المعاملات البنكيّة في الاسلام

يقع الكلام حول المعاملة القرضيّة المتعارفة في البنوك ، وهي تارةً تكون بإيداع المال في البنك مع أخذ الربح ، واُخرى‏ بالاستقراض منه مع إعطاء الربح ، والربح في الثاني أكبر عادةً منه في الأوّل ، ومقدار التفاوت هو الذي يشكّل منفعة البنك .
Tuesday, January 24, 2017
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
المعاملات البنكيّة في الاسلام
 المعاملات البنكيّة في الاسلام

 





 

يقع الكلام حول المعاملة القرضيّة المتعارفة في البنوك ، وهي تارةً تكون بإيداع المال في البنك مع أخذ الربح ، واُخرى‏ بالاستقراض منه مع إعطاء الربح ، والربح في الثاني أكبر عادةً منه في الأوّل ، ومقدار التفاوت هو الذي يشكّل منفعة البنك .
والكلام يقع في أ نّه : هل يمكن إخراج هذه المعاملة عن العنوان المحرّم ، وهو القرض الربوي ، وإدخالها في عنوان [ غير ] محرّم أم لا ؟
ولأجل ذلك فنحن بحاجةٍ هنا إلى تمهيد أبحاث ثلاثة مقدّمةً لتنقيح المقصود في المقام ، وهي :
1 - حقيقة القرض .
2 - حقيقة الربا في القرض .
3 - الواقع الخارجي للمعاملات البنكيّة .

حقيقة القرض وتعريفاته في الفقه الإسلامي

أمّا الكلام في حقيقة القرض - فهو أمرٌ لم ينَقّح الحديث عنه في كلمات الأصحاب ، إلّاأنّ الشيخ الأعظم رحمه الله ذكر عبارةً وهو في مقام حقيقة القرض في باب البيع ( الذي عرّفوه بأ نّه : مبادلة مال بعوض )؛ حيث قال - بمناسبة الحديث عمّا اُورد على هذا التعريف بالنقض بالقرض - : إنّ القرض تمليكٌ بضمان‏(1) .
وعلى أيّة حال ، ففي تعريف القرض - الذي هو بحسب الحقيقة معاملةٌ عقلائيّة اُمضيت شرعاً - تعريفات أربعة :
1 - التعريف الأوّل: مبادلة مال بعوض:
إنّ القرض أيضاً مبادلة مال بعوض ، وهذا هو مبنى من جعل القرض نقضاً على تعريف البيع بكونه مبادلةَ مالٍ بعوض . طبعاً : ليست كلّ مبادلة مال بعوض قرضاً ، وإنّما هو قسمٌ خاصّ من مبادلة المال بعوض ؛ حيث يؤخذ فيه شرطان :
1 - أن يكون العوض ذمّيّاً لا عيناً خارجيّةً .
2 - أن يكون العوض من سنخ باب ضمان الغرامة(2) ، لا من سنخ باب ضمان المعاوضات التي يُلحظ فيها جهات خارجيّة أيضاً دخيلة في غرض المتعاملين إضافةً إلى القيمة الأصليّة للعين .
ومع فقدان أحد الشرطين لا تعدّ [ المبادلة ] - بحسب الارتكاز العقلائي - قرضاً .
وقد أورد الشيخ الأعظم قدس سره على هذا التعريف إشكالاً ، حاصله : لو كان القرض مبادلة مالٍ بعوض [ لدخل ] فيه ربا المعاوضة ، والحال أ نّه لا يدخل فيه‏(3) . وقد كان مقصوده رحمه الله أنّ المرتكز في ذهن الأصحاب من معنى القرض ليس هذا المعنى ؛ فإنّهم لم يتعرّضوا فيه لربا المعاوضة ولم يحتملوه فيه ، في حين أ نّهم بحثوا في جواز الربا وعدمه في مطلق المعاوضة غير البيع ، ومنهم من قال بحرمته أو احتملها .
وقد ذكر السيّد الاُستاذ (مدّ ظله)(4) في مقام تفسير كلام الشيخ الأعظم رحمه الله ، على ما في تقريرات بحثه : أ نّه في باب ربا المعاوضة تلحظ الزيادة الكمّيّة لا الزيادة في القيمة : فلو أبدل فضّةً بفضّةٍ أكثر ، كان ذلك رباً غير جائز ولو فُرض تساوي العوضين في القيمة ، وهذا لا يأتي في باب القرض : فلو أبدل في باب القرض الريال العراقي - الذي يساوي أربعة دراهم - بأربعة دراهم لم يكن ذلك رباً ، وإن كانت الفضّة في الدراهم الأربعة أكثر منها في الريال .
لكن يرد على ما ذكره السيّد الاُستاذ ( مدّ ظلّه ) أ نّه : ما هو المقصود من مبادلة الريال بأربعة دراهم في باب القرض ؟
أ - فإن قصد بذلك أنّ تعيين البدل اُخذ في نفس المعاملة القرضيّة ، ففرض في نفس إنشاء القرض كون البدل أربعة دراهم ، فهذا ليس قرضاً حتّى عند من أدخل القرض في باب مبادلة المال بعوض ؛ لفقدان الشرط الثاني ، وإنّما هو بيع ، ويكون ربويّاً محرّماً حتماً .
ب - وإن قصد بذلك أ نّه اُعطي - في مقام الوفاء - أربعة دراهم بدلاً عن إعطاء الريال دون أخذ ذلك في إنشاء المعاملة القرضيّة ، فالقرض إذاً لم يدخل فيه رباً بأيّ وجهٍ من الوجوه .
نعم ، يبقى الكلام في هذا الوفاء :
فإن بنينا على أنّ الوفاء ليس إلّاتطبيقاً لما في الذمّة على عينٍ خارجيّةٍ - كما هو الصحيح - ، فلا إشكال في الوفاء أيضاً .
وإن قلنا : إنّ الوفاء معاوضةٌ مستقلّة بين ما في الذمّة والعين الخارجيّة ، جاء حينئذٍ إشكال الربا في هذا الوفاء ، سواءٌ فرضنا القرض معاوضةً أم لا .
وهناك تفسيرات اُخرى لكلام الشيخ الأعظم رحمه الله نغضُّ النظر عنها .
مناقشة التعريف الأوّل:
بدورنا نقول في مقام إبطال هذا التعريف للقرض - مضافاً إلى أ نّه خلاف المرتكز العقلائي في باب القرض على ما سوف يأتي توضيحه إن شاء اللَّه في مقام بيان التعريف المختار - : إنّ هذا خلاف ما يُستفاد من الروايات الواردة في باب بيع المثل بالمثل ، الدالّة على أ نّه :
أ - إذا كان الشي‏ء مكيلاً أو موزوناً لم تجرِ فيه الزيادة ، سواءٌ كان العوض حالّاً أم في الذمّة .
ب - وإذا لم يكن مكيلاً ولا موزوناً ولا معدوداً جازت الزيادة ، سواءٌ كان العوض حالّاً أم في الذمّة .
ج - وإذا كان معدوداً فصّل بين فرض كون العوض حالّاً وبين فرض كونه في الذمّة .
فالذي يظهر من هذه الروايات أنّ سنخ المعاملة - سواءٌ كان العوض حالّاً أم في الذمّة - شي‏ءٌ واحد ، وهو البيع .
2 - التعريف الثاني: هبة العين مع استئمان الماليّة:
ذكر المحقّق الإيرواني رحمه الله (5)أنّ القرض عبارة عن هبة العين مع استئمانٍ على الماليّة ، فلا يجب عليه ردّ العين ؛ لأنّه وهبها إيّاه ، ويجب ردّ الماليّة ؛ لأنّها كانت أمانةً عنده ، ويجب ردّ الأمانات .
مناقشة التعريف الثاني:
ويرد على التعريف الثاني : أ نّه ما هي الماليّة التي استأمنه عليها ؟ هل هي الماليّة الموجودة في ضمن هذه العين ؟ أم الماليّة في الذمّة ؟ أم ذات الماليّة بلا تقييدها بظرف الخارج ولا الذمّة ؟
أ - فإن قيل بالأوّل ، ورد عليه أ نّه : لا إشكال في أنّ المقترض مالكٌ لكلّ ما أخذه خارجاً . ولو فرض أنّ ماليّته باقية على ملك المقرض ، ويد المقترض أمانة عليها ، لزم الشركة بين المقرض والمقترض في ما هو الموجود خارجاً ،وليس الأمر كذلك حتماً .
ب - وإن قيل بالثاني ، لزم فرض ثبوت ماليّة في ذمّة المقترض في المرتبة السابقة حتّى يعقل فرض استئمانه عليها ، ونحن نتكلّم في أ نّه كيف ثبتت الماليّة في ذمّة المقترض ؟
ج - وإن قيل بالثالث ، قلنا : إن الماليّة - بلا تعيين طرفٍ لها خارجيٍّ أو ذمّيٍّ - ليست إلّامفهوماً من المفاهيم ، فلا قيمة لها ، ولا معنى للاستئمان عليها .
