انحسر التعامل بالنقد في ایامن هذه واقتصر علی التعامل بواسطة المصارف المنتشرة في البلاد الاسلامية وغيرالاسلامية ويمکن تقسيم البنوك على ثلاثة أقسام :
1 - بنك الكفّار .
2 - بنك الحكومة .
3 - بنك المسلمين .
بنك الكفّار
أمّا القسم الأوّل ، وهو البنك الذي يكون للفرد الكافر ، فتارةً يقع الكلام فيه في إقراضه بفائدة ، واُخرى في الاقتراض منه بفائدة :أ - الجهة الاُولى : الإقراض بفائدة :
أمّا إقراضه بفائدة ، فقد يقال بجوازه بمقتضى القواعد وبلا حاجةٍ إلى النصّ الخاصّ إذا لم يكن الكافر ذمّيّاً ؛ إذ إنّه يجوز حينئذٍ سرقة ماله مجّاناً(1)
فلا يحتمل حرمة أخذ الفائدة منه بالإقراض .
وفيه : إنّ الذي ثبت إنّما هو جواز أخذ ماله الخارجي مجّاناً وتملّكه ،ولم يثبت جواز التسلّط على ذمّته قهراً عليه أيضاً حتّى يقال : إذا جاز ذلك جاز أخذ الفائدة الربويّة منه .
وتوضيح المقصود : إنّ الكافر تارةً : يفرض التسلّط على ماله الخارجي مجّاناً وقهراً عليه ، واُخرى : يفرض التسلّط على ذمّته وتملّك شيء في ذمّته قهراً عليه ومجّاناً ، كأن يُنشئ المسلم ثبوت مائة دينار في ذمّة هذا الكافر بلا أيّ سبب خارجي ويقال بنفوذ هذا الإنشاء .
ويختلف الثاني عن الأوّل كما هو واضح ، ويترتّب عليه آثار شغل الذمّة : من قبيل أ نّه لو مات الكافر انتقل ما في ذمّته إلى تركته ، وكان للمسلم أن يأخذ ذلك من تركته ، بحيث لو جاء مسلمٌ آخر يريد أن يتملّك التركة مجّاناً - لكون ورثته كفّاراً غير ذميّين - كان حقّ المسلم الأوّل مقدّماً عليه ؛ إذ هو مالكٌ بالفعل لبعض التركة .
وهذا الأثر ونحوه من الآثار لا يترتّب على الأوّل ، وهو تملّك ماله الخارجي ، والذي دلّ الدليل على جوازه هو الأوّل دون الثاني ، ولا ملازمة عقلائيّة بين جواز تملّك ماله [ الخارجي ] قهراً عليه وبين جواز السلطنة على ذمّته قهراً ؛ فإنّ الثاني أشدّ - في نظر العرف - من الأوّل ويختلف عنه ، ولا يوجد هنا ارتكازُ عدم الفرق .
إذا عرفت هذا نقول : إنّ أخذ الربا وثبوت الفائدة عليه يكون بمعنى إشغال ذمّته بالفائدة ، وثمّة ملازمة عقلائيّة بين جواز إشغال ذمّته مجّاناً وقهراً عليه وبين جواز إشغالها بالفائدة بواسطة القرض الربوي ، بمعنى أ نّه إذا جاز الأوّل فالعرف لا يحتمل عدم جواز الثاني .
لكنّنا قلنا : إنّه لم يثبت جواز إشغال ذمّته بالمال مجّاناً وقهراً عليه ، ولا ملازمة أو عينيّة بين جواز أخذ ماله الخارجي قهراً عليه وبين جواز إثبات الفائدة الربويّة عليه ؛ فإنّ الثاني ليس مجرّد جواز تملّك ماله ، وإنّما هو إشغالٌ لذمّته يترتّب عليه آثار زائدة ، من قبيل انتقال الفائدة بعد موته إلى تركته ، ويكون من حقّ المسلم أخذه من تركته ، ولا يصحّ لمسلمٍ آخر أن يزاحمه في أخذ تركة هذا الكافر مجّاناً ، ومن المحتمل عقلائيّاً جواز الأوّل دون الثاني .
إذن : فإثبات جواز إقراضه ربويّاً - تكليفاً ووضعاً - يحتاج إلى دليل خاصّ ، والروايات الخاصّة في المقام مختلفة .
النصوص الخاصّة في إقراض الكافر ربويّاً :
1 - مرسلة الصدوق رحمه الله التي جاء فيها : « قال الصادق عليه السلام : ليس بين المسلم وبين الذمّي ربا »(2) ، وهي تدلّ بالملازمة على جواز أخذ الربا من غير الذمّي ؛ إذ لا يحتمل جواز أخذه من الذمّي وعدم جواز أخذه من غيره .
2 - رواية حريز ، عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : « ليس بين الرجل وولده ، وبينه وبين عبده ، ولا بين أهله(3) ربا ، إنّما الربا في ما بينك وبين ما لا تملك . قلت : فالمشركون بيني وبينهم ربا ؟ قال : نعم ، قال : قلت : فإنّهم مماليك ، فقال : إنّك لست تملكهم ، إنّما تملكهم مع غيرك ، أنت وغيرك فيهم سواء ، فالذي بينك وبينهم ليس من ذلك ؛ لأنّ عبدك ليس مثل عبدك وعبد غيرك »(4) .
وهاتان الروايتان متعارضتان بنحو التباين .
3 - رواية عمرو بن جميع، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «قال أمير المؤمنين عليه السلام : قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله : ليس بيننا وبين أهل حربنا ربا ؛ نأخذ منهم ألف درهم بدرهم ، ونأخذ منهم ولا نعطيهم »(5) .
فلو قلنا : إنّ المقصود بأهل الحرب : كلّ من ليس ذمّيّاً ، فهذا الحديث مبتلىً بالمعارض ، وهو الرواية الثانية التي لا تجوّز الربا بين المسلم والمشرك ، وجعلها مختصّةً بالذمّي - كما صنعه صاحب ( الوسائل )(6) - لا معنى له ؛ إذ الذمّيّة إنّما تكون في الكتابي لا في المشرك .
