الفصاحة والبلاغة في الخطبة الفاطمية

روى العلامة المجلسي رحمه الله لما اشتدت علة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وغلبها ، اجتمع عندها نساء المهاجرين والأنصار ، فقلت لها ، يا بنت رسول الله : كيف أصبحت عن علّتك ؟ فقالت عليها السلام : أصبحت والله عائفة
Sunday, January 15, 2017
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
الفصاحة والبلاغة في الخطبة الفاطمية
 الفصاحة والبلاغة في الخطبة الفاطمية

 





 

روى العلامة المجلسي رحمه الله لما اشتدت علة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وغلبها ، اجتمع عندها نساء المهاجرين والأنصار ، فقلت لها ، يا بنت رسول الله : كيف أصبحت عن علّتك ؟ فقالت عليها السلام : أصبحت والله عائفة لدنياكم ، قالية رجالكم ، لفظتهم قبل أن عجمتهم ، وشنئتهم بعد أن سبرتهم ، فقبحاً لفلول الحد ، وخور القناة ، وخطل الرأي ، « بئس قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون » لا جرم لقد قلدتهم ربقتها ، وشننت عليهم غارها ، فجدعاً وعقراً وسحقاً للقوم الظالمين .
ويحهم أنّى زحزحوها عن رواسي الرسالة ، وقواعد النبوة ، ومهبط الوحي الأمين ، والطبين بأمر الدنيا والدين ، ألا ذلك هو الخسران المبين ، وما نقموا من أبي الحسن ، نقموا والله منه نكير سيفه ، وشدّة وطئه ، ونكال وقعته ، وتنمّره في ذات الله عزّ وجلّ .
والله لو تكافوا عن زمام نبذه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليه لا عتلقه ، ولسار بهم سيراً سجحاً ، لا يكلم خشاشه ، ولا يتعتع راكبه ، ولأوزدهم منهلاً نميراً فضفاضاً تطفح ضفّتاه ولأصدرهم بطاناً ، قد تحيرّ بهم الريّ غير متحل منه بطائل إلا بغمر الماء وردعة شررة الساغب ، ولفتحت عليهم بركات من السماء والأرض ، وسيأخذهم الله بما كانوا يكسبون .
ألا هلمّ فاسمع وما عشت أراك الدهر العجب ، وإن تعجب فقد أعجبك الحادث ! إلى أيّ سناد استندوا ، وبأيّ عروة تمسّكوا ، استبدلوا الذّنابى والله بالقوادم ، والعجز بالكاهل ، فرغماً لمعاطس قوم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ، ألا إنّهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ، ( أفمن يهدي إلى الحقّ أحق أن يتبع أمّن لا يهدّي إلاّ أن يهدى فما لكم كيف تحكمون ) . أما لعمر إلهك لقد لقحت فنظرة ريث ما تنتج ثم احتلبوا طلاع القعب دماً عبيطاً ، وذعافاً ممقراً ، هناك يخسر المبطلون ، ويعرف التالون غب ما سنّ الأولون ، ثم طيبوا عن أنفسكم نفساً . وطأمنوا للفتنة جأشاً ، وأبشروا بسيف صارم ، وهرج شامل ، واستبداد من الظالمين ، يدع فيئكم زهيداً ، وزرعكم حصيداً فياحسرتى لكم وأنّى بكم ، وقد عمّيت [ قلوبكم ] عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون . (1)
إن هذه الخطبة الفاطمية والدرة البيضاء لفي غاية الفصاحة ونهاية البلاغة من ناحية عذوبة ألفاظها وجميل محتواها وعظيم مضمونها الذي لابد للموالي والمخالف من الوقوف على مضمونها وطبيعة أهدافها التي أنشدتها الصديقة الطاهرة فاطمة عليها السلام والتي لم تخرج فيها عن حد الشرع المقدس بل سارت مع كل ما دعى إليه الرسول وأهل بيته الأطهار ، ففيها من الجلالة والنور بحيث لا بد من الإستضاءة من نورها الذي لو عرض على الظلمات لأضاءت منه ، ولو خوطب بها الجبال الشامخات لرأيتها خاشعة من بهاءها وجلالها ، وان كانت لم تترك الأثر الواضح على القلوب القاسية التي لم تمل إلى هداية بل كانت كالحجارة بل أن الحجارة لما يتفجر منها الماء الذي فيه حياة القلوب والنفوس ، فكانت سلام الله عليها في هذه الخطبة مظهرة لنور ثمار النبوة وعبق أرج الرسالة فهي عصن الدوحة المحمدية وحليلة العصمة العلوية ومجمع الأنوار الولائية فهي كلمة الله التامة وأم أبيها التي يفرغ لسانها عنه صلى الله عليه وآله وسلم ، وهي الصديقة الكبرى التي فطمت الخلق عن م معرفتها فضلاً عن معرفة أنوارها وكلامها الذي لا بد من الوقوف معه وتجلية أنواره ، ومعرفة أركانه وأهدافه فلذا لا بد من التعرض لأهداف هذه الخطبة لكي يتضح لنا برهانها الظاهر ، وكلامها المؤثر الذي ينبع م مشكاة النبوة المحمدية وظهر على لسان الأسرار الفاطمية .

