
نزل القرآن الكريم لهداية الناس وتنوير أفكارهم وتربية أرواحهم وعقولهم ، وكان في نفس الوقت يحدد الحلول الصحيحة للمشاكل التي تتعاقب علىََ الدعوة في مختلف مراحلها ، ويجيب على ما هو جدير بالجواب من الاسئلة التي يتلقاها النبي من المؤمنين أو غيرهم ، ويعلق علىََ جملة من الاحداث والوقائع التي كانت تقع في حياة الناس ، تعليقاً يوضح فيه موقف الرسالة من تلك الأحداث والوقائع .
وعلىََ هذا الأساس كانت آيات القرآن الكريم تنقسم الىََ قسمين :
أحدهما :
الآيات التي نزلت لأجل الهداية والتربية والتنوير دون وقوع سبب معين - في عصر الوحي - أثار نزولها ؛ كالآيات التي تصور قيام الساعة ومشاهد القيامة وأحوال النعيم والعذاب ، فإنّ اللَّه تعالىََ أنزل هذه الآيات لهداية الناس من غير أن تكون إجابة عن سؤال ، أو حلاً لمشكلة طارئة ، أو تعليقاً علىََ حادثة معاصرة .
والقسم الآخر :
الآيات التي نزلت بسبب مثير وقع في عصر الوحي واقتضىََ نزول القرآن فيه ؛ كمشكلة تعرض لها النبي والدعوة وتطلبت حلاً أو
سؤالاً استدعىََ الجواب عنه ، أو واقعة كان لا بد من التعليق عليها ، وتسمىََ هذه الاسباب التي استدعت نزول القرآن بأسباب النزول ، فأسباب النزول هي : اُمور وقعت في عصر الوحي واقتضت نزول الوحي بشأنها .
وذلك من قبيل ما وقع من بناء المنافقين لمسجد ضرار بقصد الفتنة ؛ فقد كانت هذه المحاولة من المنافقين مشكلة تعرضت لها الدعوة وأثارت نزول الوحي بشأنها ، اذ جاء قوله تعالىََ :
«والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين ... »(1).
وكذلك سؤال بعض أهل الكتاب مثلاً عن الروح من النبي فقد اقتضت الحكمة الالهية ان يجاب عنه في القرآن فنزل قوله تعالىََ :
«... قل الرّوح من أمر ربّي وما اوتيتم من العلم إلّاقليلاً »(2)
وبهذا أصبح ذلك السؤال من أسباب النزول .
وكذلك أيضاً ما وقع من بعض علماء اليهود ، إذ سألهم مشركو مكة من أهدىََ سبيلاً ، محمد وأصحابه أم نحن ؟ فتملقوا عواطفهم وقالوا لهم : أنتم أهدىََ سبيلاً من محمد وأصحابه ، مع علمهم بما في كتابهم من نعت النبي المنطبق عليه ، وأخذ المواثيق عليهم أن لا يكتموه ، فكانت هذه واقعة مثيرة أدّت علىََ ما جاء في بعض الروايات الىََ نزول قوله تعالىََ :
«ألم تَرَ الىََ الذين اُوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطّاغوت ويقولون للّذين كفروا هؤلاء أهدىََ من الذين آمنوا سبيلاً »(3).
فهذه قضايا وقعت في عصر الوحي ، وكانت داعية الىََ نزول الوحي بشأنها ، فكانت لأجل ذلك من أسباب النزول .
ويلاحظ في ضوء ما قدّمناه من تعريف لأسباب النزول أنّ احداث الاُمم الماضية التي يستعرضها القرآن الكريم ليست من أسباب النزول ، لأنّها قضايا تأريخية سابقة علىََ عصر الوحي ولا اُموراً وقعت في عصر الوحي واقتضت نزول القرآن بشأنها ، فلا يمكن ان نعتبر حياة يوسف وتآمر اخوته عليه ونجاته وتمكنه منهم سبباً لنزول سورة يوسف .
وهكذا سائر المقاطع القرآنية التي تتحدث عن الانبياء الماضين واُممهم فانها في الغالب تندرج في القسم الاول من القرآن الذي نزل بصورة ابتدائية ولم يرتبط بأسباب نزول معينة .