إلّاأنّ الصحيح أ نّه ليس معنى أهل الحرب أن لا يكون ذمّيّاً ؛ فإنّ إطلاق أهل الحرب على مطلق غير الذمّي إنّما هو اصطلاح خاصّ بالفقهاء باعتبار أنّ كلّ من ليس ذمّيّاً فهو مهدور الدم والمال مثلاً ، فهو وإن لم يكن محارباً بالفعل ، لكنّه في حكم المحارب . وحمل الرواية على اصطلاحٍ متأخّر جاء على لسان الفقهاء لا معنى له ، وإنّما المقصود بأهل الحرب : الكافرُ الذي يعيش حالة [ الحرابة ] مع المسلمين بنفسه أو بمجتمعه .
إذن : فهذه الرواية أخصّ من الرواية الثانية ، فتكون حجّةً بلا ابتلاءٍ بالمعارض .
فالرواية الاُولى والثانية متساقطتان بالتعارض ، ويكون المرجع هو الرواية الثالثة .
هذا كلّه بغضّ النظر عن أسانيد هذه الروايات .
أمّا بالنظر إلى أسانيدها فنقول : إنّها كلّها ضعيفة السند(7) ، فنرجع إلى مقتضى القاعدة ، وهو عدم جواز إقراض الكافر قرضاً ربويّاً .
نعم ، يجوز أن يؤخذ منه مقدار الفائدة ويُتملّك بالحيازة ، فيما يتخيّل هو أ نّه أعطى ربا القرض المستحقّ عليه ، فبذلك يحصل هذا الأثر المطلوب بنحوٍ مشروع .
ب - الجهة الثانية : الاقتراض بفائدة :
أمّا الاقتراض من الكافر بفائدة ، فلو قلنا بمعقوليّة اقتراض المسلم من الكافر غير الذمّي لم يجز الاقتراض منه بفائدة ، لا تكليفاً ولا وضعاً ؛ فإنّ الذي يتوهّم جوازه - على أساس مهدوريّة مال الكافر غير الذمّي - هو أخذ الفائدة منه ، لا الاقتراض منه بفائدة .
نعم ، يجوز أن يتوصّل إلى المقصود بأن يأخذ المسلم المال الذي يسلّمه إليه الكافر باسم القرض ويتملّكه بالحيازة ، ثمّ بعد ذلك يكون مجبوراً على تسليم ذلك المقدار مع الزيادة إليه قهراً وعدواناً ، فيعطيه إيّاه لا من باب القرض الربوي ، بل من باب التخلّص من شرّه .
هذا إذا كان كلُّ ما في البنك الكافر للكفّار ، كما لو كان المودعون فيه أيضاً كفّاراً .
أمّا إذا كان المسلمون أيضاً قد أودعوا فيه أموالاً بالقرض الربوي الباطل ، فهنا يشكل تملّك ما يُؤخذ من هذا البنك بالحيازة ؛ إذ قد يكون ذلك ملكاً للمسلم .
وهذا الإشكال إنّما يستفحل إذا كان العلم الإجمالي متعلّقاً بنفس المال الذي أخذناه من البنك ، فيكون من الحلال المختلط بالحرام ، ويجري عليه حكمه .
أمّا إذا كان العلم الإجمالي متعلّقاً بأموال البنك دون خصوص ما اُخذ منه ، فكلُّ ما أخذ يكون حلالاً ، بقاعدة اليد الحاكمة بأ نّه ملكٌ للكافر .
ثمّ إنّ لنا كلاماً في أصل معقوليّة اقتراض المسلم من الكافر غير الذمّي ؛ فإنّ هذا إنّما يكون معقولاً بناءً على كون القرض تمليكاً من قبل المُقرض ، كما هي الحال على التعاريف السابقة للقرض ما عدا التعريف الأخير ؛ فإنّ المفروض أنّ الكافر مالكٌ لهذا المال وله أن يملّكه . أمّا بناءً على التعريف الرابع المختار ، فلا يتعقّل القرض في المقام ؛ لأنّ القرض - بناءً عليه - ليس إلّاإبرازاً لرضاه بتملّك المقترض هذا المال مع الضمان ، من باب ضمان اليد ، وإنّما يتعقّل ذلك فيما إذا كان الإتلاف بالتملّك في نفسه موجباً للضمان ، وإتلاف مال الكافر غير الذمّي بالتملّك في نفسه ليس موجباً للضمان حتّى تصل النوبة إلى الحديث عن أنّ الكافر : هل يريد هذا الضمان الثابت بقاعدة اليد أم يرضى بعدم الضمان ؟
بنك الدولة
أمّا القسم الثاني - وهو بنك الحكومة - فالقرض منه موقوفٌ على صحّة مالكيّة الجهة ، وكذلك على ثبوت الذمّة للجهة . ثمّ يكون هذا القرض أو الإقراض موقوفاً على وجود من تصحّ المعاملة معه بوصفه ممثّلاً لتلك الجهة أو وليّاً عليها ، فيقع الكلام :أوّلاً : في صحّة مالكيّة الجهة وثبوت الذمّة لها .
وثانياً : في توضيح شرط صحّة المعاملة مع هذه الجهة ، وثبوت هذا الشرط خارجاً وعدمه .
الجهة الاُولى : صحّة مالكيّة الجهة وثبوت الذمّة لها :
أمّا الكلام في الجهة الاُولى فينقسم إلى قسمين : أوّلاً في ثبوت الملكيّة للجهة ، وثانياً في ثبوت الذمّة لها :
أوّلاً : نتكلّم في ثبوت الملكيّة للجهة وشبهها من الأشياء غير الواعية وعدم لزوم كون المالك إنساناً واعياً ، فنقول : إنّ الارتكاز العقلائي يساعد على ثبوت الملكيّة للجهة أو الشيء الخارجي غير الواعي ، ويكفي عدم الردع من قبل الشارع في ثبوت إمضاء أصل النكتة المرتكزة ، فنُسري الإمضاء إلى المصاديق المستجدّة غير الموجودة في زمن الشارع . ونوضّح مساعدة الارتكاز العقلائي والفقهي على المقصود بذكر أمثلة :
1 - ما ثبت فقهيّاً من أنّ الزكاة ملكٌ للجامع بين الطوائف الثمانية ، وبعض تلك الطوائف حيثيّة معنويّة صرفة ، من قبيل : سبيل الخير .
2 - إنّ الخمس نصفه للإمام عليه السلام ، أي المنصب والمقام ، ونصفه للجامع بين الفقراء والمساكين وابن السبيل .