3 - التعريف الثالث: التمليك على وجه الضمان‏:
ذكر الشيخ الأعظم رحمه الله أنّ القرض تمليكٌ على وجه الضمان‏(6) ، والمقصود - على ما فسّره السيّد الاُستاذ ( مدّ ظله )(7) ، واختاره هو - أنَّ المقرض يملّك العينَ للمقترض ، لا مجّاناً حتّى لا يكون عليه شي‏ء ، ولا في مقابل ورود شي‏ء آخر في عهدته - كالمثل أو القيمة - حتّى يكون هذا مبادلة مال بمال ، بل في مقابل ورود نفس هذا الشي‏ء في عهدته ، كما هي الحال في الغاصب الذي يغصب شيئاً ، فيقع نفس ذلك الشي‏ء - بمجرّد الغصب - في عهدته .
والفرق بين ما نحن فيه وبين الضمان الثابت في باب الغصب أ نّه : في باب الغصب تصبح العين بذاتها وعينيّتها في عهدة الغاصب ، فإذا اُتلفت بقيت ماليّتها ونوعيّتها في عهدته . أمّا في ما نحن فيه ، فتدخل العين في عهدة المقترض ببعض مراتبها ، أي‏بمقدار الماليّة والنوعيّة من أوّل الأمر ، وذات العين بما هي عين معيّنة لا تدخل في عهدته ، فليس عليه إرجاع العين ، بل إرجاع الماليّة .
مناقشة التعريف الثالث:
ويرد على هذا التعريف :
أوّلاً : إنّ الماليّة والنوعيّة : تارةً تفرض شيئاً مستقلّاً في قبال العين ، واُخرى تفرض وجوداً تنزيليّاً لها :
أ - فإن فرضت وجوداً تنزيليّاً للعين ، قلنا : إنّ العرف إنّما يعتبرها وجوداً تنزيليّاً ومسامحيّاً لها حينما يتنزّل من العين إلى المراتب المتأخّرة من النوعيّة والماليّة بالاضطرار ، كما هي الحال في باب الغصب ؛ فإنّه يجب عليه - أوّلاً وبالذات - إرجاع العين ، ثمّ ومن باب الاضطرار وعدم وجود العين - لتلفها - يتنزّل إلى وجود مسامحي وتنزيلي لها ، وهو ما يماثلها من المثل أو القيمة . لذا : لو رجعت العين وجب عليه أداؤها .
ب - أمّا في المقام ، فالمفروض أ نّه ليس عليه أداء العين وإن كانت موجودةً ، وإنّما يجب عليه أداء النوعيّة والماليّة ، فيما ذات العين أصبحت مملوكةً له لا يجب عليه ردّها . وهذا معناه أنّ النوعيّة والماليّة لوحظت مستقلّةً ، من قبيل لحاظ الكلّي في مقابل الفرد ، وهذا يرجع إلى المبادلة ؛ فإنّ المبادلة ليست متقوّمةً بكونها بين مالين متباينين ، بل يمكن أن تكون بين المصداق والكلّي ، كأن يبيع أوقية من الحنطة معيّنةً بأوقية كلّيّة في الذمّة .
ثانياً : إنّ ما ذكره ( دام ظلّه ) خلطٌ بين باب العهدة وباب الذمّة ؛ فإنّ العهدة إنّما هي ظرف وجوب الشي‏ء على الشخص ، والذمّة هي ظرف استقرار المال عليه ، وهما :
أ - قد يجتمعان ، كما في من غصب شيئاً وأتلفه ، فقد اشتغلت ذمّته بالمال ووجب عليه أداؤه .
ب - وقد يفترقان ، كما في من غصب شيئاً وما زالت العين المغصوبة موجودةً بعدُ ، فيجب عليه ردّها دون أن يكون في ذمّته شي‏ء ، فالعهدة هنا موجودة ، فيما الذمّة غير موجودة . وكما في من اشترى شيئاً والبائع لم يسلّم العين بعدُ ؛ فالمشتري ذمّته مشغولةٌ بالثمن ، لكن لا يجب عليه أداؤه ما لم يسلّم البائع العين ، فالذمّة هنا موجودةٌ ، فيما العهدة غير موجودة .
وفي باب القرض تصبح الذمّة مشغولةً ، كما يجب عليه الأداء ، لا أ نّه يثبت في عهدته وجوب الأداء فقط .
فما ذكره السيّد الاُستاذ ( مدّ ظلّه ) في تعريف القرض لا يفسّر كيفيّة اشتغال الذمّة ، غاية ما هناك أنّ المالك جعل هذه العين - بمقدار ماليّتها ونوعيّتها - في عهدة المقترض .
التعريف الرابع التملّك بالحيازة والضمان باليد:
والمختار في تعريف القرض هو : أنّ التملّك في القرض يكون بالحيازة ويكون الضمان باليد ، فيما شغل المالك تعيين لون اليد ونوعها .
وتوضيح المقصود : أنّ لليد اقتضاءين طوليّين :
1 - التملّك بالحيازة .
2 - الضمان في طول تملّك شخص آخر بالحيازة .
فإذا تملّك أحدٌ شيئاً بالحيازة ، ثمّ وضع شخص آخر يده على ذلك المال ، كان لهذه اليد اقتضاءان :
الاقتضاء الأوّل : التملّك بالحيازة ، إلّاأنّ هذه اليد - باعتبارها مسبوقةً بيد ـ اُخرى - لا تؤثّر هذا الأثر إطلاقاً ؛ لكون ذلك خلاف حرمة الحيازة السابقة والمالك الأوّل ، فيصبح تأثير هذه اليد مشروطاً برضا المالك الأوّل بذلك وإذنه به حتّى لا يكون منافياً لحرمة ملكه وسلطنته .
الاقتضاء الثاني : الضمان ، وحيث إنّه بلحاظ حرمة ملك المالك الأوّل ، فيكون أيضاً مشروطاً بعدم رضاه وإذنه في عدم الضمان ، وإلّا فلا ضمان .
فالمالك هو الذي يعيّن مصير اليد الثانية ولونها من كونها مؤثّرةً لكلا الأثَرَين [ السالِفَين ] : الملكيّة والضمان ، أو غير مؤثّرة لشي‏ء منهما ، أو مؤثّرة لأحدهما دون الآخر . فالصور العقليّة هنا أربع :
الصورة الاُولى : أن تجعل اليد الثانية غير مؤثّرة في التملّك ولا الضمان ، وهذه على قسمين :
القسم الأوّل : أن يعطي صاحب اليد الاُولى المالَ إلى اليد الثانية من باب فرضها كأ نّها هي اليد الاُولى ، أي بعنوان الاستنابة والأمانة ، وذلك كما في الوديعة والتوكيل ، فاليد الثانية لا تؤثّر الملك ولا الضمان ، وذلك من باب السالبة بانتفاء الموضوع ؛ إذ كأ نّها ليست يداً اُخرى حتّى تؤثّر أثراً جديداً .
القسم الثاني : أن لا يكون عدم تأثير اليد الثانية من باب السالبة بانتفاء الموضوع كما في القسم الأوّل ، بل من باب أنّ صاحب اليد الاُولى : لم يجوّز التملّك ؛ فلم تؤثّر اليد الثانية أثر التملّك ، وكان يرضى بعدم الضمان ؛ فلم تؤثّر اليد الثانية في الضمان [ أيضاً ] ، وذلك كما في باب العارية .
وبما ذكرناه ظهرت النكتة الفنّيّة للفرق الذي ذهب إليه المشهور بين الوديعة وبين العارية ( من أنّ شرط الضمان في باب الوديعة يلغو وفي باب العارية ينفذ )(8) ، وتلك النكتة هي أ نّه :
في باب الوديعة يكون عدم الضمان من باب أنّ يد الثاني فرضت نائبةً عن اليد الاُولى في الحفظ ، فكأ نّها هي اليد الاُولى ، فلا موضوع للضمان ، فالشرط يلغو .
أمّا في باب العارية ، فعدم الضمان يكون من باب أنّ صاحب اليد لم يُرد الضمان ، فإذا أراده وسجّله بالشرط تسجّل لا محالة .
الصورة الثانية : أن لا تؤثّر اليد الثانية أثر الملك : بأن لا يرضى صاحب اليد الاُولى بذلك ، لكنّها تؤثّر أثر الضمان ، بأن لا يرضى صاحب اليد الاُولى بأن يذهب ماله هدراً ، وذلك كما في باب الغصب ، فالغاصب لا يملك ؛ لعدم إذن المالك في ذلك ، وهو يضمن إذا تلفت العين في يده ؛ لعدم رضا المالك بأن يذهب ماله هدراً .
الصورة الثالثة : أن تؤثّر اليد الثانية أثر الملك : بأن يرضى صاحب اليد الاُولى بذلك ، ولا تؤثّر الضمان ؛ لرضا المالك بذهاب ماله مجّاناً وهدراً ، وذلك كما في باب الهبة : فالتملّك في الهبة يكون بالحيازة من قبل اليد الثانية ، وعقد الهبة شُغلُه هو تعيين لون اليد وإبراز رضا المالك بذلك . وهذه هي النكتة الفنّيّة في كون قوام الهبة بالقبض .
