
أن يبيع المائة دينار مثلاً نقداً بمائة وعشرين ديناراً مؤجّلةً إلى ستّة أشهر بدلاً عن القرض الربوي ، والنقود في زماننا ليست ذهباً أو فضة ، ولا تحكي عنهما بحيث تكون المعاملة بالذهب والفضّة حتّى تدخل هذه المعاملة في البيع الربوي .
وبهذا يصل المرابي دائماً إلى مقصوده في القرض الابتدائي مع الفرار عن الربا ، ويبقى هدفه في الانتفاع عند حلول الأجل إذا لم يكن المدين قادراً على الوفاء بالدّين .
وبإمكانه تحصيل هذا الهدف بأن يشترط في ضمن ذلك البيع أن يكون عليه - على كلّ شهر يؤخّر الأداء فيه - كذا مقدارٍ من المال ، وهذا شرط مشروع ؛ فإنّ من يبيع شيئاً بإمكانه أن يشترط أن يكون عليه في كلّ شهر إعطاء درهم للبائع ، وهنا قد جعل نفس الشرط ، إلّاأ نّه مقيّد بعدم الوفاء بالثمن . وبهذا تصبح هذه الحيلة وافيةً بسهولة بكل أهداف المرابي ، ولعلّها أدهى حيلة في المقام .
ولا يخفى أنّ هذه الحيلة إنّما تتمّ إذا لم نقل بأنّ أدلّة حرمة البيع الربوي في المكيل والموزون تشمل مطلق المثليّات . أمّا إذا أثبتنا ذلك بوجهٍ من الوجوه ، كما يشهد لذلك التعريف القديم للمثلي والقيمي بالمكيل والموزون - والتعبير بالمثلي والقيمي لم يكن موجوداً في زمن الأئمّة عليهم السلام ، فتبطل هذه الحيلة ؛ لأنّ النقود مهما كان شكلها فهي مثليّة .
هناک وجهين مع بيان الحال فيهما ؛
الوجه الأوّل : إنّ بيع مائة دينار بمائة وعشرين غير صحيح ؛ إذ هذا مبادلة للشيء بنفسه مع زيادة ، ومبادلة الشيء بنفسه غير معقولة ، ومجرّد الكلّيّة والجزئيّة لا يوجب المغايرة وصحّة المبادلة . نعم ، لو باع مائة دينار مثلاً من فئة دينار باثنتي عشرة ورقة من فئة عشرة دنانير ، لم يرد عليه هذا الإشكال .
أقول : مضافاً إلى أ نّه لم يحلّ أصل مادّة الفساد ، فإنّه يرد عليه :
أوّلاً : إنّ مجرّد عدم كون ذلك بيعاً أو مبادلة لا يوجب بطلانه ما لم نثبت كونه قرضاً ربويّاً ، وإلّا فهو عقدٌ من العقود لا يدخل تحت عنوان البيع أو أيّ مبادلة اُخرى ، فليقصد المتعاملان هذا العقد على ما هو عليه ، وهو داخلٌ في إطلاق : «أَوْفُوْا بِالعُقُوْدِ »(1)
فيكون صحيحاً .
وهذا الإيراد يتوقّف وروده على القول بأنّ روايات : « لا يكون الربا إلّافي ما يُكال ويوزن »(2)
تشمل كلّ المعاملات ما عدا القرض . أمّا لو قلنا : إنّها ليست كذلك ، وإنّما هي مختصّة بالبيع مثلاً ، أو يُتعدّى إلى غير البيع بعدم القول بالفصل - ومن المعلوم أنّ هذا الإجماع لا يشمل معاملةً غريبة من هذا القبيل - ، فلا يرد هذا الإشكال ؛ إذ تصبح هذه المعاملة حينئذٍ ربويّةً باطلة ، وإن لم تكن في المكيل والموزون .
ثانياً : إنّ المغايرة بين النقد الخارجي وبين ما في الذمّة ليست مجرّد مغايرة عقليّة واعتباريّة ، بل هي مغايرة عرفيّة ، كيف ! والذمّة من مخترعات العرف نفسه في مقابل الخارج ، ويشهد لذلك بعض الروايات الواردة في صحّة بيع الثوب - وهو قيميّ - بثوبين نسيئةً(3) ، وقد أفتى الفقهاء أيضاً بصحّة بيع المثل بالمثل مع الزيادة في القيميّات ، سواءٌ كان بالنقد أم النسيئة(4) .
