الربا في بلاد المسلمين

أن يبيع المائة دينار مثلاً نقداً بمائة وعشرين ديناراً مؤجّلةً إلى ستّة أشهر بدلاً عن القرض الربوي ، والنقود في زماننا ليست ذهباً أو فضة ، ولا تحكي عنهما بحيث تكون المعاملة بالذهب والفضّة حتّى تدخل هذه المعاملة في البيع الربوي .
Monday, January 23, 2017
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
الربا في بلاد المسلمين
 الربا في بلاد المسلمين

 





 

أن يبيع المائة دينار مثلاً نقداً بمائة وعشرين ديناراً مؤجّلةً إلى ستّة أشهر بدلاً عن القرض الربوي ، والنقود في زماننا ليست ذهباً أو فضة ، ولا تحكي عنهما بحيث تكون المعاملة بالذهب والفضّة حتّى تدخل هذه المعاملة في البيع الربوي .
وبهذا يصل المرابي دائماً إلى مقصوده في القرض الابتدائي مع الفرار عن الربا ، ويبقى هدفه في الانتفاع عند حلول الأجل إذا لم يكن المدين قادراً على الوفاء بالدّين .
وبإمكانه تحصيل هذا الهدف بأن يشترط في ضمن ذلك البيع أن يكون عليه - على كلّ شهر يؤخّر الأداء فيه - كذا مقدارٍ من المال ، وهذا شرط مشروع ؛ فإنّ من يبيع شيئاً بإمكانه أن يشترط أن يكون عليه في كلّ شهر إعطاء درهم للبائع ، وهنا قد جعل نفس الشرط ، إلّاأ نّه مقيّد بعدم الوفاء بالثمن . وبهذا تصبح هذه الحيلة وافيةً بسهولة بكل أهداف المرابي ، ولعلّها أدهى حيلة في المقام .
ولا يخفى أنّ هذه الحيلة إنّما تتمّ إذا لم نقل بأنّ أدلّة حرمة البيع الربوي في المكيل والموزون تشمل مطلق المثليّات . أمّا إذا أثبتنا ذلك بوجهٍ من الوجوه ، كما يشهد لذلك التعريف القديم للمثلي والقيمي بالمكيل والموزون - والتعبير بالمثلي والقيمي لم يكن موجوداً في زمن الأئمّة عليهم السلام ، فتبطل هذه الحيلة ؛ لأنّ النقود مهما كان شكلها فهي مثليّة .
هناک وجهين مع بيان الحال فيهما ؛
الوجه الأوّل : إنّ بيع مائة دينار بمائة وعشرين غير صحيح ؛ إذ هذا مبادلة للشي‏ء بنفسه مع زيادة ، ومبادلة الشي‏ء بنفسه غير معقولة ، ومجرّد الكلّيّة والجزئيّة لا يوجب المغايرة وصحّة المبادلة . نعم ، لو باع مائة دينار مثلاً من فئة دينار باثنتي عشرة ورقة من فئة عشرة دنانير ، لم يرد عليه هذا الإشكال .
أقول : مضافاً إلى أ نّه لم يحلّ أصل مادّة الفساد ، فإنّه يرد عليه :
أوّلاً : إنّ مجرّد عدم كون ذلك بيعاً أو مبادلة لا يوجب بطلانه ما لم نثبت كونه قرضاً ربويّاً ، وإلّا فهو عقدٌ من العقود لا يدخل تحت عنوان البيع أو أيّ مبادلة اُخرى ، فليقصد المتعاملان هذا العقد على ما هو عليه ، وهو داخلٌ في إطلاق : «أَوْفُوْا بِالعُقُوْدِ »(1)
فيكون صحيحاً .
وهذا الإيراد يتوقّف وروده على القول بأنّ روايات : « لا يكون الربا إلّافي ما يُكال ويوزن »(2)
تشمل كلّ المعاملات ما عدا القرض . أمّا لو قلنا : إنّها ليست كذلك ، وإنّما هي مختصّة بالبيع مثلاً ، أو يُتعدّى إلى غير البيع بعدم القول بالفصل - ومن المعلوم أنّ هذا الإجماع لا يشمل معاملةً غريبة من هذا القبيل - ، فلا يرد هذا الإشكال ؛ إذ تصبح هذه المعاملة حينئذٍ ربويّةً باطلة ، وإن لم تكن في المكيل والموزون .
