مدرسة هيوم السلوکية

ديفيد هيوم أحد فلاسفة القرن الثامن عشر . وقد ورد في ( اقتصادنا ) أنّ السلوكيّة مذهب من المذاهب القائمة في تفسير الإدراك وظواهر النفس البشريّة . كما ورد أنّ هذا المذهب يرتكز على التجارب التي قام بها العالم الروسي بافلوف ، الذي كان أوّل من
Thursday, January 26, 2017
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
مدرسة هيوم السلوکية
 مدرسة هيوم السلوکية

 





 

ديفيد هيوم أحد فلاسفة القرن الثامن عشر . وقد ورد في ( اقتصادنا ) أنّ السلوكيّة مذهب من المذاهب القائمة في تفسير الإدراك وظواهر النفس البشريّة . كما ورد أنّ هذا المذهب يرتكز على التجارب التي قام بها العالم الروسي بافلوف ، الذي كان أوّل من التفت إلى‏ نكتة سراية الإشراط من المنبّه الطبيعي إلى منبّه آخر(1) .
وكان بافلوف - الذي أجرى تجاربه على كلبه - يلاحظ سيلان لعاب الكلب عند تقديم الطعام إليه ووضعِه بين يديه ، فكانت رؤية الكلب للطعام منبّهاً طبيعيّاً يستدعي استجابة طبيعيّة ، وهي سيلان اللعاب . ولدينا إلى هنا منبّه طبيعي واستجابة طبيعيّة ، وهذا ما يعرفه كلّ الناس .
إلّاأنّ ما قام به بافلوف هو أ نّه قرن مع تقديم الطعام للكلب أشياء اُخرى بنحو الشرط المقارن أو المتقدّم ، فكان يضغط على الجرس ثمّ يقدّم للكلب الطعام ، وأجرى هذه التجربة مدّة من الزمن على هذا المنوال . وبعد هذا وجد أ نّه بمجرّد أن يضغط على الجرس يسيل لعاب الكلب حتّى لو لم يقدّم له الطعام . ويكون بذلك قد تمكّن من إضافة منبّه جديد - دون إلغاء المنبّه الطبيعي - تمّ الحصول عليه بالعناية ، وأطلق عليه اسم ( المنبّه الشرطي ) ، وصار هذا المنبّه الشرطي كالمنبّه الطبيعي سبباً في سيلان لعاب الكلب‏(2) .
إنّ هذه التجربة العلميّة اللطيفة التي قام بها بافلوف تحوّلت إلى نذير شؤم على العلم وعلى الإنسان ؛ لأنّها دعت شياطين العلم إلى توهّم إمكان تفسير تمام إدراكات الإنسان وتصوّراته - مهما وصلت إلى أعلى مستويات الفنّ أو الفلسفة أو الأدب - على أساس أ نّها استجابات لمنبّهات معيّنة ، والذي كان يحول دون‏ هذه المحاولة الشرّيرة هو عدم وجود هذه الشبهات الطبيعيّة . وبعد أن تنبّه الإنسان إلى هذا العدد الكبير من الشبهات الطبيعيّة والتفت إلى هذه المطالب العلميّة الدقيقية التي كشفتها هذه التجربة ، وبعد أن تنبّه إلى أنّ من الممكن إشراط منبّه بمنبّه آخر وإسراء استجابة معيّنة من شي‏ءٍ إلى آخر ، بعد هذا كلّه تجدّد الأمل لدى هؤلاء .
إنّ بحث هذا الموضوع بحدوده الواسعة خارجٌ عن محلّ الكلام ، ولذلك نكتفي بما يتعلّق بتوظيف هذه التجربة في العلم الاستقرائي وتفسير حصول العلم بالعلّيّة .
