استفهامات حول واقعة الطف

وردَ في التاريخ أنّ الحسين ( عليه السلام ) جَمع أصحابه ليلة اليوم العاشر من المحرّم ، وأذِنَ لهم بالانفصال عنه والتفرّق في البلدان لكي ينجوا من القتل ، وقال فيما قال : ( ألا وإنّي لأظنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً ، ألا وإنّي قد أذنتُ لكم جميعاً ،
Saturday, January 21, 2017
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
استفهامات حول واقعة الطف
استفهامات حول واقعة الطف

 





 

وردَ في التاريخ أنّ الحسين ( عليه السلام ) جَمع أصحابه ليلة اليوم العاشر من المحرّم ، وأذِنَ لهم بالانفصال عنه والتفرّق في البلدان لكي ينجوا من القتل ، وقال فيما قال : ( ألا وإنّي لأظنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً ، ألا وإنّي قد أذنتُ لكم جميعاً ، فانطلقوا في حِلٍّ ليس عليكم منّي حرج ولا ذمام ، وهذا الليل قد غَشيكم فاتّخذوهُ جَمَلاً ، ثمّ ليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي ، وتفرّقوا في سواد هذا الليل ، وذَروني وهؤلاء القوم ؛ فإنّهم لا يريدون غيري ، ولو أصابوني لذُهلوا عن طلب غيري ) (1)
فرفضوا ولم يتفرّقوا ، فهنا قد تَرد عدّة أسئلة :
إحداها : لماذا أذِن لهم بالتفرّق عنه مع حاجته إليهم في الدفاع عنه ؟
ثانيها : لماذا لم يتفرّقوا عنه ، وماذا كان هدفهم في ذلك ؟
ثالثها : إنّهم كان يجب عليهم أن يهربوا ؛ لأنّ التعرّض للقتل حرام ، فلماذا لم يفعلوا ؟
أمّا عن السؤال الأوّل : فأوّل خطوة ينبغي اتخاذها بهذا الصدد هو : نفي ما زَعمه السائل من أنّ الحسين ( عليه السلام ) كان محتاجاً إلى أصحابه في الدفاع عنه ، بل لم يكن من حاجة إلى ذلك أصلاً ؛ لأنّه يعلم أنّه مقتول لا محالة ، ولم يكن في وضعٍ يؤهّله للنجاة طبيعياً بكلّ صورة ، ولم يكن كلّ أصحابه بالعدد الكافي للدفاع عنه ، وإنّما يدور الأمر بين مقتله وحده أو قتله مع أصحابه ، أمّا التسبيب إلى نجاته فهو غير محتمل إطلاقاً .
وقد كان ذلك غير محتمل في زمنٍ سابق حال وجوده في الحجاز ، أو حين بَلَغه خبر مقتل مسلم بن عقيل وهو في الطريق ، أو حين جعجعَ به الحرّ الرياحي ، ففي مثل وقته هذا وقد تجهّز عليه الجيش كلّه ، يكون العلم بالنتيجة أولى وروداً وأوضح ثبوتاً ، هذا مضافاً إلى ما حصلَ فعلاً تاريخيّاً : وهو أنّ أصحابه صَمدوا معه وحاربوا إلى جنبه ، ومع ذلك لم يدفعوا عنه القتل وهذا كان معلوماً سَلفاً ، وقد ثبتَ بالتجربة صدقه .
فإذا انتفت حاجتهُ إليهم عمليّاً لم يكن هناك إشكال شرعي في الإذن لهم بالتفرّق ، و لا يجب عليه الاحتفاظ بهم ؛ لأنّهم سوف لن يسعفوه بشيء .
بل الأمر قد يكون بالعكس : وهو أنّه ( عليه الصلاة والسلام ) قد يحسّ بتكليفه الشرعي بلزوم أمرهم بالانصراف ، إنقاذاً لهم من الموت الذي يمكن أن يكونوا في غنىً عنه ، مضافاً إلى جهة أخرى وهي : الحفاظ على النفوس ، يعني الحفاظ على جماعة من المؤمنين الذين يصلحون للدعوة إلى قضية الحسين ( عليه السلام ) وهداية الناس ، وقد قام ( عليه السلام ) بهذه المهمّة ، ومن هنا قد يتخيّل الفرد أنّه يجب عليهم أن يتفرّقوا لأجل إحراز هذه النتائج ، وسيأتي الكلام عنه .
إلاّ أنّ الحقيقة أنّ المقصد الرئيسي ـ حسب ما نفهم ـ لم يكن هو ذلك ، بل كان لأجل اختبار هِممهم في نصره وفي السير في سبيل الشهادة ، وتحصيل طاعة الله ورضاه سبحانه من هذه الناحية ، ومن هنا يمكن أن يقعوا تحت طائلة نفسية قوية في التضاد ، أو في الشعور المتضاد في ضرورة البقاء وضرورة الذهاب ، إلاّ أنّهم مع ذلك لم يفكّروا طرفة عينٍ في الذهاب ، بل أدركوا بكلّ وضوح ضرورة البقاء مع الحسين ونيل الشهادة بين يديه ، جزاهم الله خير جزاء المحسنين ، وبذلك صاروا أفضل الشهداء على الإطلاق .
ويمكن الاستدلال على أنّ أصحاب الحسين ( عليه السلام ) هم أفضل الشهداء ؛ وذلك على مستويين :
الأوّل : وهو قول الإمام الحسين ( عليه السلام ) عندما خطبَ بأصحابه ، ومَن معهُ من آل هاشم ليلة العاشر من المحرّم حيث قال : ( أمّا بعد ، فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي ، ولا أهل بيتٍ أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي ، فجزاكم الله عنّي جميعاً خيراً ...... إلخ ) ، نقلهُ ابن طاووس في اللهوف ، والفتّال في روضة الواعظين ، والطبري في تاريخه ، وابن الأثير في الكامل ، والخوارزمي في مقتله ، والمفيد في الإرشاد ، وابن شهرآشوب في المناقب ، وغيرهم كثير ) .
وبهذا يكون قد صرّح الإمام ( عليه السلام ) أنّ أصحابه أفضل الأصحاب فقوله : (..... لا أعلم......) ينفي فيها عن وجود أصحاب أفضل من أصحابه قد وجِدوا قبل زمانه ، سواء كان قبل الإسلام أو بعد الإسلام ، ممّن صاحبَ جدّه الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) ، أو أباه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، أو أخاه الحسن ( عليه السلام ) ، بل يتعدّى الأمر إلى ما بعد زمانه باعتبار أنّ الأئمّة ( عليهم السلام ) ـ ومن ضمنهم الإمام الحسين ( عليه السلام ) ـ يعلمون من جدّهم الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) ما يحدث بعدهم إلى يوم القيامة .