أهداف خطبة الزهراء عليها السلام

هناك مجموعة أهداف لتصلّب الزهراء في مواقفها :
أوّلاّ ـ أرادت الزهراء استرجاع حقها المغصوب ، وهذا أمر طبيعي لكل إنسان غصب حقّه أن يطالب به بالطرق المشروعة .
ثانياً ـ كان الحزب الحاكم قد استولى على جميع الحقوق السياسية والإقتصادية لبني هاشم ، وألغى جميع امتيازاتهم المادية والمعنوية ، فهذا عمر بن الخطاب يقول لابن عباس : أتدري ما منع قومكم ( أي قريش ) منكم بعد محمد صلى الله عليه وآله وسلم ؟ كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة فتبجحوا على قومكم بجحاً ، فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفّقت (2) ، هذا بالنسبة للخلافة ، وبالنسبة للأموال فقد منعوا بني هاشم فدك والميراث والخمس ـ أي سهم ذوي القربى ـ واعتبروهم كسائر الناس .
وكان بنو هاشم وفي مقدّمتهم علي عليه السلام لا يقدرون على المطالبة بحقوقهم المغصوبة بأنفسهم ، فجعلت الزهراء من نفسها مطالبة بحق بني هاشم وحقها ، ومدافعة عنهم اعتماداً على فضلها وشرفها وقربها من رسول الله ، واستناداً إلى أنوثتها حيث النساء أقدر من الرجال في بعض المواقف . ومعلوم أن الزهراء إذا استردّت حقوقها استردّت حينئذ حقوق بني هاشم معها .
ثالثاً ـ استهدفت الزهراء من مطالبتها الحثيثة بفدك فسح المجل أمامها للمطالبة بحق زوجها المغلوب على أمره ، والواقع أنّ فدك صارت تتمشّى مع الخلافة جنباً إلى جنب ، كما صار لها عنوان كبير وسعة في المعنى ، فلم تبق فدك قرية زراعية محدودة بحدودها في عصر الرسول ، بل صار معانها الخلافة والرقعة الإسلامية بكاملها .
ومما يدل على هذا تحديد الأئمة لفدك ، فقد حدها علي عليه السلام في زمانه بقوله : حدّ منها جبل أحد ، وحدّ منها عريش مصر ، وحدّ منها سيف البحر ، وحدّ منها دومة الجندل . وهذه الحدود التقريبية للعالم الإسلامي آنذاك .
أما الإمام الكاظم عليه السلام فقد حدها للرشيد بعد أن ألحّ عليه الرشيد أن يأخذ فدكاً ، فقال له الإمام : ما آخذها إلا بحدودها ، قال الرشيد : وما حدودها ؟ قال : الحدّ الأول عدن ، والحدّ الثاني سمرقند ، والحدّ الثالث أفريقيّة ، والحدّ الرابع سيف البحر مما يلي الخزر وأرمينية ، فقال له الرشيد : فلم يبق لنا شيء فتحوّل في مجلسي (3) ، أي أنّك طالبت بالرقعة الإسلامية في العصر العباسي بكاملها .
فقال الإمام : قد أعلمتك أني إن حدّدتها لم تردّها .
ففدك تعبير ثانٍ عن الخلافة الإسلامية ، والزهراء جعلت فدكاً مقدمة للوصول إلى الخلافة ، فأرادت استرداد الخلافة عن طريق استرداد فدك .