وإذا رجعنا إلى المثال السابق حول الحكم باحتراق الورقة لدى اقترابها من النار حتّى لو لم نشاهد الاحتراق بالحسّ ، يمكن أن يقال : إنّ رؤية احتراق الورقة عبارة عن منبّه طبيعي يخلق في نفس الإنسان حالة نطلق عليها حالة العلم باحتراق الورقة . وهذا المنبّه الطبيعي شأنه بالنسبة إلينا شأن رؤية الكلب للطعام بالنسبة إليه ، والحالة التي أطلقنا عليها اسم حالة العلم بحصول الاحتراق شأنها شأن سيلان لعاب الكلب ، بلا فرق بينهما : فكما أنّ الكلب يسيل لعابه لدى تقديم الطعام إليه ، فكذلك الأمر بالنسبة إلى الإنسان ، حيث يحصل لديه العلم باحتراق الورقة متى ما شاهد تعرّضها للنار .
وإلى جانب ذلك ، كان الإنسان يلاحظ دائماً مع رؤيته لاحتراق الورقة رؤية شي‏ءٍ آخر ، وهو اقتراب الورقة من النار ، فاقترن الاقتراب بالاحتراق لمرّات عديدة . واقتراب الورقة من النار يقابله في تجربة بافلوف دقّ الجرس أثناء تقديم الطعام ، كما أنّ الاحتراق يقابله سيلان لعاب الكلب . وكما أنّ لعاب الكلب صار يسيل في المرّات اللاحقة لدى دقّ الجرس ودون رؤيته للطعام ، فكذلك الأمر هنا ، حيث صار يحصل لدينا العلم باحتراق الورقة لدى تحقيق المنبّه الشرطي - وهو اقتراب الورقة من النار - حتّى في صورة عدم مشاهدة الاحتراق بالحسّ‏(3) .
إذن - وبحسب المذهب السلوكي - فإنّ العلم باحتراق الورقة هو في الحقيقة عمليّة من عمليّات التنبيه الشرطي التي يمكن تفسيرها على أساس علمي ، أي على أساس ميكانيكي وآلي في الإنسان ، وهذا في الحقيقة تطويرٌ وتكميلٌ للمحاولة التي قام بها هيوم ، غاية الأمر أ نّها بيّنت هنا في إطار السلوكيّة الحديثة .
ونحن لا نريد الحديث حول أصل مذهب السلوكيّة ونقده ، وإنّما نريد أن ندرس هذه المحاولة ضمن الإطار العامّ ؛ لنرى إن كان من الممكن أن تنهض لتفسير العلم بالعلّيّة أم لا .
اعتراضان على محاولة هيوم‏:
نبدأ أوّل الأمر مع ديفيد هيوم في الاعتراض على ما ذكره ، ثمّ نتحدّث عن إمكانيّة توجيه هذه الاعتراضات إلى ما ذكرته المدرسة السلوكيّة في تعبيرها عن تلك الفكرة . ولدينا في الحقيقة اعتراضان على ما ذكره هيوم حول العادة :
الاعتراض الأوّل : قلنا : إنّ هيوم قال بالعلّيّة بمفهومها العلمي بعد أن ألغى المنطق العقلي وشيّد مكانه المنطق التجريبي ، وإنّه ذكر أنّ حصول العلم بالعلّيّة يرتكز على مجرّد الاعتياد على مشاهدة الباء لدى مشاهدة الألِف ، فوجود التصديقَين في عالم النفس لمرّات عديدة واعتياد النفس على اجتماعهما يجعلها تستوحش من رؤية أحدهما دون الآخر ، ولكي لا تستوحش ، فإنّها إذا رأت‏ أحدهما توجِد الآخر ، ولذلك فإنّها لدى رؤيتها اقتراب الورقة من النار تقوم بإيجاد تصديقٍ بالاحتراق .
