
بعد ان سیطر الامويون علی مقاليد امور المسلمين وراحوا يحکمون علی هواهم بغير ما انزل الله صاروا یزدون في الانحراف الذي حصل بعد رحلة الرسول الاکرم صلی الله عليه وآله وسلم .. فکان للائمة الدور البارز في محاربة الانحراف وتبلورهذا الوقوف بوجه الانحراف علی شکل خطين رئيسيين هما :
الخط الاول :
وهو خطّ محاولة القضاء على هذا الانحراف في التجربة الإسلاميّة. أَليس التجربة -تجربة المجتمع الإسلامي والدولة الإسلاميّة- انحرفت بإعطاء زمامها إلى اُناسٍ لا يؤتمنون عليها وعلى مقدّراتها ومُثلها وقيمها؟! الخطُّ الأوّل كان يحاول أخذ هذه التجربة وتسلّم زمامها. الخطّ الثاني:
هو الخطّ الذي كان الأئمّة (عليهم السلام) يؤدّونه حتّى في الحالات التي كانوا يَرَون أنْ ليس في الإمكان السعيُ وراء تسلّم زمام هذه التجربة، وهو خطّ الضمان لوجود الاُمّة في المستقبل البعيد؛ لأنّنا قلنا: حيث إنّ التجربة انحرفت، كان من المنطقي -في تسلسل الأحداث- أن يتعمّق هذا الانحراف ثمّ يتعمّق حتّى تنهار التجربة.
وإذا انهارت التجربة أمام أوّل غزو، أمام أوّل تيّار يدرك الاُمّة الإسلاميّة، فسوف لن تحارب عن إسلامها كاُمّة؛ فالاُمّة الإسلاميّة لم تعشإلّا التجربة المنحرفة المضلّلة، إلّا هذه التجربة المشوّهة عن الإسلام، إذاً فسوف لن تحارب عن إسلامها كاُمّة. بعد أن تنهار الدولة وتنهار الحضارة الحاكمة، تنهار الاُمّة كاُمّةٍ أيضاً، سوف تتنازل عن إسلامها؛ لأنّها لم تجد في هذا الإسلام ما تدافع عنه.
أعتقد أنّ الاُمّة الإسلاميّة لو كانت قد عاشت الإسلام فقط من منظار عمر وأبي بكر وعثمان ومعاوية وعبد الملك بن مروان وهارون الرشيد، والباقي من هؤلاء الخلفاء غير الصالحين الذين تزعّموا التجربة الإسلاميّة، لو أنّ الاُمّة كانت قد عاشت الإسلام من هذا المنظار فقط، إذاً لتنازلت عن هذا الإسلام بكلّ رحابة صدر.
ماذا وجدت من هذا الإسلام؟ وماذا جنت منه؟ كيف نقدر أن نتصوّر أنّ الإنسان غير العربي يدافع عن الإسلام الذي يتبنّى زعامة العربي على غير العربي؟ كيف نتوقّع من العربي أو الفارسي أن يدافع عن كيانٍ يعتبر هذا الكيان ملكاً لاُسرةٍ ولقبيلة من قبائل العرب، و[هي] اُسرة قريش؟ كيف يعقل أنّ هؤلاء المسلمين يشعرون بأنّهم قد وجدوا حقوقهم وكرامتهم في مجتمعٍ يضجّ بكلّ ألوان التفاوت والتمييز والاستئثار والاحتكار؟ ولذا كان من الطبيعي أن يتنازلوا عن هذا الإسلام حينما تنهار التجربة بعد تعمّق الانحراف.
إلّا أنّ الذي جعل الاُمّة لا تتنازل عن الإسلام هو المثل الآخر الذي قُدّم له، مثلٌ واضح المعالم، أصيلُ المثل والقيم، أصيلُ الأهداف والغايات، قدّمت هذه الاُطروحة من قبل الواعين من المسلمين بزعامة الأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام).