ومما يدل على هذا تصريحات الزهراء في خطبتها بحق علي وكفاءته وجهاده ، فهي القائلة في خطبتها الكبيرة التي ألقتها في مسجد رسول الله : « فأنقذكم الله بأبي محمد بعد بعد اللّتيّا والّتي ، وبعد أن مني يبهم الرجال وذؤبان العرب ومرده أهل الكتاب ، كلّما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله أو نجم قرن للشيطان ، أو فغرت فاغرة من المشركين ، قذف أخاه ( أي عليّاً ) في لهواتها ، فلا ينكفي حتى يطأ صماخها بأخمصه ، ويخمد لهبها بسيفه ، مكدوداً في ذات الله ، مجتهداً في أمر الله ، قريباً من رسول الله ، سيد أولياء الله ، مشمّراً ناصحاً ، مجدّاً كادحاً ، وأنتم في رفاهيةٍ من العيش وادعون فاكهون آمنون ، تتربّصون بنا الدوائر ووتركّفون الأخبار ، وتنكصون عن النزال ، وتفرّون من القتال » .
وتقول أيضاً : « ألا وقد أرى والله أن قد أخلدتم إلى الخفض ، وبعدتم من هو أحقّ بالبسط والقبض » . وهو أمير المؤمنين .
وكان لإشادة الزهراء بفضل علي عليه السلام في خطبتها أثر بالغ في نفوس الأنصار حتى هتف قسم منهم باسمه ، فاستشعر أبوبكر الخطر من هذه البادرة ، وشقّ عليه مقالتها ، فصعد المنبر وقال : « أيها الناس ما هذه الرعة إلى كلّ قالة ، أين كانت هذه الأماني في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ ألا من سمع فليقل ، ومن شهد فيلتكلّم ، إنّما هو ثعالة :
شهيده ذنبه ، مربّ لكلّ فتنة . هو الذي يقول كرّوها جذعة بعد ما هرمت ، يستعينون بالضعفة ، ويستنصرون بالنساء كأمّ طحال أحبّ أهلها اليها البغي ، ألا إنّي لو أشاء أن أقول لقلت ، ولو قلت لحبت ،إنّي ساكت ما تركت » .
ثم التفت إلى الأنصار فقال : « قد بلغني يا معشر الانصار مقالة سفهائكم ، وأحقّ من لزم عهد رسول الله أنتم ، فقد جاءكم فآويتم ونصرتم ، ألا إنّي لست باسطاً يداً ولا لساناً على من لم يستحقّ ذلك منّا » . ثم نزل (4) .
قال ابن ابي الحديد : قرأت هذا الكلام على النقيب أبي يحيى جعفر بن يحيى بن أبي زيد البصريّ وقلت له : بمن يعرّض ؟ فقال : بل يصرّح ، قلت : لو صرّح لم أسألك ، فضحك وقال : بعليّ بن أبي طالب عليه السلام . قلت : هذا الكلام كلّه لعليّ يقوله ؟ قال : نعم إنّه الملك يا بنّي ، قلت : فما مقالة الأنصار ؟ قال : هتفوا بذكر عليّ ، فخاف من اضطراب الأمر عليهم ـ انتهى .
لهذا قلت : إن الزهراء اتّخذت من فدك ذريعةً للوصول إلى استرداد خلافة علي عليه السلام ، وإلا فما الذي حداها وهي تطالب بميراثها أن تشيّد بمواقف الإمام وأحقّيته بالخلافة حتى أثارث الأنصار ، فهتفوا بذكر علي ؟ وما الذي حدا أبابكر أن يذكر عليّاً بسوء في خطبته كقوله : إنّما هو ثعالة شهيده ذنبه ، مربّ لكل فتنة .
رابعاً : أرادت الزهراء عليها السلام بمنازعة أبي بكر إظهار حاله وحال أصحابه للناس ، وكشفهم على حقيقتهم ، ليهلك من هلك عن بيّنهة ، ويحيى من حيّ عن بيّنة ، وإلاّ فبضعة الرسول أجل قدراً وأعلى شأناً من أن تقلب الدنيا على أبي بكر حرصاً على الدنيا ، ولا سيّما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبرها بقرب موتها وسرعة لحاقها به ، ولذا لم ينهها عليّ عليه السلام عن منازعة أبي بكر في فدك وهو القائل : « وما أصنع بفدك وغير فدك ، والنفس مكانها في غد جدث » (5) ، ولم تكن الزهراء أقلّ من علي تقىً وزهداً في الدنيا . ثم إنّ عليّاً عليه السلام كان بإمكانه أن يعوّض الزهراء عن ما غصب منها بما يملكه من الأموال ، ويمنعها من الهوان ، فإنّ ممّا يملك إرثي البغيبغة وأبي نيزر ، وهما أكثر قيمة من فدك ، وقد جعلهما عليه السلام قبل وفاته وقفاً على الفقراء ، وكنا واردهما السنويّ 470 ألف درهم .