ثانياً : إنّ المغايرة بين النقد الخارجي وبين ما في الذمّة ليست مجرّد مغايرة عقليّة واعتباريّة ، بل هي مغايرة عرفيّة ، كيف ! والذمّة من مخترعات العرف نفسه في مقابل الخارج ، ويشهد لذلك بعض الروايات الواردة في صحّة بيع الثوب - وهو قيميّ - بثوبين نسيئةً(3) ، وقد أفتى الفقهاء أيضاً بصحّة بيع المثل بالمثل مع الزيادة في القيميّات ، سواءٌ كان بالنقد أم النسيئة(4) .
الوجه الثاني : إنّ هذه المعاملة قرضٌ وليست بيعاً ؛ فإنّها تمليكٌ للمال من الشخص الآخذ مع دخوله في ذمّته ، وهذا هو القرض .
وهذا الكلام غير صحيح ، حلّاً ونقضاً :
أ - أمّا حلّاً ؛ فلأ نّه :
إن قصد من كون هذه المعاملة قرضاً أ نّها تفيد فائدة القرض ، فهذا صحيح . ولكنّ هذا البيان لا يكفي في إبطال الزيادة ؛ فهل كلّ معاملة أفادت فائدة القرض تبطل فيها الزيادة ؟ ولماذا ؟ !
وإن قصد بذلك كونها قرضاً حقيقةً ، فإنّما يكون كذلك بناءً على التعريف الأوّل للقرض من التعريفات الماضية ، والذي كان يُرجع القرضَ إلى المبادلة .
وأمّا بناءً على الوجوه الاُخرى‏ ، فليس الأمر كذلك ؛ فإنّ هذا مبادلة لمائة دينار مثلاً بمائة وعشرين ديناراً ، والقرض :
إمّا هبة بتمليك العين مع الاستئمان على الماليّة ، كما عليه المحقّق الإيرواني رحمه الله .
أو تمليك بضمان .
أو أ نّه يجعل اليد مؤثّرةً في التملّك والضمان ، كما مضى تفصيله منّا .
وهذه كلّها غير المبادلة .
ب - وأمّا نقضاً : فلأ نّه لو كان بيع المثلي بالمثل مؤجّلاً قرضاً ، لكان بيع القيمي بالقيمة مؤجّلةً قرضاً أيضاً : فلو باع شخصٌ شيئاً قيميّاً مؤجّلاً بسعرٍ أغلى من سعر السوق كان ذلك رباً محرّماً ، وهذا ما لا يقول به أحد .
كان يجيب بأنّ هناك فرقاً بين باب بيع القيمي بقيمةٍ أغلى مؤجّلاً وبين باب القرض ، وهو أنّ القيمي يعيّن نوع ثمنه عند البيع ، كأن يقال مثلاً : « بعت هذا بدينار » ، أي الدينار العراقي ، وأمّا في باب القرض فيأتي إلى الذمّة مطلق الماليّة .
وهذا الجواب غير صحيح ؛ فإنّ نوع الثمن في باب القرض معيّن أيضاً ، وهو نقد البلد : فمن يُقرض مائة دينارٍ يطلب حين حلول الأجل - بحسب الارتكاز العرفي - مائة دينارٍ من نقود ذلك البلد ، ولو أعطاه من نقود [ بلد آخر ] بذاك المقدار من الماليّة كان له - عقلائيّاً - حقّ الرفض .
فقد تحصّل أنّ هذين الوجهين كلاهما غير صحيح .

تحقيق في إبطال التخريجات العامّة:

والتحقيق في المقام هو عدم جواز هذه الحيلة ، ويتّضح ذلك بذكر مقدّمتين :
المقدّمة الاُولى : يوجد في المعاملات وراء السبب - الذي هو العقد - ثلاثة أغراض :
1 - ما اُسمّيه : ( الغرض العقدي ) ، وهو الغرض الذي يمتاز به كلّ نوع من أنواع العقد عن الآخر ، ويشترك فيه تمام العقلاء ، كالمبادلة بين المالين في البيع مثلاً .
2 - ما اُسمّيه : ( الغرض النوعي الخارجي ) ، وهو ما يشترك فيه نوع العقلاء في كلّ نوع من المعاملات ، كالتسلّط الخارجي على الثمن والمثمن في البيع ، وليس هو المميّز لكلّ نوع من أنواع المعاملات عن الآخر : فقد يشترك نوعان منها في الغرض النوعي الخارجي ، وذلك من قبيل إبراء الدَّين وهبته على من هو عليه ، بناءً على صحّة ذلك ؛ فإنّهما عمليّتان تنتجان غرضاً نوعيّاً خارجيّاً واحداً ، وهو فراغ ذمّة المديون من دون أن يدفع شيئاً .