ولنعلم مسبقاً -وقبل أن نأتي إلى التفاصيل- أنّ هذه الاُطروحة التي قدّمها الأئمّة (عليهم السلام) للإسلام لم تكن تتفاعل مع الشيعة المؤمنين بإمامة أهل البيت (عليهم السلام) فقط، بل كان لها صدىً كبيرٌ في كلّ العالم الإسلامي؛ حيث إنّ الأئمّة (عليهم السلام) كانت لهم اُطروحة الإسلام، وكانت لهم دعوة لإمامة أنفسهم.
صحيحٌ أنّ الدعوة لإمامة أنفسهم لم يطلبوا لها إلّا عدداً ضئيلاً من مجموع الاُمّة الإسلاميّة إلى أواخر حياتهم (عليهم السلام)، إلّا أنّ الاُطروحة الواضحة التي تمثّل الإسلام الصحيح من كلّ جهاته، والتي مثّلها الأئمّة (عليهم السلام) والواعون الملتفّون حولهم، تفاعلت مع مجموع الاُمّة الإسلاميّة في كلّ أبعادها، تفاعلت مع اُناس من أكابر الاُمّة ومن أكابر مفكّريها، وهي التي ثبّتت إسلام كلّ الأقطار الإسلاميّة.
الاُمّة الإسلاميّة بمجموعها تفاعلت مع هذه الاُطروحة؛ فكان الخطّ الكبروي للأئمّة (عليهم السلام) هو تقديم الاُطروحة الصحيحة للإسلام، والنموذج والمخطَّط الواضح والصريح له في كلّ مجالاته الخاصّة والعامّة، في المجالات الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والخلقيّة والعباديّة. في كلّ هذه المجالات كان هؤلاء الأئمّة (عليهم السلام) والواعون من المسلمين يقدّمون هذه الاُطروحة الواضحة، التي جعلت المسلمين على مرّ الزمن يسهرون على الإسلام، ويحمونه، ويقيّمونه، وينظرون إليه بمنظارٍ آخر غير منظار الواقع الذي يعيشونه، غير منظار التجربة التي يعيشونها.
هذا هو الخطُّ الثاني الذي عمل عليه الأئمّة (عليهم السلام).
التجربة النبويّة مع الاستخلاف، والموقف العلوي من الانحراف:
أمير المؤمنين (عليه السلام) حينما واجه الانحراف في التجربة عقيب وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله) قام بعمليّة تعبئةٍ فكريّةٍ في صفوف المسلمين مؤدّاها: أنّ هذا الوضع الجديد هو وضعٌ غير طبيعيٍّ ومنحرفٌ عن الخطّ الإسلامي، واستعان لهذا السبيل ببنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، قرينته العظيمة(1)
وذلك لأجل أن يستثير في نفوس المسلمين عواطفهم ومشاعرهم المرتبطة بأعزّ شخصٍ يحبّونه ويجلّونه، وهو شخص النبي (صلّى الله عليه وآله).
إلّا أنّه فقدها (عليها السلام)، ولم يستطع أن يستثير المسلمين بالدرجة التي تحوّل مجرى التجربة وتجعل هناك تبدّلاً أساسيّاً في الخطّ القائم، وكان ذلك أمراً طبيعيّاً. يعني: من الطبيعي أن ينتهي أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى عدم النجاح في القضاء على هذا الانحراف.
ولكي نفهم هذا، يكفي أن نلتفت إلى نفس ما أصاب النبي (صلّى الله عليه وآله) -وهو الرائد الأعظم لهذه الرسالة، ما أصابه- من قلقٍ وارتباكٍ في سبيل تركيز إمامة عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام)، ماذا أصاب النبي (صلّى الله عليه وآله)؟!
1- هذا النبيُّ العظيم الذي لم يتلكّأ ولم يتلعثم ولم يتردّد في أيّ لونٍ من ألوان التركيز والعمل في سبيل تلك المهمّات، هذا النبيُّ العظيم الذي لم يشعر بالخوف ولا القلق، والذي لم يخفق قلبه بأيّ لونٍ من ألوان الوساوس والشكوك، ولا بأيّ لونٍ من ألوان الضعف والانهيار.. هذا النبيُّ العظيم يقف
حائراً أمام الأمر الإلهي في أن يبلّغ وأن يركّز إمامة عليِّ بن أبي طالب، حتّى جاء ما جاء إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) من إنذاره بأن يُبلّغ، وإلّا فكأنّه لم يبلّغ الرسالة.