3 - الملكيّة في الأوقاف العامّة ، كالوقف على العلماء أو الفقراء أو المسلمين . فإن قلنا : إنّ مفاد الوقف تمليك العين ، تصبح الجهة - بالارتكاز العقلائي - مالكة للعين ، وإن قلنا : إنّه نحو تحبيس للعين - وهو غير التمليك - ، فلا أقلّ من تمليك الثمرة وأنّ منفعة الوقف ملكٌ طِلق للموقوف عليه .
4 - مالكيّة المسجد ، وهو ليس إنسانا واعياً بحسب الوعي الدنيوي الذي نفهمه ، وهذه الملكيّة للمسجد تكون بأحد نحوين :
النحو الأوّل : أن يوقف شيء على المسجد ، فهذا من الأوقاف العامّة ويدخل في ما سبق ، فيصير هذا المسجد مالكاً للعين أو الثمرة ، على الوجهين الماضيين .
النحو الثاني : مالكيّة المسجد لحيطانه بناءً على ما هو المختار - تبعاً للسيّد الاُستاذ ( مدّ ظلّه ) - من أنّ المسجد هو المكان لا البناء الموجود فيه(8)
فيكون المسجد مالكاً للبناء الموجود فيه . ولذا تصحّ عقلائيّاً المعاوضة بين الأشياء المبنيّة في المسجد بعد خرابه وبين شيءٍ آخر يشترى بتلك الأشياء للمسجد نفسه . ولو كان البناء مسجداً لم تصحّ المعاوضة ؛ لأنّ وقف المسجد عبارةٌ عن تحرير الرقبة .
5 - الأنفال التي هي ملك للنبي صلى الله عليه و آله والإمام عليه السلام ، بناءً على ما هو الصحيح من أنّ المستظهر من أدلّة الأنفال هو أنّ المالك لها هو نفس المقام ، ولذا لا تورّث ، وليس المالك هو الشخص ولو مقيّداً بذلك المقام ، بأن يكون المقام حيثيّة تعليليّة .
6 - ملكيّة الأراضي الخراجيّة ، وفيها بحث :
أ - فقد يقال : إنّها من قبيل الوقف الذرّي ، فلا تدخل في ملكيّة الجهة .
ب - وقد يقال : إنّها من باب ملكيّة العنوان ، كما هو المستظهر من الأدلّة ، وهذا العنوان :
ب 1 : إمّا أن يكون طبيعيَّ المسلم بنحو صرف الوجود ، بحيث يكون كلّ فرد في الخارج مصداقاً للمالك لا نفس المالك .
ب 2 : أو يقال : إنّ الاُمّة الإسلاميّة بمجموعها شخصيّةٌ واحدة ، نسبتها إلى زيد وعمرو كنسبة زيد إلى اُذنه وعينه وأنفه ، وهذه الشخصيّة المعنويّة الواحدة هي المالكة الحقيقيّة ، وهذان النحوان يرجعان إلى ملكيّة الجهة .
والصحيح من هذه الاحتمالات الثلاثة هو الاحتمال الأخير .
فتحصّل أنّ ملكيّة الجهة أمرٌ يساعد عليها الارتكاز العقلائي والفقهي ، ويكفي في ثبوتها شرعاً عدم الردع . أمّا الاستشكال بأنّ الجهة ليست أمراً واقعيّاً والملكيّة عرضٌ يحتاج إلى محلّ ، فلا ينبغي الإصغاء إليه والبحث في صحّته وبطلانه ؛ لوضوح جوابه .
ثانياً : بعد أنّ كان للجهة ملكيّةٌ ، فتثبت لها الذمّة أيضاً بالارتكاز العقلائي . نعم ، لو لم تكن تملك لما كانت لها ذمّة أيضاً ؛ إذ كيف يتصوّر وفاؤها بما في ذمّتها ؟ !
ونوضح هنا أيضاً ثبوت الذّمة بالارتكاز العقلائي والفقهي عبر ذكر أمثلة :
1 - الاستقراض على ذمّة الوقف إذا فرض أنّ متولّيه رأى حاجته إلى بناء ولم يكن له غلّة وافية بالفعل ، وهذا مصرّح به في كلمات الفقهاء(9)
وعلى طبقهعمل العقلاء . ولو أنّ الوقف لم يحصل له بعد ذلك ثمار يؤدّى بها الدَّين لم يكن للدائن الرجوع على الواقف أو الموقوف عليهم ؛ فإنّ المديون ليس هو الواقف ولا الموقوف عليهم ، وإنّما هو العين الموقوفة التي عجزت عن الأداء .
2 - الاستقراض على ذمّة الزكاة إذا توقّف حفظها عند الحاكم الشرعي على استئجار بيتٍ لها مثلاً ، ولم يكن عنده من الزكاة ما يستأجر به البيت . وهذا مصرّح به عند الفقهاء(10) ، والحكومات والدول تعتمد الاقتراض في ذمّة بيت المال ، وإذا تبدّل الشخص يؤخذ من بيت المال .
3 - الاقتراض على ذمّة الفقير إذا رأى الحاكم فقيراً معدماً ليس عنده من الزكاة ما يعطيه . وهذا أمرٌ مركوز عقلائيّاً ، وصرّح بصحّته السيّد اليزدي رحمه الله في ( العروة الوثقى )(11) ، واستشكل بعضٌ في ذلك(12) ، لا من باب عدم ثبوت الذمّة لكلّي الفقير ، بل من باب عدم ولاية المجتهد على ذلك .
4 - ضمان خطأ القضاة من بيت المال ، وذلك باعتبار أنّ القاضي أتلف بما هو أداة للحكومة الإسلاميّة ، لا بما هو معنى اسمي ، فتضمن الحكومة الإسلاميّة وبيت المال .
الجهة الثانية : شروط صحّة المعاملة الماليّة مع الجهة :
بما أنّ جهة الحكومة ليست إنساناً واعياً يتعامل معه ، فيشترط في المعاملة معها - إقراضاً واقتراضاً - وجود وليّ شرعي عليها نُصب من قبل الشارع : إمّا بنحو خاصّ كالأئمّة عليهم السلام ، أو بنحو عامّ كالمجتهد العادل ، بناءً على ثبوت هذه الولاية له .
وأمّا التعامل مع حكومةٍ غير شرعيّة ، فهو من قبيل المعاملة في مال اليتيم مع غير وليّه الشرعي من أبيه أو جدّه أو الحاكم الشرعي . وهذا الشرط وجوده منحصرٌ في الأئمّة عليهم السلام والمجتهد العادل ، بناءً على ثبوت هذه الولاية له .