وأيضاً هذا هو السبب في حمل عليّ الزهراء على بغلة ، والمرور بها على دور المهاجرين والانصار ، ومطابتهم بنصرتها مع علمها بخذلانهم ، كلّ ذلك لاطلاع الناس أبد الدهر على حقيقة الأمر ، وإظهار حال الغاصبين وحال أصحابهم ...
قال ابن أبي الحديد : قلت لمتكلّم من متكلّمي الإماميّة يعرف بعليّ ابن تقي من بلدة النيل : وهل كان فدك إلا نخلاً يسيراً وعقاراً ليس بذلك الخطير ؟ فقال لي : ليس الأمر كذلك ، بل كانت جليلةً جدّاً ، وكان فيها من النخل نحو ما بالكوفة الآن . ( أي في القرن السادس الهجري ) ، وما قصد أبوبكر وعمر بمنع فاطمة عنها إلا ألاّ يتقوّى بحاصلها وغلّتها على المنازعة في الخلافة ، ولهذا أتبعا ذلك بمنع فاطمة وعلي وسائر بني هاشم وبني المطّلب حقّهم في الخمس ، فإنّ الفقير الذي لا مال له تضعف همّته ، ويتصاغر عند نفسه ، ويكون مشغولاً بالاحتراف والاكتساب عن طلب الملك والرئاسة (6) .
وقال الإمام الصادق عليه السلام للمفضّل بن عمر : « لمّا بويع أبو بكر أشار عليه عمر أن يمنع علياً وأهل بيته الخمس والفي وفدكاً ، فإنّ شيعته إذا عملوا ذلك تركوه ، وأقبلوا إليك رغبة في الدنيا ، فصرفهم أبو بكر عن جميع ما هو لهم » .
وثمّة سبب أخر وهو إرادة التظاهر بالقوّة أمام أهل البيت ، وسدّ الطريق أمامهم ، وقطع أيّ أملٍ في نفوسهم للوصول إلى غايتهم (7) .
قال العلامة المجلسي رحمه الله : إنّ طلب الحقّ والمبالغة فيه وإن لم يكن منافياً للعصمة لكنّ زهدها صلوات الله عليها وتركها للدنيا ، وعدم اعتدادها بنعيمها ولذّتها ، وكمال عرفانا ويقينها بفناء الدنيا ، وتوجّه نفسها القدسيّة وانصراف همّتها العالية دائماً إلى اللذات المعنويّة والدرجات الاخروية ، لا تناسب مثل هذا الاهتمام في أمر فدك ، والخروج إلى مجمع الناس ، والمنازعة مع المنافقين في تحصيله .
والجواب عنه من وجهين ، الأوّل : أن ذلك لم يك حقّاً مخصوصاً لها ، بل كان أولادها البررة الكرام مشاركين لها فيه ، فلم يكن يجوز لها المداهنة والمساهلة والمحاباة وعدم المبالاة في ذلك ليصير سبباً لتضييع حقوق جماعة من الأئمة الأعلام والأشراف الكرام . نعم لم كان مختصاً بها كان تركه والزهد فيه وعدم التأثر من فوته .
والثاني : إنّ تلك الامور لم تكن لمحبّة فدك وحبّ الدنيا ، بل كان الغرض إظهار ظلمهم وجورهم وكفرهم ونفاقهم ، وهذا كان من أهمّ امور الدين وأعظم الحقوق على المسلمين ، ويؤيّده أنّها صلوات الله عليها صرّحت في آخر الكلام حيث قال : « قلت ما قلت على معرفةٍ منّي بالخذلة ... » ، وكفى بهذه الخطبة بيّنة على كفرهم ونفاقهم ... (8) .
قال المحقق الفاضل الألمعي عبدالزهراء عثمان محمد : ربما يعترض البعض على موقف فاطمة فيقول : لماذا إذن تقف فاطمة هذا الموقف الصلب في مطالبتها بفدك ، فلو لم يكن هناك هدف آخر تبتغيه من ورائه ، لما طالبت هذه المطالبة الحقيقيّة به .
ولأجل أن نبرز الحقائق التي دفعت الصديقة فاطمة الزهراء عليها السلام للمطالبة بفدك نضع أمامنا النقاط الآتية :
1 ـ إنّها عليها السلام رأت أنّ تأميم فدك قد هيّأ لها فرصة ذهبيّةً في الإدلاء برأيها حول الحكومة القائمة ، وكان لا بدّ لها أن تدلي بتصريحاتها أمام الجماهير ، وقد هيّأت لها قضيّة فدك هذه الملابسات المناسبة ، فحضرت دار الحكومة في المسجد النبوي صلى الله عليه وآله وسلم ، وألقت بتصريحاتها التي لا تنطوي على أيّ لبس أو غموض .