وهنا نقول : إنّه لو كان مجرّد الاعتياد على اقتران أحدهما بالآخر هو الملاك في حصول العلم بالعلّيّة لما كان هناك فرقٌ بين ما لو كانت العلّة الاُخرى المفترضة للباء ( التاء ) موجودة بكثرة أو لم تكن كذلك ؛ فإنّ العلم بالعلّيّة منوطٌ - بناءً على تفسير هيوم - بمقدار ما يتكرّر اقتران الألِف بالباء ، ثماني مرّات أو عشر مرّات أو عشرين مرّة .. ولا علاقة على الإطلاق لمدى توفّر التاء في عالم الخارج . مع أ نّنا نرى بوجداننا أنّ هناك فرقاً في حصول العلم بالعلّيّة بين ما إذا كان استناد الباء إلى التاء - ولو بالمعنى الذي يفهمه هو للاستناد - استناداً إلى علّة متوفّرة ، وبين ما إذا كان استناداً إلى علّة غير متوفّرة .
وما نقوله هو : إنّ هذا الأمر لا يمكن تفسيره على أساس العادة المستندة إلى التكرار ؛ لأنّ التكرار حاصلٌ في كلٍّ من الحالتين على حدٍّ واحد ، فلا بدّ من أن تكون العمليّة مستندة إلى استنتاج عقلي حتّى يكون هناك فرقٌ بين حالة احتمال وجود تاءات كثيرة وبين حالة عدم ذلك .
الاعتراض الثاني : أنّ التصديقين اللذين اجتمعا مع بعضهما لمرّات عديدة - وهما التصديق بأنّ هذه الورقة اقتربت من النار ، والتصديق بأنّ هذه الورقة احترقت بالنار - يستندان إلى الحسّ التجريبي الذي هو أساس العلم في المنطق التجريبي ، وهما تصديقان بقضيّتين جزئيّتين ؛ ففي كلّ مرّة من المرّات التي نجري فيها التجربة يكون التصديقان المذكوران تصديقين بقضيّتين جزئيّتين :
ففي المرّة الاُولى نصدّق بأنّ هذه الورقة اقتربت من النار ، ونصدّق بأ نّها احترقت . وفي المرّة الثانية كذلك نصدّق بأنّ هذه الورقة اقتربت من النار ، ونصدّق بأ نّها احترقت ، وهكذا .. إلى حصول العادة .
فالتصديقان إذن على طول خطّ حصول العادة تصديقان بقضيّتين جزئيّتين ، يجتمعان بحيث تأنس النفس باجتماعهما وتستوحش من افتراقهما ؛ ولذلك فإنّها - كما قلنا - تعمد إلى خلق الآخر وإيجاده إذا ما وجد الأوّل دونه . ولذلك إذا عمدنا إلى الورقة وقرّبناها من النار وأغمضنا أعيننا ، حصل في نفسنا تصديقٌ باحتراقها ، إلّاأنّ هذا التصديق تصديقٌ بقضيّة جزئيّة ، وهي أنّ هذه الورقة احترقت .
ولكنّنا إذا أردنا الحديث عن القضيّة الحقيقيّة التي يؤخذ موضوعها مقدّراً - بخلاف القضيّة الجزئيّة التي يكون موضوعها صادقاً في الخارج - فالمسألة تختلف ؛ لأنّنا في هذه الحالة نتحدّث عن أ نّه « كلّما اقتربت ورقةٌ - مطلق ورقة ، لا هذه الورقة - من النار ، فإنّها تحترق » . ومن الواضح أنّ التصديق المطروح في القضيّة الحقيقيّة يختلف عن سنخ التصديق الذي اعتادت النفس على إيجاده ، وهو - على ما ذكرنا - تصديقٌ بقضيّة جزئيّة .
إذا اتّضح هذا الأمر ، فحينئذٍ يكون إثبات أنّ العادة كافية في تفسير هذا التصديق ناشئاً من عدم الالتفات إلى المغايرة السنخيّة القائمة بين هذين التصديقين .