وعليه : فلا يصحّ إقراض الحكومة غير الشرعيّة ولا الاقتراض منها :
أ - أمّا إقراضها ؛ فلأ نّها ليست وليّاً على جهة الحكومة ، فلا يكون إقراضها إقراضاً لجهة الحكومة المعتبرة ، ولا تصبح الجهة هنا ضامنةً ، وإنّما يصبح الأفراد ضامنين بضمان الغرامة : فحينما يريد أن يستوفي قرضه منها يكون ما يأخذه مالاً مأخوذاً من الحكومة غير الشرعيّة ، وكذا ما يأخذه منها باسم الفائدة .
ب - وأمّا الاقتراض منها ؛ فلأمرين : أحدهما : عدم الولاية كما عرفت ، وثانيهما : ما يكون في كثيرٍ من الأموال الموجودة عند الحكومة الجائرة ، من أنّها ليست ملكاً لجهة الحكومة حتّى يتكلّم في أنّ هؤلاء الأفراد أولياء على تلك الجهة ويصحّ إقراضهم لتلك الأموال أم لا ؛ فإنّ الأموال التي يجمعونها من الناس ليست كلّها من قبيل الزكاة التي ترجع إلى الحكومة الشرعيّة ، بل كثيراً ما تكون ضرائبَ وضعت على الناس ظلماً وعدواناً .
وبتعبير آخر : إنّنا وإن قلنا بقابليّة الجهة للتملّك وانشغال ذمتها ، إلّاأنّ تحقّق التملّك أو اشتغال الذمّة بالفعل موقوف على أمرين :
الأوّل : وجود ما هو السبب الشرعي للتملّك أو انشغال الذمّة .
والثاني : كون طرف المعاملة بنفسه سبباً شرعيّاً لذلك ، بحيث يكون وليّاً شرعيّاً على تلك الجهة .
وفي المقام يكون انشغال ذمّة الحكومة بالإقراض فاقداً للشرط الثاني ؛ ـفإنّ إقراضها وإن كان سبباً شرعيّاً لانشغال ذمّتها ، لكنّ الأفراد القائمين عليها ليسوا أولياء شرعيّين عليها ، ويكون تملّك الحكومة - حتّى يصحّ الاقتراض منها - فاقداً على الأغلب لكلا الشرطين ؛ لأنّ الأفراد القائمين عليها ليسوا أولياء عليها ، وكثيرٌ من الأموال التي يأخذونها من الناس ليست بسببٍ شرعيٍّ في نفسه .
وعليه : فهذا المال الذي يأخذه المقترض بعنوان القرض من الحكومة يلحقه أيضاً حكم الأموال المأخوذة من الحكومة غير الشرعيّة ، وهو أ نّه :
أ - إن احتمل أنّ هذا المال الذي أخذه مالٌ مستوردٌ من الكفّار وأ نّه أوّل شخصٍ أخذ هذا المال من الحكومة، حيث إنّ الأوراق النقديّة تطبع في زماننا عادةً في بلاد الكفر وتصدّر منها ؛ لاحتياج طبعها - بحيث لا يمكن تزويرها - إلى نوعٍ من الخبرة غير المتوفّرة لدى كلّ أحد : ففي هذه الحالة تجري أصالة عدم تملّك المسلم لهذا المال وعدم حيازته له حيازةً مملّكة ، ولا يعارضها أصالة عدم تملّك المسلم لباقي الأموال الموجودة عند الحكومة ؛ لخروجها عن محلّ الابتلاء .
ب - وأمّا إن كان له علم إجمالي بأنّ بعض هذا المال للمسلمين ، أو على الأقلّ يعلم إجمالاً بأنّ بعض ما أخذه [ أو ] سوف يأخذه من الحكومة ملكٌ للمسلمين بنحو العلم الإجمالي التدريجي ، فأصالة عدم تملّك المسلم تتعارض في الأطراف وتتساقط ، ولا بدّ حينئذٍ من تطبيق حكم مجهول المالك .
بنك المسلمين :
أمّا القسم الثالث ، وهو البنك الذي يكون لفردٍ مسلم أو لأفراد مسلمين ، فالإقراض والاقتراض منه صحيح في نفسه ، ويكون القرض الربوي باطلاً وحراماً .وهنا تصل النوبة إلى التخريجات الفقهيّة التي تعالج بها مشكلة الربا بالحيل الشرعيّة ، وقد عرفت في ما سبق الصناعة العامّة لتلك التخريجات .
وبعد أنّ وصل الكلام إلى البحث عن معاملات هذا القسم الثالث من البنوك ، والذي تكون معاملاته مشروعةً بتمامها في نفسها وبغضّ النظر عن أعمال الربا نقول : إنّ معاملات البنوك تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
1 - الخدمات المصرفيّة ، أي ما يقدّمه البنك من خدماتٍ وأعمالٍ للعميل .
2 - التسهيلات المصرفيّة ، أي القروض التي يدفعها البنك للعميل أو غيره من المراجعين له صدفةً واتّفاقاً .
3 - الاستثمارات المصرفيّة ، أي الأعمال التي يقوم بها المصرف بملاك تجاري ، وتدخل تحت عنوان البيع والشراء .
وهذا النشاط الثالث أضيق النشاطات الثلاثة ، وفي كثيرٍ من البنوك الموجودة في بلادنا لا يوجد هذا النشاط إلّافي نطاق ضيّق جدّاً ، وإنّما الموجود هو النشاطان الأوّلان .
أ - الخدمات المصرفيّة :
أمّا الخدمات المصرفيّة ، فأوّلها وأهمّها قبول الودائع ، وهي على قسمين :
الودائع الثابتة : وهي تبقى عند المصرف مدّة معيّنة ليس لصاحبها حقّ السحب خلال المدّة ، فيما يدفع المصرف عادةً فائدةً لصاحب الوديعة .
الودائع المتحرّكة : وهي ما يسمّى بـ ( الحساب الجاري ) ، والتي يودعها صاحب المال عند المصرف تسهيلاً على نفسه في معاملاته لكي يُحيل إلى المصرف متى ما أراد ، وله حقّ السحب متى شاء ، والمصرف لا يدفع بإزاء ذلك فائدةً عادةً .
وتتأ لّف أموال المصرف عادةً من الودائع ومن رأس المال الذي يكون لصاحب المصرف أو أصحابه ، وتكون نسبته أحياناً إلى مجموع الأموال هي العُشر ، فيما تكون تسعة أعشار المال من الودائع .
