
ولد الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام في السنة الثامنة والثلاثين للهجرة النبوية الشريفة في شهر شعبان ، واختلف المؤرخون في يوم ولادته ومكانها ، فبعضهم قال : إنّه ولد في الكوفة (1) ، فيما قال آخرون إن ولادته كانت في يثرب (2).
وقد عُرف بين المؤرخين والمحدّثين بابن الخيرتين ؛ لاَنّ أباه هو الحسين بن علي بن أبي طالب عليهماالسلام ، وأمّه من بنات ملك الفرس كسرى ، أُسرت في إحدى الحروب وعُرض عليها الزواج فاختارت الإمام الحسين عليهالسلام فتزوجها تكريماً لها.
وجاء في ( ربيع الاَبرار ) للزمخشري : أنّ لله في عباده خيرتان : فخيرته من العرب بنو هاشم ، وخيرته من العجم فارس (3) ، وفي ذلك قال أبو الاَسود الدؤلي :
وإنّ وليداً بين كسرى وهاشمٍ / لأكرمُ من نيطت عليه التمائمُ
استمرت إمامته أربعةً وثلاثين سنة ، عاصر فيها مُلك يزيد بن معاوية ، ومروان بن الحكم ، وعبدالملك بن مروان ، وتوفي مسموماً ـ حسب أكثر الروايات التاريخية ـ في عهد الوليد بن عبدالملك بن مروان (4) ، وذلك في النصف الاَول من شهر محرم الحرام سنة خمس وتسعين للهجرة ، وقيل قبل ذلك أو بعده بقليل ...
عاش حوالي سبعاً وخمسين عاماً ، قضى بضع سنين منها في كنف جدّه علي بن أبي طالب عليهالسلام ثم نشأ في مدرسة عمّه الحسن وأبيه الحسين عليهماالسلام سبطي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، واستقى علومه من هذه المصادر الطاهرة.
برز على الصعيد العلمي والديني ، إماماً في الدين ومناراً في العلم ، ومرجعاً ومثلاً أعلى في الورع والعبادة والتقوى حتى سلّم المسلمون جميعاً في عصره بأنّه أفقه أهل زمانه وأورعهم وأتقاهم ... فقال الزهري ، وهو من معاصريه : « ما رأيتُ قرشياً أفضل منه » ، وقال سعيد بن المسيّب وهو من معاصريه أيضاً : « ما رأيت قط أفضل من علي بن الحسين » ، وقال الإمام مالك : « سمي زين العابدين لكثرة عبادته » ، وقال سفيان بن عيينة « ما رأيت هاشمياً أفضل من زين العابدين ولا أفقه منه » ، وعدّه الشافعي أنّه : « أفقه أهل المدينة ».
وقد اعترف بهذه الحقيقة حكام عصره من بني أمية أنفسهم ، رغم ما بينه وبينهم من عداوة وخصومة ، فقال له عبدالملك بن مروان يوماً : « لقد أوتيت من العلم والدين والورع مالم يؤته أحد مثلك قبلك إلاّ من مضى من سلفك .. » ، ووصفه عمر بن عبدالعزيز بأنّه : « سراج الدنيا وجمال الاِسلام » (5).
وحين اصطدم عبدالملك بن مروان بملك الروم وتماحكا حول مسألة النقود ، لم يجد الاَول مفزعاً ومُعيناً إلاّ الإمام زين العابدين عليهالسلام ، فهرع إليه يستعينه على إنقاذ المسلمين من ورطتهم ، فوضع له الإمام اُطروحة متكاملة للنقد الاِسلامي (6) ، وأنقذ المسلمين من إذلال الروم ، ولعلّ آثار هذه الاُطروحة والعمل بالنقد ما زالت لحدّ اليوم.
من أشهر ألقابه : زين العابدين ، والسجاد ، وذو الثفنات ، والبكّاء ، والعابد ، وأشهرها الاَول ...
جاء في المرويات عن محمد بن شهاب الزهري أنّه كان يقول : « يقوم يوم القيامة منادٍ ينادي : ليقم سيد العابدين في زمانه ، فيقوم علي ابن الحسين ».
وجاء في ( تذكرة الخواص ) لابن الجوزي ، أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم هو الذي سماه بهذا الاسم (7) ، وكذلك حسب الروايات الشيعية في تسمية النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لاَئمة أهل البيت الاثني عشر المعروفين عليهمالسلام.
وجاء في تسميته بذي الثفنات ، أنّ الإمام الباقر عليهالسلام قال : « كان لابي في موضع سجوده آثار ثابتة وكان يقطعها في كلِّ سنة من طول سجوده وكثرته ... » (8).
ويروي الرواة عن سبب تسميته ( البكّاء ) عن الإمام جعفر الصادق عليهالسلام أنّه قال : « بكى جدي علي بن الحسين عليهالسلام على أبيه عشرين سنة ، ما وضع خلالها بين يديه طعام أو ماء إلاّ بكى ، فقال له أحد مواليه يوماً : جُعلت فداك يا ابن رسول الله ، إنّي أخاف أن تكون من الهالكين ، فقال : إنّما أشكو بثّي وحزني إلى الله ، وأعلم ما لا تعلمون ....
وقال له مولىً آخر في يوم آخر : « أما آن لحزنك أن ينقضي ولبكائك أن يقلّ؟ فقال عليهالسلام : ويحك ، إنّ يعقوب النبي كان له اثنا عشر ولداً ، فغيّب الله واحداً منهم ، فابيضت عيناه عليه من كثرة البكاء واحدودب ظهره ... وأنا نظرتُ إلى أبي وإخوتي وعمومتي وسبعة عشر شاباً من بني عمومتي مجزرين أمامي كالاضاحي .. ونظرت إلى عمّاتي وأخواتي هائمات في البراري وقد أحاط بهنّ أهل الكوفة وهنّ يستغثن ويندبن قتلاهن ... ».