الثاني : إنّا لو أخذنا أصحاب النبي ( صلّى الله عليه وآله ) وبالخصوص البدريّون ـ باعتبار أنّه الصحابة الأوائل ، أو أفضل الصحابة بشهادة جميع المذاهب الإسلاميّة وفيهم يُضرب المثل ، وجَعلِهم القدوة لمَن أراد الجهاد في سبيل الله ، فترى الإمام ( عليه السلام ) يخاطب أبا الفضل ( عليه السلام ) عند زيارته : ( وأشهدُ أنّك مضيتَ على ما مضى عليه البدريّون ) ـ وقارنّا بينهم وبين أصحاب الحسين ( عليه السلام ) ، لوجَدنا فروقاً كثيرة بين الفريقين وبالأخص ممّن قُتل بين يدي رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) في بدر ، وبين يدي الحسين ( عليه السلام ) في كربلاء ، فمن هذه الفروق وبما يَسمح به المقام :
1ـ إنّ أصحاب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) البدريين حينما خَرجوا مع النبي ( صلّى الله عليه وآله ) إلى بدرٍ ، كان عنوان خروجهم الغنيمة ، وذلك بالاستيلاء على قوافل قريش ، ولكن عندما فاتهم أبو سفيان وجاء أبو جهل ومَن معه وأصرّ على محاربة الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) ، عند ذلك وطّد الرسول نفسه ومَن معه للقتال ، فتغيّر العنوان من حرب اقتصادية إلى حرب عسكرية .
بينما أصحاب الحسين ( عليه السلام ) فقد كانوا يعلمون منذ البداية أنّه لا يوجد غنيمة ؛ وإنّما ذهابهم إلى موتٍ لابدّ منه ، فالحسين أخبرهم بهذا منذ بداية خروجه ، فنراه مثلاً في إحدى خُطبه يقول : (..وكأنّي بأوصالي هذه تُقطّعها عَسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء .. إلخ ) .
إذاً أصحاب الحسين كانوا يعلمون أنّهم قادمون إلى الموت وليس إلى الغنيمة ، بل للقتال فقط .
2ـ إنّ أصحاب الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) وعِدوا بإحدى الطائفتين : ( وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ ) ( الأنفال : آية 7 ) أي : إمّا الإبل ( والتي تَحمل الأموال والغنائم ) ، وإمّا النفير ( أي القتال ، ونتيجة الحرب تكون لهم ) ، وكلا الطائفتين فيها فائدة دنيوية إضافةً إلى الثواب الأخروي .
أمّا الحسين ( عليه السلام ) فلم يُخبر أصحابه إلاّ بطريقٍ واحد ، وهو الموت الذي يؤدّي بهم إلى دخول الجنّة .
3ـ من الناحية العسكرية : إنّ الجيش الذي واجهَ الرسول في بدر ، لم يكن جيش دولة منظّمة ؛ إنّما كان جيش قَبَلي ( أي عشائري ) ، وتركيبتهُ تركيبة قَبَلية .
أمّا الجيش الذي زَحفَ إلى الحسين ( عليه السلام ) ، فقد كان جيشاً نظامياً فهو يمثّل جيش دولة كبرى ، وهذه الدولة استفادت من تجاربها بحروبها مع الغرب والشرق : ( كالروم ، والفرس ) ببناء جيش منظّم ، إذاً فتركيبتهُ من الناحية الفنّية العسكرية يختلف تماماً عن الجيش الذي واجه الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) في بدر .
4ـ من الناحية التعبوية : فلو أخذنا النسبة بين أصحاب الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) وبين المشركين الذين قاتلوهم في بدر ، فهي الثلث تقريباً ؛ لأنّ المسلمين كانوا (313) ، بينما المشركين كانوا في حدود الألف تقريباً .
أمّا لو أخذنا النسبة بين أصحاب الحسين ( عليه السلام ) إلى نسبة الجيش الزاحف عليهم ، لوجدناهم ثلث عشر العشر على أقلّ تقدير ، فلو أخذنا الرواية التي تقول : إنّ أعداء الحسين الذين قاتلوه في كربلاء ( 30 ألف ) ، والتي هي عن الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، وأخذنا أكبر رقم ذُكر عن عدد أصحاب الحسين والذي هو مئة ألف ، فنجد النسبة بينهما ثلث عُشر العشر ؛ لأنّ عُشر (30000) هو (3000) ، وعُشر الثلاثة آلاف هو ثلاثمئة وثُلثها مئة .
5ـ إنّ أصحاب الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) كان لديهم وضوح في المعركة بشكلٍ كامل ؛ ذلك لأنّ معركة بدر كانت بين كفرٍ صريح يمثّله أبو جهل وعتبة وأضرابهم ، وبين الإسلام الذي يمثّله المصطفى ( صلّى الله عليه وآله ) ، فهو واضح ليس فيه لبس .
بينما في معركة الطف كانت هناك عدّة فتن وشُبهات تغصّ بها الأمّة الإسلامية ، فمن تلك الفتن مثلاً : إنّ كلا المُتقاتلين ينتمون إلى الأمّة الإسلاميّة فهما ذات قبلة واحدة ظاهراً ، إضافة إلى الفتن الأخرى كفتنة الخلافة ، وهل هي بالتعيين أم بالشورى ؟ وفتنة مقتل الخليفة الثالث ، وما ترتّب عليه من الحروب الثلاثة : ( الجمل ، وصفّين ، والنهروان ) ، والأحاديث التي خرّجها بنو أميّة في طاعة وليّ الأمر المطلقة ، سواء كان عادلاً أو جائراً ..وأنّ الحسين قد خرجَ على إمامه وخليفة عصره ( أي يزيد ) ، وأنّه بخروجه يُلقي نفسه في التهلكة المحرّمة ، وشقّ عصا المسلمين بذلك ، وجَعل الفتنة بينهم ، وقَتل الكثير منهم .. إلخ ، ممّا كان يجعل وجود شبهات وتساؤلات حول نهضة الحسين ( عليه السلام ) .
6ـ إنّ أصحاب الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) عند خروجهم لواقعة بدر تركوا عوائلهم في المدينة ، وبذلك قد اطمئنّوا عليهم وأنّهم في أمان .
أمّا الحسين ( عليه السلام ) وكثير من أصحابه كانت عوائلهم معهم ، وهنا يكون خوفهم على عوائلهم من السبي والأذى أمراً راجحاً جدّاً ، فيكون سبباً مهماً في تخاذلهم ورجوعهم عن القتال للحفاظ على تلك العوائل والأعراض .