مع المدرسة السلوكيّة:

وينبغي على السلوكيّة أن تتوقّف عند هذه الظاهرة ؛ لأنّ التجارب التي قام بها بافلوف - والتي تعدّ المرتكز عند المدرسة السلوكيّة - تعتمد على إحلال دقّ الجرس محلّ الطعام . أمّا سيلان اللعاب فيبقى هو سيلان اللعاب ، أي أنّ الاستجابة تبقى هي الاستجابة . (4)
وبتعبيرٍ آخر : إنّ ما اكتشفه بافلوف هو أنّ من الممكن أن نجعل دقّ‏ الجرس بديلاً عن تقديم الطعام ، بحيث يكون له نفس الأثر الذي كان لتقديم الطعام ، وهو سيلان اللعاب ، لا أنّ دقّ الجرس يحدث حالة غير حالة سيلان اللعاب ، فهذا الأمر لم يظهر من مجموع تجارب المدرسة السلوكيّة ومن تجارب الإشراط الطبيعي التي تقوم عليها هذه المدرسة .
إذن : فالمحفوظ في تجارب المدرسة السلوكيّة هو الاستجابة ، بحيث يقع التبديل في طرف المنبّه فقط . أمّا في ما نحن فيه ، فالاستجابة مختلفة والمنبّه مفقود ؛ لأنّه مأخوذ على نحو الفرض والتقدير ، والاستجابة هنا حاصلة بنحو القضيّة الحقيقيّة لا بنحو القضيّة الجزئيّة ، وهذا تطويرٌ للاستجابة من حدّها الخاصّ إلى حدّها الكلّي ، وهذا ما لم تكشف عنه تجربة علميّة إلى يومنا هذا .
علماً بأنّ هذا التطوير من خصائص الفكر البشري الذي ليس مجرّد آلة تخضع لعمليّة ميكانيكيّة من قبيل سيلان لعاب الكلب ، فهذا الفكر لا يجانس ما يحصل لدى الكلب عندما تتطوّر استجابته وسيلان لعابه من الاستجابة لتقديم الطعام إلى الاستجابة لدقّ الجرس ، ولو كان الأمر كما ذكروا ( لعلق في نصف بلعومهم ) ، وهم يعلمون أنّ التجربة لا تنهض بإثبات ذلك ، أي التصديق على نحو القضيّة الحقيقيّة الكلّيّة ، وكلّ كلام يدّعي ذلك فهو بمثابة كلام الأطفال في موضوعٍ من الموضوعات ، حيث لا يقوم على برهان أو تجربة .

استرجاع النقاش مع هيوم والمدرسة السلوكيّة:

قلنا في البحث السابق : إنّ ما ذكره بعض الفلاسفة التجريبيّين في تفسير حصول العلم بالعلّيّة على أساس العادة لا يمكن له - بوضعه الفلسفي - أن يفي بتفسير ذلك ، كما أ نّه لا يفي بذلك بثوبه العلمي الذي قامت بتفصيله وخياطته المدرسة السلوكيّة في علم النفس اعتماداً على تجارب قام بها العالم الروسي بافلوف حول الإشراط وسراية الاستجابة من منبّه طبيعي إلى آخر شرطي .
وقد ذكرنا في مقام تفسير هذا الضعف : أنّ العادة تقوم على أساس الجمع بين تصديقين تأنس النفس باجتماعهما وتستوحش من افتراقهما ، ولذلك تعمد إلى إيجاد أحدهما عند فقد الآخر .
وقد قلنا : إنّ هذين التصديقين تصديقان بقضيّتين جزئيّتين ؛ وذلك باعتبار أنّ الأساس الحسّي للعلم لا يمكن أن ينتج سوى قضيّة جزئيّة ؛ إذ أنّ التكرّر - الذي هو منشأ العادة - هو تكرّر اجتماع قضيّتين جزئيّتين . أمّا العلم على نهج القضيّة الحقيقيّة - أو بحسب تعبيرهم : على مستوى القانون العلمي - فلا يمكن الحصول عليه من خلال التجربة ، كما لا يمكن الحصول عليه من خلال التجارب التي قام بها بافلوف بتسريته الإشراط من المنبّه الطبيعي إلى المنبّه الشرطي ، وغاية ما توصّلت إليه هذه التجارب هو جعل غير المنبّه منبّهاً ، ولكنّها لم تقدّم شيئاً في طرف الاستجابة ، التي بقيت على حالها ولم تطلها يد التغيير . فما توصّل إليه بافلوف هو أنّ سيلان اللعاب الذي كان استجابةً لتقديم الطعام يمكن أن يكون استجابة لمنبّه آخر هو دقّ الجرس تمّ إشراطه بالمنبّه الطبيعي المتقدّم .