يعني: كان مستوى الخطر في نظر النبي (صلّى الله عليه وآله) يصل إلى درجة هدر شخصيّته، شخصيّة الرائد الأوّل وصاحب الرسالة، أي: إنّ الانحراف كان على سبيل المنعة. هذه الموانع التي كانت تمنع عن تزعّم عليٍّ (عليه السلام) للتجربة الإسلاميّة عميقةٌ قويّةٌ واسعة؛ بدرجة أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) نفسَه كان يخشى من أن يُعلن عن تشريع هذا الحكم، ليس عن تطبيقه بحسب الخارج، بل عن تشريعه وإعلانه أمام المسلمين تجاه هذه الموانع.
هذه قصّة.
2- وقصّة اُخرى حينما أراد أن يسجّل هذا الحكم؛ حين أراد أن يسجّله في كتاب:
المسلمون، لأوّل مرّة في تاريخ النبي (صلّى الله عليه وآله) -هذا النبيُّ الذي كانوا يتسابقون إلى الماء الذي يتقاطر من وضوئه، هذا النبيُّ الذي ذهب رسول قريش إلى قريش يقول لهم: إنّي رأيت كسرى وقيصر وملوك الأرض، فما رأيت رجلاً انجذب إليه جماعته وأصحابه ويؤمنون به كما ذاب أصحابُ محمّدٍ في محمّد (صلّى الله عليه وآله)، ولا يشعرون بوجودهم أمام هذا الرجل العظيم(«ركب عروة بن مسعود حتّى أتى قريشاً فقال: يا قوم! إنّي قد وفدت على الملوك، على كسرى وهرقل والنجاشي، وإنّي والله ما رأيت ملكاً قطّ أطوع في من هو بين ظهرانيه من محمّد في أصحابه. والله ما يشدّون إليه النظر وما يرفعون عنده الصوت، وما يكفيه إلّا أن يشير إلى أمر فيُفعَل، وما يتنخّم وما يبصق إلّا وقعت في يدي رجل منهم يمسح بها جلده، وما يتوضّأ إلّا ازدحموا عليه أيّهم يظفر منه بشيء»)(2).. وبالرغم من كلّ هذا، وفي مجلسه (صلّى الله عليه وآله)- يقوم واحدٌ من أصحابه فيقول ما يقول ممّا تعلمون، ثمّ لا يحصل بعد هذا أيُّ ردّ فعلٍ لهذا الكلام، أيُّ ردّ فعلٍ حاسم، حينما يقوم هذا الصحابي ويقول هذا الكلام وينحرف بهذا الشكل الواضح، ولا يجد النبي (صلّى الله عليه وآله) إلّا أن يقول: «قوموا عنّي»(3).
المسألة كانت بهذه الدرجة من العمق، والموانع بهذه الدرجة من الشمول.
وعلى سبيل الإجمال، يجب أن نعلم بأنّ عليّاً (عليه السلام) لم يكن رئيساً ولا كان قاصراً أو مقصّراً حينما فشل؛ لأنّ كلَّ هذا غير محتملٍ، خصوصاً وأنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) -وهو قمّة النشاط والحيويّة والجهاد، ومع ذلك- واجه هذه المشاكل والصعاب تجاه تشريع هذا الحكم.
إذاً، فموقف الإمام (عليه السلام) كان حرجاً غاية الحرج تجاه هذه الموانع.
بعض موانع تزعّم الإمام علي (عليهم السلام):
أمّا ما هي طبيعة هذه الموانع؟ فإنّ ذلك يحتاج إلى دراسةٍ مفصّلةٍ لنفسيّة المجتمع الإسلامي في أيّام الرسول (صلّى الله عليه وآله) أوضح ممّا يتوفّر لدينا الآن من معلومات. إلّا أنّنا يمكننا ذكر بعض الموانع على سبيل المثال:
1- التفكير غير الإسلامي من ولاية الإمام عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام):
ومن تلك الموانع العميقة: التفكير اللاإسلامي من ولاية عليِّ بن أبيطالب (عليه السلام).