الوجه الثاني : إنّ هذه المعاملة قرضٌ وليست بيعاً ؛ فإنّها تمليكٌ للمال من الشخص الآخذ مع دخوله في ذمّته ، وهذا هو القرض .
وهذا الكلام غير صحيح ، حلّاً ونقضاً :
أ - أمّا حلّاً ؛ فلأ نّه :
إن قصد من كون هذه المعاملة قرضاً أ نّها تفيد فائدة القرض ، فهذا صحيح . ولكنّ هذا البيان لا يكفي في إبطال الزيادة ؛ فهل كلّ معاملة أفادت فائدة القرض تبطل فيها الزيادة ؟ ولماذا ؟ !
وإن قصد بذلك كونها قرضاً حقيقةً ، فإنّما يكون كذلك بناءً على التعريف الأوّل للقرض من التعريفات الماضية ، والذي كان يُرجع القرضَ إلى المبادلة .
وأمّا بناءً على الوجوه الاُخرى ، فليس الأمر كذلك ؛ فإنّ هذا مبادلة لمائة دينار مثلاً بمائة وعشرين ديناراً ، والقرض :
إمّا هبة بتمليك العين مع الاستئمان على الماليّة ، كما عليه المحقّق الإيرواني رحمه الله .
أو تمليك بضمان .
أو أ نّه يجعل اليد مؤثّرةً في التملّك والضمان ، كما مضى تفصيله منّا .
وهذه كلّها غير المبادلة .
ب - وأمّا نقضاً : فلأ نّه لو كان بيع المثلي بالمثل مؤجّلاً قرضاً ، لكان بيع القيمي بالقيمة مؤجّلةً قرضاً أيضاً : فلو باع شخصٌ شيئاً قيميّاً مؤجّلاً بسعرٍ أغلى من سعر السوق كان ذلك رباً محرّماً ، وهذا ما لا يقول به أحد .
كان يجيب بأنّ هناك فرقاً بين باب بيع القيمي بقيمةٍ أغلى مؤجّلاً وبين باب القرض ، وهو أنّ القيمي يعيّن نوع ثمنه عند البيع ، كأن يقال مثلاً : « بعت هذا بدينار » ، أي الدينار العراقي ، وأمّا في باب القرض فيأتي إلى الذمّة مطلق الماليّة .
وهذا الجواب غير صحيح ؛ فإنّ نوع الثمن في باب القرض معيّن أيضاً ، وهو نقد البلد : فمن يُقرض مائة دينارٍ يطلب حين حلول الأجل - بحسب الارتكاز العرفي - مائة دينارٍ من نقود ذلك البلد ، ولو أعطاه من نقود [ بلد آخر ] بذاك المقدار من الماليّة كان له - عقلائيّاً - حقّ الرفض .
فقد تحصّل أنّ هذين الوجهين كلاهما غير صحيح .
تحقيق في إبطال التخريجات العامّة:
والتحقيق في المقام هو عدم جواز هذه الحيلة ، ويتّضح ذلك بذكر مقدّمتين :المقدّمة الاُولى : يوجد في المعاملات وراء السبب - الذي هو العقد - ثلاثة أغراض :
1 - ما اُسمّيه : ( الغرض العقدي ) ، وهو الغرض الذي يمتاز به كلّ نوع من أنواع العقد عن الآخر ، ويشترك فيه تمام العقلاء ، كالمبادلة بين المالين في البيع مثلاً .
2 - ما اُسمّيه : ( الغرض النوعي الخارجي ) ، وهو ما يشترك فيه نوع العقلاء في كلّ نوع من المعاملات ، كالتسلّط الخارجي على الثمن والمثمن في البيع ، وليس هو المميّز لكلّ نوع من أنواع المعاملات عن الآخر : فقد يشترك نوعان منها في الغرض النوعي الخارجي ، وذلك من قبيل إبراء الدَّين وهبته على من هو عليه ، بناءً على صحّة ذلك ؛ فإنّهما عمليّتان تنتجان غرضاً نوعيّاً خارجيّاً واحداً ، وهو فراغ ذمّة المديون من دون أن يدفع شيئاً .