7ـ إنّ الرسول وأصحابه سُدّدوا بتسهيلات كثيرة من السماء : كنزول الملائكة للقتال معهم ، وهطول المطر لإطفاء ظمأهم وتسديد الرَمية التي يرمونها ، والربح التي اقتلعت أخبية الأعداء ، والحصى التي رمى بها الرسول جبهة المشركين فانهزموا على إثر ذلك ، والنُعاس كما في قوله : ( إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ ) ( الأنفال : آية 11 ) لتستريح أعصابهم .
والأمر الآخر أيضاً : إنّ الله قلّل عدد المشركين في أعين المسلمين ..إلخ ، إذاً فهناك تسديدات وتسهيلات سماويّة لأصحاب الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) .
أمّا الحسين ( عليه السلام ) وأصحابه فالأمر يختلف ؛ إنّما شاء الله أن تسير الأمور في واقعة الطف بشكل طبيعي ، بل وبوجود بعض الابتلاءات للحسين ( عليه السلام ) وأصحابه ، كابتلائهم بالعطش بقطع الماء عنهم .
فلو عَلمنا ـ كما أشرنا إلى ذلك مُسبقاً ـ أنّ شهداء بدر على ما قيل هم أفضل الشهداء ، فمع هذه الفروق وغيرها يكون أصحاب الحسين ( عليه السلام ) قد تفوّقوا عليهم وبذلك تكون الأفضليّة لهم .
وأمّا السؤال الثاني : وهو عن سبب التحاقهم به وعدم تفرّقهم عنه ـ بالرغم ممّا سبقَ قبل قليل من احتمال وجوب ذلك في ذِممهم ـ فجواب ذلك يتمّ على عدّة مستويات نذكر منها :
المستوى الأوّل : إنّ المهمّ في نظر المؤمن ليس هو النظر إلى التكليف الشرعي بالذات ، بل إلى رضاء الله عزّ وجل ، وإنّما يكون تطبيق التكليف وطاعته مقدّمة لذلك وأسلوباً لتحصيله ، فإذا أحرزَ الفرد أنّ هناك منبعاً لرضا الله عزّ وجل أفضل وأهم وأعلى من مجرّد تطبيق بعض الأحكام ، كما أحرز أصحاب الحسين ( عليه السلام ) ، كان لهم بل لزمهم اختيار الأفضل والمحلّ الأعلى لا محالة .
المستوى الثاني : إمكان المناقشة في ذينك التكليفين اللزوميين اللذين أشرنا إليهما فيما سبق ، وذلك بالقول إنّهما كانا ساقطَين تماماً عن ذمّة هؤلاء الجماعة الناصرين للحسين ( عليه السلام ) ، بالرغم من أنّ مقتضى القواعد المعروفة ثبوتها في كثيرٍ من الموارد الأخرى .
أمّا التكليف الشرعي بهداية الناس والدفاع الكلامي عن قضية الحسين خاصّة والدين عامّة ؛ فلأنّ ذلك كلّه لم يكن يتوقّف عليهم ولا يستند إليهم ، بل هم يعرفون وجود ناس آخرين على قدر الحاجة متفرّقين في البلدان يمكن أن يقوموا بهذه المهام ، ومن المعلوم أنّه مع وجود ما يكفي للحاجة يكون التكليف الإلزامي الكفائي ساقطاً عن الآخرين .
وأمّا الجواب على السؤال الثالث ـ وهو المحافظة على النفس وحرمة إلقاء النفس في التهلكة ، أو قل وجوب الهرب عن مثل هذا السبب : فلا شكّ أنّهم عَلموا بجواز البقاء مع الحسين ( عليه السلام ) ، حتّى لو أذنَ لهم بالتفرّق ؛ فإنّه لم يأذن لهم إلزاماً ، وإنّما أذِن لهم جوازاً للقتل ، وإذا عرفوا منه ـ وهو آمرهم وإمامهم ومصدر شريعتهم ـ جواز البقاء والتعرّض للقتل ، إذاً فقد سقطَ تكليفهم بذلك أمامَ الله عزّ وجل ، فلم يبقَ أمامهم إلاّ البقاء وتحصيل المقامات العليا التي ينالونها بالشهادة .
المستوى الثالث : مستوى الامتحان أو التمحيص الذي مرّوا به وأحسّوا به .
وقد أسلفنا أنّه من الواضح أنّ المقصود الرئيسي للحسين ( عليه السلام ) في الإذن لأصحابه بالانصراف : هو امتحان درجة همّتهم في نَصره واستعدادهم للفداء دونه ، ومن هنا وردَ في الرواية : ( ولقد بَلوتهم ، فلم أجدُ فيهم إلاّ الأشوس الأقعس يستأنسون بالمنيّة دوني استئناس الطفل إلى محالب أمّه ) (2) .
فهذه هي نتيجة التمحيص والامتحان وهي نتيجة ناجحة ، ولو كانوا قد قالوا غير ذلك لفشلوا في نظر الحسين ( عليه السلام ) ، ولم يؤدّوا تكليفهم الكامل أمام الله وأمام إمامهم ومصدر شريعتهم ، والظاهر أنّ فيما ذكرناه الكفاية عن الدخول في المزيد من التفصيل .
الجهة الثانية : قالوا في تاريخ واقعة الحسين ( عليه السلام ) : إنّ العبّاس ( عليه السلام ) حين ذهبَ ليملأ القربة بالماء ، وحاربَ أعداءه إلى أن وصلَ إلى ضفّة النهر ، قالوا : ثمّ اغترفَ غرفة من الماء وأدناها من فمه ليشرب ، ثمّ رمى بها من يده وقال :
يا نفسُ من بعد الحسين هوني وبعدهُ لا كنتِ أن تكوني
هذا الحسين وارد المَنون وتشربينَ بارد المعينِ
تالله ما هذا فعالُ ديني
فقد يخطر في البال السؤال عمّا إذا كان الأولى بالعبّاس ( عليه السلام ) شُرب الماء ، للتقوّي على الأعداء ، ومن ثَمّ نصرة الحسين ( عليه السلام ) ، ومن ثمّ نصرة الدين أساساً ؟
إلاّ أنّه ينبغي أن يكون الجواب واضحاً بعد كلّ الذي سبقَ أن عرفناه ؛ وذلك على عدّة مستويات ، نذكر منها :
المستوى الأوّل : إنّه لم يكن يوجد أيّ سبب في ذلك الحين ممّا يؤدي إلى نجاة الحسين ( عليه السلام ) من القتل ، فحتّى لو شَرب العبّاس الماء بالمقدار الذي يحتاجه جسمه أو أكثر ، وتشجّع وقاتلَ أكثر ممّا قاتل ، فإنّه لم يكن بالممكن أن ينجو هو ولا أخوه الحسين ( عليه السلام ) من القتل ، بل السبب لقتلهم موجود ومتحكّم لا محالة .