الفائدة في معرفة السبب :
ولمعرفة أسباب النزول أثر كبير في فهم الآية والتعرّف على اسرار التعبير فيها ، لأنّ النص القرآني المرتبط بسبب معين للنزول تجيء صياغته وطريقة التعبير فيه وفقاً لما يقتضيه ذلك السبب ، فما لم يعرف ويحدد قد تبقىََ أسرار الصياغة والتعبير غامضة ، ومثال ذلك قوله تعالىََ :«إنّ الصّفا والمروة من شعائر اللَّه فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطّوف بهما ... »(4)
فإنّ الآية ركزت علىََ نفي الاثم والحرمة عن السعي بين الصفا والمروة دون أن تصرح بوجوب ذلك ، فلماذا اكتفت بنفي الحرمة دون أن تعلن وجوب السعي ؟
إنّ الجواب على هذا السؤال يمكن معرفته عن طريق ما ورد في سبب نزول الآية من أنّ بعض الصحابة تأثموا من السعي بين الصفا والمروة ، لانه من عمل الجاهلية فنزلت الآية الكريمة ، فهي اذن بصدد نفي هذه الفكرة من اذهان الصحابة والاعلان عن أنّ الصفا والمروة من شعائر اللَّه ، وليس السعي بينهما من مختلقات الجاهلية ومفترياتها .
وقد أدىََ الجهل بمعرفة سبب النزول في هذه الآية عند البعض الىََ فهم خاطئ في تفسيرها ... اذ اعتبر اتجاه الآية - نحو نفي الاثم بدلاً عن التصريح بالوجوب - دليلاً علىََ أنّ السعي ليس واجباً وانما هو امر سائغ ، اذ لو كان واجباً لكان الاجدر بالآية ان تعلن وجوبه بدلاً من مجرد نفي الاثم ، ولو كان هذا يعلم سبب النزول والهدف المباشر الذي نزلت الآية لتحقيقه ، وهو ازالة فكرة التأثم من اذهان الصحابة لعرف السر في طريقة التعبير ، والسبب في اتجاه الآية نحو نفي الاثم والتركيز علىََ ذلك .
تعدّد الاسباب والمنزل واحد والعكس :
قد يتفق وقوع عدة اشياء في عصر الوحي كلها تتفق في اشارة واحدة وتستدعي نزول القرآن بشأنها ، كما اذا تكرر السؤال - من النبي مثلاً - عن مشكلة واحدة ، فان كل سؤال يقتضي نزول الوحي بجوابه ، ويقال في هذه الحالة إنّ الاسباب متعددة والمنزل واحد .ومن هذا القبيل ما يروىََ من أنّ النبي سئل مرتين عمّن وجد مع زوجته رجلاً كيف يصنع ؛ سأله عاصم بن عدي مرة ، وسأله عويمر مرة اُخرىََ ، واتفق في مرة ثالثة أنّ هلال بن اُمية قذف امرأته عند النبي بشريك بن سمحاء ، فكانت هذه أسباباً متعددة تستدعي نزول الوحي لتوضيح موقف الزوج من زوجته اذا اطلع علىََ خيانتها .
وما اذا كان من الجائز له أن يقذفها ويتهمها بدون بينة أو لا يجوز له ذلك الا ببينة ، فان اتهم بدون بينة استحق حد القذف ، كما هو شأن غير الزوج اذا قذف امرأة اُخرىََ ، ولاجل ذلك نزل قوله تعالىََ :
«والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلّاأنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهاداتٍ باللَّه إنّه لمن الصادقين »(5)
فكان السبب متعدداً والمنزل واحد .
وفي حالة تعدد السبب قد يوجد فاصل زمني كبير بين أحد السببين والآخر ، فيؤدي السبب الاول الىََ نزول الآية فعلاً ، ثم يتجدد نزولها حينما يوجد السبب الثاني بعد ذلك بمدة ، فيكون السبب متعدداً والنزول متعدداً وان كانت الآية النازلة في المرتين واحدة .
ويقال : إنّ سورة الاخلاص من هذا القبيل اذ نزلت مرتين ؛ احداهما : بمكة جواباً للمشركين من اهلها ، والاُخرىََ بالمدينة جواباً لاهل الكتاب الذين جاورهم النبي صلى الله عليه و آله بعد الهجرة .