3 - ما اُسمّيه : ( الغرض الشخصي الخارجي ) ، وهو الذي لا يميّز أنواع المعاملات بعضها عن بعض ، كما لا يشترك بين نوع العقلاء : فربّ شخص يشتري الكتاب للمطالعة ، وآخر للاقتناء في المكتبة ، وثالث للإهداء ، ورابع للتجارة ، وهكذا .
والغرض الشخصي الخارجي خارجٌ عن قوام المعاملة ، لكنّ الغرض النوعي الخارجي يشكّل - بحسب نظر العرف والعقلاء - حيثيّةً تقييديّة مأخوذة في قوام المعاملة ، ولهذا نقول : إنّ تلف المبيع قبل القبض من مال بائعه على القاعدة ، بلا حاجة إلى تلك الرواية الضعيفة(5)
فإنّ العقلاء يقولون - مع فرض عدم التسليط الخارجي وتلفه قبل ذلك - : إنّ المعاملة لم تتمّ ولم يتحقّق البيع ، وقد قال جماعةٌ من الفقهاء - ونِعمَ ما قالوا - : إنّ إيقاع العقد المنقطع على طفلة إلى مدّة لا يمكن الاستمتاع بها بوجهٍ من الوجوه باطل(6) .
المقدّمة الثانية : إنّ النهي الإبطالي المتوجّه إلى العقد والمعاملة لا يتّجه طبعاً إلى الغرض الشخصي الخارجي ؛ لخروجه عن العقد والمعاملة بكلّ وجه ، وإنّما يتوجّه إلى السبب أو الغرض العقدي أو الغرض النوعي الخارجي ، بحسب اختلاف مناسبات الحكم والموضوع :
أ - فقد يكون المناسب رجوعه إلى نفس العقد ، كما في : « لا تبع وقت النداء »(7)
حيث إنّ هذه العمليّة تشغل الإنسان في وقت النداء عن العبادة والصلاة .
ب - وقد يكون المناسب رجوعه إلى الغرض العقدي ، كما لو نهى عن بيع حقّ الشفعة(8)
حيث قيل : إنّ هذا بنكتة أنّ هذا الحقّ لا يعدّ مالاً حتّى يقابل بالمال ، لكن يمكن إسقاطه في ضمن عقد الهبة مثلاً .
ج - وقد يكون المناسب رجوعه إلى الغرض النوعي الخارجي ، كما في تحريم الربا ، حيث تترتّب المفاسد على الزيادة الخارجيّة والتسلّط الخارجي .
وهذا النهي ، سواءٌ كان متّجهاً إلى السبب أم إلى الغرض العقدي أم إلى الغرض النوعي الخارجي :
تارةً : لا تكون له نكتة عقلائيّة ارتكازيّة ، فيقتصر حينئذٍ على مورده .
واُخرى : تكون له نكتة عقلائيّة ارتكازيّة يُحتمل اختصاصها بالمورد ، ولا يوجد ارتكاز عقلائي على عدم الفرق بين ذلك المورد ومورد آخر ، وهنا أيضاً يقتصر على المورد الخاصّ .
وثالثةً : يوجد ارتكاز عقلائي يحكم بعدم الفرق ، فيتولّد لكلام الشارع ظهورٌ ثانوي في العموم والإطلاق ، فيتعدّى .
وهذا ليس قياساً ؛ إذ في القياس لا يفرض ارتكازُ عدم الفرق بين مورد النصّ وموردٍ آخر ، وإنّما يوجد ظنٌّ خارجي بعدم الفرق ، غاية ما هناك أن تكون كبرى القياس نفسها وأماريّته ارتكازيّةً مثلاً ، وهذا لا يولّد للكلام ظهوراً نأخذ به ، بخلاف فرض ارتكاز عدم الفرق ، حيث يولّد الظهورَ [ المذكور ] : فلو سئل عن ماء في حبّ على باب المسجد وقعت فيه ميتة فقال : « أهرقه » ، لم يقتصر طبعاً على قيود المورد من كون الماء في حبّ ، وكونه موضوعاً على باب المسجد . والتعميم والتضييق بواسطة الارتكاز هو شغل الفقهاء في موارد لا تحصى ، إلّاأ نّه أحياناً - ولشدّة وضوح الارتكاز - يُغفل عن كون هذا الظهور وليداً للارتكاز ، ويتخيّل أ نّه ظهورٌ لِحاقِّ اللفظ ابتداءً .