وهذا - كما قلنا - مختلف عمّا نحن فيه ؛ فإنّ الاستجابة الحاصلة بالتجربة عبارة عن قضيّة جزئيّة ، وما نبحث عنه ونريد تفسيره عبارة عن قضيّة كلّيّة ؛ فالاختلاف إذن حاصلٌ في طرف الاستجابة . ولهذا يعجز ما ذكرته المدرسة السلوكيّة عن تفسير حصول العلم بالعلّيّة .

معنى آخر لحصول العلم بالعلّيّة من خلال العادة:

نعم ، يمكن أن يقال في مقام استفادة حصول العلم بالعلّيّة من خلال العادة : إنّ الحاصل من إيجاد الألِف في المرّة الاُولى وترتّب الباء هو العلم بعلّيّة الألِف للباء على نحو القانون العامّ . ثمّ يتكرّر ذلك في التجربة الثانية والثالثة وهكذا .. ففي هذا الفرض يمكن القول : إنّ النفس تعتاد على العلم بالعلّيّة وبالقانون العامّ لدى رؤيتها الاقتران وتكرّر ذلك .
والحقيقة أنّ هذا التصوير يفترض أساساً آخر لحصول العلم بالعلّيّة غير أساس العادة الذي نحن بصدد الحديث عنه ؛ فقد فرض حصول هذا الاعتقاد في مرتبة سابقة على حدّ التكرار ، ولكنّ هذا الاعتقاد ليس قائماً على أساس منطقي وإنّما على أساس وهمي ؛ إذ قبل أن تحصل العادة ويحصل العلم بالعلّيّة بسبب التكرار ، نسأل عن منشأ العلم بالعلّيّة في المرّة الاُولى وقبل تكرار التجربة .
ومن الواضح أنّ البيان الذي تقدّم في المحاولة السابقة لتفسير حصول العلم بالعلّيّة على أساس العادة لا يفي للإجابة عن هذا التساؤل ؛ لأنّ المفروض في هذه المحاولة والمفروغ عنه هو حصول العادة الناجمة عن تكرار التجربة ، في حين نسأل عن سبب حصول العلم بالعلّيّة لدى إجراء التجربة الاُولى .
وبتعبيرٍ آخر : إنّ العادة التي نتحدّث عنها تقع في طول السرّ الذي يقف وراء حصول العلم بالعلّيّة ، لا أ نّها هي السبب والسرّ وراء حصول هذا العلم .

تفسير المنطق الذاتي

وهذا التفسير يمكن استفادته ممّا ذكرناه في بحث علم الاُصول عند تعرّضنا لمسألة الأخباريّين ، فقد قلنا هناك‏(5) : إنّ لدى الإنسان مجموعة من‏
البراهين مدركة بالعقل الأوّل ، ولديه براهين اُخرى مدركة بالعقل الثاني . وإلى جانب هذه البراهين هناك معلومات لا يمكن أن نقول : إنّها مدركة بالعقل الأوّل ولا بالعقل الثاني ، وعبّرنا عنها هناك أ نّها مدركة بالقريحة .
وهناك ذكرنا أنّ السبب في عدم كونها مدركة بالعقل الأوّل هو أنّ ثبوت المحمول فيها للموضوع ليس ثبوتاً ذاتيّاً وأوّليّاً ، وهذا ممّا يختلف الناس فيه ، مع أنّ مقتضى كونه من العقل الأوّل أن لا يقع محلّاً للخلاف بينهم .