3 - ما اُسمّيه : ( الغرض الشخصي الخارجي ) ، وهو الذي لا يميّز أنواع المعاملات بعضها عن بعض ، كما لا يشترك بين نوع العقلاء : فربّ شخص يشتري الكتاب للمطالعة ، وآخر للاقتناء في المكتبة ، وثالث للإهداء ، ورابع للتجارة ، وهكذا .
والغرض الشخصي الخارجي خارجٌ عن قوام المعاملة ، لكنّ الغرض النوعي الخارجي يشكّل - بحسب نظر العرف والعقلاء - حيثيّةً تقييديّة مأخوذة في قوام المعاملة ، ولهذا نقول : إنّ تلف المبيع قبل القبض من مال بائعه على القاعدة ، بلا حاجة إلى تلك الرواية الضعيفة(5)
فإنّ العقلاء يقولون - مع فرض عدم التسليط الخارجي وتلفه قبل ذلك - : إنّ المعاملة لم تتمّ ولم يتحقّق البيع ، وقد قال جماعةٌ من الفقهاء - ونِعمَ ما قالوا - : إنّ إيقاع العقد المنقطع على طفلة إلى مدّة لا يمكن الاستمتاع بها بوجهٍ من الوجوه باطل‏(6) .
المقدّمة الثانية : إنّ النهي الإبطالي المتوجّه إلى العقد والمعاملة لا يتّجه طبعاً إلى الغرض الشخصي الخارجي ؛ لخروجه عن العقد والمعاملة بكلّ وجه ، وإنّما يتوجّه إلى السبب أو الغرض العقدي أو الغرض النوعي الخارجي ، بحسب اختلاف مناسبات الحكم والموضوع :
أ - فقد يكون المناسب رجوعه إلى نفس العقد ، كما في : « لا تبع وقت النداء »(7)
حيث إنّ هذه العمليّة تشغل الإنسان في وقت النداء عن العبادة والصلاة .
ب - وقد يكون المناسب رجوعه إلى الغرض العقدي ، كما لو نهى عن بيع حقّ الشفعة(8)
حيث قيل‏ : إنّ هذا بنكتة أنّ هذا الحقّ لا يعدّ مالاً حتّى يقابل‏ بالمال ، لكن يمكن إسقاطه في ضمن عقد الهبة مثلاً .
ج - وقد يكون المناسب رجوعه إلى الغرض النوعي الخارجي ، كما في تحريم الربا ، حيث تترتّب المفاسد على الزيادة الخارجيّة والتسلّط الخارجي .
وهذا النهي ، سواءٌ كان متّجهاً إلى السبب أم إلى الغرض العقدي أم إلى الغرض النوعي الخارجي :
تارةً : لا تكون له نكتة عقلائيّة ارتكازيّة ، فيقتصر حينئذٍ على مورده .
واُخرى‏ : تكون له نكتة عقلائيّة ارتكازيّة يُحتمل اختصاصها بالمورد ، ولا يوجد ارتكاز عقلائي على عدم الفرق بين ذلك المورد ومورد آخر ، وهنا أيضاً يقتصر على المورد الخاصّ .
وثالثةً : يوجد ارتكاز عقلائي يحكم بعدم الفرق ، فيتولّد لكلام الشارع ظهورٌ ثانوي في العموم والإطلاق ، فيتعدّى .
وهذا ليس قياساً ؛ إذ في القياس لا يفرض ارتكازُ عدم الفرق بين مورد النصّ وموردٍ آخر ، وإنّما يوجد ظنٌّ خارجي بعدم الفرق ، غاية ما هناك أن تكون كبرى القياس نفسها وأماريّته ارتكازيّةً مثلاً ، وهذا لا يولّد للكلام ظهوراً نأخذ به ، بخلاف فرض ارتكاز عدم الفرق ، حيث يولّد الظهورَ [ المذكور ] : فلو سئل عن ماء في حبّ على باب المسجد وقعت فيه ميتة فقال : « أهرقه » ، لم يقتصر طبعاً على قيود المورد من كون الماء في حبّ ، وكونه موضوعاً على باب المسجد . والتعميم والتضييق بواسطة الارتكاز هو شغل الفقهاء في موارد لا تحصى ، إلّاأ نّه أحياناً - ولشدّة وضوح الارتكاز - يُغفل عن كون هذا الظهور وليداً للارتكاز ، ويتخيّل أ نّه ظهورٌ لِحاقِّ اللفظ ابتداءً .