وبالجملة ، فالنهي المتوجِّه إلى معاملةٍ من المعاملات :
أ - تارةً : لا يوجد فيه ارتكاز عدم الفرق بين مورده ومورد آخر ، فلا يتعدّى ، كما لو قال : « لا تبع في يوم السبت » ، فلا يتعدّى إلى الصلح مثلاً ؛ فإنّه لا يوجد هنا نكتةٌ مركوزةٌ رأساً ، وإنّما هو حكمٌ تعبّديٌّ صرف يُقتصر على مورده .
وكذلك لو قال : « لا تبع معلّقاً » ، أو « مع الغرر » ، أو « مع عدم معلوميّة العوضين » ، أو « بغير صيغة الماضي » مثلاً ، فإنّه وإن كانت هنا نكتةٌ ارتكازيّة ( وهي الرغبة في إحكام البيع ، وجعله غير قابل لوقوع شيءٍ من الكلام والشجار والتزلزل فيه مثلاً ) ، إلّاأنّ ارتكاز عدم الفرق بينه وبين الصلح غير موجود ؛ فلعلّ الشارع أراد أن يكون في الشريعة عقدٌ محكم وآخر غير محكم ، حتّى إذا ناسب هدفُ المتعاملين الإحكامَ التجآ إلى الأوّل ، وإلّا صحّ لهما الأخذ بالثاني مثلاً .
وكذلك لو نهى عن هبة الدَّين على من هو عليه ، فلا يتعدّى إلى الإبراء ؛ لاحتمال أنّ هبته - مثلاً - غير معقولة عند الشارع ، فيكون النهي متعلّقاً بالغرض العقدي الخاصّ مثلاً .
ولو نهى عن بيع حقّ الشفعة ، فلا يتعدّى إلى إسقاطه في ضمن الهبة ؛ إذ لعلّه نهى عن الغرض العقدي الخاصّ باعتبار عدم كونه مالاً في نظره ، فلا يقابل بالمال ، ولا بأس بإسقاطه في ضمن عقد .
ب - واُخرى : يوجد فيه ارتكاز عدم الفرق ، كما لو قال : « لا تبع في يوم الجمعة وقت النداء » ؛ فإنّ مناسبات الحكم والموضوع تقتضي كون هذا النهي إنّما هو باعتبار إشغال ذلك عن العبادة والصلاة ، من دون فرق بين أن يجريَه بصيغة البيع أو بصيغة الصلح مثلاً ، فيتعدّى إلى صيغة الصلح .
وكما لو نهى عن بيع مال الغير ؛ فإنّه يتعدّى إلى هبته أو التصالح عليه ونحو ذلك ؛ إذ النكتة في ذلك حرمة مال الغير وسلطنة مالكه عليه ، من دون فرق بين معاملة واُخرى .
إذا عرفت هاتين المقدّمتين ، فنقول : إنّ النهي في باب الربا متعلّق - بحسب مناسبات الحكم والموضوع - بالغرض النوعي الخارجي ، والنهي المتعلّق بالغرض النوعي الخارجي :
تارةً : لا يوجد فيه ارتكاز عدم الفرق بين مورده ومورد آخر ، فلا يتعدّى منه إليه . ومثاله : ما لو نهى عن استئجار المرأة للعمل الجنسي ؛ فإنّ هذا نهيٌ عن الغرض النوعي الخارجي بحسب الارتكاز العقلائي ، فليس الفساد في مجرّد إيقاع العقد أو الغرض العقدي ، وإنّما الفساد في العمل الخارجي . ولا يتعدّى من الاستئجار إلى الزواج ؛ فإنّ هذا النهي كأ نّه نهيٌ بلحاظ حرمة المرأة وكرامتها ، وأ نّها أشرف من أن يمتلك بضعها بالاستئجار ، وإنّما يجب أن يكون الاستمتاع بها في إطارٍ خاصّ محترم ، وهو الزوجيّة ، فلا يتعدّى من الاستئجار إلى الزوجيّة . نعم ، يتعدّى إلى البيع والهبة ونحو ذلك .
واُخرى : يوجد فيه ارتكاز عدم الفرق بين مورده ومورد آخر ، كما في النهي عن القرض الربوي ؛ فإنّه - بمناسبات الحكم والموضوع - نهيٌ بلحاظ الغرض النوعي ؛ لما فيه من المفاسد ، ويتعدّى عنه إلى كلّ معاملة يكون الغرض النوعي منها هو الإلزام بالزيادة .