وجاء عن أبي عبدالله الصادق عليهالسلام أيضاً أنّه قال : « البكاؤون خمسة آدم ويعقوب ، ويوسف ، وفاطمة بنت محمد ، وعلي بن الحسين ».
وتحدّث المؤرخون عن بكائه عليهالسلام الكثير الكثير ، حتى قيل أنّه ما رأى جزاراً يذبح شاة حتى يدنو منه ويسأله هل سقاها ماءً وحين يقال له نعم ، يبكي ويقول : « لقد ذُبح أبو عبدالله عطشاناً ».
وما يجيئه ضيفٌ ويسأله عن ميّت له ، هل غسّله وكفّنه؟ ويكون الجواب ، نعم هذا واجب يا ابن رسول الله ، حتى يبكي ويقول : « لقد قُتل والدي غريباً وبقي ثلاثة أيام تصهره الشمس بلا غُسل ولا كفن ... ».
وهكذا حتى كاد يفجّر ببكائه وأسئلته وتعليقاته تلك ، كل معاني الغضب المقدّس في نفوس الاَحرار والثوار ويستنهضهم بشكل مباشر أو غير مباشر للثورة على الظلم والظالمين ، والتمرّد على أعداء الدين الذين يستبيحون الحرمات ، ويهتكون المقدّسات ، ويستهترون بالقيم والمبادىء والحدود ...
نعم ، لقد هزّ الإمام السجاد بتلك الدموع عروش الاَمويين وزلزل حكمهم ، ونغّص عليهم دنياهم التي باعوها بدينهم وآخرتهم ، والتي لم يحفظوا فيها لاَهل بيت النبي حرمة ، ولا رعوا لهم فيها إلاً ولا ذمة ... فكان الذي كان وصار الذي سنقرأ بعض تفاصيله في الصفحات القليلة التالية ...
المحطات الرئيسية في حياة الإمام السجاد عليهالسلام :
في قراءة سريعة لسيرة الإمام السجاد عليهالسلام لا يسع القارئ إلاّ أن يتوقف أمام البداية والمرتكز اللذين وسما شخصيته عليهالسلام وجعلاه يُسجّل أسطع صفحات النضال في مسيرته المستقبلية اللاحقة ...ويمكن اعتبار حضوره في كربلاء ومواقفه في الشام ، وتخطيطه في المدينة بعد عودته إليها هي المحطات الثلاثة التي تؤشر الاَبعاد الحقيقية التي بلورت شخصيته الجهادية في قابل الاَيام والسنين ، فضلاً عن محطته الرئيسية في بيت العصمة والطهارة الذي نشأ وعاش وترعرع فيه وخاصة مع جدّه الإمام علي وأبيه الحسين وعمّيه الحسن والعباس عليهمالسلام.
وعند التأمل في هذه المحطات الثلاث ، نكتشف أنّ جهاد الإمام السجّاد عليهالسلام ودوره في تأصيل القيم التي من أجلها استشهد جده وأبوه وعمّاه ، لم تكن لتُرسم بقعقعة السيوف وصليلها فقط ، وإنّما بكشف الحقائق التي تمّ تزويرها أو التعتيم عليها بعد مصرع أبيه وبعد أن وضعت الحرب أوزارها ، وتوقّف صهيل خيولها وهجع ضجيج عساكرها وصخب مقاتليها ...
المحطة الاُولى : في كربلاء :
تؤكد المصادر التاريخية أنّ الإمام السجاد عليهالسلام كان حاضراً في كربلاء إذ شهد واقعة الطفّ بجزئياتها وتفاصيلها وجميع مشاهدها المروّعة ، وكان شاهداً عليها ومؤرخاً لها ، ولعلّه يُعتبر أصدق وأهم مراجعها على الاِطلاق ..ولقد ورد في بعض النصوص التأريخية المعتبرة عن أهل البيت عليهمالسلام في ذكر أسماء من حضر مع الإمام الحسين عليهالسلام ، أنّ الإمام السجاد عليهالسلام قد قاتل في ذلك اليوم وقد جُرح ..
وكان ممّا ورد في هذا السياق ما نصه : « وكان علي بن الحسين عليلاً ، وارتُثَّ يومئذٍ ، وقد حضر بعض القتال ، فدفع الله عنه وأُخِذ مع النساء » (9).
ومع وضوح هذا النص ، فإنّ كلمة ( ارتُثَّ ) هذه تدلُّ على اشتراكه في القتال ، لاَنّها تُقال لمن حُمل من المعركة بعد أن قاتل وأُثخن بالجراح ، فأُخرج من أرضها وبه رمق ، كما يقول اللغويون ، أو أصحاب فقه اللغة (10).
إلاّ أن المؤكد في معظم المصادر التاريخية ، أو المتفق عليه فيها أنه كان يوم كربلاء مريضاً أو موعوكاً (11) وللحدّ الذي لا يستطيع الوقوف على قدميه ، أو لا تحمله قدماه ، كما تقول الروايات.