أمّا عدم كونها من مدركات العقل الثاني ؛ فلأنّ العقل الثاني متقوّم بالحدّ الوسط ، وهو غير متعيّن في المقام .
لهذا وذاك قلنا : إنّ القضايا التي تكون من هذا القبيل يحصل العلم بها نتيجةً للقريحة الناشئة من طريقة كلّ إنسان في التفكير ومنهجه في الاستنتاج وسير الفكر من المبادئ إلى المطالب ومن هذه المطالب إلى مبادئ . إنّ هذه الحركة من المبادئ إلى المطالب وبالعكس تختلف بين إنسان وآخر من ناحية الطبيعة والمنهج والخصوصيّات ؛ فهذه القريحة قد تدفع بإنسانٍ إلى الاعتقاد بثبوت شي‏ءٍ لشي‏ء نتيجة وجود همزة وصل وعلاقة بين الشيئين ، وإن لم تتبيّن لديه هذه العلاقة على نحو التفصيل . وهذا الاعتقاد قد ينجم عن القريحة ، لا عن علمه التفصيلي بالعلاقة التي تربط بينهما . كما أنّ من الممكن ثبوت شي‏ء لآخر نتيجة حدٍّ أوسط غير متعيّن لديه ..
ومن هنا نجد اختلاف الناس في ما يتعلّق بهذا النوع من البراهين مع افتراض اتّفاقهم ضمن دائرة العقل الأوّل ، ومع افتراض عدم وجود غفلة أو ذهول أو قصور في تصوّر الموضوعات أو المحمولات :
فبعض الفلاسفة مثلاً يذهب إلى صحّة البرهان الفلاني ، بينما لا يصحّحه آخر ، ويكون اختلافهما في التصحيح ناجماً عن اختلاف في القرائح ، الناجم بدوره عن اختلاف في ذبذبة الفكر بين حدّ المبادئ وبين حدّ المطالب . ولهذا نجد أنّ النزاع في البحث الفلسفي قد لا يرتفع في كثيرٍ من الأحيان ، بخلاف ما عليه الحال في البحث الرياضي . ولو أحضرنا اثنين من كبار الفلاسفة وجمعناهما للبحث في قضيّة من القضايا من الصبح إلى الليل ، فقد لا يصلان إلى حلّ مشترك ، ومن الممكن أ نّه لو طال بهما العمر آلاف السنين لما اتّفقا ولبقي كلٌّ منهما على عدم إيمانه بما يطرحه الآخر .
ولنأخذ على ذلك مثالاً : فلو قال أحدهما في مقام البرهنة على امتناع التسلسل : إنّ أيّ عددٍ نضع يدنا عليه في السلسلة غير المتناهية فهو متناهٍ ، وهذا حكمٌ على نحو العامّ الاستغراقي ، وهو يستلزم حكماً آخر على نحو العامّ المجموعي ، وهو أنّ المجموع متناهٍ ، فإذا كان أيّ عدد نضع يدنا عليه من هذه السلسلة متناهياً ، للزم منه أن يكون المجموع متناهياً . ويجيبه الآخر بأ نّه لا يدرك ملازمةً بين صدق الحكم على نحو العموم الاستغراقي وبين صدق الحكم على نحو العموم المجموعي ، ويبقى هذا يصرُّ على الملازمة وذاك ينكر .
وهذه الدعاوى ليس مردّها إلى العقل الأوّل عندما يتساوى فيها الطرفان ، كما أ نّها ليست من قضايا العقل الثاني بالمعنى البرهاني حتّى يقال بوجود حدّ أوسط وإرجاعها إلى قضايا العقل الأوّل ، وإنّما مردّ الاختلاف إلى اختلاف حاصلٍ في القرائح .
إلى هنا خلاصة ما ذكرناه في بحث الاُصول لدى تعرّضنا لكلام الأخباريّين .