وأقصد بقولي : إنّ الغرض النوعي منها هو الإلزام بالزيادة : أن يكون طبع المعاملة سنخ طبع يوضح بنفسه أنّ المقصود به هو الإلزام بالزيادة . وأمّا إذا لم تكن المعاملة نفسها تستبطن ذلك ، وإنّما كان الغرض الشخصي منها هو الزيادة ، فلا بأس بذلك . ولو فرض أن تعوّد الناس عليه واشتهر هذا العمل ، فبهذا لا يخرج عن كونه غرضاً شخصيّاً مباحاً .
نعم ، للدولة الإسلاميّة الشرعيّة حينما ترى المصلحة النهيُ عن ذلك .
ومثال ما يكون طبع المعاملة فيه يقتضي كون الغرض هو الإلزام بالزيادة : ما كنّا نتكلّم فيه ، من أ نّه يبيع مائة دينار نقدي بمائة وعشرين ديناراً مؤجّلاً ؛ فإنّه من الواضح أنّ الغرض من ذلك هو الإلزام بالزيادة . وكذلك لو باع شيئاً رخيصاً بقيمة غالية واشترط في ضمن البيع على البايع إقراض المشتري ؛ فإنّ الغرض النوعي من ذلك عين الغرض النوعي من العكس ، أي أن يقرض شيئاً ويشترط في ضمن القرض البيع المحاباتي .
وهناك رواية قد يستفاد منها جواز هذه الحيلة ، أعني البيع المحاباتي مع اشتراط القرض ، وهي رواية محمّد بن إسحاق بن عمّار ، قال : « قلت لأبي الحسن عليه السلام : « إنّ سلسبيل طلبت منّي مائة ألف درهم على أن تربحني عشرة آلاف ، فأقرضها تسعين ألفاً وأبيعها ثوب وشي تقوّم بألف درهم بعشرة آلاف درهم ، قال : لا بأس »(9) .
1 - فإن قلنا : إنّ هذه الرواية لا تدلّ على أنّ الإقراض اُخذ شرطاً في ضمن عقد البيع المحاباتي ، وإنّما كان اتّفاقاً خارجيّاً دون أن يصبح البائع ملزماً بالإقراض ، فتكون الرواية خارجةً عمّا نحن فيه .
2 - وإن قلنا : إنّها تدلّ على ذلك :
أ - فإن قلنا : إنّ الملازمة بين حرمة الربا وبين حرمة ذلك تكون بدرجةٍ لا يقبل العرف التفكيك بينهما ، فالرواية تصبح معارضةً لآية حرمة الربا ، وتسقط عن الحجّيّة .
ب - وإن قلنا : إنّ الملازمة ليست بأقوى من الظهور [ الإطلاقي ] ، فيكفينا حينئذٍ ضعف سند هذه الرواية(10) .
ومثال ما تكون الزيادة فيه غرضاً شخصيّاً : أن يبيع داره بمائة دينار مع خيار الشرط على رأس السنة ، والزيادة التي يأخذها المشتري هي منفعة الدار ؛ فإنّ هذا لا بأس به ؛ إذ طبع المعاملة ليس سنخ عمل ينحصر غرضه في الزيادة : فقد يفكّر شخص ببيع داره لغرضٍ من الأغراض مع جعل خيار الشرط ؛ لاحتمال الندم ، دون أن يكون غرضه ولا غرض المشتري مسألة القرض الربوي .
ولو باع كتابه بثمن رخيص على نحو المحاباة مع إرجاعه بثمن أغلى :
فإن كان الإرجاع بمحض اختيار المشتري - ولو مع الاتّفاق عليه خارج المعاملة ، من دون أن يكون ملزماً بذلك في ضمن العقد الأوّل - فلا بأس به ؛ فإنّ طبع البيع المحاباتي لا يوحي بمسألة الزيادة الربويّة ، بل قد يكون الشخص محتاجاً واقعاً إلى بيع كتابه ، فيبيعه بالمحاباة .
وإن اشترط في ضمن العقد الأوّل الإرجاع بثمن أغلى ، أصبح هنا الإلزام بالزيادة غرضاً نوعيّاً للمعاملة ، فيأتي إشكال الربا .