ويقع المصرف بين خطرين :
فإن أفرط في التوظيف - وهو إقراض الأموال للناس بمُدد مختلفة طولاً وقصراً ، وكلّما كانت أطول كان النفع أكبر - وقع في خطر أ نّه قد يراجعه أصحاب الأموال لسحب أموالهم ، فتكثر المراجعات لصدف حربيّة أو اقتصاديّة أو سياسيّة ونحو ذلك ، وليس له ما يدفعه إليهم .
وإن فرّط في السيولة ، أي إبقاء الأموال وعدم توظيفها ، وقع في خطر عدم الانتفاع وعدم الفائدة .
وفنّ الصيرفة عبارة عن التوفيق بين هذين الجانبين ، والاحتراز عن كلا الخطرين .
والكلام في تحقيق هذه الخدمة - أعني قبول الودائع - يقع في أربع جهات :
الجهة الاُولى : في تحقيق معنى الوديعة ، وهل أنّ هذه الودائع التي يقبلها البنك ودائع وأمانات ؟ أم أ نّها قروض ؟ !
الجهة الثانية : في تحقيق معنى الحساب الجاري الذي هو أحد أقسام الودائع ، فما هو معنى الحساب الجاري ؟ وهل يحتاج إلى عقد زائد على معنى القرض - كما عليه الفقه الغربي - أو لا يحتاج إلى مؤونة زائدة ؟ !
الجهة الثالثة : في طرق الإيداع ، وأ نّه كيف يودع التاجر في هذا البنك ؟ وهل هذه الطرق صحيحة أم لا ؟ !
الجهة الرابعة : في طرق السحب ، أي أ نّه كيف يسحب التاجر ما أودعه في البنك ؟ وما هي طرق السحب ؟ وهل هي صحيحة أم لا ؟ !
الجهة الاُولى : معنى الوديعة البنكيّة :
وقع شكّ فقهي في أ نّها ودائع أم قروض ، بينما لم يقع شكّ فقهي في ذلك في القروض التي يعطيها البنك للتجّار .
ولا إشكال في أنّ وضعها الخارجي أ نّها قروض ، غاية الأمر قد يقال : إنّنا نبدّل عنوانها من القرض إلى البيع أو الجعالة ونحو ذلك من التخريجات كما تقدّم ، وذلك فراراً عن الربا ، وإلّا فلا إشكال - بنحو القضيّة الخارجيّة - في أنّ الأموال التي يعطيها البنك إلى التجّار قروضٌ ، ولم يقع شكّ في ذلك ، لا في الفقه الغربي ولا في فقهنا الإسلامي ، وإنّما وقع الشكّ في حال الأموال التي يأخذها البنك من أصحاب الودائع . ومنشأ هذا الشكّ هو تسميتُها بالودائع بحسب اصطلاح البنك مع أصحابها ، وهذا الشكّ موجودٌ في الفقه الغربي والفقه الإسلامي معاً ، وهناك من كان يعبّر عنها بـ ( الودائع الناقصة )(13) .
وتحقيق الحال في المقام يكون في مقامين :
المقام الأوّل : في أنّ هذه المعاملة التي تقع خارجاً : هل ينحصر وجهها المعقول - بحسب مقام الثبوت - في أن يكون مقصود المتعاملين منها هوالقرض ؟ أم يمكن أن تكون - بحسب مقام الثبوت - معاملةً من العقلاء غير القرض ؟ !
المقام الثاني : إن ثبت في المقام الأوّل تصوّر غير القرض ثبوتاً ، فما هو مراد هؤلاء العقلاء إثباتاً ؟ أمّا إذا اخترنا في المقام الأوّل عدم تصوّر غير القرض ، فلا تصل النوبة إلى المقام الثاني .
المقام الأوّل : التحليل الثبوتي للودائع البنكيّة :
أمّا المقام الأوّل : فهناك من الفقهاء من ذهب إلى أنّه في مقام الثبوت لا يتعقّل غير القرض في المقام ، وذكر في وجه ذلك(14) : إنّه لا إشكال في أنّ البنك له أن يتصرّف في هذه الوديعة ، ولو ربح كان الربح له لا للمودع ؛ فإنّ المودع ليس له إلّاحصّة معيّنة في ذمّة البنك ، وهذا لا يمكن تخريجه إلّاعلى القرض ؛ فإنّه لو لم يكن قرضاً وكان وديعةً واستيماناً ، فالإذن في التصرّف وإن كان معقولاً ، لكن لا يعقل أن يكون الربح ملكاً للبنك ؛ إذ قانون المعاوضة يقتضي انتقال الثمن إلى مالك المثمن وبالعكس .
إذن : فقد خرجت هذه الوديعة من ملك المودع إلى ملك البنك حتّى يتعقّل كون عوضها المشتمل على الربح حاصلاً في ملك البنك ، ومن المعلوم أ نّه لم تخرج هذه الوديعة إلى ملك البنك مجّاناً وبنحو الهبة ، فلا بدّ أن تكون قد خرجت من ملك المودع إلى ملك البنك على وجه الضمان ، وهذا هو القرض .
والتحقيق في المقام : عدم انحصار الأمر ثبوتاً في القرض ؛ ذلك أ نّنا نواجه هنا آثاراً أربعة لا بدّ من تفسيرها :
1 - إنّ البنك يرى أنّ له أن يتصرّف في هذا المال .
2 - إنّ هذه الوديعة مضمونة على البنك .
3 - إنّ البنك يملك أرباحها .
4 - إنّ المودع له شيء على البنك هو الذي يسمّى بـ ( الفائدة ) .
وهذه الآثار الأربعة لا تختصّ بالقرض ، بل يمكن تخريجها على غيره :
1 - الأثر الأوّل :
أمّا الأثر الأوّل ، وهو أنّ البنك له أن يتصرّف في هذه الوديعة ، فلا إشكال في أ نّه لو كان قرضاً لكان هذا الأثر تامّاً في المقام . لكن يمكن تتميمه أيضاً بناءً على أنّ بابه باب الاستئمان ، وذلك بأن يقال : إنّ بابه باب الاستئمان المالكي ، لكن مع هذا يجوّز المالك للمستأمَن أن يتصرّف في هذا المال . ولعلّ هذا هو معنى تعبيرهم بـ ( الوديعة الناقصة ) في مقابل ( الوديعة التامّة )
فالوديعة التامّة هي المال الذي لم يأذن المودع أن يتصرّف المودَع عنده فيه ، فيما الوديعة الناقصة ما أذنَ المودع في التصرّف فيه .