الصورة الرابعة : أن تؤثّر اليد الثانية الأثرين : فالمالك يرضى بتملّك صاحب اليد الثانية ، لكنّه لا يرضى بذهاب ماله هدراً . فاليد الثانية تؤثّر كلا أثريها من التملّك بالحيازة والضمان باليد ، إلّاأنّ الضمان هنا يكون بمجرّد الأخذ ، بخلاف باب الغصب الذي كان الضمان فيه بالتلف ؛ وذلك لأنّ هذا المال‏ قد تلف على المالك بمجرّد الأخذ ؛ لأنّه بمجرّد الأخذ أصبح ملكاً للثاني بالحيازة .
وما ذكرناه يفسّر لنا أمرين ارتكازيّين في باب القرض ، هما :
الأمر الأوّل : عدم رجوع القرض إلى المبادلة ، مع كونه في الوقت نفسه موجباً للضمان .
الأمر الثاني : كون قوام القرض بالقبض ؛ فإنّ هذا أيضاً أمرٌ ارتكازي عقلائي على طبق القاعدة : فإنّه وإن أمكن أحياناً كون القبض شرطاً تعبّديّاً - كما في بيع الصرف - ، لكن من البعيد جدّاً كونه كذلك في باب القرض ؛ فإنّ لزوم القبض في القرض أمرٌ تطابقت عليه كلُّ الاتّجاهات الفقهيّة - الشيعيّة وغير الشيعيّة - ، وكذا القوانين العقلائيّة - كالرومانيّة والفرنسيّة والألمانيّة - منذ آلاف السنين إلى يومنا هذا ، وهو المرتكز في ذهننا العقلائي . ومن البعيد جدّاً كونه أمراً تعبّدياً حصل عليه صدفةً هذا التطابق العجيب بين جميع الاتّجاهات الفقهيّة على اختلافها وبين القوانين العقلائيّة على تضاربها ، وهذا التطابق نفسه حاصلٌ أيضاً في الهبة والعارية والوديعة .
ويؤيّد ذلك المعنى اللغويُّ للقرض ؛ فإنّ « اقترض » فسّر بمعنى « أخذ وتناول » ، كما فسّر « أقرض » بمعنى « أعطى وناول منتظراً للمجازاة »(9) ؛ فهذا كلّه بابه باب الأخذ والعطاء ، لا باب إنشاء التمليك والتملّك .
فالتعريف المختار للقرض يفسّر لنا تمام الارتكازات العقلائيّة في هذا الباب .
*حقيقة الربا في القرض
وأمّا البحث الثاني ، فهو البحث في حقيقة الربا في القرض ، حيث نبحث هنا عن أمرين :
أوّلاً : حرمة الربا في القرض إطلاقاً .
ثانياً : تصوير أساليب أخذ الربا في القرض .
1 - الأمر الأوّل: الحرمة الإطلاقيّة للربا القرضي‏:
قد يستشكل في حرمة الربا في غير موارد ربا المعاوضة ، بأن يخصّص ذلك بخصوص المكيل والموزون ، كما هي الحال في ربا المعاوضة ؛ وذلك لأحد إشكالين :
الإشكال الأوّل: إجمال المطلقات وقصور الأدلّة الخاصّة:
لا يمكن إثبات حرمة الربا القرضي على الإطلاق ، لا بالأدلّة العامّة - من قبيل الآية الشريفة - ، ولا بالأدلّة الخاصّة .
أ - أمّا الأدلّة العامّة فلإجمالها ؛ إذ لو بنينا على إطلاقها لَلَزِم حرمة مطلق الزيادة التجاريّة ؛ إذ الربا - لغةً - بمعنى الزيادة(10) ، وهذا يستلزم تخصيص الأكثر ؛ إذ التاجر عادةً إنّما يتاجر بداعي الزيادة والربح ، ولا إشكال في جواز الزيادات والأرباح المتعارفة في التجارات .
ب - وأمّا الأدلّة الخاصّة ، فما يمكن الاستدلال به على المقصود روايات أربع :
الرواية الاُولى : رواية داود الأبزاري ، قال : « لا يصلح أن تقرض ثمرة وتأخذ أجود منها بأرض اُخرى غير التي‏ أقرضت فيها »(11) .
ويرد على الاستدلال بها على المقصود :
أوّلاً : أ نّه ليس فيها شرط الأجوديّة والزيادة ، وإنّما هي نهيٌ عن أخذ الأجود في مقام الاستيفاء ، وقد ورد النهي عن ذلك في نفسه في عدّة روايات‏(12) ، وهو محمولٌ على الكراهة بقرينة روايات الرخصة في ذلك‏(13) .
ثانياً : إنّ الرواية تختصّ بالمثليّات ، ولا يستفاد منها الحرمة على وجه الإطلاق ، وذلك بقرينة قوله : « وتأخذ أجود منها » ؛ فإنّه فرض أخذ شي‏ء من جنس ما أعطاه ، ولم يفرض أخذ القيمة .
ثالثاً : ضعف السند بداود الأبزاري‏(14) .
الرواية الثانية : رواية [ حفص ] بن غياث ، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال : « الربا رباءان » ، إلى أن قال : « وأمّا الربا الحرام ، فهو الرجل يقرض قرضاً ويشترط أن يردّ أكثر ممّا أخذه ، فهذا هو الحرام »(15) . وهذه أحسن من سابقتها ؛ لوجود الشرط فيها .
ويرد على الاستدلال بها :
أوّلاً : إنّها أيضاً مختصّة بالمثلي ، بقرينة قوله : « يردّ أكثر ممّا أخذه » ؛ فإنّ هذا التعبير لا يشمل مثل ما إذا أعطى جاريةً وأخذ آلاف الدنانير .
ثانياً : ضعف السند بالقاسم بن محمّد(16) .
الرواية الثالثة : رواية إسحق بن عمّار ، عن أبي الحسن عليه السلام : « سألته عن الرجل يكون له مع رجلٍ مالٌ قرضاً ، فيعطيه الشي‏ء من ربحه مخافة أن يقطع ذلك عنه ، فيأخذ ماله من غير أن يكون شرط عليه ، قال : لا بأس بذلك‏ ما لم يكن شرطاً »(17) .
ويرد على الاستدلال بها :
أوّلاً : إنّه قد يدّعى اختصاصها بالمثلي ، بقرينة قوله : « فيأخذ ماله » ؛ فإنّ هذا تعبيرٌ يقال في الدرهم والدينار باعتبار أنّ ما يأخذه كأ نّه نفس ما أعطاه ؛ إذ لا يلحظ فيه إلّاماليّته ، فلا يشمل هذا التعبير القيميَّ الذي يسترجع ثمنه .
ثانياً : ضعف السند بموسى بن سعدان في طريق الشيخ‏(18) ، وعلي بن إسماعيل في طريق الصدوق‏(19) .
الرواية الرابعة : رواية إسحق بن عمّار : « قلت لأبي ابراهيم عليه السلام : الرجل يكون له على‏ الرجل المال قرضاً ، فيطول مكثه عند الرجل ، لا يدخل على صاحبه منه منفعة ، فينيله الرجل الشي‏ء بعد الشي‏ء كراهية أن يأخذ ماله ، حيث لا يصيب منه منفعةً ، أيحلّ ذلك له ؟ قال : لا بأس إذا لم يكن بشرط »(20) . وفي طريق آخر : « إذا لم يكونا شرطاه »(21) .
وهذه أحسن من سوابقها ؛ لأنّ سندها معتبر(22) .
لكن مع ذلك ، يرد على الاستدلال بها : أنّ المقصود منها المثلي ، بقرينة قوله : « كراهية أن يأخذ ماله » . هذا إذا لم يدّع أنّ نفس المال في أمثال هذه الموارد ينصرف إلى النقد ، وإلّا : فأيّ شي‏ء يأخذه وينمّيه ؟! وما يتعارف أخذه وتنميته هو النقد .
والتحقيق : حلّ المشكلة عن طريق تتميم دلالة المطلقات ومنع إجمالها ، وتوضيح ذلك : إنّ تلك المطلقات لا تشمل الأرباح التجاريّة المتعارفة ؛ فإنّ ربا الشي‏ء بمعنى زيادة ذلك الشي‏ء(23) ، وهذا لا يصدق في مثل مبادلة عينٍ قيمتُها دينار بألف دينار ؛ إذ هنا لم تحصل زيادةٌ في ذلك الشي‏ء نفسه ، وإنّما استبدل القليل بالكثير .
فنقول : إنّ للربا - بمعنى الزيادة في الشي‏ء نفسه - ثلاثة مصاديق :
المصداق الأوّل : الزيادة في القرض في مقابل التأجيل : بأن يكون له في ذمّة زيد مقدار من المال ، فيستمهله زيد ، فيمهله بشرط أن يكون له في ذمّته أكثر ممّا كان بدينارٍ مثلاً ، وهذا يصدق عليه حقيقةً الزيادةُ في الشي‏ء نفسه ؛ فإنّه زاد ما كان له في ذمّته .
المصداق الثاني : الزيادة في القرض نفسه ابتداءً ، لا في مقابل التأجيل :
كما لو أقرض ديناراً بشرط أن يُرجع إليه دينارين . وهذه ليست بحسب الحقيقة زيادةً في ذلك الشي‏ء نفسه :
فإن فسّرنا القرض بالتفسير الأوّل الراجع إلى المعاوضة ، رجع إلى ربا المعاوضة ، فتشترط فيه المثليّة ، على ما سوف يظهر في المصداق الثالث .