فقد جاء في تاريخ اليعقوبي ـ المجلد الثاني ، ما نصه : ( روي عن علي ابن الحسين عليهالسلام أنّه قال : « إنّي لجالسٌ في العشية التي قُتل فيها أبي الحسين بن علي ، في صبيحتها وعمّتي زينب تمرّضني ، إذ دخل أبي وهو يقول :
يا دهرُ أفٍّ لك من خليلِ / كم لك في الاِشراق والاَصيلِ
من طالبٍ وصاحبٍ قتيلِ / والدهر لا يقنع بالبديلِ
وإنّما الاَمر إلى الجليلِ / وكلّ حيٍّ سالكُ السبيلِ
ففهمتُ ما قال وعرفتُ ما أراد ، وخنقتني عبرتي ، ورددتُ دمعتي ، وعرفتُ أنّ البلاء قد نزل بنا. فأمّا عمّتي زينب فإنّها لمّا سمعت ما سمعت ، والنساء من شأنهنّ الرقّة والجزع ، لم تملك أن وثبت تجرّ ثوبها حاسرة وهي تقول : واثكلاه ، ليت الموت أعدمني الحياة ... ، فقال لها الحسين : يا أختي اتّقي الله ، فإنّ الموت نازل لا محالة ، فلطمت وجهها وشقّت جيبها وخرّت مغشياً عليها ، وصاحت واويلاه واثكلاه ، فتقدّم إليها وصبّ على وجهها الماء وقال : يا أختاه : تعزّي بعزاء الله ، فإنّ لي ولكلِّ مسلم ومسلمة اُسوة برسول الله ... ثمّ قال : إنّي أُقسم عليك ، فأبرّي قسمي ، لا تشقّي عليَّ جيباً ، ولا تخمشي عليَّ وجهاً ، ولا تدعي عليَّ بالويل والثبور. ثمّ جاء حتى سعد في تاريخه أيضاً قائلاً : كان علي بن الحسين مع أبيه بطف كربلاء وعمره إذ ذاك ثلاث وعشرون سنة ، لكنه كان مريضاً ملقى على فراشه ، قد نهكته العلّة والمرض. ولما قتل والده ، قال الشمر بن ذي الجوشن : اقتلوا هذا الغلام فقال بعض اصحابه : سبحان الله ، تقتلون فتىً مريضاً لم يُقاتل فتركوه ... » ، راجع كتاب الاتحاف بحب الأشراف / الشيخ عبدالله بن محمد بن عامر الشبراوي الشافعي : ١٤٣ دار الذخائر للمطبوعات.
أجلسها عندي ، فإنّي لمريض مدنف ، وخرج إلى أصحابه ... » (12).
ثمّ راح عليهالسلام يشرح قصّة مصرع والده عليهالسلام وأصحابه وبنيه وأهل بيته .. ويؤرّخ مواقفهم وملاحمهم البطولية الخالدة بأصدق ما يكون المؤرخ ، وأدقّ ما يسجل التاريخ ...
إذن ، كان الإمام الحسين برحلته من الحجاز إلى العراق ، وكلماته كلّها ، ومصرعه الدامي ومشاهد البطولة والفداء ، كلّها مخزونة في وجدان وضمير الإمام السجاد وهو يسمعه يقول يوماً : « كأني بأوصالي هذه تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء » ، ويسمعه يقول في يوم آخر : « من رأى منكم سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ولم يغيّر عليه بقول أو فعل كان حقاً على الله أن يدخله مدخله » ، ويسمعه يقول في يوم ثالث ورابع : « والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرُّ لكم إقرار العبيد » « إنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برماً » « الموت أولى من ركوب العار ، والعار أولى من دخول النار » فيما يسمع إخوته وأبناء عمومته وأصحاب أبيه ينشدون في حومة الوغى ويهتفون :
* إذا لم يكن من الموتِ بدٌّ / فمن العار أن تموت جبانا
* أنا علي بن الحسين بن علي / نحن وأيم الله أولى بالنبي
أطعنكم بالرمح حتى ينثني / أضربكم بالسيف أحمي عن أبي
ضرب غلامٍ علوي هاشمي / والله لا يحكم فينا ابن الدعي
* سأمضي وما بالموت عارٌ على الفتى / إذا ما نوى خيراً وجاهد مسلما
وواسى الرجال الصالحين بنفسه / وفارق مثبوراً وخالف مجرما
فإن عشتُ لم أندم وإن متُّ لم أُلم / كفى بك ذلاًّ أن تعيش وتُرغما
كلّ ذلك وغيره كثير يختزنه الإمام السجاد ويطوي عليه قلبه وضلوعه ، إذ لم يتسنَّ له أن يبذل مهجته ، لجرحٍ أصابه ، فأخرجه من المعركة ، أو مرضٍ شديد أقعده عن المساهمة فيها ، فيحمل تلك المشاهد والكلمات ليصبح بعد ذلك ناطقاً رسمياً بما شاهده واطّلع عليه ، ويكون المرجع الرئيس المُنتدب لاِتمام المهمة التي استشهد من أجلها أبوه الإمام الحسين عليهالسلام ، والتي لم تنته باستشهاده ، بل إنّها بدأت بعد ذلك مباشرة فعلاً.
وحين نقول ذلك ونؤكد أن مصرع الإمام الحسين عليهالسلام هو الحدث التاريخي الاَكبر الذي أدى إلى بلورة الاتجاه الصحيح في الاِسلام ، وقاد ثورته التصحيحية فعلاً ، فان دور الإمام السجاد عليهالسلام يأتي الاَكثر تجلياً في ريادة مشروع هذه الثورة واستكمال فصولها وتجلية مفرداتها وشرح أبعادها ورسم المعالم الحقيقية للخط الاِسلامي المحمدي الاَصيل.