وكما يتعدد السبب والمنزل واحد كذلك قد يتفق كون السبب واحداً لآيات متفرقة فقد روي أنّ اُم سلمة قالت للنبي صلى الله عليه و آله يا رسول اللَّه لا اسمع اللَّه ذكر النساء في الهجرة بشيء فنزل قوله تعالىََ :
«فاستجاب لهم ربّهم انّي لا اُضيع عمل عامل منكم من ذكر أو انثىََ بعضكم من بعض فالذين هاجروا واُخرجوا من ديارهم واُوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لاُكفّرنّ عنهم سيّئاتهم ولاُدخلنّهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثواباً من عند اللَّه واللَّه عنده حُسن الثواب »(6)
ونزل قوله تعالىََ : « إنّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات ... »(7).
فهاتان آيتان متفرقتان نزلتا بسبب واحد اُدرجت احداهما في سورة آل عمران ، والاُخرىََ في سورة الاحزاب ، وبذلك كان السبب في النزول واحداً وهو حديث ام سلمة مع النبي والمنزل متعدد .
وعلىََ هذا الاساس يجب أن لا نسرع الىََ الحكم بالتعارض بين روايتين تتحدثان عن أسباب النزول اذا ذكرت كل منهما سبباً لنزول آية يغاير السبب الذي ذكرته الرواية الاُخرىََ لنزول نفس تلك الآية ، أو اذا تحدّثت الروايتان عن سبب واحد فذكرت كل منهما نزول آية بذلك السبب غير الآية التي ربطتها الرواية الاُخرىََ به لأنّ من الممكن فهم الاختلاف بين الروايتين والتوفيق بينهما علىََ اساس امكان تعدد سبب النزول لآية واحدة أو تعدد الآيات النازلة بسبب واحد فلا يوجد بين الروايتين تعارض علىََ هذا الاساس .
العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب :
اذا نزلت الآية بسبب خاص ، وكان اللفظ فيها عاماً فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فلا يتقيّد بالمدلول القرآني في نطاق السبب الخاص للنزول أو الواقعة التي نزلت الآية بشأنها ، بل يؤخذ به علىََ عمومه ، لأنّ سبب النزول يقوم بدور الاشارة لا التخصيص .وقد جرت عادة القرآن أن ينزل احكامه وتعليماته وارشاداته علىََ أثر وقائع وأحداث تقع في حياة الناس وتتطلب حكماً وتعليماً من اللَّه ، لكي يجيء البيان القرآني أبلغ تأثيراً وأشد أهمّية في نظر المسلمين وان كان مضمونه عاماً شاملاً ؛
فآية اللعان مثلاً تشرع حكماً شرعياً عاماً لكل زوج يتهم زوجته بالخيانة وان نزلت في شأن هلال بن اُميّة ، وآية الظهار تبيّن حكم الظهار بصورة عامة وان كان نزولها بسبب سلمة بن صخر .
وعلىََ هذا الاساس اتفق علماء الاصول علىََ أنّ المتبع هو مدىََ عموم النص القرآني وشمول اللفظ فيه ، وأنّ سبب النزول مجرد سبب مثير لنزول الحكم العام وليس تحديداً له في نطاقه الخاص ؛
لأنّ مجرد نزول حكم اللعان عقيب قصة هلال بن اُميّة مثلاً لا يدل اطلاقاً علىََ أنّ الحكم يختص به ، ولا يبطل عموم اللفظ وشمول النص لسائر الازواج .
وقد جاءت نصوص عن أئمة أهل البيت عليهم السلام تعزز هذا المعنىََ وتؤيده ؛ ففي تفسير العياشي عن الامام محمد بن علي الباقر عليه السلام أ نّه قال : « ... إنّ القرآن حيٌّ لا يموت ، والآية حيّة لا تموت ، فلو كانت الآية اذا نزلت في الأقوام وماتوا ماتت الآية لمات القرآن ، ولكن هي جارية في الباقين كما جرت في الماضين »(8) .
وعن الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام أ نّه قال : « إنّ القرآن حيٌّ لم يمت وإ نّه يجري كما يجري الليل والنهار ، وكما تجري الشمس والقمر ، ويجري علىََ آخرنا كما يجري علىََ أوّلنا »(9)
« ... فلا تكوننّ ممّن يقول للشيء : إنّه في شيء واحد »(10) .
المصادر :
1- التوبة : 107
2- الإسراء : 85
3- النساء : 51
4- البقرة : 158
5- النور : 6
6- آل عمران : 195
7- الأحزاب : 35
8- تفسير العياشي 2 : 203
9- المصدر السابق
10- الكافي 2 : 156 ، الحديث 28