وبالجملة ، فالنهي المتوجِّه إلى معاملةٍ من المعاملات :
أ - تارةً : لا يوجد فيه ارتكاز عدم الفرق بين مورده ومورد آخر ، فلا يتعدّى ، كما لو قال : « لا تبع في يوم السبت » ، فلا يتعدّى إلى الصلح مثلاً ؛ فإنّه لا يوجد هنا نكتةٌ مركوزةٌ رأساً ، وإنّما هو حكمٌ تعبّديٌّ صرف يُقتصر على مورده .
وكذلك لو قال : « لا تبع معلّقاً » ، أو « مع الغرر » ، أو « مع عدم معلوميّة العوضين » ، أو « بغير صيغة الماضي » مثلاً ، فإنّه وإن كانت هنا نكتةٌ ارتكازيّة ( وهي الرغبة في إحكام البيع ، وجعله غير قابل لوقوع شي‏ءٍ من الكلام والشجار والتزلزل فيه مثلاً ) ، إلّاأنّ ارتكاز عدم الفرق بينه وبين الصلح غير موجود ؛ فلعلّ الشارع أراد أن يكون في الشريعة عقدٌ محكم وآخر غير محكم ، حتّى إذا ناسب هدفُ المتعاملين الإحكامَ التجآ إلى الأوّل ، وإلّا صحّ لهما الأخذ بالثاني مثلاً .
وكذلك لو نهى عن هبة الدَّين على من هو عليه ، فلا يتعدّى إلى الإبراء ؛ لاحتمال أنّ هبته - مثلاً - غير معقولة عند الشارع ، فيكون النهي متعلّقاً بالغرض العقدي الخاصّ مثلاً .
ولو نهى عن بيع حقّ الشفعة ، فلا يتعدّى إلى إسقاطه في ضمن الهبة ؛ إذ لعلّه نهى عن الغرض العقدي الخاصّ باعتبار عدم كونه مالاً في نظره ، فلا يقابل بالمال ، ولا بأس بإسقاطه في ضمن عقد .
ب - واُخرى‏ : يوجد فيه ارتكاز عدم الفرق ، كما لو قال : « لا تبع في يوم الجمعة وقت النداء » ؛ فإنّ مناسبات الحكم والموضوع تقتضي كون هذا النهي إنّما هو باعتبار إشغال ذلك عن العبادة والصلاة ، من دون فرق بين أن يجريَه بصيغة البيع أو بصيغة الصلح مثلاً ، فيتعدّى إلى صيغة الصلح .
وكما لو نهى عن بيع مال الغير ؛ فإنّه يتعدّى إلى هبته أو التصالح عليه ونحو ذلك ؛ إذ النكتة في ذلك حرمة مال الغير وسلطنة مالكه عليه ، من دون فرق بين معاملة واُخرى .
إذا عرفت هاتين المقدّمتين ، فنقول : إنّ النهي في باب الربا متعلّق - بحسب مناسبات الحكم والموضوع - بالغرض النوعي الخارجي ، والنهي المتعلّق بالغرض النوعي الخارجي :
تارةً : لا يوجد فيه ارتكاز عدم الفرق بين مورده ومورد آخر ، فلا يتعدّى منه إليه . ومثاله : ما لو نهى عن استئجار المرأة للعمل الجنسي ؛ فإنّ هذا نهيٌ عن الغرض النوعي الخارجي بحسب الارتكاز العقلائي ، فليس الفساد في مجرّد إيقاع العقد أو الغرض العقدي ، وإنّما الفساد في العمل الخارجي . ولا يتعدّى من الاستئجار إلى الزواج ؛ فإنّ هذا النهي كأ نّه نهيٌ بلحاظ حرمة المرأة وكرامتها ، وأ نّها أشرف من أن يمتلك بضعها بالاستئجار ، وإنّما يجب أن يكون الاستمتاع بها في إطارٍ خاصّ محترم ، وهو الزوجيّة ، فلا يتعدّى من الاستئجار إلى الزوجيّة . نعم ، يتعدّى إلى البيع والهبة ونحو ذلك .