2 ـ تبيان أحقيّة عليّ في قيادة الامة بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد تجلّى ذلك في خطبتها التي ألقتها في مسجد أبيها صلى الله عليه وآله وسلم على مسمع ومرأى من المسلمين ، وبضمنهم الحكومة الجديدة ، فكان من بعض أقوالها : « أم أنتم أعلم بخصصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي ؟ » وقولها : « وأبعدتم من هو أحقّ بالبسط والقبض » . حيث أو ضحت أنّ عليّاً عليه السلام أعلم الناس بعد محمّد صلى الله عليه وآله وسلم بمعرفة الرسالة وأحكامها وقوانينها ، وهو ذلك أحقّ برعاية شئون الامّة التي صنعها الوحي المقدّس .
3 ـ كشف ألاعيب الحكومة الجديدة على الشرع المقدّس ، واجتهاداتهم التي لا علاقة لها بأهداف الرسالة ... وهذه النقاط الثلاث هي التي استهدفتها فاطمة عليها السلام في مطالبتها الحثيثة بفدك ، ليس غير ، وليس لها وراء ذلك هدف ماديّ رخيص ، كما يعتقد البعض من مورّخي حياتها ، فهي ـ لعمر الحقّ ـ قد تصرّفت ما من شأنه أن يحفظ الرسالة من شبح الإنحراف الذي تنبّأت بوقوعه بعد انتخاب الحكومة الجديدة ، فاتّخذف من فدك خير فرصةٍ لخدمة المبدأ ، وإلقاء الحجّة وإلقاء الحجّة على الامّة تأديةً للمسؤوليّة ، ونصراً للرسالة ، وحفظاً لبيضة الإسلام (9) .
قال المحقق المتتبع السيد كاظم القزويني : من الممكن أن يقال : إنّ السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام الزاهدة عن الدنيا وزخارفها ، والتي كانت يمعزل عن الدنيا ومغريات الحياة ، ما الذي دعاها إلى هذه النهضة وإلى هذا السعي المتواصل ، والجهود المستمرّة في طلب حقوقها ؟ وما سبب هذا الإصرار والمتابعة بطلب فدك والاهتمام بتلك الأراضي والنخيل ، مع ما كانت تتمتّع به السيّدة فاطمة من علوّ النفس وسموّ المقام ؟ وما الداعي إلى طلب الدنيا التي كانت أزهد عندهم من عفطة عنز ، وأحقر من عظم خنزير في فم مجذوم ، وأهون من جناح بعوضة ؟ وما الدافع بسيّدة نساء العالمين أن تتكلّف هذا التكليف وتتجشّم هذه الصعوبات المجهدة للمطالبة بأراضيها ، وهي تعلم أنّ مساعيها تبوء بالفشل ، وأنّها لا تستطيع التغلّب على الموقف ، ولا تتمكّن من انتزاع تلك الأراضي من المغتضبين ؟ هذه تصوّرات يمكن أن تتبادر إلى الأذهان حول الموضوع .
أوّلاً : إنّ السلطة حينما صادرت أموال السيدة فاطمة الزهراء ، وجعلتها في ميزانيّة الدولة ( بالاصطلاح الحديث ) كان هدفهم تضعيف جانب أهل البيت ، أرادوا أن يحاربوا عليّاً محاربة اقتصاديّة ، أرادوا أن يكون علي فقيراً حتّى لا يلتفّ الناس حوله ، ولا يكون له شأن على الصعيد الاقتصادي (10) .
وهذه سياسة أراد المنافقون تنفيذها في حقّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين قالوا : « لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضّوا » (11) .
ثانياً : لم تكن أراضي فدك قليلة الإنتاج ، ضئيلة الغلاّت ، بل كان لها وارد كثير يعبأ به ، بل ذكر ابن أبي الحديد أن نخيلها كانت تمثل نخيل الكوفة في زمان ابن أبي الحديد ؛ وذكر الشيخ المجلسي عن « كشف المحجّة » أنّ وارد فدك كان أربعة وعشرين ألف دينار في كلّ سنة ؛ وفي رواية اخرى : سبعين ألف دينار ، ولعلّ هذا الاختلاف في واردها بسبب اختلاف السنين . وعلى كلّ تقدير فهذه ثروة طائلة واسعة لا يصحّ التغاضي عنها .