وعلى ضوء ما كنّا نقوله هناك ، نثير تساؤلاً حول إمكانيّة تفسير حصول العلم بالعلّيّة على أساس القريحة ، بأن نقول : إنّ الإنسان يحصل لديه العلم بعلّيّة الألِف للباء عند تكرّر اقترانها بها لمرّات عديدة بواسطة حاسّة الشمّ ، وإذا سألته عن سبب علمه هذا يجيبك بأ نّه لا يعرف ، إلّاأنّ معلوماته السابقة تشير له إلى أنّ الألِف علّة للباء ، تماماً كما شعر ذلك الفيلسوف الذي تحدّثنا عنه بأنّ صدق العامّ الاستغراقي يستلزم صدق العامّ المجموعي .
وهذه المحاولة في الحقيقة محاولة لإرجاع العلم بالعلّيّة إلى العقل الأوّل والعقل الثاني إرجاعاً إجماليّاً غامضاً مبهماً ، وهو من هذه الناحية يتعارض مع غرضنا في إرجاعه إلى العقل الأوّل أو الثاني إرجاعاً موضوعيّاً .
وهنا لا بدّ من ملاحظة أمرين :
الأمر الأوّل : أ نّنا عدلنا عن فكرة القريحة وإدخالها في صناعة البرهان ، بمعنى أ نّنا الآن لا نتصوّر قضيّة يدركها العقل على صعيد البرهان دون أن يرجع ذلك إلى العقل الأوّل أو الثاني أو الوهم ؛ وذلك لأنّ ثبوت المحمول للموضوع في هذه القضيّة إمّا أن يكون في نظر القوّة المدركة لثبوت ذلك المحمول للموضوع بلا واسطة ، وإمّا أن يكون ثبوته باعتبار الواسطة :
أ - فإن كان ثبوته بلا واسطة ، فهو إمّا من العقل الأوّل وإمّا من الوهم .
ب - وإن كان ثبوته بواسطة ، فهذه الواسطة يمكن أن تكون إمّا حدّاً أوسط معلوليّاً وإمّا علّيّاً ، وبتعبير آخر : إمّا على نحو البرهان الإنّي - بمعنى كونها واسطة في علمنا بثبوت المحمول للموضوع - وإمّا على نحو البرهان اللمّي .
وعلى الثاني يكون إدراكنا لثبوت هذا المحمول لهذا الموضوع على أساس إدراك ثبوت ما هو علّة له ، أي أنّ إدراكنا لثبوت الباء للألِف مستندٌ إلى إدراكنا لثبوت ما هو علّة للباء للألِف ، بمعنى أنّ موضوع الباء محمولٌ للألِف على طريقة البرهان اللمّي لا الإنّي .
عندئذٍ يقال : إنّ الواسطة التي ببركتها أدركنا ثبوت الباء للألِف :
إن كانت معلومةً لدينا ، فهذا يرجع إلى العقل الثاني وليس إلى شي‏ء آخر في قباله .
وإن لم تكن كذلك وكانت مبيّنة بعنوان ما هو موضوعٌ للباء ومحمولٌ للألِف فحسب ، وقيل : إنّ القطع انصبّ على هذا العنوان الإجمالي ، قلنا : إنّه لا يعقل أن يكون هذا العنوان محمولاً أوّليّاً ذاتيّاً للألِف ؛ لأنّ عنوان موضوع الباء - بما هو موضوعٌ للباء - إنّما هو عنوانٌ انتزاعي من واقع موضوع الباء ، وليس عنواناً أوّليّاً . وهذا العنوان عبارة عن عنوان ثانوي للمحمول الأوّلي .
وإذا لم يكن ممكناً أن ينتسب إلى باب العقل الأوّل ، ننتقل إلى السؤال عن هذا المحمول الثانوي الذي ليس محمولاً أوّليّاً ولا ذاتيّاً للألِف : كيف أدركنا ثبوته لها من دون معجزةٍ أو إلهام ؟ فإن أدركنا ثبوته للألِف بتوسّط إدراك ثبوت المحمول الأوّلي - يعني بتوسّط إدراك ثبوت واقع موضوع الباء للألِف - وأدركنا عنوان ثبوت موضوع الباء للألِف ، فهذا يعني أ نّنا رجعنا إلى العقل الأوّل ، وعدنا إلى المشكلة .