المستوى الثاني : إنّه وجدَ من الخيانة لأخيه وذويه أن يكون ريّاناً بالماء وهم عطاشا ، وهذا ما يُصرّح به التاريخ (3) ، وقد نطقَ به الشعر الذي نقلناه عنه بصراحة ، وهو أدب إسلامي عالي أمام الله سبحانه ، ومن هنا قال : ( تالله ما هذا فعال ديني ) .
المستوى الثالث : إنّه شعرَ بتكليفه في ذلك الحين بوجوب الإعراض عن شُرب الماء وأطاع تكليفه ذاك ، وهذا الشعور يكون بأحد أساليب : إمّا بالإلهام ، أو بالرواية عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، أو عن فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) ، كما نُقل في بعض الروايات (4) .
المستوى الرابع : إنّه ( عليه السلام ) أراد أن يموت عطشاناً عَمداً أمام الله سبحانه ؛ لأنّ ذلك أكثر أجراً وأعلى مقاماً ، ومن هذا القبيل ما رويَ عن أبيه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) عندما دُعي إلى مأدبة ، فأكلَ ثلاث لقم فقط ثمّ سحبَ يده ، فقال له ابن عبّاس : هلاّ أكلتَ يا أمير المؤمنين ؟ فقال : ( إن هي إلاّ ثلاث وأريد أن ألقى ربّي خميصاً ) (5).َ
إذاً فكان أمير المؤمنين يريد أن يلقى الله جوعاناً ، فكذلك ابنه العبّاس يريد أن يلقى الله عطشاناً .
وينبغي أن نلتفت أنّ المستوى الأوّل هو الأهمّ فقهيّاً ، وهو الذي فتحَ الباب للعبّاس ( عليه السلام ) إلى أحد المستويات الثلاثة الأخرى ؛ لوضوح أنّ شرب الماء لو كان سبباً للنجاة كان واجباً ، ولا تقوم أمامه المستويات الأخرى إطلاقاً ، إلاّ أنّنا عرفنا أنّه لا يُحتمل فيه ذلك .
الجهة الثالثة : إنّه نقلَ إلينا التاريخ : أنّ عليّ بن الحسين الأكبر ( عليه السلام ) خرجَ إلى الحرب فترةً من النهار ثمّ رجعَ إلى الحسين ( عليه السلام ) فقال : ( يا أبه ، العطش قد قَتلني وثِقل الحديد قد أجهدَني ، فهل إلى شُربة ماء من سبيل أتقوّى بها على الأعداء ) ،
فبكى الحسين ( عليه السلام ) وقال : ( واغوثاه ، من أين آتي لك بالماء ، قاتِل قليلاً فما أسرع ما تلقى جدّك رسول الله ، فيسقيك بكأسه الأوفى شُربة لا تظمأ بعدها أبداً ) (6) .
ورويَ أنّ الحسين ( عليهم السلام ) قال له : ( يا بُني هات لسانك ، فأخذَ لسانه فمصّه ودفعَ إليه خاتمه الشريف : وقال له : يا بُني أمسكهُ في فَمك وارجع إلى قتال عدوّك ) (7) .
أقول : وفي النتيجة أنّه لم يَدفع له شربة ماء ، فقد يُثار السؤال عن السبب في ذلك وخاصّة عن استعمال المعجزة في هذا الصدد ؟
وجوابُ ذلك على عدّة مستويات نذكر منها :
المستوى الأوّل : ما يشبه ما ذكرناه في المستوى الرابع من الحديث عن العبّاس ( عليه السلام ) : من أنّ المصلحة عند الله عزّ وجل تقتضي أن يستشهد عطشاناً هكذا أراد له أبوه ، وهكذا أراد لنفسه ، وقيل : لغرضٍ من أبيه .
المستوى الثاني : إنّ المستوى الطبيعي أو السبب الطبيعي كان متعذّراً تماماً ، ولذا قال الحسين ( عليه السلام ) في الرواية : ( واغوثاه ، من أين آتي لك بالماء ؟ ) .
وأمّا مستوى المعجزة : فقد سبقَ أكثر من مرّة أنّ أسلوب الإسلام من عصر النبي ( صلّى الله عليه وآله ) فما بعده ، لم يكن قائماً على ذلك ( لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ) (8) ، ولا شكّ أنّ أسلوب المعجزة يختلف عن ذلك . المستوى الثالث : ما تقولهُ الرواية من أنّه مدّ لهُ لسانه وأعطاه خاتمهُ ، وكلّنا نعرف أنّ اللُعاب يمكن أن يتحلّب مع وجود شيء في الفم ، فيشعر الفرد بشيء من الارتواء ، ويُساعده ذلك على تحمّل الحرب .
الجهة الرابعة : قالوا ـ كما في بعض المقاتل عن رضيع للحسين ( عليه السلام ) ـ : ( ثمّ أتى به نحو القوم يطلب له الماء ، وقال : ( إن لم ترحموني ، فارحَموا هذا الطفل ) ، فاختلفَ العسكر فيما بينهم ، فقال بعض : إنّ كان ذنبٌ للكبار فما ذنب الصغار ، وقال آخرون : لا تُبقوا لأهل هذا البيت باقية ، وكادت الفتنة أن تقع بينهم ، فصاح ابن سعد في حرملة بن كاهل : اقطع نزاع القوم ، قال : فوضعتُ السهم في كبد القوس ، وقلت : أللوالد أم للولد ؟ قال : بل الولد ، فرميتهُ وهو في حِجر أبيه فذبحته من الوريد إلى الوريد ، فتلقّى الحسين الدم بكفّه ورمى به نحو السماء ) (9) .
فقد يخطر في الذهن : إنّه لماذا أخذَ الحسين رضيعه إلى جانب الأعداء ؟ مع أنّه من الواضح حصول قتله على أيديهم ، وهو أمر لا يخفى على الحسين ( عليه السلام ) ، حتّى بالتسبيب الطبيعي فضلاً عن العلم الإلهامي ، ويمكن الجواب على ذلك على عدّة مستويات نذكر منها :
المستوى الأوّل : إقامة الحجّة على الأعداء ، وفضحهم في النتيجة ، إذ يثبت بالحسّ والعيان قتلهم للأطفال والعُزّل ، وهو أمرٌ يثبت على عدّة مستويات منها : أمام أفراد الجيش المعادي نفسه ، ومنها : أمام الجيل المعاصر للحسين ( عليه السلام ) ، ومنها : أمام الأجيال المتأخّرة عنه ، ودلالة ذلك : ما سمعناه عن المؤرّخين من وقوع الخلاف بين أفراد الجيش المعادي ، فقال بعض المنصفين منهم : ( إذا كان ذنبٌ للكبار فما ذنب الصغار ) ، وقال بعض المُعاندين : ( لا تُبقوا لأهل هذا البيت باقية ) ، فقد حصلَ التمحيص والامتحان آنيّاً ، فضلاً عن إقامة الحجّة في المدى القريب والبعيد .