وإن فسّرناه بأحد التفسيرات الاُخرى التي يوجد لها جامع - وهو رفع المقرض يده عن خصوصيّة العين في المثليّات وعن خصوصيّتها النوعيّة أيضاً في القيميّات مجّاناً - كان الشي‏ء الذي بقي عبارة عن الماليّة التي فرض فيها الزيادة ، فيصدق - عرفاً وبالمسامحة - زيادة الشي‏ء نفسه .
المصداق الثالث : الزيادة في المعاوضة بشرط كون الثمن مثل المثمن ومن جنسه : كالحنطة بالحنطة ؛ فإنّه حينئذٍ : وإن لم يصدق أيضاً زيادة الشي‏ء حقيقةً - لما عرفت من أنّ الزيادة في المبادلة ترجع إلى إعطاء شي‏ء قليل وأخذ شي‏ء كثير في مقابله ، وهذا غير زيادة الشي‏ء - ، إلّاأ نّه مع ذلك تصدق الزيادة عرفاً وبالمسامحة ؛ باعتبار أنّ خصوصيّة العين ليست تحت الأغراض العقلائيّة النوعيّة ، فيغضّ النظر عنها ويُقصَرُ على جنس ذلك الشي‏ء وماليّته ؛ فإنّهما [ هما ] الدخيلان في الأغراض النوعيّة العقلائيّة ، فكأ نّه يقال في المقام : إنّ الحنطة قد زادت .
إذا عرفت ما ذكرناه ، تعلم أنّ الأخذ بإطلاق أدلّة حرمة الربا لا يستلزم تخصيص الأكثر . نعم ، يخرج منه بعض الموارد ، من قبيل بيع غير الموزون والمكيل ، لكنّ هذا ليس تخصيصاً للأكثر .
وبما ذكرناه اتّضح بطلان ما ذهب إليه تيّارٌ سُنّي هنا من عدم تماميّة المطلقات بالبيان الماضي أو ما يشبهه . أمّا أخبارهم الخاصّة ، ففي غاية التشويش ، وهو ما أدّى ببعضهم إلى إنكار حرمة القرض الربوي‏(24) .
كما اتّضح أيضاً بطلان ما ذهب إليه تيّارٌ شيعيّ في المقام يقول : إنّ القدر المتيقّن من الأدلّة المطلقة لحرمة الربا هو الربا المعاوضي ؛ حيث عرفت أنّ القدر المتيقّن منها هو الربا القرضي في مقابل التأجيل ؛ إذ هو الزيادة الحقيقيّة للشي‏ء ، وتشمل بإطلاقها الربا القرضي الابتدائي والربا المعاوضي ، على كلام في خصوص الآية الشريفة ؛ باعتبار جعلها الربا في مقابل البيع ، فقد يقال : إنّها تختصّ بالربا القرضي ولا تشمل ربا البيع‏(25) .
الإشكال الثاني: معارضة نصوص المكيل والموزون:
ثمّة روايات تقول : « لا يكون الربا إلّافي ما يُكال أو يوزن »(26) ، وقد يدّعى أ نّها شاملة للربا المعاوضي والقرضي معاً ، فتتعارض في غير المكيل والموزون مع مطلقات حرمة الربا ، وتقدّم عليها بالأخصّيّة ، كما تعارض الروايات الدالّة على حرمة الربا القرضي بالخصوص والعموم من وجه .
وهذه المشكلة لم يتعرّض لها في الفقه الشيعي ، كما لم يتعرّض للمشكلة الاُولى فيه أيضاً . لكنّ الفقه السنّي - الذي تعرّض للمشكلة الاُولى - لم يتعرّض أيضاً لهذه المشكلة ؛ وذلك لعدم وجود روايات عندهم تقول : لا ربا إلّافي المكيل والموزون . فهذا الإشكال إنّما يتصوّر على مذهبنا .
ويمكن هنا الاعتذار عن المشهور باعتذارين غير صحيحين ، هما :
الاعتذار الأوّل : أن يقال : إنّ الربا الحقيقي عند الفقهاء إنّما هو الربا البيعي ، أمّا القرض الذي فرض فيه الزيادة فليس بربا ، وإنّما هو حرام بدليلٍ خاصّ دلّ على حرمته . إذن : فدليل حلّيّة الربا في غير المكيل والموزون لا يمتُّ إلى القرض الربوي بصلة .
وهذا الاعتذار متناسب جدّاً مع التيار العامّ الشيعي الذي نقلناه آنفاً .
وجوابه : ما مضى ، من أنّ القرض الذي فيه الزيادة :
إن كانت الزيادة فيه في مقابل التأجيل ، كان هو القدر المتيقّن من الربا وكان هو الربا الحقيقي .
وإن كانت الزيادة ابتدائيةً ، كان داخلاً أيضاً - بحسب الفهم العرفي - في عنوان الربا .
الاعتذار الثاني : أن يقال : قد تمّ عند المشهور الإطلاق في الربا القرضي في الروايات الخاصّة ، فأوقعوا المعارضة بالعموم من وجه بينها وبين روايات : « لا يكون الربا إلّافي ما يُكال أو يوزن » .
وتوضيح ذلك : أنّ روايات : « لا يكون الربا إلّافي ما يُكال أو يوزن » لها معارضان :
المعارض الأوّل : روايات حرمة الربا المعاملي ، والنسبة بينهما هي العموم من وجه .
المعارض الثاني : روايات حرمة الربا القرضي ، والنسبة بينهما هي العموم من وجه [ أيضاً ] .
لكنّ بعض روايات تجويز الربا في غير المكيل والموزون ورد في خصوص البيع ، حيث يقول : « لا بأس بمعاوضة المتاع - [ مع الزيادة ] - ما لم يكن كيلاً ولا وزناً »(27) . إذن : فإطلاق روايات حرمة الربا المعاملي يسقط من هذه الناحية ، وتبقى المعارضة بالعموم من وجه بين روايات حرمة الربا القرضي وبين روايات تجويز الزيادة في غير المكيل والموزون على وجه الإطلاق . وهنا :
أ - إمّا أن نقول بترجيح أدلّة حرمة الربا القرضي بلحاظ أداة العموم ، وذلك في الرواية النبويّة المنجبرة بعمل الأصحاب ، وهي : « كلّ قرض جرّ منفعةً فهو حرام »(28) ، فهذه الرواية قيل : إنّها نبويّة(29) ، والجابرون يقولون بانجبارها بعمل الأصحاب‏(30) ، والحال أ نّها ليست نبويّةً أصلاً ، وإنّما هي مرويّة عن أمير المؤمنين عليه السلام عن طرق أهل السنّة(31) .
ب - وإمّا أن لا نقبل ذلك ؛ لعدم قبول ترجيح أداة العموم على الإطلاق ، أو لعدم الموافقة على الانجبار بعمل الأصحاب ، أو لعدم معلوميّة استناد الأصحاب إلى هذه الرواية ؛ فنقول بترجيح روايات حرمة الربا القرضي باعتبار موافقتها لإطلاق الكتاب المحرّم للربا ، وذلك بناءً على مرجّحيّة الكتاب لأحد المتعارضين ولو كان بالعموم من وجه .
ج - أو نقول : إنّ الطائفتين تعارضتا وتساقطتا ، فنرجع إلى أدلّة تحريم الربا إطلاقاً .
نعم ، لولا الدليل الخاصّ على جواز الزيادة في غير المكيل والموزون في البيع لكان لأخبار : « لا يكون الربا إلّافي ما يُكال أو يوزن » معارِضان كما مرّ :
أحدهما : دليل حرمة الربا القرضي .
والثاني‏ : دليل حرمة الربا المعاملي .
ولا يمكن تقديم كليهما على أخبار : « لا يكون الربا إلّافي ما يُكال أو يوزن » ؛ إذ لا يبقى لها موردٌ حينئذٍ ، فيقع التعارض بين نفس دليلَي حرمة الربا في القرض وحرمته في البيع ، ولا يمكن الرجوع إلى العامّ الفوقاني ؛ لأنّه مُخصّصٌ بأخبار : « لا يكون الربا إلّافي ما يُكال أو يوزن » .
هذا هو تمام الكلام في بيان الاعتذار الثاني .
والتحقيق : أنّ هذا الاعتذار غير صحيح أيضاً ؛ إذ هذه الصناعات إنّما تتأتّى إذا لم يكن دليل نفي حرمة الزيادة بلسان الحكومة ، وأمّا إذا كان بلسانها ، كما في قوله : « لا يكون الربا إلّافي ما يُكال أو يوزن » - المفروض فيه نفيه لحرمة الربا في غير المكيل والموزون بلسان الحكومة - ، فهو مقدّم على كلّ ما يعارضه ، سواءٌ كان هذا أخصّ منه وجهاً أم أخصّ منه مطلقاً .
والتحقيق في حلّ المشكلة أ نّه :
أ - إمّا أن يُحمَل قوله : « لا يكون الربا إلّافي ما يُكال أو يوزن » على أ نّه نفي حقيقي واقعي ، أي أ نّه يبيّن أنّ الزيادة لا تتحقق حقيقةً في غير المكيل والموزون ، فحينئذٍ لا بدّ أن نقول : إنّ المراد من المكيل والموزون هنا المثلي ، وأن تكون هذه الرواية إشارة إلى النكتة العقلائيّة التي بيّنّاها سابقاً من أنّ الزيادة في باب البيع إنّما تتحقق عقلائيّاً في المثلي ، أمّا القيمي ، فلا تتحقّق الزيادة فيه غالباً ، فتختصّ هذه الروايات - لا محالة - بالبيع ، ولا تجري في القرض .