رسول الله (صلّى الله عليه وآله) جعل عليّاً (عليه السلام) بعده حاكماً على المسلمين وإماماً لهم ككلّ. المسلمون -ولنتكلّم عن المسلمين المؤمنين بالله ورسوله حقّاً- لم يكونوا من الواعين بدرجةٍ كبيرة. نعم، كانت عندهم طاقة حراريّة تصل إلى درجة الجهاد، إلى الموت في سبيل الله.
هؤلاء الذين قاموا بعد النبي (صلّى الله عليه وآله) ضدَّ علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنا لا أشكّ بأنّهم مرّت عليهم بعض اللحظات كانوا على استعدادٍ [فيها] لأنْ يضحّوا بأنفسهم في سبيل الله، وأنا لا أشكّ أنّ الطاقة الحراريّة كانت موجودةً عندهم.
سعد بن عبادة الخزرجي مثلاً -الذي عارض عليَّ بن أبي طالب (عليه السلام)، والذي فتح باب المعارضة عليه إلى حين(4)- كان مثل المسلمين الآخرين، ويجاهد مثلهم، غاية الأمر: لم يكن لديه وعي.
هؤلاء المسلمون المؤمنون بالله ورسوله لم يكونوا على درجةٍ واحدةٍ من الوعي، وكانت الكثرة الكاثرة منهم اُناساً يملكون الطاقة الحراريّة [بدرجات] متفاوتة، ولم يكونوا يملكون وعياً. تبادر إلى ذهن عددٍ كبيرٍ من هؤلاء، فكّروا -وكان تفكيراً سطحيّاً- بأنّ محمّداً (صلّى الله عليه وآله) يريد أن يُعلي مجد بني هاشم، ويُعلي كيان هذه الاُسرة، وأن يمدَّ بنفسه بعده، فاختار عليّاً (عليه السلام)، اختار ابن عمّه(5)؛
لأجل أن يمثّل عليٌّ (عليه السلام) أمجاد اُسرته.
هذا التفكير كان منسجماً مع الوضع النفسي الذي يعيشه أكثر المسلمين كرواسب جاهليّة، كرواسب عرفوها قبل الإسلام، ولم يستطيعوا أن يتخلّوا عن ذلك تخلّياً تامّاً.
أَلَسنا نعلم أنّ هؤلاء المسلمين الغيارى المجاهدين ماذا صنعوا في غزوة حنين حينما وزّع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) المال والغنائم على قريش ولم يُعطِ الأنصار؟! وزّع على قريشٍ، على أهل مكّة، ولم يعطِ أهل المدينة. ماذا صنع أهل المدينة؟ أخذ بعضهم يقول لبعض: إنّ محمّداً لقي عشيرته فنسينا، لقي قريشاً ونسي الأوس والخزرج(6)، [نسيَ] هاتين القبيلتين اللتين قدّمتا ما قدّمتا للإسلام.
إذاً، فكان هؤلاء على المستوى الذي تصوّروا أنّ هذا القائد الرائد العظيم الموضوعيَّ الذي كان يعيش الرسالة آثر قبيلته بمال، آثر عشيرته بمال، فكيف لا يتصوّرون أنّه آثر عشيرته بحكمٍ وزعامةٍ وقيادةٍ على مرّ الزمن والتاريخ؟!
هذا التصوّر كان يصل إلى هذا المستوى المتدنّي من الوعي. هؤلاء لم يدركوا أبعاد محمّد (صلّى الله عليه وآله)، لم يكونوا قد أدركوا أبعاد الرسالة الإسلاميّة، كانوا بين حينٍ وحينٍ عرضةً لأنْ يطغى عليهم الراسب الجاهلي، و[كانوا] ينظرون إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) من منظار رواسبهم الجاهليّة، ينظرون إليه كشخصٍ يرتبط بابن عمّه ارتباطاً رحميّاً، ويرتبط بعشيرته ارتباطاً قَبَليّاً، ويرتبط بالعرب ارتباطاً قوميّاً. كلُّ هذه الارتباطات كانت تراود أذهانهم بين حين وحين.