المحطة الثانية : في الكوفة والشام :
نعم ، في معسكر الاَعداء ، وفي أسر الخصوم ، في الكوفة ومجلس أميرها ، وفي الشام وأمام مليكها والتي لا يقل الموقف البطولي فيها عن ميدان الوغى وحومة الصراع ، يستحضر الإمام السجاد عليهالسلام مصارع إخوته وأبناء عمومته ، فيقف شامخاً في قصر الاِمارة بالكوفة مع عمّته زينب وهما يحملان بلاغة علي وعنفوان الحسين وعزّة العباس ، ليقولا بكلام عربي فصيح ومواجهة كلامية حادّة بينهما وبين الطاغية عبيد الله بن زياد ، قولاً لا يمكن أن يقوله ثائر مغلوب منكسر في مثل موقعهما وموقفهما وأمام هذا الطاغية الذي مازال يقطر سيفه من دماء المجزّرين في رمضاء كربلاء من أهل بيت النبوة ..يلتفت ابن زياد لزينب وهي جالسة حزينة منكسرة وقد صدّت بوجهها عنه فيقول : « من هذه الجالسة؟ » فلا تكلّمه ، ويكرّر فلا تكلّمه ، فيعيد ثالثة وهي مصرّة لا تكلّمه ، حتى يقول بعض إمائها : « هذه زينب بنت فاطمة ».
فقال لها ابن زياد : « الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم ، وأكذب أُحدوثتكم ».
فتقول عليهاالسلام : « الحمدُ لله الذي أكرمنا بمحمد صلىاللهعليهوآلهوسلم وطهّرنا تطهيراً ، لا كما تقول ( أنت ) ، وإنّما يُفتضح الفاسق ، ويكذّب الفاجر ، وهو غيرنا يا ابن مرجانة .. ».
فقال : « فكيف رأيت صنع الله بأهل بيتكِ؟ » ، قالت : « قوم كُتب عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم فتختصمون عنده .. » فغضب بن زياد ( واستشاط ) وقال : « قد شفى الله غيظي من طاغيتك والعصاة المردة من أهل بيتك » ، فبكت وقالت : « لعمري لقد قتلت كهلي ، وأبرتَ أهلي ، وقطعت فرعي ، واجتثثت أصلي ، فإن يُشفك هذا فقد اشتفيتَ ... » (13).
ثمّ يلتفت ابن زياد إلى عليّ بن الحسين ويقول : « ما اسمك؟ » قال « علي بن الحسين » قال : « ألم يقتل الله علي بن الحسين؟ » فسكت ، فقال : « مالك لا تتكلم؟ » قال : « كان لي أخ يُقال له علي قتله الناس »!!
فقال ابن زياد : « إنّ الله قتله » فسكت الإمام عليهالسلام.
قال : « مالك لا تتكلم؟ » فقال الإمام علي بن الحسين عليهالسلام : « الله يتوفى الاَنفس حين موتها .. وما كان لنفسٍ أن تموت إلاّ بإذن الله ... ».
ثم غضب ابن زياد فأراد قتله على جرأته وتجاسره على الطاغية بتلك الاَجوبة ، فتشبّثت به عمّته زينب وتعلّقت به ، وقالت لابن زياد : « يا ابن زياد ، حسبُك منّا ما أخذت ، أما رويتَ من دمائنا؟ وهل أبقيت مِنّا أحداً؟ أسألك الله ـ إن كنت مؤمناً ـ إن قتلته لمّا تقتلني معه .. ».
وقال الإمام عليهالسلام لابن زياد : « يا ابن زياد ، إن كانت بينك وبينهنّ قرابة فابعث معهنّ رجلاً تقيّاً يصحبهنّ بصحبة الإسلام ... » (14).
أمّا في الشام وحيث الدور الاِعلامي أكثر تأثيراً من قعقعة السيوف وطعن الرماح مع ما يستبطن من فضح وكشف واحتمال تصفية وقتل ، يقف الإمام السجاد عليهالسلام في مجلس يزيد ويلتمس الاِذن بالحديث فيُسمح له ، فينبري بعد أن يحمد الله ويثني عليه مسفّهاً الدعاوى الاَموية التي حاولت تشويه نهضة أبيه ، وتزييف أهداف ثورته ، قائلاً :
« يا معشر الناس : فمن عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا أُعرّفه نفسي ، أنا ابن مكّة ومِنى ، أنا ابن مروة والصفا ، أنا ابن محمد المصطفى ... أنا ابن من علا فاستعلى ، فجاز سدرة المنتهى ، وكان من ربّه قاب قوسين أو أدنى ، أنا ابن من صلّى بملائكة السماء مثنى مثنى ، أنا ابن من أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الاَقصى ، أنا ابن علي المرتضى ، أنا ابن فاطمة الزهراء ، أنا ابن خديجة الكبرى ، أنا ابن المقتول ظلماً ، أنا ابن المجزور الرأس من القفا ، أنا ابن العطشان حتى قضى ، أنا ابن صريع كربلاء ، أنا ابن مسلوب العمامة والرداء ، أنا ابن من بكت عليه ملائكة السماء ، أنا ابن من ناحت عليه الجنّ في الاَرض والطير في الهواء ، أنا ابن من رأسه على السنان يُهدى ، أنا ابن من حرمه من العراق إلى الشام تُسبى .. أيُّها الناس إنّ الله تعالى ـ وله الحمد ـ ابتلانا أهل البيت ببلاء حسن ، حيث جعل راية الهدى والتُقى فينا ، وجعل راية الضلالة والردى في غيرنا ... » (15).