وإنّما عبّر بالمكيل والموزون ؛ لأنّه لم يكن في الفقه الإسلامي - إلى عصر الأئمّة عليهم السلام - وجودٌ لاصطلاحَي : ( المثلي ) و ( القيمي ) على ما يبدو بالتتبّع الكامل ؛ فكلمة ( المثلي ) و ( القيمي ) غير موجودة في شي‏ء من الروايات في باب الضمانات وغيرها ، وأحد التفسيرات الأوّليّة للمثلي والقيمي في الفقه الإسلامي هو المكيل والموزون ، حيث يقولون : المثلي والقيمي يعنيان المكيل والموزون ، وهو ما يشهد على أنّ سَير اصطلاح ولغة الفقه الإسلامي كان بهذا النحو ، أي أ نّه حينما كان يراد التعبير عن المثلي يعبّر عنه بالمكيل والموزون ، ولهذا حينما جاء بعد ذلك اصطلاح ( المثلي ) و ( القيمي ) بقي تعريف المثلي بالمكيل والموزون من باب أ نّهما أوضح مصاديق المثلي .
وبالجملة : لو قلنا بهذا التفسير للروايات في المقام - ويشفع له عقلائيّة مفاد هذه الروايات - اختصّت الروايات حينئذٍ بباب البيع .
ب - أمّا إذا لم نقل ذلك ، بل حملناها على النفي بلسان الحكومة من باب نفي الموضوع ، من قبيل : هذا العالم جاهل أو الجاهل عالم ، ونحو ذلك ممّا استبعد جدّاً وقوعه في لسان الروايات ، فنقول : إنّ روايات نفي الربا في غير المكيل والموزون وردت بثلاثة تعابير :
1 - « لا ربا إلّافي المكيل والموزون »(32) .
2 - « لا ربا إلّافي ما يُكال أو يوزن »(33) .
3 - « لا ربا إلّافي ما إذا كان فيه كيل أو وزن »(34) .
أ - والتعبير الثالث ظاهرٌ في أ نّه ليس المقصود من ذلك أ نّه : لا ربا في أيّ معاملة تقع على أيّ مال إلّاذاك المال الذي لو بيع لبيع بالكيل أو الوزن حتّى يكون هذا بإطلاقه شاملاً للقرض الربوي ، وإنّما المقصود أ نّه : لا ربا في معاملةٍ تطرأ على مالٍ لا يكون مكيلاً وموزوناً في تلك المعاملة ، أي لا يكون محتاجاً إلى الكيل والوزن فيها . إذن : لا بدّ أن تكون تلك المعاملة سنخ معاملةٍ يكون المكيل والموزون فيها محتاجاً إلى الكيل والوزن ، وغير المكيل والموزون غير محتاج إلى ذلك ، وهو البيع .
هذا حال التعبير الثالث .
وأنا أدّعي أنّ التعبيرين الأوّلين أيضاً ظاهران في هذا المطلب . وإن لم يكونا ظاهرين فيه ، فلا أقلّ من الإجمال .
ب - وإذا لم نقبل هذا الكلام : بأن لم نقل بظهور هذه التعابير في إرادة الكيل والوزن بالفعل في هذه المعاملة ، ولم نقل بالإجمال أيضاً ، قلنا : إنّ هذه الروايات إذن تتعارض مع الآية الكريمة وتسقط عن الحجّيّة ؛ إذ ليست نسبتها إلى الآية الكريمة - في مقام نفي حرمة الربا القرضي في غير المكيل والموزون - نسبة المقيّد إلى المطلق ؛ ذلك أنّ مركوزيّة نكتة حرمة الربا القرضي في ذهن العقلاء تجعل ملازمةً بين حرمة الربا القرضي في المكيل والموزون وبين حرمته في‏غيرهما ، بحيث لا يكون تقييد الآية تقييداً مقبولاً من سنخ سائر تقييدات الإطلاقات ، ولا يكون التفكيك بينهما عقلائيّاً .
2 - الأمر الثاني: أساليب أخذ الزيادة في القرض‏:
يقع البحث في أساليب أخذ الزيادة في القرض على مرحلتين :
المرحلة الاُولى : في الأساليب المتصوّرة لجعل الفائدة حدوثاً ، أي في القرض وبغضّ النظر عن الأجل .
المرحلة الثانية : في الأساليب المتصوّرة لجعل الفائدة بقاءً ، أي في مقابل الأجل .
أ - أساليب جعل الفائدة حدوثاً:
إنّ الأساليب المتصوّرة في ذلك في بادئ الأمر ثلاثة :
الاُسلوب الأوّل : أن تؤخذ الزيادة بنحو الجزئيّة من البدل ، تمليكاً أو تملّكاً . وبتعبير آخر : بما هو فعل ، أي : أن يملِّك درهماً ، أو بما هو نتيجة ، أي : أن يُملَّك درهماً .
الاُسلوب الثاني : أن تؤخذ الزيادة بنحو الشرطيّة .
الاُسلوب الثالث : أن تؤخذ الزيادة بنحو التعليق : بأن يعلّق القرض على إعطاء الزيادة .
وفرق الأخير عن الأوّل واضحٌ .
وفرقه عن الثاني : أنّ الشرط في الثاني كان يقصد بالمعنى الفقهي ، أي بمعنى الالتزام في الالتزام : فلو شرط مثلاً في البيع خياطةَ ثوبه ، لم يكن البيع معلّقاً على خياطة الثوب .
أمّا الثالث ، فقد قصد به الشرط بالمعنى العقلي والمنطقي ، أي أنّ القرض لا يكون إلّابشرط الزيادة .
1 - أمّا الاُسلوب الأوّل :
أ - فمن الواضح معقوليّته في القرض بالتعريف الأوّل من التعاريف الماضية له ؛ إذ القرض كان - على ذاك التعريف - مبادلةً : فقد يبادل الدينار بدينار ، وقد يبادله بدينارٍ ودرهم .
ب - كما أ نّ من الواضح عدم معقوليّته بناءً على تعريف المحقّق الإيرواني رحمه الله ؛ إذ ليس القرض عنده سوى هبة مع استئمانٍ على الماليّة : أمّا الهبة ، فهي مجّانيّة لا يعقل فرض شي‏ءٍ في مقابل ما وهبه ، بزيادةٍ أو بلا زيادة . وأمّا الاستئمان ، فليس معاوضةً أيضاً حتّى يكون في مقابل بدلٍ يؤخذ فيه الزيادة بنحو الجزئيّة .
ج - وأمّا بناءً على مبنى السيّد الاُستاذ ( مدّ ظلّه ) من أنّ القرض تمليكٌ في مقابل الضمان ، فهنا يعقل أخذ الزيادة جزءاً : فهو وإن لم يكن مبادلة ، لكنّه على أيّة حال قد تصوّر مقابلاً للتمليك ، وهو الضمان ، فيعقل تصوير جعل الفائدة بنحو الجزئيّة ، بأن يقال : إنّ المقرض يملّك هذا المال في مقابل أن تضمنه وأن تشتغل ذمّتك بدرهم .
د - وأمّا على المبنى الرابع المختار - من أنّ التملّك والضمان يكونان بنفس اقتضاء الحيازة واليد ، وأمّا المالك فهو يعيّن لون اليد ، أي أ نّه يأذن في التملّك مع الضمان - فقد يقال : إنّه لا يتصوّر أخذ الزيادة بنحو الجزئيّة ؛ إذ الضمان ليس بجعل المالك ، إنّما هو ضمان اليد الثابت - على القاعدة - بوضع اليد وإتلافها للمال ؛ حيث إنّه بمجرّد وضع اليد تلف المال على المالك بالتملّك ، فلا معنى لجعل الزيادة جزءاً من ذلك، وغاية ما بيد المالك أنّ التملّك والضمان يتمّان بإذنه.
إلّاأنّ الصحيح معقوليّة الجزئيّة في المقام ؛ وذلك لأنّ الضمان هنا وإن كان ضمان الغرامة الثابت عقلائيّاً بنفس اليد والإتلاف ، إلّاأنّ ضمان الغرامة العقلائي إنّما يكون ضماناً بالمثل أو القيمة بلا زيادة ولا خصوصيّة اُخرى إن لم يتّفق الآذن والمأذون له مسبقاً على كون الضمان بنحوٍ مخصوص ، ولذا قالوا(35) : إنّه لو تبانيا في المثلي على كون الضمان بالقيمة أو بالعكس صحّ ذلك .
والحاصل : أ نّه لو اتّفق الضامن والمضمون له على بدلٍ آخر غير المثل والقيمة الثابت بالطبع الأوّلي تعيّن ذلك ، لا بمعنى تعيّنه بجعل المالك ، بل بمعنى أ نّه يثبت بنفس قانون ضمان الغرامة ، فقانون ضمان الغرامة يُثبت أنّ كلّ من وضع يده على مال الغير فهو ضامن له ، وتشتغل ذمّته بالبدل الواقعي ما لم يكن توافق على بدل آخر ، وإلّا فبالبدل الآخر .