واُخرى‏ : يوجد فيه ارتكاز عدم الفرق بين مورده ومورد آخر ، كما في النهي عن القرض الربوي ؛ فإنّه - بمناسبات الحكم والموضوع - نهيٌ بلحاظ الغرض النوعي ؛ لما فيه من المفاسد ، ويتعدّى عنه إلى كلّ معاملة يكون الغرض النوعي منها هو الإلزام بالزيادة .
وأقصد بقولي : إنّ الغرض النوعي منها هو الإلزام بالزيادة : أن يكون طبع المعاملة سنخ طبع يوضح بنفسه أنّ المقصود به هو الإلزام بالزيادة . وأمّا إذا لم تكن المعاملة نفسها تستبطن ذلك ، وإنّما كان الغرض الشخصي منها هو الزيادة ، فلا بأس بذلك . ولو فرض أن تعوّد الناس عليه واشتهر هذا العمل ، فبهذا لا يخرج عن كونه غرضاً شخصيّاً مباحاً .
نعم ، للدولة الإسلاميّة الشرعيّة حينما ترى المصلحة النهيُ عن ذلك .
ومثال ما يكون طبع المعاملة فيه يقتضي كون الغرض هو الإلزام بالزيادة : ما كنّا نتكلّم فيه ، من أ نّه يبيع مائة دينار نقدي بمائة وعشرين ديناراً مؤجّلاً ؛ فإنّه من الواضح أنّ الغرض من ذلك هو الإلزام بالزيادة . وكذلك لو باع شيئاً رخيصاً بقيمة غالية واشترط في ضمن البيع على البايع إقراض المشتري ؛ فإنّ الغرض النوعي من ذلك عين الغرض النوعي من العكس ، أي أن يقرض شيئاً ويشترط في ضمن القرض البيع المحاباتي .
وهناك رواية قد يستفاد منها جواز هذه الحيلة ، أعني البيع المحاباتي مع اشتراط القرض ، وهي رواية محمّد بن إسحاق بن عمّار ، قال : « قلت لأبي الحسن عليه السلام : « إنّ سلسبيل طلبت منّي مائة ألف درهم على أن تربحني عشرة آلاف ، فأقرضها تسعين ألفاً وأبيعها ثوب وشي تقوّم بألف درهم بعشرة آلاف درهم ، قال : لا بأس »(9) .
1 - فإن قلنا : إنّ هذه الرواية لا تدلّ على أنّ الإقراض اُخذ شرطاً في ضمن عقد البيع المحاباتي ، وإنّما كان اتّفاقاً خارجيّاً دون أن يصبح البائع ملزماً بالإقراض ، فتكون الرواية خارجةً عمّا نحن فيه .
2 - وإن قلنا : إنّها تدلّ على ذلك :
أ - فإن قلنا : إنّ الملازمة بين حرمة الربا وبين حرمة ذلك تكون بدرجةٍ لا يقبل العرف التفكيك بينهما ، فالرواية تصبح معارضةً لآية حرمة الربا ، وتسقط عن الحجّيّة .
ب - وإن قلنا : إنّ الملازمة ليست بأقوى من الظهور [ الإطلاقي ] ، فيكفينا حينئذٍ ضعف سند هذه الرواية(10) .
ومثال ما تكون الزيادة فيه غرضاً شخصيّاً : أن يبيع داره بمائة دينار مع خيار الشرط على رأس السنة ، والزيادة التي يأخذها المشتري هي منفعة الدار ؛ فإنّ هذا لا بأس به ؛ إذ طبع المعاملة ليس سنخ عمل ينحصر غرضه في الزيادة : فقد يفكّر شخص ببيع داره لغرضٍ من الأغراض مع جعل خيار الشرط ؛ لاحتمال الندم ، دون أن يكون غرضه ولا غرض المشتري مسألة القرض الربوي .
ولو باع كتابه بثمن رخيص على نحو المحاباة مع إرجاعه بثمن أغلى :
فإن كان الإرجاع بمحض اختيار المشتري - ولو مع الاتّفاق عليه خارج المعاملة ، من دون أن يكون ملزماً بذلك في ضمن العقد الأوّل - فلا بأس به ؛ فإنّ طبع البيع المحاباتي لا يوحي بمسألة الزيادة الربويّة ، بل قد يكون الشخص محتاجاً واقعاً إلى بيع كتابه ، فيبيعه بالمحاباة .
