شأنه أن يلغي وجودهم من المجتمع الإسلامي ؛ ولهذا كانت حروب ، الجمل وصفّين ثمّ النهروان.
ورأى الإمام الحسن عليه السلام أن ينهض بالاُمّة مواصلاً مسيرة الإصلاح ومواجهة الانحراف ، ولكنّ الجموع آثرت السّلامة والركون إلى الراحة (11)
فاضطرّ الإمام الحسن عليه السلام إلى الصلح والمهادنة مع معاوية ـ وهو المتحصّن القويّ في بلاد الشام ـ على شروط وعهود مهمّة ؛ ليضمن سلامة الصّفوة الخيّرة من الاُمّة ، وليبني قاعدة جماهيرية أكثر وعياً وأعمق إيماناً برسالتها الإسلاميّة ، كي لا يُمسخ المجتمع المسلم ولا تُمحق الرسالة ؛ إذ ليس السيف دائماً هو الفيصل في حالات النزاع ، فربما كان للكلمة والمعاهدة أثر أبلغ في مرحلة خطرة ، حيث الهدف هو صيانة الرسالة الإسلاميّة وحفظ الاُمّة الإسلاميّة في كلّ الأحوال ، وليتّضح دور النفاق والعداء الذي كان يتّسم به بنو اُميّة وما كان يُضمِرهُ حكّامهم للإسلام.
ولقد وقف الإمام الحسين عليه السلام إلى جانب أخيه الإمام الحسن عليه السلام وعايش جميع الأحداث التي مرّ بها أخوه ، وكانا على اتّفاق تامّ في الرأي والموقف ، يُعاضده في توجيه الاُمّة وإنقاذها بعد أن رأى كيف أنّ انحراف السّقيفة تكاملت أدواره في هذه المرحلة ، وقد سرى هذا الانحراف في جسد الاُمّة حتّى غدت لا تتحفّز لنهضة الإمام الحسن عليه السلام ولا تستجيب لأوامره.
وأحاط الإمام الحسن عليه السلام بكلّ ما دبّره معاوية من المكائد والدسائس ، وأصبحت الأكثرية من جيش العراق في قبضة معاوية بن أبي سفيان وطغمته ، بعد أن كان يُمثّل جيش العراق العمود الفقري لجيش الإمام عليّ عليه السلام.
ولم يكن ليخفى على الإمام الحسين عليه السلام أنّ المعركة ـ لو قدّر للإمام الحسن أن يدخلها مع معاوية ـ ستكون لصالح الأخير ، وستنتهي حتماً إمّا بقتل الحسن والحسين وجميع الهاشميّين وخُلَّص شيعتهم ، أو ستنتهي بأسرهم ، في الوقت الذي تحتاج فيه الاُمّة الإسلاميّة إلى وجود الإمام المعصوم بينها ؛ لإنقاذ ما تبقّى وبناء ما تهدّم ، فإنّ الرسالة الإسلاميّة خاتمة الرسالات ولا بدّ من إتمام ما بناه الرّسول صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم والإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام.
ومن ذلك تبيّن أنّ ما رواه بعض المؤرّخين من أنّ الإمام الحسين عليه السلام كان كارهاً لما فعله الإمام الحسن عليه السلام ، وأنّه قال له : «اُنشدك الله أن لا تصدّق اُحدوثة معاوية وتكذّب اُحدوثة أبيك» ، وأنّ الحسن قال له : «اُسكت أنا أعلم منك» ... يتبيّن أنّ هذه المرويّات لا أساس لها من الصّحة (12).
هذا بالإضافة إلى أنّ الإمام الحسين عليه السلام كان أبعد نظراً ، وأعمق غوراً في الاُمور ومعطياتها من أفذاذ عصره الذين قدّروا للحسن عليه السلام موقفه الحكيم الذي لم يكن هناك مجال لاختيار موقف سواه ، وكان عليه السلام أرفع شأناً من أن تخفى عليه المصلحة التي أدركها غيره فيما فعله أخوه حتّى يقف منه ذلك الموقف المزعوم.
ولا يشكّ المعتقدون بإمامة وعصمة الإمامين الحسنين عليهما السلام في عدم صحة الروايات التي تحدّثت عن معارضة الإمام الحسين عليه السلام لموقف أخيه الإمام الحسن عليه السلام من الصلح مع معاوية.
فإذا كان الحسنان عليهما السلام إمامين مفترضي الطاعة ، كان كلّ ما قاما به هو محض التكليف الإلهي ، وطِبقاً لما أراده الله تعالى لهما ، فليس ثمّة مجال لمثل تلك الروايات.
ويشهد على قولنا هذا روايات معتبرة تُعارض تلك الروايات غير الصحيحة ، منها ما يلي :
١ ـ قال أبو عبد الله الصادق عليه السلام : «نحن قوم فرض الله طاعتنا ، وأنتم تأتمّون بمَنْ لا يعذر النّاس بجهالته».