2 - الأثر الثاني :
أمّا الأثر الثاني ، وهو الضمان ، فهو واضحٌ بناءً على القرض . أمّا بناءً على الاستئمان المالكي ، فيقع الكلام في أ نّه من أين جاء الضمان في المقام ؟ مع أنّ الأمين لا يضمن عقلائيّاً وشرعاً !
ويمكن تخريج الضمان في المقام بعدّة تخريجات :
التخريج الأوّل : ما أشرنا إليه في ما سبق ، من أ نّه في موارد الاستئمان المالكي إذا لم يكن هناك استنابة فالمالك : تارةً : يأذن بالتصرّف بلا ضمان ، فلا يترتّب ضمان ، واُخرى : يكون إذنه مقيّداً بفرض الضمان ، فيثبت الضمان بنفس مقتضى اليد ، وهو ضمان الغرامة ؛ فإنّ اليد على مال الغير توجب الضمان ما لم يرضَ صاحب اليد بعدمه ، ولذا يثبت الضمان في باب العارية وينتفي عقلائيّاً حسب إرادة المعير .
التخريج الثاني : أن يكون هذا المال - بالرغم من بقائه على ملك مالكه الأوّل - مضموناً بضمان عقدي .
وفرقه عن الوجه السابق : أنّ الضمان في السابق كان ضمان اليد ، أمّا هنا فنثبت الضمان بالعقد . وتوضيح ذلك : أ نّه يوجد عندنا عقدان باسم ( عقد الضمان ) بنحو الاشتراك اللفظي :
أحدهما : عقد الضمان الذي يُذكر في الكتب الفقهيّة بالمعنى الذي يُجعل في مقابل الحوالة والكفالة ، وهذا ما يفسّره الفقهاء بأ نّه نقل المال من ذمّة إلى ذمّة(15)
وهو عقد صحيح عقلائيّاً وشرعاً . وهذا العقد - كما يظهر من نفس حقيقته وتفسيره - لا يعقل أن يطرأ إلّاعلى الديون ، ويكون أثره الإبراء ونقل الدَّين من ذمّة إلى ذمّة .
ثانيهما : جعل الشيء في عهدته ، وهذا معنىً عقلائيٌّ في نفسه ، وكثيراً ما يقع بين العقلاء خارجاً . فمثلاً : يطلب شخصٌ من شخص آخر عاريةً وهو لا يستأمنه ، فيأتي شخصٌ آخر ويقول : « أعره وأنا ضامن لهذا المال إذا تلف » . والمجعول في هذا القرض ليس نقل المال من ذمّة إلى ذمّة ؛ إذ ليس هناك دَين ، وإنّما المجعول هو كون المال في عهدته ؛ فكون المال على عهدة شخص كما يتحقّق بالغصب قبل تلف العين - فالغاصب قبل تلف العين يكون على عهدته هذا المال - ، كذلك يتحقّق بالجعل والإنشاء .
وهذا المعنى لعقد الضمان يختلف عن المعنى الأوّل مضموناً ومورداً :
أ - فمن حيث المضمون : ليس هو نقل المال من ذمّة إلى ذمّة ، بل هو جعل الشيء في عهدته .
ب - ومن حيث المورد : كان الأوّل مختصّاً بباب الديون ، بينما هذا : كما أ نّه يتصوّر في باب الديون ( كما لو طلب شخص من آخر القرض وهو لا يستأمنه ، فيأتي ثالث ويقول : « أقرضه والمال في عهدتي » ، وهذا ليس معناه أ نّني مديونٌ ، بل معناه أ نّه حينما يأتي موعدُ الوفاء ولا يفي ذاك ، يأتي الدائن إلى الضامن ويطالبه ) فإنّه يتصوّر كذلك في الأعيان الخارجيّة ، كما مثّلنا بمن يطلب العارية .
وليس أثر المعنى الثاني للضمان إبراء الذمّة ونقل المال من ذمّة إلى اُخرى كما كان الأمر في المعنى الأوّل ، بل أثره جعل المال في العهدة ، بحيث لو تلف - عقلاً أو عرفاً - تشتغل ذمّته به .
وهذا معنىً عقلائيٌّ رائجٌ للضمان ، ونحن ندّعي أ نّه صحيح شرعاً أيضاً : إمّا من باب الدخول تحت عمومات «أَوْفُوْا بِالعُقُوْدِ »(16)، أو من باب الإمضاء وعدم الردع للسيرة العقلائيّة .
وعليه : فنحن نطبّق في المقام الضمان بهذا المعنى ، وليس معناه انتقال المال إلى ملك البنك ، بل هو باقٍ على ملك صاحبه ، ومع ذلك يكون البنك ضامناً بضمان عقدي ، وليس هذا عقد الضمان المتعارف الذي يذكر في الفقه حتّى يقال : إنّه يختصّ بباب الديون ، وليس هنا دين . التخريج الثالث : أن يبدّل صاحب الوديعة ماله الشخصي الجزئي إلى الكلّي في المعيّن ، أي يبدّل ماله - وهو مائة دينار مثلاً - إلى كلّيِّ مائة دينار ، لكن لا في ذمّة البنك ، بل في المعيّن ، أي في الأموال الخارجيّة التي هي مجموع أموال البنك وأموال المودعين . والمعيّن هنا : بعضه معيّن خارجاً ، وبعضه معيّن ذمّةً ؛ لأنّ أموال البنك بعضها في ذمم الناس ، ولا بأس بذلك .
وأثر تبديل ماله الجزئي إلى الكلّي في المعيّن أ نّه : لو تلف مقدارٌ من المال مع بقاء مقدار ما يطلبه هذا الشخص ، يكون ماله محفوظاً من دون ورود نقصان عليه .
وهذا الوجه يثبت ضماناً محدوداً لا مطلقاً ؛ إذ ينتج : أ نّه ما دام في أموال البنك ما يفي بالوديعة كان ماله محفوظاً ، وإلّا فالبنك معذور في المقام .
وهذا الضمان المحدود هو الذي يسمّى في الفقه الغربي بـ ( المسؤوليّة المحدودة ) ، وهذا هو الغالب في كثير من الشركات التجاريّة [ والبنوك ] ، حيث الغالب فيها أنّ مسؤوليّة الضمان محدودةٌ في حدود أموال الشركة الموجودة خارجاً ، بحيث لو لم يبقَ مال فلا يطالب ببستانه الذي ورثه من أبيه أو بأمواله الاُخرى .