وهكذا حتى عمّ المجلس النحيب والبكاء ـ كما تقول الروايات التأريخية ـ فكشف مالم يكشف وفضح ما تمّ التكتّم عليه أو يُراد له ذلك ، فذكّر الناس أولاً بنسبه الشريف واتصاله بالاِسلام ونبي الاِسلام ، وأشار إلى العديد من الحوادث التأريخية والجنايات التي ارتكبها جيش الاَمويين باسم الاِسلام وتجاوزت حدود الدين وتعاليمه المعروفة ، كالتمثيل بالقتلى مثلاً : « أنا ابن المجزور الرأس من القفا » ، والوحشية في التعامل مع الخصم : « أنا ابن العطشان حتى قضى » والتطاول على حرمة بيت النبوة ، وبنات المصطفى والمرتضى اللواتي « من العراق إلى الشام تُسبى » ... وأكثر من كل ذلك وبصريح القول والعبارة : « أنا ابن المقتول ظُلماً » ...
وهكذا ممّا أدى إلى بكاء ونحيب الحاضرين وإشعارهم بالاِثم والذنب الكبيرين اللذين ارتُكبا بحقِّ الاِسلام ووريثه ، وكيف إن الاِسلام الذي يزعمه الامويون اليوم مجسّداً برمزه الماثل أمامهم أصبح أسيراً يُساق مع عمّاته وخالاته من بلد إلى بلد ، ورأس ابن الزهراء أبيه أمامهنّ « على السنان يُهدى » ...
إنّه ، باختصار شديد ، وبهذه الخطبة الموجزة أصبح الرمز الذي يقود مسيرة الاِحياء ـ إحياء هذا الدين المضيّع ـ الذي شوّهته السلطة الاَموية وحكمت أو تحكّمت باسمه ... فتراه عليهالسلام حين أراد يزيد أن يقطع حديثه بالآذان للصلاة ، يُعلِّق على صوت المؤذن الذي يقول : « أشهد أن محمداً رسول الله » بقوله : « يا يزيد! هذا جدي أم جدّك؟ فإن قلت جدك فقد كذبت! وإن قلت جدي ، فلمَ قتلتَ أبي وسبيت حرمه وسبيتني؟! » ، ثمّ قال مخاطباً الناس : « أيُّها الناس ، هل فيكم من أبوه وجده رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم؟ » فعلت الاَصوات بالبكاء.
وقام إليه رجل من شيعته يُقال له : المنهال بن عمرو الطائي ، وفي رواية مكحول صاحب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فيسأله : « كيف أمسيتَ يا ابن رسول الله؟ ».
فيستثمر الإمام السجاد عليهالسلام هذا السؤال فيروح مندّداً بالعصابة التي حرّفت دين النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ويضع أُولى العناوين العريضة في هذه المسيرة التبليغية الاِعلامية التي قادت وتقود مسيرة الاِحياء العظيمة هذه ، برائدها الوحيد الحيّ الباقي ، مؤكداً على الفرعونية الجديدة التي تتحكّم باسم الدين مستنهضاً همم الرجال ، مقرّعاً ضمائرهم ، مناشداً غيرتهم على دين عظيم ضيّعوه بالتواطؤ مع هذه العصابة الضالة المضلّة ، فيجيب سائله بقولٍ موجز بليغ :
« ويحك كيف أمسيت؟ أمسينا فيكم كهيئة بني إسرائيل في آل فرعون ، يذبّحون أبناءهم ويستحيون نساءهم ، وأمست العرب تفتخر على العجم بأنّ محمداً منها ، وأمسى آل محمد مقهورين مخذولين ، فإلى الله نشكو كثرة عدّونا ، وتفرّق ذات بيننا ، وتظاهر الاَعداء علينا ... » (16). وهكذا تبرز وثائقية هذا الطرح الاِعلامي البليغ ، ويتجلّى دور الإمام السجاد عليهالسلام في قيادة مشروع الاِحياء وثورة التصحيح ، ومن هذه المحطة تبدأ رحلة الاَلف ميل مسافة وعمقاً من الشام إلى المدينة ، ليستأنف الإمام عليهالسلام مهمته الرسالية في استكمال هذا المشروع وريادة هذه الثورة.
المحطة الثالثة : في المدينة المنوّرة :
١ ـ دوره العلمي.ليس الحديث عن الدور العلمي للاِمام السجاد عليهالسلام مما تجمعه السطور ، أو تفي بالتعبير عنه ؛ ولكن حسبها أنّها تأتي بمعالم تفصح بعض إفصاح عن ذلك الدور وما كان يتمتع به صاحبه من منزلة.
لقد عاش الإمام زين العابدين عليهالسلام في المدينة المنورة ، حاضرة الاِسلام الاُولى ، ومهد العلوم والعلماء ، في وقت كانت تحتضن فيه ثلّة من علماء الصحابة ، مع كبار علماء التابعين ، فكان بشهادة أكابر أبناء طبقته والتابعين لهم ، الاَعلم والاَفقه والاَوثق ، بلا ترديد.
فقد كان الزهري يقول : ( ما كان أكثر مجالستي مع علي بن الحسين ، وما رأيت أحداً كان أفقه منه ). وممن عرف هذا الاَمر وحدّث به الفقيه سفيان بن عيينة (17).
وبمثل هذا كان يقول الشافعي محتجاً بعلي بن الحسين عليهالسلام على انه كان ( أفقه أهل المدينة ) (18٢). وبمثله كان يقول معاصر الإمام السجاد عليهالسلام أبو حازم المدني (19) ، وغيرهم كثير.