 

٢ ـ سأل رجل أبا الحسن الإمام الرضا عليه السلام فقال : طاعتك مفترضة؟ فقال : «نعم». قال : مثل طاعة عليّ بن أبي طالب عليه السلام؟ فقال : «نعم» (13).
٣ ـ عن أبي جعفر عليه السلام قال : قال له حمران : جُعلت فداك! أرأيت ما كان من أمر عليّ والحسن والحسين عليهم‌السلام وخروجهم وقيامهم بدين الله (عزّ وجلّ) ، وما اُصيبوا من قتل الطواغيت إيّاهم والظفر بهم حتّى قُتلوا أو غلبوا؟ فقال أبو جعفر عليه السلام : «يا حُمران ، إنّ الله تبارك وتعالى قد كان قدّر ذلك عليهم وقضاه ، وأمضاه وحتمه ثمّ أجراه ، فبتقدّم علم ذلك إليهم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم قام عليّ والحسن والحسين ، وبعلم صمت مَنْ صمت منّا» (14).
٤ ـ وعن عظيم أخلاق الحسين عليه السلام واحترامه لأخيه الحسن عليه السلام قال الإمام محمّد الباقر عليه السلام : «ما تكلّم الحسين بين يدي الحسن إعظاماً له» (15).
٥ ـ قال أبو عبد الله عليه السلام : «إنّ معاوية كتب إلى الحسن بن عليّ (صلوات الله عليهما) أن أقدم أنت والحسين وأصحاب عليّ ، فخرج معهم قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري فقدموا الشّام ، فأذن لهم معاوية ، وأعدّ لهم الخطباء ... ثمّ قال : يا قيس ، قم فبايع ، فالتفت إلى الحسين عليه السلام ينظر ما يأمره ، فقال : يا قيس ، إنّه إمامي ـ يعني الحسن عليه السلام ـ» (16).
احترام الإمام الحسين عليه السلام لبنود صلح الإمام الحسن عليه السلام :
استشهد الإمام الحسن عليه السلام سنة (٤٩) أو (٥٠) للهجرة ، ومات معاوية سنة (٦٠) للهجرة ، وفي هذه المدّة كانت الإمامة والقيادة للإمام الحسين عليه السلام ، ولم تجب عليه طاعة أحد ، لكنّه عليه السلام ظلّ ملتزماً ببنود معاهدة الصلح التي عقدها أخوه الإمام الحسن عليه السلام مع معاوية ، فلم يصدر عنه أيّ موقف ينتهك به بنود المعاهدة المذكورة ، بل لمّا طالبه بعض الشيعة بالقيام والثورة على معاوية ، أوصاهم بالصبر والتقية مُشيراً إلى التزامه بالمعاهدة ، وأنّه سيكون في حِلٍّ من المعاهدة بموت معاوية.
رسالة جعدة بن هبيرة إلى الإمام الحسين عليه السلام :
كان جعدة بن هبيرة بن أبي وهب من أخلص النّاس للإمام الحسين عليه السلام وأكثرهم مودّة له ، وقد اجتمعت عنده الشيعة وأخذوا يلحّون عليه في مراسلة الإمام للقدوم إلى مصرهم الكوفة ؛ ليعلن الثورة على حكومة معاوية ، فدفع جعدة رسالة إلى الإمام الحسين عليه السلام هذا نصها : «أمّا بعد ، فإن من قبلنا من شيعتك متطلّعة أنفسهم إليك ، لا يعدلون بك أحداً ، وقد كانوا عرفوا رأي الحسن أخيك في الحرب ، وعرفوك باللين لأوليائك والغلظة على أعدائك والشدّة في أمر الله ، فإن كنت تحبّ أن تطلب هذا الأمر فاقدم علينا ، فقد وطنّا أنفسنا على الموت معك» (17).
فأجابه الإمام الحسين عليه السلام بقوله : «أمّا أخي فإنّي أرجو أن يكون الله قد وفّقه وسدّده ، وأمّا أنا فليس رأيي اليوم ذاك ، فالصقوا رحمكم الله بالأرض ، واكمنوا في البيوت ، واحترسوا من الظنّة ما دام معاوية حيّاً ، فإن يُحدث الله به حدثاً وأنا حيّ كتبت إليكم برأيي ، والسّلام».
يتبيّن ممّا تقدّم أنّ الإمام الحسين عليه السلام ـ انطلاقاً من مسؤوليته الشّرعية ـ اتّبع أخاه الإمام الحسن عليه السلام في مسألة الصّلح مع معاوية ، وقد قبله والتزم به طيلة حكم معاوية ، بل إنّ عشرات الشّواهد تؤكّد أنّهما كانا منسجمين في تفكيرهما ونظرتهما إلى الاُمور ومعطياتها ، ومتّفقين في كلّ ما جرى وتمّ التوصل إليه.
وكما نسبوا إلى الإمام الحسين عليه السلام ذلك فقد نسبوا إلى الإمام الحسن عليه السلام أيضاً أنّه كان على خلاف مع أبيه! في كثير من مواقفه السياسية قُبيل خلافته وخلالها. ومن الواضح أنّ الهدف من أمثال هذه المزاعم هو زرع الشّك في نفوس الاُمّة بالنسبة للموقع الريادي للإمامين الشّرعيين الحسن والحسين عليهما السلام ؛ بغية إيجاد الفرقة والاختلاف كي يبتعد النّاس عنهما.
استشهاد الإمام الحسن عليه السلام :
أقام الإمام الحسن عليه السلام بالكوفة أيّاماً بعد أن صالح معاوية ، ثمّ عاد مع أخيه الإمام الحسين عليه السلام وجميع أهل بيته إلى المدينة ، فأقام بها كاظماً غيظه ، لازماً منزله ، منتظراً لأمر ربّه جلّ اسمه (18).
وقد اهتمّ الإمامان عليهما السلام في المدينة بالعبادة وترسيخ العقيدة الإسلاميّة في نفوس النّاس ، وتوضيح الأحكام الإسلاميّة للناس وإرشادهم وهدايتهم ، والعمل من أجل تربية جيل واعٍ يتحمّل مسؤوليته تجاه الظلم والفساد والانحراف الحاصل في مسيرة الاُمّة. وفي هذه السّنوات العشر ـ كما دوّنته جملة من مصادر التاريخ الإسلامي ـ قد حدثت عدّة مناوشات كلامية من جانب الإمامين الحسن والحسين عليهما السلام بالنسبة لتصرّفات معاوية وجملة من عناصر بلاطه.