فهذه تخريجات ثلاثة للضمان كلّها مركوزةٌ عقلائيّاً وممضاةٌ شرعاً .
3 - الأثر الثالث :
أمّا الأثر الثالث ، وهو أنّ البنك يملك أرباح هذه الودائع ، فهذا واضح بناءً على كونها قرضاً . أمّا بناءً على عدم كونها كذلك ، فقد مضى من بعض الفقهاء أنّ الأرباح في هذه الحالة لن تكون للبنك ؛ لكون ذلك خلاف قانون المعاوضة .
والتحقيق في المقام : إنّ الربح هنا : إمّا أن يكون ربحاً قرضيّاً ، أي عبر الفوائد الربويّة التي يستفيدها البنك بإقراض هذه الودائع ، وهذا هو الغالب .
وإمّا أن يكون ربحاً بيعيّاً ، أي أنّ البنك يتاجر بهذه الودائع فيربح ، وهذا فرض شاذّ .
فإن فرض الربح قرضيّاً ، فلا يأتي هنا الإشكال الذي ذكره البعض من أنّ عود الربح إلى البنك مع عدم كون الوديعة قرضاً مملوكاً له خلاف قانون المعاوضة ؛ فإنّ هذا الربح ليس من باب المعاوضة ، وإنّما هو من باب الاشتراط والتباني ، ومن المعقول - بحسب ارتكازات العقلاء - أن يجعل صاحب المال - الذي يقرض مالاً إلى شخصٍ - فائدةً على ذلك الشخص لشخصٍ ثالثٍ ويتبانيا على هذا الأمر ، تماماً كما يصحّ عقلائيّاً تبانيهما على ثبوت فائدة لصاحب المال .
وعلى هذا : فنفرض أنّ صاحب الوديعة كما أذن للبنك بإقراض المال ، كذلك أذن له أن يشترط في ضمن عقد القرض فائدةً لغير صاحب المال ، أي للبنك .
تخريج ثالث من التخريجات العامّة للمعاملات الربويّة :
ويمكن أن يُصاغ عن هذا الطريق تخريج ثالث من تخريجات القروض الربويّة ، فيصحّح به الاقتراض من البنك مع إعطاء الفائدة ويضاف إلى التخريجين السابقين ، وذلك بأن يقال : إنّ صاحب البنك يُقرض ما عنده من الوديعة وهو ليس مالكاً له ، ويشترط الفائدة لا لصاحب المال حتّى يكون رباً ، بل لنفسه ، وهو شخص أجنبي ، والربا إنّما هو شرط الزيادة لنفس صاحب المال ، فقد عمل صاحب المال بقانون : «فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُوْنَ وَلا تُظْلَمُوْنَ »(17).
والتحقيق : أنّ هذا التخريج أيضاً - كالتخريجين السابقين - غير صحيح ؛ وذلك لأمرين :
الأمر الأوّل : إنّ بعض الروايات الدالّة على حرمة الربا القرضي فيها إطلاق يتناول مثل هذا الشرط ، من قبيل رواية محمّد بن قيس التي تقول : إذا أقرضت ورقاً فلا تشترط إلّاإرجاع مثلها ، فهذه تنفي كلّ شرط آخر غير شرط إرجاع المثل . (18)
الأمر الثاني : إنّ هذه الزيادة وإن كانت مشترطةً لغير المالك ، لكنّ مالك الشرط إنّما هو نفس المُقرض : فلو أقرض ديناراً واشترط أن يُملّك ديناراً آخر لشخص ثالث بنحو شرط الفعل ، أو أن يكون عليه دينارٌ له بنحو شرط النتيجة ، فالدينار الزائد وإن كان يُعطى للشخص الثالث ، لكنّ مالك هذا الشرط - والذي له المطالبة بالشرط وله حقّ الإسقاط - إنّما هو المُقرض ، وهو شرطٌ له ماليّة وقيمة ؛ إذ بإمكانه حلّ هذا الشرط وإسقاطه ، وهذا الإسقاط يقابل بالمال ، فالمقرض له أمرٌ زائد على أصل المال ، وهو هذا الشرط .
وعلى أيّة حال ، نقول في المقام : لا ينحصر أمر رجوع الربح القرضي إلى البنك في عدم كون الودائع قروضاً .
وإن فرض الربح بيعيّاً : يأتي إشكال اُولئك الذين استشكلوا في عدم فرض هذه الودائع قروضاً ، من باب أنّ رجوع أحد العوضين إلى غير مالك العوض الآخر خلاف قانون المعاوضة ، وهذا بحسب الحقيقة ليس من أرباح البنوك ، فيشذّ كون ربح البنك بيعيّاً ؛ لأنّ الغالب في ربحه أن يكون قرضيّاً .
وعلى أيّة حال ، يمكن حلّ الإشكال حتّى في الربح البيعي ، وذلك بأن يفرض في المقام اشتراط تمليك هذا الربح للبنك في طول انتقاله إلى المالك ، أي أنّ المودع ينشأ تمليكاً معلّقاً ومشروطاً بتملّكه ، فيقول : « إن تملّكتُه فهو لك » .
وهذا الشرط : إمّا أن يكون ابتدائيّاً ( لو قلنا بأنّ الشرط الابتدائي المعلّق صحيحٌ عقلائيّاً ) ، وإلّا فليكن شرطاً في ضمن عقدٍ من عقود تخريجات الأثر الثاني حتّى يكون صحيحاً عقلائيّاً وشرعاً ، فيشترط - مثلاً - هذا الشرط في ضمن عقد تحويل المال الخارجي إلى الكلّي في المعيّن أو عقد الضمان . وهذا الشرط وإن كان شرط التملّك المعلّق للمنجّز ، ولكنّ التنجيز إنّما قام الدليل على اعتباره في العقود لا في الشروط ، وذلك تبعاً للمحقّق النائيني رحمه الله الذي ذكر - على ما في تقريرات بحثه(19) - أنّ القدر المتيقّن من دليل اشتراط التنجيز هو العقود لا الشروط .
4 - الأثر الرابع :
أمّا الأثر الرابع ، وهو ثبوت منفعةٍ للمودع يأخذها من البنك ، فهو واضح بناءً على كون الودائع قرضاً ؛ فإنّ هذه المنفعة تكون هي الفائدة الربويّة للقرض ، وأمّا إذا لم تكن قرضاً ، فيمكن تخريج ذلك بوجوه :
أ - فإمّا أن نفرض أنّ هذا المبلغ استثني ممّا مضى من شرط انتقال الربح من كيس المودع إلى كيس البنك . هذا إذا كان ربح البنك بيعيّاً .