وينبغي أن نلتفت أيضاً : إلى أنّ هذا المستوى من التفكير يقتضي التسليم بأنّ الحسين ( عليه السلام ) رأى أنّ إقامة الحجّة أمام الأعداء ، ذو مصلحة أكيدة حتّى لو فدى في سبيلها ولدهُ الرضيع ، وهذا أمرٌ مقنع وجداناً ؛ لأنّ ما حصل من فضيحة هؤلاء لم يكن له مثيل .
المستوى الثاني : إنّ الحسين ( عليه السلام ) أراد التضحية بولده أمام الله سبحانه قبل موته واستشهاده ، ومثلهُ ما رويَ عن العبّاس ( عليه السلام ) ، حيث قال لأخوته الذين كانوا معه في واقعة الطف : ( تقدّموا يا بَني أمّي لكي أحتسِبكم أمامَ الله سبحانه ) (10) ، فهو يَعتبر استشهاد أخوته عملاً وطاعة له شخصياً ، ففي مثل ذلك فكّر الحسين ( عليه السلام ) .
المستوى الثالث : إنّ الإمام الحسين ( عليه السلام ) نفّذ قضاء الله وقدره الذي يعلمه بالإلهام أو بالرواية ، والذي لم يكن منه بُدّ ، بل كان واجباً عليه تنفيذه كوجوب صلاة الظهر علينا ، وقد ضحّى به امتثالاً لأمر الله سبحانه وتسليماً لقضائه .
ومن هنا وردَ عن لسانه : ( شاء الله أن يراهنّ سبايا ) ، وعن طفله : ( شاء الله أن يراه مذبوحاً ) ، والمشيئة إمّا أن تكون تكوينية يعني من القضاء والقدر ، أو تشريعية يعني التكليف والوجوب ، وهي على كلا التقديرين محبوبة لأهل الله سبحانه ومنهم الحسين ( عليه السلام ) ، وهناك مستويات أخرى من الوجوب لا حاجة إلى التطويل بها .
الجهة الخامسة : رويَ أنّه كان من جملة أساليب المحاربة ضدّ الحسين ( عليه السلام ) بعد مقتل أصحابه وأهل بيته : أنّه رماهُ أحد القوم بسهم محدّد مسموم له ثلاث شُعب وقعَ على صدره ، وفي بعض الروايات : وقعَ على قلبه ، فأخذَ السهم فأخرجه من قفاه فانبعث الدم كالميزاب ) (11) .
فهنا قد يحصل سؤالان :
السؤال الأوّل : كيف يمكن أن يكون للسهم ثلاث شُعب وهذا غير معهود في التاريخ ، بل لا يصلح مثل ذلك للرمي كسائر السهام ؟
والسؤال الثاني : عن إخراجه من قفاه ، وهل يمكن ذلك ؟ وإذا أمكنَ فهو يؤدّي إلى الوفاة فوراً ، مع أنّ هذا لم يحصل ؟
أمّا الجواب عن السؤال الأوّل : فبعد تسليم صحّة سند الرواية ، لا نجد أنّها تشير إلى أنّ الشُعب الثلاث متساوية في الارتفاع أم لا ، ولا أنّها قد أصابت جميعاً صدر الحسين ( عليه السلام ) ، بل من الممكن أنّه يكون لهُ رأس واحد كبير ورأسان أصغر منه ، والتأثير الأساسي ـ سواء في الرمي أو في الإصابة ـ للكبير دون الصغيرين ؛ وإنّما تأثيرهما جانبي أو قليل ولا يمنعان الرامي من الرمي ، ولا السهم من الانطلاق ، مضافاً إلى أنّه من المحتمل أن تكون الشُعب الثلاث من خلف النبلة لا من أمامها .
وأمّا الجواب عن السؤال الثاني : بعد تسليم صحّة سند الرواية أيضاً ، احتمال أن يكون الضمير في قولنا : أخرجهُ من قفاه ، يعني السهم ، أي : سَحبَ السهم من قفاه ، وهو أمرٌ اعتيادي وما لابدّ من وقوعه ، لو كان في الفرد جرأة على سحب السهام من جسمه ، وإنّما تدفّق الدم بكثرة باعتبار كثرة انغراسه في جسم الحسين ( عليه السلام ) ووجود شُعب فيه .
هذا ، مضافاً إلى أنّ الضمير المشار إليه إذا رجع إلى الحسين ( عليه السلام ) ، أمكن القول بأنّ السهم لم يقع في وسط صدره ، بل في أحد جانبيه نسبياً .
ومن هنا لم يكن إخراجه من القفا مستلزماً لتشقّق القلب أو إحدى الرئتين ، لتحدث الوفاة السريعة .
وأمّا عدم تأثير السمّ فيه سريعاً ، مع أنّه وردنا في التاريخ كون السهم مسموماً (12) كما سمعنا ؛ فإنّ ذلك يُعزى إلى تدفّق الدم بكثرة ، الأمر الذي أوجبَ خروج المواد السامّة مع الدم بعد سحب السهم نفسه .
هذا ، وفي كلّ ذلك فإنّ الاحتمال مُبطل للاستدلال وقاطع للسؤال ، ولا نحتاج إلى الجزم أو التأكيد على أحد الوجوه بالذات .
الجهة السادسة : ورَدَنا في التاريخ : ( أنّه بعد أن حاربَ الحسين ( عليه السلام ) أعداءه وسقط على الأرض ، أمرَ قائد الجيش المعادي جماعة منهم أن يركبوا الخيول ويدوسوا بحوافرها جسد الحسين ( عليه السلام ) ، فانتدبَ لهُ عشرة من الفوارس ، فداسوا جسد الحسين بخيولهم حتّى رضّوا ظهره وصدره ) (13) .
وقد سمعتُ شخصاً مَن يستشكل على ذلك بما مؤدّاه : ( إنّني راكب مُجيد للخيل وأعرف طبائعها ، فهي تقفز القفزة الطويلة وتتحاشى في طريقها العوائق ، ومن المعلوم أنّ جسد الإنسان مهما يكن ضخماً لا يُعدّ عائقاً مهمّاً عن سير الفرس ، ممّا يُسبّب استبعاد أن يتعمّد الفرس وضع حوافره على جسد الإنسان ، بل سوف يتجنّبه لا محالة ) .