ثالثاً : إنّها كانت تطالب من وراء المطالبة بفدك الخلافة والسلطة لزوجها عليّ بن أبي طالب ، تلك السلطة العامّة والولاية الكبرى التي كانت لأبيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؛ فقد ذكر ابن أبي الحديد في شرحه ، قال : سألت عليم بن الفارقي مدّرس مدرسة الغربيّة ببغداد ، فقلت له : أكانت فاطمة صادقة ؟ قال : نعم قلت : فلم لم يدفع إليها أبوبكر فدك وهي عنده صادقة ؟ فتبسّم ، ثمّ قال كلاماً لطيفاً مستحسناً مع ناموسه وحرمته وقلّة دعابته ، قال : لو أعطاها اليوم فدك بمجرّد دعواها ، لجاءت إليه غداً وادّعت لزوجها الخلافة ، وزحزحته عن مقامه ؛ ولم يكن يمكنه الاعتذار والموافقة بشيء ، لأنّه يكون قد أسجل على نفسه بأنّها صادقة فيما تدّعي كائناً ما كان من غير حاجة إلى بيّنة ولا شهود . وهذا كلام صحيح وإن كان أخرجه الدعابة والهزل (12) .
... لهذه الأسباب قامت السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام ، وتوجّهت نحو مسجد أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأجل المطالبة بحقّها ، إنّها لم تذهب إلى دار أبي بكر ليقع الحوار بينها وبينه فقطّ ، بل اختارت المكان الأنسب وهو المركز الإسلامي يومذاك ، ومجمع المسلمين حينذاك ، وهو مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، كما وأنّها اختارت الزمان المناسب أيضاً ليكون المسجد غاصّاً بالناس على اختلاف طبقاتهم من المهاجرين والأنصار ؛ ولم تخرج وحدها إلى المسجد بل خرجت في جماعة من النساء ، وكأنّها في مسيرة نسائية ، وقبل ذلك تقرر اختيار موضع من المسجد الجلوس بضعة رسول الله وحبيبته ، وعلّقوا ستراً لتجلس السيدة فاطمة خلف الستر ، إذ هي فخر المخدّرات ، وسيدة المحجّبات . كانت هذه النقاط مهمّة جدّاً واستعدّ أبوبكر لاستماع احتجاج سيدة نساء العالمين ، وابتة أفصح من نطق بالضاد ، وأعلم امرأة في العالم كلّه .
خطبت السيدة فاطمة الزهراء خطبة ارتجاليّة منظّمة منسّقة بعيدة عن الاضطراب في الكلام ، و منزّهة عن المغالطة والمراوغة والتهريج والتشنيع ، بل وعن كلّ ما لا يلائم عظمتها وشخصيّتها الفذّة ، ومكانتها السامية ، وتعتبر هذه الخطبة معجزة خالدة للسيدة فاطمة الزهراء عليها السلام ، وآية باهرة تدلّ على جانب عظيم من الشقافة الدينيّة التي كانت تتمتّع بها الصدّيقة فاطمة الزهراء .
وأمّا الفصاحة والبلاغة ، وحلاوة البيان ، وعذوبة المنطق ، وقوة الحجة ، ومتانة الدليل ، وتنسيق الكلام ، وإيراد أنواع الإستعارة بالكناية ، وعلوّ المستوى ، والتركيز على الهدف ، وتنوّع البحث ... (13) .
المصادر :
1- « بحار الانوار » ج 8 ، ص 109 ـ 112 ، ط الكمباني
2- ذكره ابن ابي الحديد في شرح النهج : 12 / 53 ، والطبري في تأريخه : 5 / 31 .
3- أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين : القسم الثالث من الجزء الرابع : 47 ، عن ربيع الأبرار ، للزمخشري .
4- شرح ابن ابي الحديد : 16 / 214 ـ الرعة : بالتخفيف أي الاستماع .
5- نهج البلاغة : قسم الكتب ، 45 .
6- شرح نهج البلاغة : 16 / 236 .
7- فدك : 166 ـ 174 .
8- البحار : 8 / 127 ـ 128 .
9- الزهراء عليها السلام : 118 ـ 120 .
10- البحار : ج 8 ، ص 104 ، ص الكمباني
11- المنافقون : 7 .
12- شرح النهج : 16 / 284 .
13- فاطمة الزهراء من المهد اللحد : 353 ـ 359 .

 



ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.