المصادر :
1- شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ١ / ٢٨٤.
2- نهج البلاغة ، باب خطب أمير المؤمنين عليه السلام / ٢٠٧.
3- شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ١ / ١١٨.
4- نهج البلاغة ، باب الكتب والرسائل / ٤٧.
5- تحف العقول / ٨٨ وصايا أمير المؤمنين عليه السلام.
6- حياة الإمام الحسين عليه السلام ٢ / ١٠٩.
7- الإمامة والسياسة ١ / ٦.
8- عليّ والحاكمون / ١٠٩ ، وتأريخ الخلفاء / ٧١.
9- تأريخ اليعقوبي ٢ / ٤١ ، والعقد الفريد ٢ / ٢٦١ ، وأنساب الأشراف ٥ / ٣٨ ، وشرح النهج ١ / ٦٧.
10- شرح النهج ـ لابن أبي الحديد ١ / ٢٤٨.
11- الإرشاد ـ للمفيد / ٨ ـ ٩.
12- سيرة الأئمّة الاثني عشر ٢ / ٢٣.
13- اُصول الكافي ١ / ١٤٣ ، باب فرض طاعة الأئمّة.
14- اُصول الكافي ١ / ٢٢١ ـ ٢٢٢ .
15- حياة الإمام الحسين ٢ / ٢٥٢.
16- بحار الأنوار ٤٤ / ٦١.
17- حياة الإمام الحسين عليه السلام ٢ / ٢٢٩ ـ ٢٣٠.
18- الإرشاد ٢ / ١٥.

 



ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.