مضافاً إلى سؤالين آخرين لا يخلوان من أهمية :
السؤال الأوّل : إنّ الخيل لو داست الجسد الشريف أو جسد أي إنسان ، فسوف لن تؤثّر فيه أثراً يُذكر لصلابة لحمه وقوّة عظمه .
والسؤال الثاني : إنّ المتوقّع أن تتحامى الخيل وتتجنّب عن عمد الدوس على الجسد الشريف وتعصي راكبيها ، وإن كانت حيوانات ؛ لأنّ الجسد الشريف من وضوح الأهمية والعظمة بحيث لا يخفى حتّى على الحيوانات ، وخاصّةً لحيوان ذكي كالفرس ، أو لأنّ هذه مهانة لا ينبغي أن يريدها الله عزّ وجل لوليّه الجليل ( عليه السلام ) ، فلابدّ أن يَصرف هذه الحيوانات عند عملها هذا على كلّ حال .
أمّا الجواب عن السؤال الأوّل ـ وهو الرئيسي الذي عرضناه في هذه الجهة ، وهو عن تجنّب الفرس الدوس على جسد إنسان ، بل نراها تطفر فوقه لا محالة ـ : وهذا صحيح لو نظرنا إلى طبيعة الفرس في الظروف الاعتيادية ، أو قل : إذا نظرنا إلى السير الاعتيادي للفرس ، إلاّ أنّ هذا النظام سوف يختلّ بكلّ وضوح لو أراد راكبها على أن يكون فارساً ماهراً ، بأن يأمرها أو يقهرها على أن تدوس على أيّ شيء ، فهي سوف تفعل لا محالة .
وهذا واضح لا ينبغي الشكّ فيه ، ومعه ينسدّ ذلك السؤال تماماً بل يبدو سُخفه وضِعته .
وأمّا السؤال الثاني : وقد كان عن صلابة الجسد بحيث لا يمكن أن تؤثر فيه الخيل ، فهو أسخف من سابقه ؛ لأنّنا إن تحدّثنا عن اليدين والرجلين ، كان لهذا السؤال قسطٌ من الوجاهة ، وأمّا لو تحدّثنا عن الجسد نفسه ، أو ما يسمّى بالجذع طبياً ـ وهو المتكوّن من الصدر والبطن ـ فلا وجه للسؤال أصلاً .
وأمّا السؤال الثالث : وهو عن تجنّب الحيوان فعل ذلك هيبة للحسين ( عليه السلام ) وإجلالاً ؟
فجوابهُ : إنّ هذا إنّما يكون بالمعجزة دون غيرها ، وقد كرّرنا عدم إمكان وقوعها في مثل ذلك ، وإذا أراد الله سبحانه مزيد البلاء لمزيد الثواب للحسين ( عليه السلام ) ، ففي قدرته جلّ جلاله أن يحجب هيبة الحسين وعظمته عن هؤلاء الحيوانات ، ويدعها تعمل على المستوى الطبيعي ، ومن المعلوم أيضاً أنّ الله عزّ وجل حين يريد المزيد من البلاء ، فإنّ جزءاً مهمّاً منه سيكون هو تحمّل المهانة لا محالة ، وهذا لا ينافي ما قلناه في أوّل هذا البحث من أنّ الحسين ( عليه السلام ) لم يجد الذلّة ،
ولم يمرّ بها على الإطلاق ؛ لأنّ غاية ما يثبت هنا : هو أنّ الأعداء أرادوا له الذلّة ، وهذا أمرٌ أكيد لا نستبعده عنهم ، أمّا وقوعها حقيقة عليه أو وقوعه فيها ، فهذا ما نحاشيه سلام الله عليه ؛ فإنّ ( وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) (14) .
الجهة السابعة : قالوا : ( وأقبلَ فرس الحسين بعد سقوطه ( عليه السلام ) عنه ، يدور حوله ويُلطّخ عُرفه وناصيته بدمه ، فصاحَ ابن سعد بقومه : دونَكم الفرس ؛ فإنّه من جياد خيل رسول الله ، فأحاطت به الخيل ، فجعلَ يضرب برجليه حتّى قتلَ رجالاً وأفراساً كثيرة ، فقال ابن سعد : دعوهُ ننظر ما يصنع ، فلمّا أمنَ الطلب ، أقبلَ نحو الحسين ( عليه السلام ) ، فأخذَ يمرِّغ ناصيته بدمه ويشمّه ويصهل صهيلاً عالياً ، ثمّ توجّه إلى المخيّم بذلك الصهيل الحزين ) (15) ، وفي بعض الأخبار المنقولة أنّه : (ضربَ رأسه بعمود الخيمة حتّى مات ) (16) .
فقد يقع السؤال : عن إمكان إدراكه وتشخيصه للموقف بغضّ النظر عن حصول المعجزة ، وهو حيوان وليس بإنسان بطبيعة الحال .
وجواب ذلك : إنّنا إن أخذنا بفكرة المعجزة ، أمكنَ القول بأنّ معاشرة المعصومين ( سلام الله عليهم ) من قِبل الإنسان والحيوان معاً ، مؤثّرة في تكامله وفهمه ، كلّ واحدٍ بمقداره واستحقاقه واستعداده ، أمّا كيفيّة تقبّل ذلك بالنسبة إلى الحيوان ، فهو أمر غير واضح ؛ لأنّ مستوى فهم الحيوانات أمر غير واضح بدوره ، إلاّ أنّ عدم وضوحه لا يعني عدم ثبوته ولو بنحو الاحتمال القاطع للاستدلال .
وإن لم نأخذ بفكرة المعجزة ، فمن الأكيد أنّ الفرس من أذكى الحيوانات وأرقاها ، وهي عند علماء الحيوان تأتي بعد القرد مباشرة وخاصّة الأفراس العربية الأصيلة ، وقد كان فرس الحسين ( عليه السلام ) واحداً منها ، فهي تَعرف صاحبها وتحبّه ، وتعرف ذويه وتصبر على ما ينوبها في سبيله من جوعٍ أو عطش ، وتحسّ بإكرام صاحبها لها وغير ذلك من الأمور ، فليس عَجباً أن يفعل فرس الحسين ( عليه السلام ) ذلك ، نعم ، يبقى قتله لنفسه منوطاً بفكرة المعجزة أو بصحّة الرواية .
الجهة الثامنة : ( نقلَ التاريخ عن زيد بن أرقم وهو أحد الصحابة ـ وقد كان يومئذٍ بالشام ـ أنّه سمعَ رأس الحسين ( عليه السلام ) يتلو قوله تعالى : ( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً ) (17) ، فقال زيد بن أرقم : سيدي ، رأسك أعجب وأغرب ) (18) .