هذا وقد كانت مدرسته تعجّ بكبار أهل العلم من حاضرة العلم الاُولى في بلاد الاِسلام ، يحملون عنه العلم والاَدب ، وينقلون عنه الحديث ومن بين هؤلاء ، كما أحصاهم الذهبي : أولاده أبو جعفر محمد ( الباقر عليهالسلام ) وعمر ، وزيد ، وعبدالله ، والزهري ، وعمرو بن دينار ، والحكم ابن عُتيبة ، وزيد بن أسلم ، ويحيى بن سعيد ، وأبو الزناد ، وعلي بن جدعان ، ومسلم البطين ، وحبيب بن أبي ثابت ، وعاصم بن عبيدالله ، وعاصم بن عمر ابن قتادة بن النعمان ، وأبوه عمر بن قتادة ، والقعقاع بن حكيم ، وأبو الاَسود يتيم عروة ، وهشام بن عروة بن الزبير ، وأبو الزبير المكّي ، وأبو حازم الاَعرج ، وعبدالله بن مسلم بن هرمز ، ومحمد بن الفرات التميمي ، والمنهال بن عمرو ، وخلق سواهم .. وقد حدّث عنه أبو سلمة وطاووس ، وهما من طبقته (20) ، غير هؤلاء رجال من خاصة شيعته من كبار أهل العلم ، منهم : أبان بن تغلب ، وأبو حمزة الثمالي ، وغيرهم كثير (21).
هذا الجمع الغفير وغيرهم ممن وصف بالخلق الكثير أخذوا عنه عليهالسلام علوم الشريعة من تفسير القرآن الكريم والعلم بمحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه وأحكامه وآدابه ، والسُنّة النبوية الشريفة روايةً وتدويناً في عصر كانت ما تزال كتابة الحديث فيه تتأثر بما سلف من سياسة المنع من التدوين ، السياسة التي اخترقها أئمة أهل البيت عليهمالسلام فكتب عنهم تلامذتهم والرواة عنهم الشيء الكثير ، إلى أحكام الشريعة ، حلالها وحرامها وآدابها ، إلى فضيلة الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر في عهد عمدت فيه السياسة على تعطيل الكثير من الاَحكام وتبديل بعض السنن وإحياء بعض البدع ، إلى الجهر في نصرة المظلوم وضرورة الردّ على الظالم وكشف أساليبه الظالمة للناس.
كما تأدبوا على يديه في مجالسه بآداب الاِسلام التي شحنها في أدعيته التي اشتهرت وانتشرت في عهده حتى أصبحت تشكّل لوحدها ظاهرة جديدة في تبني اسلوب روحي متين ، ليس لاِحياء القلوب وشدّها إلى الله تعالى وحسب ؛ بل إلى إحياء معالم الشريعة وحدودها وآدابها الاَدعية التي حفظ المشهور جداً منها في الصحيفة المعروفة بـ « الصحيفة السجادية » نسبة إليه حيث عرف عليهالسلام بالسجاد.
والاَثر المحفوظ عنه عليهالسلام في كلِّ هذه الميادين أثر عظيم يجمع أسفاراً جليلة ، تتضمن سائر علوم الشريعة الاِسلامية.
وغير ذلك فقد سجّل الإمام عليهالسلام سبقاً علمياً وتاريخياً في رسالة تعد من مفاخر الاِسلام وتراثه العلمي ، ألا وهي « رسالة الحقوق » الرسالة الخالدة المحفوظة بهذا العنوان ، والتي استوعبت جلّ الحقوق التي لا يستغني الاِنسان عن معرفتها ، ولا يستغني المجتمع عن احيائها والعمل بها ، لاَجل أن يكون مجتمعاً إسلامياً حيّاً بحق ، كما أرادت له الشريعة السمحة.
ومن ناحية أُخرى فقد ظهرت في عهده عليهالسلام مقولات عقيدية تبنتها فرق إسلامية وتمحورت حولها واتخذت منها مناهج خاصة في فهم عقائد الاِسلام وتوجيه أحكامه ، كعقيدتي الجبر والارجاء اللتين روّج لهما الامويون تبريراً لوجودهم في السلطة لمشروعهم السياسي ، وعقيدتي التشبيه والتعطيل في الصفات اللتين اتخذتهما فرق متناقضة بذرائع مختلفة.
وإزاء هذه الاتجاهات وقف الإمام عليهالسلام موقفه الواضح والمنسجم مع منهجه في التعليم والدفاع عن مبادىء الشريعة ، فضمّن أقواله الحكيمة وأدعيته المشتهرة نصوصاً تجتث تلك المقولات من جذورها ، من ذلك موقفه مع عبيد الله بن زياد يوم أُدخل عليه في قصر الاِمارة وعُرض عليه فقال له : من أنت؟
فقال عليهالسلام : « أنا علي بن الحسين ».
فقال : أليس قد قتل الله علي بن الحسين؟
فقال له الإمام عليهالسلام : « قد كان لي أخ يسمى علياً قتله الناس ».
فقال له ابن زياد : بل الله قتله.
فقال الإمام عليهالسلام : « ( الله يتوفى الاَنفس حين موتها ) » (22).
وكذا موقفه الآخر مع يزيد بن معاوية عند دخوله عليه مع أخواته وعمّاته في الشام.
قال يزيد : يا بن حسين ، أبوك قطع رحمي وجهل حقّي ، ونازعني سلطاني ، فصنع الله به ما قد رأيت.
فقال الإمام علي بن الحسين عليهالسلام : « ( ما أصاب من مصيبة في الاَرض ولا في أنفسكم إلاّ في كتاب من قبل أن نَّبرأها إن ذلك على الله يسير ) » (23).