وأنا أظنُّ ظنّاً كبيراً أنّه لو لم يكن عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام) ابنَ عمِّ النبي (صلّى الله عليه وآله)، لو أنّ الصدفة لم تشأ أن يكون الرجل الثاني في الإسلام من اُسرة محمّد (صلّى الله عليه وآله)، بل كان من عديٍّ أو تميم، لو كان من غير قريش، لكان لهذه الولاية مفعولٌ كبيرٌ جدّاً، ولقضي على هذا التفكير اللاإسلامي بالنسبة للولاية.
ولكن، ما هي حيلة محمّد (صلّى الله عليه وآله) إذا كان الرجلُ الثاني في الإسلام ابنَ عمّه؟ لم يكن له حيلة في أن يختار شخصاً دون آخر، وإنّما كان عليه أن يختار من اختاره الله، ومن اختاره الله كرجلٍ ثانٍ في تاريخ الرسالة وكيانهاوفي الجهاد في سبيلها كان -من باب الصدفة- ابنَ عمّ النبي (صلّى الله عليه وآله)، وهذه الصدفة فتحت باب المشاغبة على هؤلاء.
هذا هو العامل الأوّل [الذي] يعيش في نفوس المؤمنين بالله ورسوله.
2- عامل النفاق:
العامل الثاني هو العامل الذي كان يعيش في نفوس المنافقين. والمنافقون كثيرون في المجتمع الإسلامي، خاصّةً وأنّه انفتح قبيل وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) انفتاحاً جديداً على مكّة التي كانت قد دخلت أيضاً في المجتمع الإسلامي، ودخلت قبائلُ كثيرةٌ في الإسلام قبيل وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وكان هناك اُناسٌ كثيرون قد دخلوا الإسلام نفاقاً وطمعاً؛ لأنّ محمّداً (صلّى الله عليه وآله) فرض زعامته على العرب، ولم يكن أحدٌ يفكّر في زحزحة هذه الزعامة، فلا بدّ من الاعتراف بهذه الزعامة لأجل أن يُعاش في ظلّها. دخل كثيرٌ من الناس بهذه العقليّة، وهؤلاء كانوا يعلمون أنّ علي بنأبي طالب (عليه السلام) هو الرجل الثاني في هذه الرسالة، وهو الاستمرار العنيد لها، لا الاستمرار الرخو المتميّع لها(7).
هؤلاء كانوا مشدودين إلى أطماع وإلى مصالح كانت تتطلّب أن تستمرَّ الرسالة، كان من مصلحتهم أن يستمرَّ الإسلام؛ لأنّ الإسلام إذا انطفأ، فمعنى هذا أنّه سوف تنطفئ هذه الحركة القويّة التي بنت دولةً ومجتمعاً، والتي يُمكن أن تُطبِق على العالم، على كنوز كسرى وقيصر، وتضمَّ أموال الأرض كلّها إلى هذه الاُمّة.
كان من المصلحة أن تستمرَّ هذه الحركة، لكن لا بتلك الدرجة من الصلابة والجدّية، بل أن تستمرَّ بدرجةٍ رخوةٍ هيّنة، كما وصف الإمام الصادق (عليه السلام) حينما سئل: كيف نجح أبو بكر وعمر في قيادة المسلمين، وفشل عثمان وعليٌّ (عليه السلام) في هذه القيادة؟ قال (عليه السلام): لأنّ عليّاً أرادها حقّاً محضاً، وعثمان أرادها باطلاً محضاً، وأبو بكر وعمر خلطا حقّاً بباطل(8).
كان لا بدّ أن تستمرَّ هذه الرسالة، لكن تستمرّ بشكلٍ هيّنٍ ليّن، بشكلٍ ينفتح على مطامع أبي سفيان، بشكلٍ يُمكن أن يتفاعل معه أبو سفيان.