وإن اشترط في ضمن العقد الأوّل الإرجاع بثمن أغلى ، أصبح هنا الإلزام بالزيادة غرضاً نوعيّاً للمعاملة ، فيأتي إشكال الربا .
وقد تحصّل من تمام ما ذكرناه : عدم صحّة بيع مائة دينار نقدي‏ بمائة وعشرين ديناراً مؤجّلاً مثلاً ، وإن كان الدينار في زماننا من غير جنس النقدين .

نصوص جواز البيع بالأكثر ونقد مدركيّتها لصحّة التخريج الربويّ الأوّل

إلّاأنّ هنا إشكالاً ، وهو أنّ روايات جواز البيع بالأكثر في غير المكيل والموزون تدلّ بإطلاقها على جواز ذلك ، ولو مع كون الأكثر مؤجّلاً ، ولو في بيع الدينار . إذن : تلك الروايات تدلّ بإطلاقها على صحّة هذه المعاملة .
والجواب عن هذا الإشكال أ نّه :
أ - إن قلنا : إنّ التفكيك بين حرمة الربا القرضي وبين حرمة هذه المعاملة غير ممكن عقلائيّاً ، بحيث يعدّ دليل حرمة الربا القرضي كالنصّ في حرمة هذه المعاملة ، فتلك الإطلاقات تقيّد - لا محالة - بدليل حرمة الربا القرضي الدالّ على حرمة هذه المعاملة الأخصّ من تلك المعاملات .
ب - وأمّا إن قلنا : إنّ دلالة دليل حرمة الربا القرضي على حرمة هذه المعاملة تكون بمستوى الإطلاق ، فلا أقلّ من أ نّهما يتعارضان ويتساقطان ، وتصل النوبة إلى المطلقات الفوقيّة الدالّة على حرمة الربا ، الشاملة للربا القرضي والربا المعاملي ، من دون فرق فيه بين المكيل والموزون وغيره ، أو بين الحالّ والمؤجّل .

التخريج الثاني: وضع الجُعالة على القرض

أن يجعل جُعالةً على القرض ، بأن يقول : « من أقرضني كذا مقدار من المال فله كذا مقدار » ، فتكون الزيادة مستحقّةً بإزاء العمل - وهو الإقراض - لا بإزاء المال حتّى يكون ربا . ولذا : لو فرض أنّ الجعالة كانت باطلةً بسببٍ من الأسباب وكان القرض صحيحاً ، فهو لا يستحقّ حينئذٍ شيئاً من الزيادة .
ويرد على هذا التخريج :
أوّلاً : إنّ الغرض النوعي الظاهر من نفس المعاملة هو الزيادة ، ويُصبح بالاقتراض مُلزماً بأداء الزيادة ، فيأتي فيه ما مضى من التعدّي عن مورد دليل حرمة الربا إلى هذا المورد بارتكاز عدم الفرق .
ثانياً : إنّ هذه المعاملة باطلة في نفسها ، وتوضيح ذلك يكون بتحقيق معنى الجعالة بنحوٍ ينكشف منه معنى جملة من أبواب المعاملات ، من قبيل المضاربة والمزارعة والمساقاة والمغارسة ونحو ذلك من الأبواب ، فنقول :

حقيقة الجعالة

يتصوّر في الجعالة بدواً ثلاثة احتمالات :
الاحتمال الأوّل : أن تكون معاوضةً بين العمل والجُعل . وهذا الاحتمال ساقطٌ حتماً ، فقهيّاً وعقلائيّاً ، وذلك بالتسالم فتوىً وارتكازاً على أ نّه لا معاوضة بين العمل وبين الجُعل في باب الجعالة ، وإلّا كان الجاعلُ يستحقّ العملَ في مقابل هذا الجُعل ، مع أ نّه لا يستحقّه في مقابله .
وهذا هو الفرق بين باب الجعالة وباب الإجارة : ففي إجارة الأعمال يكون المستأجر مستحقّاً للعمل على الأجير ، بخلاف باب الجعالة .
الاحتمال الثاني : أن يفرض أنّ الجعالة تمليكٌ للمال تمليكاً مشروطاً بالعمل ، فبابه باب التمليك المجّاني ، لكنّه معلّق على العمل ، ويلتزم بأنّ هذا التعليق قد صحّ في المقام على خلاف القواعد الأوّليّة التي تقتضي عدم صحّة التمليك المعلّق ، فلا يمكن أن يقول مثلاً : « لك هذا الدرهم إن أمطرت السماء » . لكن في خصوص موارد الجعالة صحّ ذلك ، على خلاف القاعدة .