وقد تحصّل من تمام ما ذكرناه : عدم صحّة بيع مائة دينار نقدي بمائة وعشرين ديناراً مؤجّلاً مثلاً ، وإن كان الدينار في زماننا من غير جنس النقدين .
نصوص جواز البيع بالأكثر ونقد مدركيّتها لصحّة التخريج الربويّ الأوّل
إلّاأنّ هنا إشكالاً ، وهو أنّ روايات جواز البيع بالأكثر في غير المكيل والموزون تدلّ بإطلاقها على جواز ذلك ، ولو مع كون الأكثر مؤجّلاً ، ولو في بيع الدينار . إذن : تلك الروايات تدلّ بإطلاقها على صحّة هذه المعاملة .والجواب عن هذا الإشكال أ نّه :
أ - إن قلنا : إنّ التفكيك بين حرمة الربا القرضي وبين حرمة هذه المعاملة غير ممكن عقلائيّاً ، بحيث يعدّ دليل حرمة الربا القرضي كالنصّ في حرمة هذه المعاملة ، فتلك الإطلاقات تقيّد - لا محالة - بدليل حرمة الربا القرضي الدالّ على حرمة هذه المعاملة الأخصّ من تلك المعاملات .
ب - وأمّا إن قلنا : إنّ دلالة دليل حرمة الربا القرضي على حرمة هذه المعاملة تكون بمستوى الإطلاق ، فلا أقلّ من أ نّهما يتعارضان ويتساقطان ، وتصل النوبة إلى المطلقات الفوقيّة الدالّة على حرمة الربا ، الشاملة للربا القرضي والربا المعاملي ، من دون فرق فيه بين المكيل والموزون وغيره ، أو بين الحالّ والمؤجّل .
التخريج الثاني: وضع الجُعالة على القرض
أن يجعل جُعالةً على القرض ، بأن يقول : « من أقرضني كذا مقدار من المال فله كذا مقدار » ، فتكون الزيادة مستحقّةً بإزاء العمل - وهو الإقراض - لا بإزاء المال حتّى يكون ربا . ولذا : لو فرض أنّ الجعالة كانت باطلةً بسببٍ من الأسباب وكان القرض صحيحاً ، فهو لا يستحقّ حينئذٍ شيئاً من الزيادة .ويرد على هذا التخريج :
أوّلاً : إنّ الغرض النوعي الظاهر من نفس المعاملة هو الزيادة ، ويُصبح بالاقتراض مُلزماً بأداء الزيادة ، فيأتي فيه ما مضى من التعدّي عن مورد دليل حرمة الربا إلى هذا المورد بارتكاز عدم الفرق .
ثانياً : إنّ هذه المعاملة باطلة في نفسها ، وتوضيح ذلك يكون بتحقيق معنى الجعالة بنحوٍ ينكشف منه معنى جملة من أبواب المعاملات ، من قبيل المضاربة والمزارعة والمساقاة والمغارسة ونحو ذلك من الأبواب ، فنقول :
حقيقة الجعالة
يتصوّر في الجعالة بدواً ثلاثة احتمالات :الاحتمال الأوّل : أن تكون معاوضةً بين العمل والجُعل . وهذا الاحتمال ساقطٌ حتماً ، فقهيّاً وعقلائيّاً ، وذلك بالتسالم فتوىً وارتكازاً على أ نّه لا معاوضة بين العمل وبين الجُعل في باب الجعالة ، وإلّا كان الجاعلُ يستحقّ العملَ في مقابل هذا الجُعل ، مع أ نّه لا يستحقّه في مقابله .
وهذا هو الفرق بين باب الجعالة وباب الإجارة : ففي إجارة الأعمال يكون المستأجر مستحقّاً للعمل على الأجير ، بخلاف باب الجعالة .
الاحتمال الثاني : أن يفرض أنّ الجعالة تمليكٌ للمال تمليكاً مشروطاً بالعمل ، فبابه باب التمليك المجّاني ، لكنّه معلّق على العمل ، ويلتزم بأنّ هذا التعليق قد صحّ في المقام على خلاف القواعد الأوّليّة التي تقتضي عدم صحّة التمليك المعلّق ، فلا يمكن أن يقول مثلاً : « لك هذا الدرهم إن أمطرت السماء » . لكن في خصوص موارد الجعالة صحّ ذلك ، على خلاف القاعدة .