فهل نُصدِّق هذه الرواية أو نستبعدها باعتبار أنّه من المستحيل طبيعياً أن ينطق الموتى مطلقاً ، أو قل : أن ينطق الرأس وهو متصل بصاحبه ، فضلاً عمّا إذا كان مقطوعاً ، فضلاً عمّا إذا كان مرّ على قطعه رَدح من الزمن ؟
إلاّ أنّ هذا الاستبعاد في غير محلّه ؛ لعدّة مستويات من التفكير نذكر منها :
المستوى الأوّل : إنّه من الواضح أنّ مثل هذه الروايات لا ينبغي أن نعرضها أمام القانون الطبيعي ؛ لأنّها قائمة على خصوص المعجزة ، وليس لها من القانون الطبيعي أيّ نصيب ، وإذا حَدثت المعجزة أمكنَ ذلك وغيره ، وبالمعجزة نطقَ رأسان في البشرية المعروفة هما : رأس يحيى بن زكريا ( عليهما السلام ) ، ورأس الحسين ( عليه السلام ) .
المستوى الثاني : إنّ نُطق الرأس ؛ إنّما كان لإقامة الحجّة على أهل الشام الذين كانوا يجهلون شأن الحسين وإمامته وصدق قضيته ، بل كان الحكّام لديهم يغرسون في أذهانهم أنّ هذا الموكب لسبايا غير مسلمين من الروم ، أو الزنج ، أو الديلم ، أو القبط ونحو ذلك ، وكان لابدّ لهذا الجانب ـ أعني لموكب الحسين ( عليه السلام ) ـ أن يُثبّت صِدق قضيّته ، وفي الواقع أنّهم لم يُقصّروا في ذلك بعد أن تكلّم الإمام زين العابدين وزينب بنت علي ( عليهما السلام ) وآخرون ، وحَدثت له عدّة مآتم في الشام فورياً .
ومحلّ الشاهد الآن : أنّ الحسين نفسه شاركَ في هذه الحملة الواسعة للهداية والإعلام ، وذلك بقراءته القرآن وهو فوق رأس رمح طويل، كانت مشاركته أوكد من كلّ المشاركات ؛ لأنّه الشخص الرئيسي والأهمّ أوّلاً ، ولأنّ مشاركته اعجازية ثانياً ، وهاتان الصفتان لم تحصل لأيّ من المشاركين الآخرين في معسكر الحسين ( عليه السلام ) وإن عَلا شأنهم .
المستوى الثالث : إنّي شخصياً كنتُ موجوداً في ليلة من الليالي قبل خمس وعشرين سنة تقريباً ، في جلسة من جلسات تحضير الأرواح ، وقد خطرَ لي أن أسأل إحداها قائلاً : هل تكلّم رأس الحسين ( عليه السلام ) ؟ وكان في حسباني أن تقول : نعم ، أم لا ، فكان من العَجب أنّها قالت : تكلّم سبع مرّات ، فقلنا : لعلّه تكلّم بهذا المقدار ولم يُنقل من التاريخ إلينا ، وإذا أمكنَ ذلك مرّة أمكنَ مرّات عديدة وليس في قدرة الله بمستغرَب .
وحصلتُ على كتاب بعد خمس وعشرين سنة بعنوان ( الحسين في الفكر المسيحي ) تأليف ( أنطوان بارا ) : وهو مسيحي مُنصف مَجّدَ الحسين ورثى لهُ ، وقارنَ شهادتهُ بما يعتقدونه من مقتل المسيح وشهادته ، وإذا بي أجد في هذا الكتاب النقول التاريخية عن كلام رأس الحسين ( عليه السلام ) ، فأحصيتُها فإذا بها سبعة ، كما سمعتُ من تلك الروح قبل خمس وعشرين سنة ، ورُبّ صدفة خيرٌ من ميعاد .
وأودُّ فيما يلي أن أنقل عبارة المؤلِّف ، وما أجادهُ من التعب في نقل الجانب التاريخي الإسلامي الناطق بتاريخ رأس الحسين الناطق ( سلام الله عليه ) ، وسأقوم بترقيمها تنبيهاً للقارئ على عددها ، بالرغم أنّها من المصدر الذي أنقل عنه غير مرقّمة ، ولعلّ المؤلِّف لم يلتفت إلى أنّها سبعة موارد أو إلى أهميّة كونها سبعة ، قال :
1ـ ولمّا حُمل الرأس الشريف إلى دمشق ونُصب في مواضع الصيارفة ، وهناك لغط المارّة وضوضاء المتعاملين ، فأراد سيّد الشهداء توجيه النفوس نحوه ليسمعوا عضاتهُ ، فتنحنحَ الرأس تنحنحاً عالياً ، فاتّجهت إليه الناس واعترتهم الدهشة ، حيث لم يسمعوا رأساً مقطوعاً يتنحنح قبل يوم الحسين ( عليه السلام ) ، فعندها قرأ سورة الكهف إلى قوله تعالى : ( إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ) (19) .
2ـ وصُلب على شجرةٍ ، فاجتمع الناس حولها ينظرون إلى النور الساطع فأخذَ يقرأ : ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) (20) .
3ـ وقال هلال بن معاوية رأيت رُجلاً يحمل رأس الحسين ( عليه السلام ) والرأس يخاطبه : ( فرّقتَ بين رأسي وبَدني ) ، فرفعَ السوط وأخذَ يضرب الرأس حتّى سكت .
4ـ ويُحدّث ابن وكيدة : أنّه سمعَ الرأس يقرأ سورة الكهف فشكّ في أنّه صوته أو غيره ، فتركَ ( عليه السلام ) القراءة والتفتَ إليه يُخاطبه : ( يا بن وكيدة ، أما عَلمتَ أنّا معشر الأئمّة أحياءٌ عند ربّهم يُرزقون ) .
5ـ عَزم ابن وكيدة على أن يَسرق الرأس ويدفنهُ ، وإذا الخطاب من الرأس الشريف : ( يا بن وكيدة ، ليس إلى ذلك من سبيل ، إنّ سَفكهم دمي أعظم عند الله من تسييري على الرمح ، فَذَرهم فسوف يعلمون أنّ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يُسحبون ) .
6ـ وقال المنهال بن عمرو : رأيتُ رأس الحسين بدمشق على رمح وأمامه رجل يقرأ سورة الكهف ، حتّى إذا بلغَ إلى قوله تعالى : ( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً ) (21) ، نطقَ الرأس بلسانٍ فصيح :
( أعجَبُ من أصحاب الكهف قَتلي وحَملي ) .