إذن : يمكن في المقام أن يتّفقا على بدل آخر تكون الزيادة جزءاً منه .
2 - وأمّا الاُسلوب الثاني - وهو الشرط - : فهو معقول على المباني الثلاثة الاُولى ، وغير معقول على المبنى المختار ، وذلك بناءً على المباني المشهورة في الشرط والتي أمشي عليها الآن ، ولا يسع المجال لتحقيق بديلها .
وتوضيح ذلك : إنّ الشرط - بناءً على المباني المشهورة - يتقوّم بأن يكون مأخوذاً في ضمن عقد ، وقد قسّم الفقهاء العقود إلى عقود إذنيّة وعقود عهديّة(36) :
فالعقود الإذنيّة عبارة عن المعاملات التي لا يرجع محصّلها إلّاإلى الإذن والترخيص ، من قبيل الوديعة والعارية والإذن في التصرّف والإذن في البيع والشراء ، وحتّى الوكالة على قول .
أمّا العقود العهديّة ، فهي العقود التي تتكوّن من التزامين من قبل الطرفين ، أحدهما معقودٌ بالآخر ومرتبط به .
والقسم الأوّل من العقود قالوا فيه : إنّه ليس عقداً حقيقةً ؛ إذ ليس فيه عقدٌ وربطٌ وشدٌّ بين التزامين من قبل شخصين ، فليس عقداً في اللغة ، وإنّما يسمّى عقداً بالاصطلاح ، والعقد الحقيقي ليس سوى العقود العهديّة .
من هنا خصّصوا الشروط التي تكون شروطاً حقيقةً بخصوص الشروط التي تكون ضمن العقود العهديّة .
وعلى هذا نقول : إنّ القرض - بناءً على المبنى الرابع - إنّما هو من العقود الإذنيّة ؛ إذ ليس للمالك سوى الإذن في التملّك مع الضمان ، فلا يتعقّل فيه الشرط ، وهذا بخلاف المباني الثلاثة الاُولى :
أ - فعلى المبنى الأوّل يكون القرض معاوضةً ، فيعقل فيه الشرط كسائر الشروط في المعاوضات ، ويترتّب عليه أحكام الشرط ، لولا أدلّة تحريم الربا .
ب - وكذا الأمر على المبنى الثاني ، وهو كون القرض تمليكاً مجّانيّاً للعين مع استئمانٍ على الماليّة ؛ فإنّ هذا عقدٌ من العقود أيضاً ، فيه جنبةٌ معامليّة ، ولا يقلّ عن عقد الهبة : فكما يصحّ الشرط في ضمن عقد الهبة من قبل الواهب على المتّهب ، كذلك يصحّ الشرط هنا من قبل المقرض على المقترض .
ج - وكذلك الحال على المبنى الثالث ، وهو كون القرض تمليكاً على وجه الضمان .
3 - وأمّا الاُسلوب الثالث - وهو التعليق - : فهو غير معقول وغير صحيح في نفسه بغضّ النظر عن أدلّة حرمة الربا على المباني الثلاثة الاُولى ؛ لما ذكروا من كون التعليق مبطلاً للعقد .
ويمكن أن يقال : إنّه معقول وصحيح في نفسه - بغضّ النظر عن أدلّة حرمة الربا - بناءً على المبنى الرابع ؛ إذ عمدة الدليل على مبطليّة التعليق في العقد إنّما هو الإجماع ، والمتيقّن [ منه ] هو العقود العهديّة . أمّا مجرّد الإذن ، فبالإمكان أن يكون إذناً معلّقاً على أمرٍ ومشروطاً به ؛ فيقول مثلاً : أنت مأذونٌ في التصرّف في مالي إذا كنت تعمل العمل الفلاني ، كالرواح إلى كربلاء مثلاً ، والقرض على المبنى الرابع ليس إلّامجرّد إذنٍ في التملّك مع الضمان ، فلا مانع من التعليق فيه .
إلّاأنّ الإنصاف أنّ التعليق غير صحيح في المبنى الرابع أيضاً ، لا للإجماع على مبطليّة التعليق في العقود حتّى يقال : إنّ [ الإجماع ] مختصّ بالعقود العهديّة ؛ بل لأنّ التعليق في القرض ليس عقلائيّاً : فالعقلاء لا ينشئون - مثلاً - القرض معلّقاً على نزول المطر ، وأدلّة صحّة القرض شرعاً إنّما تدلّ على إمضاء المعاملة العقلائيّة المألوفة بين الناس ، وليس لها إطلاقٌ أزيد من ذلك .
وعليه : فلا دليل على صحّة هذا القرض في نفسه بغضّ النظر عن دليل حرمة الربا .
هذا كلّه لو غضضنا النظر عن دليل حرمة الربا . وقد تبيّن أنّ أخذ الزيادة بنحو الجزئيّة يصحّ فيما عدا المبنى الثاني ، وبنحو الشرطيّة يصحّ فيما عدا المبنى الرابع ، وبنحو التعليق لا يصحّ مطلقاً .
أمّا بالنظر إلى دليل حرمة الربا ، فلا إشكال في أنّ هذا الدليل يحرّم القسم الأوّل والثاني ، أي الأخذ بنحو الجزئيّة أو الشرطيّة ؛ إذ الربا ليس إلّاعبارة عن الإلزام بالزيادة عن طريق رأس المال الذي يعطيه .
أمّا القسم الثالث - وهو الأخذ بنحو التعليق ، بناءً على صحّته في نفسه - فيشكل إثبات حرمته بأدلّة حرمة الربا ؛ إذ ليس هذا إلزاماً بالزيادة ؛ لأنّ القرض معلّق على الزيادة ، والمعلّق لا يُلزم الشخص بالمعلَّق عليه ؛فإنّه ينتفي بانتفاء المعلَّق عليه .
نعم ، يترتّب على ذلك تمام مفاسد الربا ، وليس هذا إلّاحيلةً من الحيل للتهرّب من الربا ، ونحن نقول : إنّ كلّ عمليّة لا تقع دائماً إلّامتقمّصةً قميص الحيلة للتهرّب عن حرمة الربا وتترتّب عليها تمام مفاسده ، بحيث يمكن - دائماً أو غالباً - إرجاع الربا إليها ، تثبت حرمتها بأدلّة حرمة الربا ؛ وذلك بالملازمة العقلائيّة .
إلّاأنّ هناك فرقاً بين هذه الحيلة بالخصوص وبين سائر الحيل ، وهو أنّ سائر الحيل تُلزم - في النهاية - الشخصَ بإعطاء الزيادة ، لكنّ هذه الحيلة بالخصوص لا تُلزمه بذلك ، غاية الأمر أ نّه لو لم يعط الزيادة يكشف عن أنّ القرض كان باطلاً ، لكن مع ذلك لا يبعد القول بتماميّة الملازمة العقلائيّة في المقام .
وعلى أيّة حال ، فقد عرفت أنّ القرض بنحو التعليق في نفسه غير صحيح ، بغضّ النظر عن دليل حرمة الربا .
ب - أساليب جعل الفائدة بقاءً:
المرحلة الثانية :في أساليب جعل الفائدة بقاءً ، أي في مقابل التأجيل ، فنقول : إنّ هذا يتصوّر على نحوين :
النحو الأوّل : أن يُلزِمَ المدين بالزيادة في مقابل الأجل ، وذلك بأحد أساليب ثلاثة :
1 - جعل المبادلة بين التأجيل والزيادة .
2 - جعل الزيادة بنحو الجعالة ، بأن يقول : « من أجّل ديني فله درهم » ، من قبيل قوله : « من ردّ عليّ ضالّتي فله درهم » .
3 - إلزام الدائن للمدين إلزاماً تكليفيّاً بالجامع بين وفاء الدَّين فوراً وبين إعطائه للزيادة بنحو العطيّة .
ودليل حرمة الربا يحرّم تمام هذه الأقسام الثلاثة :
أ - سواءٌ كانت المقابلة بين الزيادة والأجل بنحو إسقاط حقّ الفور للدائن ، بناءً على أ نّه حقّ للدائن قابل للإسقاط ، على كلام مربوط ببحث النقد والنسيئة .
ب - أم بنحو إيجاد حقّ التأجيل للمدين ، فيسقط قهراً حقُّ الدائن ، بناءً على إمكان إيجاد حقّ من هذا القبيل للمدين ، على كلام مربوط ببحث النقد والنسيئة .
ج - أم لم تكن الزيادة في مقابل إسقاط حقّ أو إيجاد حقّ ، بل في مقابل أن لا يطالبه بالفعل بدينه ؛ فإنّه على أيّة حال يكون إلزاماً بالزيادة عن طريق ما لَهُ من رأس المال ، وهذا هو الربا الذي دلّ الدليل على حرمته .
النحو الثاني : أن لا تجعل الزيادة في مقابل الأجل ، بل يشترط التأجيل في ضمن بيع محاباتي ، بأن يبيع المدين - مثلاً - شيئاً تكون قيمته ألف دينار بخمسمائة دينار من الدائن ، ويشترط في ضمن العقد تأجيل ما عليه من الدَّين .