وهذا الاحتمال وإن كان أقرب من الاحتمال الأوّل ، لكنّه أيضاً على خلاف الارتكاز الفقهائي والعقلائي ؛ إذ لو حسبنا ما هو المركوز في الأذهان الفقهائيّة والعقلائيّة لرأينا أ نّه لا يمكن أن يفسّر على أساس هذا الاحتمال ، وذلك :
أوّلاً : لا إشكال في أنّ المركوز في هذه الأذهان أنّ الجعالة ليست تمليكاً مجّانيّاً وهبةً مشروطة ومعلَّقة ، ولهذا يسمّى الدرهم : « جُعلاً على العمل » ، وهذا معناه أ نّه اُخذ في معنى الجعالة التعويض بمعنىً من المعاني .
ثانياً : لا إشكال - بحسب النصّ والفتوى فقهائيّاً ، وبحسب الارتكاز عقلائيّاً - في أ نّه إذا تبيّن بطلان الجعالة لسبب من الأسباب ، يُرجع إلى اُجرة المثل ، كما صرّح بذلك الفقهاء(11)
ولا موجب لضمان اُجرة المثل لو لم يكن هنا طعم المعاوضة ، وإنّما كان مجرّد تمليك مجّاني تبيّن بطلانه ، من دون أن يكون العامل قد أقدم على العمل بعنوان المعاوضة حتّى يقال : لو لم يسلّم له المسمّى ثبتت له قيمة المثل والبدل الواقعي بقواعد الضمان .
ثالثاً : من المصرّح به والمتسالم عليه فقهائيّاً - وهو على طبق الارتكاز العقلائي أيضاً - أ نّه إذا جعل جُعلين مختلفين ؛ فقال أوّلاً : « لك عليّ درهم لو وجدت لي ضالّتي » ، ثمّ قال [ ثانياً ] : « لك عليّ دينار لو وجدت لي ضالّتي » ، كانت الجعالة الثانية ناسخةً للجعالة الاُولى . وهذا معناه وجود نوعٍ من المنافاة والمعارضة بالارتكاز بين الجعالتين ، فتكون الثانية ناسخةً للاُولى . ولو كانت مجرّد هبةٍ مشروطة فأيّ منافاةٍ بين الهبتين ؟ ! ولماذا لا تصحّ كلتاها معاً ؟ ! ومجرّد كونهما معلّقتين على شي‏ء واحد لا يوجب منافاةً بينهما ، كما هو واضح .
فعلى أساس هذه القرائن الثلاث - وقرائن اُخرى يمكن تصيّدها من فقه الجعالة - يُعرف أنّ باب الجعالة ليس باب التمليك المجّاني الصّرف .
الاحتمال الثالث : وهو الصحيح ، وحاصله : أنّ أحد موجبات ضمان العمل المحترم عقلائيّاً على الإنسان هو التسبيب : فلو أمر الحلّاق بأن يحلق رأسه دون أن يتعامل معه أو يجري معه عقد الإجارة ، كان ضامناً لقيمة الحلاقة السوقيّة ، وهذا الضمان هو ضمان الغرامة ، من قبيل ضمان اليد بالنسبة إلى الأموال .
والأصل الأوّلي في ضمان الغرامة هو الضمان بالقيمة الواقعيّة ، كما أنّ الأصل الأوّلي في ضمان الأموال هو الضمان بالقيمة الواقعيّة ، ولكن كما قلنا في ضمان الأموال : إنّه وإن كان الأصل الأوّلي فيه هو الضمان بالقيمة ، لكن يمكن للضامن والمضمون له أن يتّفقا على بدل معيّن يكون به الضمان ، فيكون قانون ضمان الغرامة نفسه مقتضياً حينئذٍ لهذا البدل : فهذا القانون له اقتضاءان طوليّان : أحدهما : الضمان بالقيمة السوقيّة ، وثانيهما : ضمان ما اتفقا أن يكون به الضمان .
ويأتي الكلام نفسه في المقام ، فنقول : إنّ الجعالة في الحقيقة ليس بابها باب المعاوضة ولا باب المجّانيّة ، بل باب التسبيب إلى العمل مع تعيين بدل الغرامة وتحويله من القيمة السوقيّة إلى شي‏ء آخر ؛ فالبدليّة المطعّمة في باب الجعالة هي بدليةُ باب الغرامة لا باب المعاوضة .