وأمّا إذا كان قرضيّاً ، فيقال : إنّ هذا الربح ربا يأخذه المودع - الذي هو المُقرض حقيقةً - بواسطة البنك ، فقد اشترط مقداراً من الربح لنفسه ومقداراً من الربح للبنك .
ب - أو نفرض أنّ هذه الزيادة اُخذت قيداً في الإذن في تصرّف البنك في هذا المال الذي مضى في الأثر الأوّل ، فإذا لم يدفع هذا المال لم يكن له إذن ، ويكون تصرّف البنك محرّماً وفضوليّاً عقلائيّاً .
نعم ، هذا التقريب لا ينتج كون البنك مديناً بهذه الزيادة ، وإنّما ينتج أنّ على البنك أن يملّك .
ج - أو نفرض أنّ هذه الزيادة اُخذت بنحو الشرط في ضمن أحد العقود المصحّحة للأثر الثاني ، من عقد الضمان أو عقد التحويل ، فهذا شرطٌ في مقابل شرط : فكما اشترط البنك على المودع شيئاً ، كذلك اشترط المودع عليه شيئاً .
ثمّ إنّ هذه التخريجات العقلائيّة صحيحةٌ شرعاً أيضاً ، وذلك بناءً على الاقتصار في حرمة القرض الربوي على نفس القرض الربوي وعدم التعدّي إلى ما يكون أثره النوعي نفس أثر القرض الربوي ، حيث تصحّ حينئذٍ هذه التخريجات على تدقيقات في بعضها لا يسعها المجال .
وأمّا بناءً على ما هو المختار من التعدّي ، فهذه التخريجات بعضها لا يخرج المعاملة عن كونها ذات غرض نوعي مقصود من نفس القرض الربوي ، وبعضها يخرجها عن ذلك .
فمثلاً : التخريج بعقد الضمان - بأن يعقد الضمان بدلاً عن القرض ويشترط في ضمن العقد ثبوت فائدة على المضمون له - يكون غرضه النوعي هو نفس الغرض النوعي من القرض الربوي ، بخلاف ما إذا أوقع عقد تحويل المال من الجزئي إلى الكلّي في المعيّن واشترط في ضمنه تلك الزيادة ؛ فإنّ هذا ليس غرضه النوعي نفس الغرض النوعي لعقد القرض الربوي ، فيكون جائزاً وصحيحاً شرعاً ، هذا إن لم نقل : إنّ المقصود من المكيل والموزون في روايات : « لا يكون الربا إلّافي ما يُكال أو يوزن » هو مطلق المثلي ، فيشمل نقودنا .
المقام الثاني : التحليل الإثباتي للودائع البنكيّة :
وأمّا المقام الثاني : فلا ينبغي الإشكال في أنّ مقصود المتعاملين هو القرض لا هذه التخريجات ، ومنشأ الشبهة لم يكن إلّاإطلاق اسم ( الودائع ) عليها .
والواقع أنّ إطلاق اسم الودائع عليها إطلاق تاريخي ، لا إطلاق لنكتة فقهيّة ؛ فهذا الإطلاق نشأ ممّا ذكرناه في ما مضى ، من أنّ شغل الصرّاف كان قبول الودائع ، ثمّ تطوّر الشغل وبقي اسم الودائع على هذه الأموال ، والآن لم يبقَ - في حدود ما أعلم - قانونٌ على وجه الأرض لا يعترف بأنّ هذا قرض ولا يرتّب عليه ما يشرّعه من أحكام على القرض .
المصادر :
1- المبسوط في فقه الإماميّة 2 : 15 ؛ جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام 27 : 125 ؛ كتاب الإجارة ( الإصفهاني ) : 198 ؛ ولاحظ كلامه قدس سره في : مباحث الاُصول ق 2 ، 4 : 611 ؛ بحوث في علم الاُصول 5 : 503 ؛ لا ضرر ولا ضرار : 336 . وراجع حول أخذ مال البنك إن كان لكافر حربيٍّ : صراط النجاة 2 : 318
2- وسائل الشيعة 18 : 136 ، الباب 7 من أبواب الربا ، الحديث 5
3- في الكافي : « ولا بينه وبين أهله »
4- وسائل الشيعة 18 : 135 ، الباب 7 من أبواب الربا ، الحديث 3
5- وسائل الشيعة 18 : 135 ، الباب 7 من أبواب الربا ، الحديث 2
6- اُنظر : وسائل الشيعة 18 : 136
7- الاُصول ق 2 ، 3 : 220 ، 4 : 504 ؛ بحوث في علم الاُصول 5 : 348 ؛ لا ضرر ولا ضرار : 93 ) . ( رجال النجاشي : 333 ، رقم 896 ) ( معجم رجال الحديث وتفصيل طبقات الرواة 17 : 115 ، رقم 11509 ) . ( رجال النجاشي : 288 ، رقم 769 )
8- مصباح الفقاهة 5 : 176 ؛ منهاج الصالحين ( تعليقة الشهيد الصدر قدس سره ) 2 : 318 ، المسألة 11
9- مستمسك العروة الوثقى 9 : 368 ؛ المستند في شرح العروة الوثقى ( الإجارة ) : 7
10- العروة الوثقى 4 : 179 - 181 ؛ مستمسك العروة الوثقى 9 : 368 ؛ المستند في شرح العروة الوثقى ( الإجارة ) : 7
11- العروة الوثقى 4 : 179 - 181
12- العروة الوثقى 4 : 179 - 181 ، الهوامش
13- الوسيط في شرح القانون المدني 5 : 429 ، 7/1 : 682 ، 753 وما بعد ؛ عمليّات البنوك من الوجهة القانونيّة : 35
14- لاحظ مثلاً : بحوث فقهيّة ( الحلّي ) : 104
15- الخلاف 3 : 314 ؛ المكاسب والبيع ( النائيني ) 2 : 297 ؛ مصباح الفقاهة 2 : 192 . وراجع : البنك اللاربوي في الإسلام : 231 ، الملحق ( 9 )
16- المائدة : 1
17- البقرة : 279
18- وسائل الشيعة 18 : 307 ، الباب 11 من أبواب السَلَف ، الحديث 9
19- منية الطالب في شرح المكاسب 3 : 237