أو ما رواه الطبرسي في الاحتجاج عن ثقاة الرواة وعدولهم ، قال : أنه لما أُدخل علي بن الحسين زين العابدين عليهالسلام في جملة من حُمل إلى الشام سبايا من أولاد الحسين بن علي عليهالسلام وأهاليه على يزيد ـ لعنه الله ـ قال له يا علي! الحمدُ لله الذي قتل أباك!
قال الإمام عليهالسلام : « قتل أبي الناس ».
قال يزيد : الحمد لله الذي قتله فكفانيه.
قال الإمام عليهالسلام : « على من قتل أبي لعنة الله ، أفتراني لعنت الله عزّ وجلّ؟ » (24).
أما موقفه عليهالسلام من المشبّهة والمجسّمة فنجده قد اتّخذ شكل دعاء ، كما في دعائه في التوحيد إذ يقول : « إلهي بدت قدرتك ولم تبد هيئة جلالك .. شبهوك وأنا بريء يا إلهي من الذين بالتشبيه طلبوك ، ليس كمثلك شيء .. فتعاليت يا إلهي عمّا به المشبهون نعتوك » (25). ولم يدع الإمام عليهالسلام مناسبة تمر إلاّ وأوضح العقيدة الحقّة التي عليها أهل البيت عليهمالسلام ، وهي تنزيه الباري جلَّ شأنه وتعظيمه ، وذلك ما تجده شاخصاً في دعائه الاَول والثاني من الصحيفة حينما يحمد الله عزَّ وجلّ ويثني عليه بأجلّ الصفات وأنزهها.
٢ ـ دوره في بلورة المعارضة السياسية.
المؤسف في قراءات ودراسات الكثير من المؤرخين والمحللين السياسيين هو ارتباكهم وعدم دقّتهم في تحديد أدوار أئمة أهل البيت عليهمالسلام وتفكيك مدرستهم الفكرية والسياسية في تعاملهم مع السلطات ، وكذلك عدم قدرة هؤلاء المحللين على إدراك حكمة تنوّع تلك الاَدوار وفلسفتها وعدم استيعاب حرص الاَئمة على الاحتفاظ بوحدة هدفهم في المحافظة على الاِسلام عقيدةً وشريعةً ، نظريةً ومنهاجاً.
يأخذ بعض هؤلاء المحللين دور الاِمام الحسن عليهالسلام مثلاً في صلحه مع معاوية ، ويقومون بتفكيكه بعيداً عن ظروفه وأهدافه ، فيُظهرونه ( سلام الله عليه ) مصالحاً مساوماً متنازلاً قد رضي بانصاف الحلول مؤيداً ومبايعاً ، بعيدين عن الاِنصاف والحقّ طبعاً ، وبعيدين عن الدراسة التحليلية المتأنية التي تضفي على البحث العلمي رصانته وموضوعيته ، وللحدِّ الذي يسفّ البعض فيصفه ـ عليهالسلام ـ بأنّه مذلّ المؤمنين ـ كما خاطبه أحد أعوانه يوماً ـ متناسين رأي أبيه فيه في صفين حين قال : « إملكوا عني هذا الغلام ، لشدّة مراسه في الحرب والقتال » ومتجاهلين موقفه هو نفسه ـ سلام الله عليه ـ حين خاطب جيشه قائلاً : « ألا إنّ معاوية دعانا لاَمر ( يقصد الصلح ) ليس فيه عزّ ولا نصفة ، فإن أردتم الموت رددناه عليه ، وحاكمناه إلى الله تعالى بظبا السيوف ، وإن أردتم الحياة الدنيا ، قبلنا وأخذنا لكم الرضا ... » فإذا بالناس من كل جانب ومكان يهتفون ويصرخون ويولولون : « البقية ... البقية »!! (26).
فتجرّع ـ سلام الله عليه ـ مرارة ذلك الوصف وقساوة تلك التهمة على أن يحملهم على ما يكرهون فيُقال فيه أنّه قتلهم أو قاتل بهم على المُلك ، فضلاً عن حرصه على حقن دماء شيعته بعد أن تأكد لديه نكوص جيشه وتخاذل قادته وانهيار جنوده.
وكما تهلهل مثل هذا التحليل مع الاِمام الحسن عليهالسلام ، كان قد تهلهل مع أبيه عليهالسلام حين إتُّهم أنّه لم يكن سياسياً فذّاً ؛ إذ لم يتراجع خطوة إلى الوراء من أجل خطوتين إلى الاَمام ـ كما يقول السياسيون الذرائعيون اليوم ـ فيهادن معاوية ثم ينقضّ عليه غدراً ، كما هو شأن الاَخير وطبعه.
وحين يصل الدور إلى الاِمام الرضا عليهالسلام أيضاً ترى بعضهم يحاسبه على قبوله بولاية العهد ، فيما حاسبه آخرون على عدم قبوله لها في البداية ، فاتهموه بالتفريط بدماء شيعته عبر إصراره على الرفض ـ حسب زعمهم ـ.
وهكذا مع الاِمامين الباقر والصادق عليهماالسلام اللذين انصرفا إلى العلم وترسيخ العقيدة ، ولم يرفعوا السيف لمواجهة طواغيت زمانهم ، وكأن المؤرخين لم ينظروا إلى أئمة أهل البيت عليهمالسلام ، إلاّ من زاوية واحدة أو بُعدٍ واحد ، فجاءت دراساتهم وتحليلاتهم عرجاء تمشي على رجلٍ واحدة ، أو عوراء تنظر بعينٍ واحدة ..