وهذه هي الحال أيضاً في المزارعة والمساقاة والمغارسة والمضاربة ونحو ذلك .
وبهذا يُتحفّظ على النقاط الثلاث الارتكازيّة الماضية ، وهي : ارتكازيّة البدليّة ، وأ نّه لو بطلت الجعالة يُنتقل إلى القيمة السوقيّة ؛ إذ مع بطلان التحديد الخارجي لما يضمن يُرجع إلى القاعدة الأوّليّة ، وأ نّه إذا جعل جعالتين كانت الثانية ناسخةً ؛ إذ ضمان الغرامة يستحيل أن يتحدّد بتحديدين مختلفين .
وبهذا كانت هذه الأبواب في مقابل الإجارة ؛ لأنّ الإجارة تمليكٌ بعوض ، وفي هذه الأبواب يحدّد ضمان الغرامة المفروض ثبوته في المرتبة السابقة .
وبناءً على هذا نقول : إنّ جعل الزيادة على القرض بنحو الجعالة غير معقول ؛ لأنّ عمليّة القرض ليس لها ضمان ولا قيمة وراء قيمة المال المقترض نفسه ، وليس هناك - مُسبقاً وقبل الجُعل - بدلان : أحدهما في مقابل المال ، والثاني في مقابل نفس الإقراض ؛ فلو جعل جُعلاً في مقابل الإقراض زائداً على ما هو في مقابل نفس المال ، كان معنى ذلك ثبوت بدلين : أحدهما في مقابل نفس المال ، والثاني‏ في مقابل الإقراض ، مع أ نّه لا ماليّة للإقراض عدا ماليّة المال المقترض نفسها ، وليس له ماليّة اُخرى وراء ماليّة ذلك المال .
ولا معنى لأن يفرض وجود ضمانين لهذه الماليّة الواحدة : أحدهما بعقد القرض ، والآخر بعقد الضمان ، وقد فرضنا أنّ الجعالة تعيينٌ للضمان المفروض مسبقاً .
إذن : لو صحّت الجعالة في المقام وصحّ القرض لكان معنى ذلك ثبوت ضمانين لهذه الماليّة الواحدة .
المصادر :
1- المائدة : 1
2- وسائل الشيعة 18 : 133 ، الباب 6 من أبواب الربا ، الحديثان 1 و 3
3- وسائل الشيعة 18 : 155 ، الباب 17 من أبواب الربا ، الحديث 1
4- رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدلائل 8 : 425 . ولكن لم يُتّفق على جوازه في النسيئة ، فراجع : النهاية في مجرّد الفقه والفتاوى 1 : 378 ؛ السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي 2 : 260
5- وهي : « كلّ مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه » ، فراجع : عوالي اللآلئ 3 : 212 ، الحديث 59 ؛ مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل 13 : 303 ، الباب 9 من أبواب الخيار ، الحديث 1 ، وهو نبويٌّ جبره بعض الفقهاء بعمل الأصحاب كافّة ، فراجع : جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام 23 : 83
6- كأنْ يعقد على الصغيرة لساعةٍ لتحرم عليه اُمّها ، ولذلك لم يصحّح بعضهم العقد المنقطع فيما لو جعل المدّة بمقدار لا يصل إلى البلوغ ( نموذج في الفقه الجعفري : 245 ) . والأرجح أ نّه قدس سره يقصد الميرزا القمّي رحمه الله في رسالته حول العقد على الصغيرة ، فراجع : رسائل الميرزا القمّي 1 : 311
7- وسائل الشيعة 7 : 408 ، الباب 53 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها ، الحديث 4 ، بالمضمون
8- راجع مثلاً : منهاج الصالحين ( تعليقة الشهيد الصدر قدس سره ) 2 : 41 ، المسألة 1
9- وسائل الشيعة 18 : 54 ، الباب 9 من أبواب أحكام العقود ، الحديث 1
10- وذلك بعليّ بن حديد الذي ضعّفه كلّ من وجدناه قد تعرّض له من الفقهاء ، وأوّلهم الشيخ رحمه الله ، فراجع : الاستبصار 1 : 40 ، 3 : 95
11- وهذه قاعدة كلّيّة طبّقت على الجعل ( المناهل : 613 ) ، وراجع : مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام 11 : 154 ؛ كفاية الأحكام 2 : 513 ؛ جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام 35 : 193

 



ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.