وهذا أيضاً رباً محرّمٌ إذا كان الدائن قد ألزمه بذلك : بأن ألزمه بالجامع بين وفاء الدَّين فوراً وبين البيع المحاباتي ؛ فإنّ البيع المحاباتي شي‏ء له ماليّة عقلائيّاً ، فإلزامه به إلزامٌ بالزيادة عن طريق ما لَهُ من رأس المال ، وهذا هو الربا المحرّم .
وقد وردت بعض الروايات بجواز ذلك‏(37) ، وعمل بها جملةٌ من الفقهاء(38) .
إلّا أنّ الصحيح عدم إمكان العمل بها ؛ وذلك لأنّ الظاهر منها - كما فهمه العاملون بها - أنّ هذا ليس تخصيصاً في دليل حرمة الربا ، وإنّما هو علاجٌ للفرار من الربا ، ولهذا تعدّى العاملون بها إلى اُسلوب آخر ، وهو أن يهبه شيئاً ويشترط في ضمن الهبة تأجيل الدَّين .
إذن : فمفاد هذه الروايات هو تحويل الحرمة المستفادة من الآية الشريفة من مصبّها الذي يفهم عرفاً من كلمة الربا - وهو الإلزام بالزيادة ، الشامل لمثل الإلزام بهذا البيع المحاباتي - إلى مصبّ آخر ، كالمبادلة بين الأجل والمال مثلاً ، فكأ نّها تقول : إنّ بيع الأجل غير جائز ، من قبيل ما يقال من أنّ بيع المصحف غير جائز مثلاً ، أو أنّ بعض الحقوق غير قابل للبيع ، كحقّ الحضانة وحقّ الشفعة مثلاً ، ولا يكون ذلك مربوطاً بحرمة الإلزام بالزيادة ، فتكون هذه الروايات مخالفةً لظاهر العنوان المأخوذ في الكتاب لا مقيّدةً له ، فتسقط عن الحجّيّة بمخالفتها للكتاب .
على أنّ جملةً من تلك الروايات لا تشتمل على مسألة إلزام الدائن للمدين بذلك ، ومن المعلوم أ نّه لا إشكال في البيع المحاباتي إذا لم يكن بإلزام من قبل الدائن ، كما لو لم يطالب الدائن بالأداء وكان يسمح بالتأخير ، لكنّ المدين خاف أن يرجع الدائن في رأيه عن ذلك ، فأوقع معه بيعاً محاباتيّاً مشترطاً في ضمنه تأجيل القرض ؛ فإنّ هذا ليس من الربا في شي‏ء .
وإن وجد في تلك الروايات ما يشتمل على مسألة الإلزام التي بها قوام الربا ، فلا يوجد في أكثر من روايتين ، فنسقطهما عن الحجّيّة بالمعارضة مع الكتاب الكريم ؛ فإنّها ليست كثيرةً حتّى يستغرب سقوطها لاستفاضتها مثلاً .
وقد ظهر ممّا ذكرناه الحال في أخبار العِينة(39) التي يسأل فيها الراوي‏ الإمام عليه السلام عن أ نّه يحلّ أجلُ الدَّين ، فأذهب إلى الدائن وأشتري منه ما يسوى عشرة دنانير باثني عشر بثمن مؤجّل إلى ستّة أشهر ، ثمّ أبيعه إيّاه بعشرة بثمن نقدي ، وقد كنت مديوناً له بعشرة دنانير فأوفيه العشرة ، ويبقى عليّ اثنا عشر ديناراً مؤجّلاً إلى ستّة أشهر ، فيقول الإمام : لا بأس بذلك ؛ فإنّ أكثر هذه الأخبار لا يستبطن الإلزام من قبل الدائن ، وإنّما المدين هو الذي يسأل : إنّني أصنع كذا ... وإن كان فيها ما يستبطن الإلزام تسقط بالمعارضة مع الكتاب الذي يقرّر قانون : « وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ »..
*الواقع الخارجي للمعاملات البنكيّة
وأمّا البحث الثالث ، فهو في الكلام حول الواقع الخارجي للمعاملات البنكيّة :
نظرة تاريخيّة إلى نشوء المعاملات الربويّة:
لا بأس هنا باستعراضٍ مختصر لتاريخ عمل الصيارفة في ظلّ النظام الرأسمالي الأوروبي ، فنقول‏(40) :
كان عمل الصيارفة منذ البدء أن يقضوا حاجة الناس في تبديل عُملةٍ باُخرى ، وكانوا يرتزقون عن هذا الطريق ، فكان لا بدّ لهم من ادّخار مقدار من النقود بعملات مختلفة ، وهو ما يحتاج إلى صناديق حديديّة وأقفال حديديّة محكمة تدّخر فيها الأموال لكي تسلم من سرقة السرّاق ، في وقت لم يكن النظام الأوروبي فيه مترقّياً إلى درجة يمنع معها من كثرة السرقة ، فهيّئوا صناديق وأقفالاً حديديّة بهذا الصدد .
ثمّ أصبح الإقطاعيّون المتموّلون يفكّرون في إيداع أموالهم عند هؤلاء الصيارفة ؛ لأنّهم يملكون مكاناً مأموناً لحفظ هذا الأموال ، فبدأوا يودعون الأموال عندهم لكي تحفظ في صناديقهم بدلاً عمّا كان يُصنع بها سابقاً ، من دسّها في جوف الأرض أو الحائط . وكان الصيارفة يأخذون اُجرةً على هذا الحفظ ، تختلف - قلّةً وكثرة - بحسب اختلاف المال المستودع .
ثمّ رأى الصيرفي - بحسب تجاربه - أنّ ما يودع عنده لا يُسترجع منه أزيد من العُشر عادةً على سبيل البدل ، بل قد يكون ما يُسترجع أقلّ ، إلى أن يصل إلى نسبة الواحد في المائة ، وذلك عندما لا توجد حروب بين الإقطاعيّين تكلّفهم سحب شي‏ء من أموالهم من عند الصيارفة وصرفها ، فأخذ الصيرفي يُقرض تسعة أعشار الودائع إلى التجّار مع أخذ الفائدة لنفسه ، بالرغم من أ نّه لا يملك من تلك الودائع شروى نقير ، وسعر الفائدة يختلف حسب قانون العرض والطلب كما هي الحال في سائر السلع .
ثمّ رأى هذا الصيرفي أنّ التجّار يقترضون منه ، وبدلاً من أن يسحبوا ما اقترضوه يأخذون سنداتٍ ويتعاملون بها عن طريق الحوالة على الصيرفي ، ولا يسحبون ما اقترضوه إلّانادراً ، حيث يحتاجون أحياناً إلى استهلاك عين المال لمصرف الزواج ونحوه ، فأخذ يقرض قدراً أكبر ممّا عنده بعشر مرّات .
والنتيجة : أ نّه حينما يستودع شخصٌ عشرة دنانير يُقرض [ الصيرفي ] بقوّة ذلك تسعين ديناراً .
ثمّ جاء دور الصناعات الكبيرة والمشاريع الضخمة ، من قبيل استخراج النفط ونحو ذلك ، واحتاج أصحابها إلى أموال هائلة لإنجاز المشروع ، ولا يمكنهم جمع المال من الناس بسلطتهم جبراً وقهراً عليهم ؛ لأنّ ذلك خلاف منطق الرأسماليّة والحريّة المفروضة ، كما لا يمكنهم جمعها عن طريق التبرّعات ؛ إذ قد تربّى الناس على العقليّة المصلحيّة ، وكلّ واحد منهم إنّما تعاون واشترك في إمضاء قوانين الرأسماليّة وإنجازها بدافعٍ من مصلحته الخاصّة ، فمتى يسوغ لهم بذل المال في مشروع مجّاناً بداعي التبرّع مثلاً ؟ !
وهنا قال الصيرفي : إنّني أستطيع أن أجمع لكم فاضل أموال الناس : ففتح باب أخذ المال من الناس بعنوان الاقتراض مع إعطاء الفائدة بدلاً عمّا كان يصنعه سابقاً من أخذ الودائع مع تقاضي الاُجرة على حفظ المال ، فأخذ الناس يدفعون إليه فاضل أموالهم ، بل أخذوا يحبّذون الضغط على أنفسهم في المعيشة حرصاً على أخذ الفائدة ، وأخذ الصيرفي يقتصر في إعطاء الفائدة على أقلّ قدر ممكن منها ممّا يفي بجلب أموال الناس ، ثمّ يعطي هذه الأموال الهائلة إلى أصحاب تلك المشاريع مع أخذ الربا منهم .
وقد تمخّض هذا الدور عن لا مساواة غريبة بين الناس ، فاجتمعت الأموال الهائلة والمنافع الكثيرة في جيوب جماعةٍ معيّنين منهم ، هم الصيارفة ، بل أصبحوا بذلك يتحكّمون في البلاد ويؤثّرون على العباد في سنّ قوانين لصالح معاملاتهم الربويّة .
وقد كان ذلك في البلاد الأوروبيّة في ظلّ شروط خاصّة وحالات نفسيّة معيّنة ، ولو أ نّه طُبّق في مكان آخر - يختلف عنها في الظروف
والخصوصيّات - قانونُ الشركة في التجارة بدلاً عن الودائع الربويّة - وذلك بأن يكون نفس أصحاب الأموال مشتركين في ذلك المشروع أو تلك الصناعة أو المؤسّسّة ، لهم ما لصاحب المشروع من منافع وعليهم ما عليه من خسائر - لحصلت الفوائد عينها ومشى المشروع ، ولم تحصل تلك المضارّ الهائلة .