أما موقف الاِمام السجاد ـ موضوع البحث ـ من الثورة والجهاد فكان هو الآخر عُرضة لهذا التحليل الشاطح الذي وضع أُسسه صنفان من الناس :
صنف يحب الدعة والاسترخاء فيروح يُفسِّر موقفه عليهالسلام دعةً واسترخاءً للتغطية على فشله هو وهزيمته ونكوصه.
وصنفٌ يهوى الثورة والتمرد فيتحامل على الاِمام جسارة أو تجرؤاً فيتّهمه بحبّ الدعة والاسترخاء زوراً وإفكاً.
وهذا يعني أن كلاًّ من هذين الصنفين ـ إذا أحسنّا الظن بهما ـ لم يضع
نفسه في مكانه ، وإنّما درس القضية أو قرأها من خارج الظرفين الزماني والمكاني ، وراح يسبح في فضاء هذا الاِمام العظيم ولكن كمن يطير بلا جناح ، أو كمن يتعلّم السباحة على حصير ...
فبعضهم يزعم أنّه اعتزل السياسة والتصدّي بعد فجيعته بوالده وإخوته ، وغدر الغادرين من أهل زمانه ، فاكتفى بالتضرّع والدعاء (27).
وبعضهم يحلّل إنّه آثر الدعاء والبكاء على غيرهما ؛ لاَنّهما أيسر مؤونةً وأقلُّ كلفةً من المواجهة والنزال وحزِّ الرؤوس وجزِّ الرقاب .. (28).
وبعضهم يقول إنّه آثر الدعة والراحة طمعاً بهما بعد أن رأى ما رأى من هول المصائب التي حلّت باخوته وأهل بيته في مجزرة كربلاء
ويشطح صنف آخر أكثر من هؤلاء جميعاً فيزعم أنّه صالح وساوم السلطة ونأى بنفسه بعيداً عن الثورات الشيعية التي تفجّرت في زمانه ؛ بل تبرأ منها في السرِّ والعلن (29) ـ حسب زعمهم ـ ومن هنا فإنّه أخذ على أيدي هؤلاء الثوار وخذلهم وتنصّل من مسؤوليته تجاه ثوراتهم ، وما إلى ذلك من هذه الدراسات المبتورة والتحليلات الشوهاء ...
فلنتوقف قليلاً أمام هذه المزاعم وندرسها بموضوعية وتأنٍ بعيداً عن لغة البُعد الواحد والنظرة الاَحادية والتحليل الجاهز ، وباختصار شديد طبعاً ، آملين ألاّ نكون في هذا البحث الموجز مختزلين أو قافزين على ظهر التاريخ والمؤرخين ..
المصادر :
1- شذرات الذهب ١ : ١٠٤.
2- الفصول المهمة / ابن الصباغ المالكي : ١٨٧.
3- ربيع الأبرار ١ : ٣٣٤ / ٧٣.
4- الاتحاف بحب الأشراف / عبدالله الشبراوي الشافعي : ١٤٣ ، دار الذخائر للمطبوعات.
5- تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٠٣ ـ ٣٠٥.
6- المصدر السابق : ٨.
7- تذكرة الخواص : ٢٩١.
8- المناقب ٤ : ١٨٠ ـ ١٨١.
9- جهاد الإمام السجاد / محمد رضا الحسيني الجلالي : ٥١ والكتاب مذكور في الأمالي الخميسية للمرشد بالله ١ : ١٧٠ ـ ١٧٣. والحدائق الوردية / المهلبي ١ : ١٢٠.
10- اُنظر المغرب للمطرزي ١ : ١٨٤. والقاموس ١ : ١٦٧. ولسان العرب ٤ : ٤٥٧.
11- الارشاد / المفيد : ٢٣١. وشرح الأخبار ٣ : ٢٥٠. وسير أعلام النبلاء ٤ : ٤٨٦.
12- تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٤٣ ـ ٢٤٤ ، دار صادر ـ بيروت.
13- جميع هذه النصوص وردت في كتاب « الكامل في التاريخ ، ابن الاثير ٣ : ٤٥ » وفيها
14- الكامل في التاريخ ٣ : ٤٣٥.
15- مناقب آل أبي طالب / ابن شهر آشوب المازندراني ٤ : ١٨٢.
16- مناقب ابن شهر آشوب ٤ : ١٨٢.
17- سير أعلام النبلاء ٤ : ٣٨٩. ومختصر تاريخ دمشق ١٧ : ٢٤٠.
18- شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد ١٥ : ٢٧٤.
19- سير أعلام النبلاء ٤ : ٣٩٤.
20- سير أعلام النبلاء ٤ : ٣٨٧.
21- رجال الشيخ الطوسي ـ باب أصحاب علي بن الحسين عليهالسلام.
22- سورة الزمر : ٣٩ / ٤٢.-الإرشاد / الشيخ المفيد ٢ : ١١٦.
23- سورة الحديد : ٥٧ / ٢٢.- الإرشاد ٢ : ١٢٠.
24- الاحتجاج ٢ : ١٣٢.
25- الصحيفة السجادية الكاملة : ٢٢ الدعاء رقم (٣).
26- الكامل في التاريخ / ابن الاَثير ٣ : ٢٠٤ ، ٢١٧.
27- راجع جهاد الشيعة / الدكتورة الليثي : ٢٩.
28- حياة علي بن الحسين عليهالسلام / كاظم جواد السبتي : ٣٢٠. ونظرية الاِمامة / صبحي الصالح ٣٤٩.
29- ثورة زيد / ناجي الحسن : ٣٠ ـ ٣١. وجهاد الشيعة / الدكتورة الليثي.