وهذا الاحتمال وإن كان أقرب من الاحتمال الأوّل ، لكنّه أيضاً على خلاف الارتكاز الفقهائي والعقلائي ؛ إذ لو حسبنا ما هو المركوز في الأذهان الفقهائيّة والعقلائيّة لرأينا أ نّه لا يمكن أن يفسّر على أساس هذا الاحتمال ، وذلك :
أوّلاً : لا إشكال في أنّ المركوز في هذه الأذهان أنّ الجعالة ليست تمليكاً مجّانيّاً وهبةً مشروطة ومعلَّقة ، ولهذا يسمّى الدرهم : « جُعلاً على العمل » ، وهذا معناه أ نّه اُخذ في معنى الجعالة التعويض بمعنىً من المعاني .
ثانياً : لا إشكال - بحسب النصّ والفتوى فقهائيّاً ، وبحسب الارتكاز عقلائيّاً - في أ نّه إذا تبيّن بطلان الجعالة لسبب من الأسباب ، يُرجع إلى اُجرة المثل ، كما صرّح بذلك الفقهاء(11)
ولا موجب لضمان اُجرة المثل لو لم يكن هنا طعم المعاوضة ، وإنّما كان مجرّد تمليك مجّاني تبيّن بطلانه ، من دون أن يكون العامل قد أقدم على العمل بعنوان المعاوضة حتّى يقال : لو لم يسلّم له المسمّى ثبتت له قيمة المثل والبدل الواقعي بقواعد الضمان .
ثالثاً : من المصرّح به والمتسالم عليه فقهائيّاً - وهو على طبق الارتكاز العقلائي أيضاً - أ نّه إذا جعل جُعلين مختلفين ؛ فقال أوّلاً : « لك عليّ درهم لو وجدت لي ضالّتي » ، ثمّ قال [ ثانياً ] : « لك عليّ دينار لو وجدت لي ضالّتي » ، كانت الجعالة الثانية ناسخةً للجعالة الاُولى . وهذا معناه وجود نوعٍ من المنافاة والمعارضة بالارتكاز بين الجعالتين ، فتكون الثانية ناسخةً للاُولى . ولو كانت مجرّد هبةٍ مشروطة فأيّ منافاةٍ بين الهبتين ؟ ! ولماذا لا تصحّ كلتاها معاً ؟ ! ومجرّد كونهما معلّقتين على شيء واحد لا يوجب منافاةً بينهما ، كما هو واضح .
فعلى أساس هذه القرائن الثلاث - وقرائن اُخرى يمكن تصيّدها من فقه الجعالة - يُعرف أنّ باب الجعالة ليس باب التمليك المجّاني الصّرف .
الاحتمال الثالث : وهو الصحيح ، وحاصله : أنّ أحد موجبات ضمان العمل المحترم عقلائيّاً على الإنسان هو التسبيب : فلو أمر الحلّاق بأن يحلق رأسه دون أن يتعامل معه أو يجري معه عقد الإجارة ، كان ضامناً لقيمة الحلاقة السوقيّة ، وهذا الضمان هو ضمان الغرامة ، من قبيل ضمان اليد بالنسبة إلى الأموال .
والأصل الأوّلي في ضمان الغرامة هو الضمان بالقيمة الواقعيّة ، كما أنّ الأصل الأوّلي في ضمان الأموال هو الضمان بالقيمة الواقعيّة ، ولكن كما قلنا في ضمان الأموال : إنّه وإن كان الأصل الأوّلي فيه هو الضمان بالقيمة ، لكن يمكن للضامن والمضمون له أن يتّفقا على بدل معيّن يكون به الضمان ، فيكون قانون ضمان الغرامة نفسه مقتضياً حينئذٍ لهذا البدل : فهذا القانون له اقتضاءان طوليّان : أحدهما : الضمان بالقيمة السوقيّة ، وثانيهما : ضمان ما اتفقا أن يكون به الضمان .
ويأتي الكلام نفسه في المقام ، فنقول : إنّ الجعالة في الحقيقة ليس بابها باب المعاوضة ولا باب المجّانيّة ، بل باب التسبيب إلى العمل مع تعيين بدل الغرامة وتحويله من القيمة السوقيّة إلى شيء آخر ؛ فالبدليّة المطعّمة في باب الجعالة هي بدليةُ باب الغرامة لا باب المعاوضة .