ومن المفاسد التي ترتّبت على الربا : انحسار التجارة عمّا لا يكون ربحه أكثر من سعر الفائدة الربويّة ، بينما قد يكون ذلك الشي‏ء أهمّ من مشروع آخر تتّجه إليه التجارة ؛ لكون ربحه أكثر بكثير من سعر الفائدة الربويّة .
ومن المفاسد أيضاً أنّ المرابي حينما يعطي المال ، لا يفكّر في نجاح المشروع وإنجاحه والظروف التي يعيشها المشروع ومن يتبنّاه إلّابالقدر الدخيل في قدرة المدين على دفع الفائدة الربويّة إن لم يكن قادراً على الدفع عن طريق آخر ، بينما لو كانت المعاملة على أساس الشركة في التجارة ، لكان من يدفع المال إلى ذلك التاجر يفكّر أيضاً في نجاح المشروع وإنجاحه ، وكان يلاحظ الظروف الموضوعيّة للمشروع ولمن يتبنّى ذلك المشروع .
على أنّ الحركة الربويّة تناقض دائماً الحركة التجاريّة والمصلحة التجاريّة ؛ إذ يُجري المرابون على سعر الفائدة قانون العرض والطلب : فحينما يشتدّ احتياج التجّار إلى المال يمتنعون عن بذله إلّابسعرٍ غال ، وحينما يقلّ احتياجهم يضعون الأموال على المسرح ويبذلونها بفائدةٍ رخيصة .
وقد أثّر رواج الربا بهذا الترتيب في علم الاقتصاد والفكر الاقتصادي ، فأخذوا ينسجون من وجهة النظر العلميّة مبرّرات للربا .
وبالرغم من كون المرابين طفيليّين على مائدة أموال الناس ، والمترقّب أن يكون حظّهم أقلّ من حظّ أصحاب الموائد أنفسهم ، إلّاأنّ حظّهم أصبح أكثر ؛ وذلك لأنّ نفعهم مضمونٌ ، سواءٌ ربحت التجارة أم خسرت ، فهم يرون أنفسهم مالكين لمالين طوليّين : أحدهما : نفس المال الذي يُقرضونه ، وثانيهما : الأجل ؛ فكأنّ المال تلقائيّاً ينمو بمضيّ الزمن عليه في ذمّة الناس ، بلا حاجة إلى أيّ تعب من قبل صاحب المال ، فيرون لأنفسهم حقّ إلزامين طوليّين : أحدهما : الإلزام بوفاء الدَّين مع القدرة ، والثاني‏ : الإلزام بالفائدة عند عدم الوفاء .
والإسلام - اجتذاذاً لاُصول الربا وفكرة استحقاق هذا الإلزام - لم يقتصر على المنع عن الإلزام ، بل منع رأساً عن إيقاع المعاوضة على الأجل ، ولو مع رغبةٍ من المدين ودون إلزامٍ له .
المصادر :
1- كتاب المكاسب 3 : 15 . وانظر : حاشية كتاب المكاسب ( الإيرواني ) 1 : 74 ؛ حاشية كتاب المكاسب ( الإصفهاني ) 1 : 72
2- حاشية كتاب المكاسب ( الآخوند الخراساني ) : 7
3- كتاب المكاسب 3 : 15
4- مصباح الفقاهة 2 : 69
5- حاشية كتاب المكاسب ( الإيرواني ) 2 : 15
6- كتاب المكاسب 3 : 15
7- مصباح الفقاهة 2 : 67 - 68
8- حاشية المكاسب ( الإصفهاني ) 5 : 388
9- فالقرض : ما تعطيه غيرَك لتقضاه ( ترتيب جمهرة اللغة 3 : 116 ؛ الصحاح 3 : 1102 ؛ معجم مقاييس اللغة 5 : 71 ؛ لسان العرب 7 : 217 ؛ المصباح المنير : 498 ؛ القاموس المحيط : 840 )
10- كتاب العين 8 : 283 ؛ ترتيب جمهرة اللغة 2 : 18 - 19 ؛ الصحاح 6 : 2349 ؛ معجم مقاييس اللغة 2 : 483 ؛ لسان العرب 14 : 304 ؛ المصباح المنير : 217 ؛ القاموس المحيط : 1659
11- وسائل الشيعة 18 : 194 ، الباب 12 من أبواب الصرف ، الحديث 10
12- وسائل الشيعة 18 : 151 ، الباب 15 من أبواب الربا
13- وسائل الشيعة 18 : 191 ، الباب 12 من أبواب الصرف
14- فإنّه مجهول الحال ، سواءٌ كان ابن سعيد أم ابن راشد ، فراجع : تنقيح المقال 26 : 164 ، 188
15- وسائل الشيعة 18 : 160 - 161 ، الباب 18 من أبواب الربا ، الحديث 1
16- رجال النجاشي : 315 ، رقم ( 864 ) .
17- وسائل الشيعة 18 : 354 ، الباب 19 من أبواب الدَّين والقرض ، الحديث 3
18- وهو سند الكليني ، فراجع : الكافي 5 : 103 ، الحديث 3 ؛ تهذيب الأحكام 6 : 191 ، الحديث 39 ؛ الاستبصار 3 : 9 ، الحديث 4 . وراجع حول ابن سعدان : رجال النجاشي : 404 ، رقم ( 1072 ) ؛ رجال ابن الغضائري 1 : 91 ، رقم ( 123 ) ؛ معجم رجال الحديث وتفصيل طبقات الرواة 19 : 46 ، رقم ( 12776 )
19- مَن لا يحضره الفقيه 3 : 284 ، الحديث 817 . معجم رجال الحديث وتفصيل طبقات الرواة 3 : 63 ، الرقم ( 1159 ) .
20- وسائل الشيعة 18 : 357 ، الباب 19 من أبواب الدَّين والقرض ، الحديث 13
21- من لا يحضره الفقيه 3 : 284 ، الحديث 817
22- تهذيب الأحكام 6 : 205 ، الحديث 21 ؛ الاستبصار 3 : 10 ، الحديث 8 ) .
23- كتاب العين 8 : 283 ؛ ترتيب جمهرة اللغة 2 : 18 - 19 ؛ الصحاح 6 : 2349 ؛ معجم مقاييس اللغة 2 : 483 ؛ لسان العرب 14 : 304 ؛ المصباح المنير : 217 ؛ القاموس المحيط : 1659
24- كالسيّد رشيد رضا ، فراجع : مصادر الحقّ في الفقه الإسلامي 3 : 154
25- مجمع البيان في تفسير القرآن 2 : 670 ؛ كتاب المكاسب ( الأنصاري ) 6 : 221 - 222 ؛ حاشية كتاب المكاسب ( الإصفهاني ) 5 : 354
26- وسائل الشيعة 18 : 133 ، الباب 6 من أبواب الربا ، الحديث 3
27- وسائل الشيعة 18 : 155 ، الباب 17 من أبواب الربا ، الحديث 3
28- دعائم الإسلام 2 : 61 ، الحديث 167 ؛ الخلاف 3 : 74 ) ، واُخرى في كلام السائل بلفظ : « .. جرّ منفعةً فهو فاسدٌ » ، فأجاب الإمام الصادق عليه السلام : « أوَ ليس خيرُ القرض ما جرّ منفعةً ؟ ! » ( من لا يحضره الفقيه 3 : 285 )
29- الرسائل الفقهيّة ( البهبهاني ) : 259 ؛ المناهل : 4
30- حيث اعترفوا بأ نّها من طريق أهل السنّة ( مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلّامة 5 : 41 ) ، وجبروا سندها ( المناهل : 4 ) ، وتلقّاها الأصحاب بالقبول ( جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام 25 : 12 )
31- سبل السلام 3 : 53 ، الحديث 8 ؛ بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث : 142 ، الحديث 436 ؛ نصب الراية 5 : 34 ؛ الدراية في تخريج أحاديث الهداية 2 : 164 ، الحديث 813 ؛ نيل الأوطار 5 : 351
32- السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي 2 : 257 ؛ شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام 2 : 39 ؛ كفاية الأحكام 1 : 499 ؛ الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة 19 : 251 ؛ جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام 23 : 358
33- وسائل الشيعة 18 : 133 ، الباب 6 من أبواب الربا ، الحديثان 1 و 3
34- وسائل الشيعة 18 : 134 ، الباب 6 من أبواب الربا ، الحديث 5 ، بالمضمون
35- كتاب المكاسب والبيع ( النائيني ) 1 : 230
36- كتاب المكاسب والبيع ( النائيني ) 1 : 285 ؛ منية الطالب في شرح المكاسب 1 : 89
37- وسائل الشيعة 18 : 54 ، الباب 9 من أبواب أحكام العقود
38- جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام 25 : 34
39- وسائل الشيعة 18 : 41 ، الباب 5 من أبواب أحكام العقود ، الحديث 4
40- قصّة الحضارة 7 : 57 ، 14 : 63 ، 15 : 108 ، 26 : 186

 



ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.