7ـ ولمّا أمرَ يزيد بقتل رسول مَلك الروم ، حيث أنكرَ عليه فعلته ، نطقَ الرأس الشريف بصوتٍ رفيع : ( لا حولَ ولا قوّة إلاّ بالله ) .
بقي أن نشير إلى ما ذكرناه في نهاية السؤال نفسه ، من طول المدّة على الرأس الشريف وسيره من كربلاء إلى دمشق تحت حرارة الشمس ، فهل يعني هذا تغيّره ، أو تبديل معالمه ، أو تعذّر نطقه ؟ كلاّ ، بطبيعة الحال إذا التفتنا لأمرين :
أحدهما : إنّ المعجزة لا يختلف فيها طول المدّة وقصرها ، بل ولا انحفاظ الصورة وعدمها ، وإن كان من الواضح أنّ رأس الحسين ( عليه السلام ) كان باقياً على الشكل الذي قُطع فيه لم يتغيّر إطلاقاً ، وهذا ما نعرفه فيما يلي .
وثانيهما : إنّنا نعرف بوضوح في الدين : أنّ أجساد الأفراد الذين يكونون في درجة عالية من الإيمان قابلة للبقاء والاستمرار ، بدون أن تبلى ، أو تتفسّخ ، أو تحصل منها روائح نتنة ونحو ذلك ، بل يبقى الجسد نظيفاً طريّاً كأنّه ماتَ من ساعته ، وهو أمرٌ متواتر ومحسوس في كثير من الموارد .
ومحلّ الشاهد الآن : أنّ هذا لا يُفرّق فيه بين المدفون وغير المدفون ، وهذا هو الذي يُفسّر حفظ الأجساد لشهداء كربلاء ، وقد بَقيت قبل الدفن ثلاثة أيّام كاملة تحت الشمس ، فلم تُصب بسوء ، ويفسّر أيضاً حفظ الرؤوس وقد ساروا بها على الرماح من كربلاء إلى الكوفة إلى دمشق ، في الفصل القائض الشديد الحرّ ، فلم تُصب بسوء .
وهذا من جملة الأمور العديدة التي كانت سبباً لإقامة الحجّة على كلّ الجيل المعاصر لقتل الحسين ( عليه السلام ) ، بل والأجيال المتأخّرة عنه وخاصّة أولئك الأعداء الذين قطعوا الرؤوس بكلّ قسوة ، ولم تكن عندهم إنسانية ، وحَملوها على الرماح وسيّروها كلّ هذا السير الطويل .
بل الأمر يمكن أن يسير فيه خطوة أخرى : وهو الجزم بأنّ هؤلاء الأعداء كانوا يعلمون لدى قطعهم الرؤوس ـ لأوّل مرّة وعزمهم على حملها وتسييرها ـ أنّها غير قابلة للتغيير والتعفّن ، وإلاّ فمن الواضح جدّاً أنّ الرؤوس الاعتيادية سوف لن تعيش تحت الشمس بشكلٍ سليم أكثر من نهار واحد ، ثمّ يكون لها رائحة نتنة غير قابلة للتحمّل بالنسبة إلى حامل الرأس ولا من حوله ، وهذا ما ينبغي أن يكون معلوماً لهم سَلفاً ، ومع ذلك عَزموا على قطعها وتسييرها ، الأمر الذي يدلّ على علمهم بأنّ قضية الحسين ( عليه السلام ) على حقّ وأنّه وأصحابه من الأولياء ، وأنّ أعداءه على خطأ وباطل بما فيهم هم الذين قطعوا الرؤوس .
ولا غرابة في ذلك حين نسمع قوله تعالى : ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً ) (22) ، وقول بعض أعداءه له : ( قلوبنا معك وسيوفنا عليك ) (23) ، الأمرُ الذي يبرهن أنّهم كانوا يعيشون انشطاراً في الشخصية ، وهذا هو الذي يجعل موقفهم أمام الله سبحانه أشّد مسؤولية وأعظم عقوبة .
فهذه ثمان جهات لأهمّ الأسئلة التي قد قد تُثار حول واقعة الطف وما بعدها ، وأحسبُ أنّ الأمور الأخرى فيها لا تحتاج إلى توضيح ، وإنّما يحتاج القارئ الكريم بالنسبة إليها إلى اطّلاع ؛ لكي يجد مواطن العظمة والجهاد والصبر للحسين وأصحابه سلام الله عليهم أجمعين .
المصادر :
1- تاريخ الطبري : ج6 ، ص238 ، الكامل لابن الأثير : ج4 ، ص24 ، الخوارزمي : ج1 ، ص246 .
2- الدمعة الساكبة : ص325 .
3- البحار للمجلسي : ج45 ، ص41 ، رياض المصائب : ص313 .
4- مقتل الخوارزمي : ج1 ، ص162 .
5- الكامل لابن الأثير : ج3 ، ص195 .
6- مقتل الخوارزمي : ج2 ، ص13 ، اللهوف لابن طاووس : ص48 ، ابن نما الحلّي : ص51 .
7- نفس المصدر ، البحار للمجلسي : ج45 ، ص44 .
8- سورة الأنفال : آية 42 .
9- مناقب ابن شهرآشوب : ج3 ، ص257 ، مثير الأحزان لابن نما : ص52 ، اللهوف لابن طاووس : ص49 .
10- إعلام الورى للطبرسي : ص248 ، البحار للمجلسي : ج45 ، ص38 بتصرّف .
11- اللهوف لابن طاووس : ص51 ، الخوارزمي : ج2 ، ص34 ، البحار : ج45 ، ص53 .
12- اللهوف لابن طاووس : ص51 .
13- تاريخ الطبري : ج6 ، ص161 ، الإرشاد للمفيد : ص242 ، مناقب ابن شهرآشوب : ج3 ، ص259 ، اللهوف : ص57 ، ابن نما : ص59 ، الخوارزمي : ج2 ، ص38 .
14- سورة المنافقين : آية 8 .
15- أمالي الصدوق : ص14 ، مجلس 30 ، الخوارزمي : ج2 ، ص37 ، البحار : ج45 ، ص57 .
16- البحار : ج45 ، ص60 ، الدمعة الساكبة : ص347 ، أسرار الشهادة : ص436 .
17- سورة الكهف : آية 9 .
18- البحار للمجلسي : ج45 ، ص121 .
19- سورة الكهف : آية 13 .
20- سورة الشعراء : آية 227 .
21- سورة الكهف : آية 9 .
22- سورة النمل : آية 14 .
23- العقد الفريد : ج4 ، ص384 بتصرّف ، الإرشاد للمفيد : ص218 ، ط نجف .

 



ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.