وهذه هي الحال أيضاً في المزارعة والمساقاة والمغارسة والمضاربة ونحو ذلك .
وبهذا يُتحفّظ على النقاط الثلاث الارتكازيّة الماضية ، وهي : ارتكازيّة البدليّة ، وأ نّه لو بطلت الجعالة يُنتقل إلى القيمة السوقيّة ؛ إذ مع بطلان التحديد الخارجي لما يضمن يُرجع إلى القاعدة الأوّليّة ، وأ نّه إذا جعل جعالتين كانت الثانية ناسخةً ؛ إذ ضمان الغرامة يستحيل أن يتحدّد بتحديدين مختلفين .
وبهذا كانت هذه الأبواب في مقابل الإجارة ؛ لأنّ الإجارة تمليكٌ بعوض ، وفي هذه الأبواب يحدّد ضمان الغرامة المفروض ثبوته في المرتبة السابقة .
وبناءً على هذا نقول : إنّ جعل الزيادة على القرض بنحو الجعالة غير معقول ؛ لأنّ عمليّة القرض ليس لها ضمان ولا قيمة وراء قيمة المال المقترض نفسه ، وليس هناك - مُسبقاً وقبل الجُعل - بدلان : أحدهما في مقابل المال ، والثاني في مقابل نفس الإقراض ؛ فلو جعل جُعلاً في مقابل الإقراض زائداً على ما هو في مقابل نفس المال ، كان معنى ذلك ثبوت بدلين : أحدهما في مقابل نفس المال ، والثاني في مقابل الإقراض ، مع أ نّه لا ماليّة للإقراض عدا ماليّة المال المقترض نفسها ، وليس له ماليّة اُخرى وراء ماليّة ذلك المال .
ولا معنى لأن يفرض وجود ضمانين لهذه الماليّة الواحدة : أحدهما بعقد القرض ، والآخر بعقد الضمان ، وقد فرضنا أنّ الجعالة تعيينٌ للضمان المفروض مسبقاً .
إذن : لو صحّت الجعالة في المقام وصحّ القرض لكان معنى ذلك ثبوت ضمانين لهذه الماليّة الواحدة .
المصادر :
1- المائدة : 1
2- وسائل الشيعة 18 : 133 ، الباب 6 من أبواب الربا ، الحديثان 1 و 3
3- وسائل الشيعة 18 : 155 ، الباب 17 من أبواب الربا ، الحديث 1
4- رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدلائل 8 : 425 . ولكن لم يُتّفق على جوازه في النسيئة ، فراجع : النهاية في مجرّد الفقه والفتاوى 1 : 378 ؛ السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي 2 : 260
5- وهي : « كلّ مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه » ، فراجع : عوالي اللآلئ 3 : 212 ، الحديث 59 ؛ مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل 13 : 303 ، الباب 9 من أبواب الخيار ، الحديث 1 ، وهو نبويٌّ جبره بعض الفقهاء بعمل الأصحاب كافّة ، فراجع : جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام 23 : 83
6- كأنْ يعقد على الصغيرة لساعةٍ لتحرم عليه اُمّها ، ولذلك لم يصحّح بعضهم العقد المنقطع فيما لو جعل المدّة بمقدار لا يصل إلى البلوغ ( نموذج في الفقه الجعفري : 245 ) . والأرجح أ نّه قدس سره يقصد الميرزا القمّي رحمه الله في رسالته حول العقد على الصغيرة ، فراجع : رسائل الميرزا القمّي 1 : 311
7- وسائل الشيعة 7 : 408 ، الباب 53 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها ، الحديث 4 ، بالمضمون
8- راجع مثلاً : منهاج الصالحين ( تعليقة الشهيد الصدر قدس سره ) 2 : 41 ، المسألة 1
9- وسائل الشيعة 18 : 54 ، الباب 9 من أبواب أحكام العقود ، الحديث 1
10- وذلك بعليّ بن حديد الذي ضعّفه كلّ من وجدناه قد تعرّض له من الفقهاء ، وأوّلهم الشيخ رحمه الله ، فراجع : الاستبصار 1 : 40 ، 3 : 95
11- وهذه قاعدة كلّيّة طبّقت على الجعل ( المناهل : 613 ) ، وراجع : مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام 11 : 154 ؛ كفاية الأحكام 2 : 513 ؛ جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام 35 : 193