ولهذا لا يمكن تصوّر حصول هذه القضيّة في العقل البشري إلّابرجوعها إلى العقل الأوّل أو الثاني أو الوهم ، وإلّا لزم التسلسل .
وإذا فرض عدم إمكان رجوعها إلى العقل الأوّل أو الثاني ، فلا يبقى سوى رجوعها إلى الوهم ، وعندها ينبغي أن يقال : إنّ القضيّة ناشئة من الوهم لا من القريحة .
وهذا هو وجهُ عدولنا عن فكرة إدخال القريحة في عالم البرهان .
الأمر الثاني : أ نّنا إذا سلّمنا بمثل هذه القريحة في عالم البرهان ، فهي على كلّ حال غير مجدية في المقام ؛ لأنّ دعوى حصول العلم الإجمالي الناشئ من هذه القريحة - وبحسب مباني الشيخ الرئيس - إمّا أن يكون بملاك المانعيّة وإمّا ـ بملاك فقدان واحدٍ منها على ما ذكرناه مراراً . وإذا كان الأمر كذلك ، فإنّ جملةً من الإشكالات السابقة تتوجّه إلى المقام ، إضافةً إلى انقطاع الصلة وإلى [ الهوّة ] الفاصلة بين عالم القضايا الوجوديّة وبين عالم القضايا الشرطيّة ، بحيث لا نحتمل أن تكون القضايا الشرطيّة تستبطن حدّاً أوسط غاب عن نظرنا لإثبات القضايا الوجوديّة بحسب الخارج .
وهذا المطلب كنّا نحتمله في نفس قضايا العالم الشرطيّة ، بمعنى أن تكون قضيّة من القضايا الشرطيّة تثبت موضَوعها لمحمولها أو جزاءها لمقدّمها اعتماداً على قضيّة اُخرى من القضايا الشرطيّة التي لا نستحضرها بالفعل ، أي أ نّنا كنّا نحتمل ثبوت حدٍّ أوسط من قضيّة شرطيّة لقضيّة شرطيّة اُخرى .
إلّاأنّ احتمال أن تكون بعض القضايا الشرطيّة المعلّقة بين الأرض والسماء حدّاً أوسط لثبوت قضيّة تنجيزيّة احتمالٌ غير موجود في نفسه ، إلّاإذا قلنا : إنّ من جملة القضايا المعلّقة بين الأرض والسماء قضيّة الشيخ الرئيس حول استحالة الاتّفاق الدائمي ؛ إذ من الممكن عندئذٍ استنباط هذه القضيّة الوجوديّة منها ، ولكنّنا لا نحتمل أن تكون صالحة لتكوين حدٍّ أوسط لحصول العلم بهذه القضيّة التنجيزيّة الخارجيّة .
هذا تمام الكلام في التفسير الثالث لحصول العلم بالعلّيّة مع إبطاله .
المصادر :
1- اقتصادنا : 89 / الشفاء ، الطبيعيّات ، النفس 2 : 163 - 164 ؛ التعليقات : 161 - 162
2- لمزيد من الاطّلاع راجع : نظريّات التعلّم .. دراسة مقارنة 1 : 85 – 90
3- لمزيد من الاطّلاع راجع : الاُسس المنطقيّة للاستقراء : 151 ، التفسير الفسيولوجي للدليل الاستقرائي
4- الاُسس المنطقيّة للاستقراء : 152 ، الموقف من التفسير الفسيولوجي
5- الاُصول : 195 - 205 ؛ الاُسس المنطقيّة للاستقراء في : بحوث في علم الاُصول 4 : 119 .

 



ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.