أبو سفيان الذي جاء إلى عليٍّ (عليه السلام) في لحظةٍ قاسية، تلك اللحظة التي يشعر فيها الإنسان عادةً بقدر كبيرٍ من المظلوميّة، في لحظةٍ خانه فيها المسلمون وتآمروا عليه وتنكّروا لكلّ جهاده وأمجاده، حتّى أنكروا اُخوّته لرسول الله (صلّى الله عليه وآله)(9)... في تلك اللحظة جاءه أبو سفيان يعرض عليه القيادة بين يديه، يعرض عليه أن يُزَعِّمه في سبيل أن يكون هو اليدَ اليمنى للدولة الإسلاميّة. يأبى علي (عليه السلام)، يأبى وهو مظلوم ومتآمَرٌ عليه ومضطهدٌ حقُّه(10)، ثمّ يذهب أبو بكر وعمر إلى أبي سفيان ويتعاملان معه، ويولّيان أولاده على بلاد المسلمين(11).
هذا هو الاستمرار الهيّن الذي كانت مصالح المنافقين تطلبه وقتئذٍ. وبهذا كانت قيادة علي بن أبي طالب (عليه السلام) وزعامته تمثّل خطراً على هذه المصالح.
3 - العامل الأخلاقي والنفسي:
والعامل الثالث هو عامل يرتبط بعوامل نفسيّة خُلُقيّة(12):
عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام) كان يمثّل استمراراً وتحدّياً -بوجوده التكويني- للصادقِين من الصحابة لا المنافقين، وذلك بجهاده، بصرامته، باستبساله، بشبابه، بكلّ هذه الاُمور، كان يضرب الرقم القياسي الذي لا يمكن أن يحلم به صحابيٌّ آخر. كلُّ هؤلاء كانوا يودّون أن يقدّموا خدمةً للإسلام -أتكلّم عن الصحابة الصالحين الصادقين- ، ولكنّ عليَّ بن أبي طالب (عليه السلام) كان يفوقهم بدرجةٍ كبيرةٍ هائلة، بدرجة هائلة.
عليُّ بن أبي طالب بالرغم من التفاوت الكبير في العمر بينه وبين شيوخ الصحابة من أمثال أبي بكر وعمر وغيرهما، ممّن عاش في تلك الفترة التي تلت وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله)، بالرغم من كلّ ذلك أفلس أبو بكر، وأفلس عمر، وأفلس هؤلاء كلّهم أمام رسوخ عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام) الذي كان يضرب بسيفين(13).
يقول معاوية لمحمّد بن أبي بكر بأنّ عليّاً (عليه السلام) كان في أيّام النبي (صلّى الله عليه وآله) كالنجم في السماء لا يطاول(14).
الاُمّة الإسلامية كانت تنظر إليه كالنجم في السماء، بالرغم من أنّ العدد الكبير منها لم يكن يحبّه.
كان عليٌّ كالنجم في السماء لا يُمكن أن يُطاوَل؛ لأنّ النسبة لم تكن نسبةً معقولة، كان عليٌّ (عليه السلام) مجاهداً بدرجةٍ لا يمكن أن يقاس به شخص آخر، كان صامداً بدرجةٍ لا يمكن أن يقاس به شخص آخر، وهكذا في زهده، وفي كلّ كمالات الرسالة الإسلاميّة.
إذاً، فعليٌّ (عليه السلام) كان تحدّياً، كان استفزازاً للآخرين، وهؤلاء الآخرون ليسوا كلُّهم يعيشون الرسالة فقط، بل جملةٌ منهم يعيشون معها أنفسَهم وأنانيَّتَهم. وحينما يشعرون بهذا الاستفزاز التكويني من شخص هذا الرجل العظيم الذي كان يتحدّاهم من غير قصد التحدّي، بل يقصد أن يهديهم ويبني مجدهم ورسالتهم وعقيدتهم، ولكن ماذا يصنع باُناسٍ يعيشون أنفسَهم؟!- فهؤلاء كانوا يفكّرون في أنّ هذا تحدٍّ لهم، استفرازٌ لهم، وكان ردّ فعلهم لهذا مشاعر ضخمة من العداء لعليِّ بن أبي طالب (عليه السلام).
ويكفي كمثالٍ لأنْ نوضح هذا المطلب: أن نذكر أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) حينما خرج غازياً وخلّف عليّاً (عليه السلام) مكانه أميراً على المدينة، هؤلاء الناس لميتركوا عليّاً (عليه السلام)، أخذوا يُشِيعون -بالرغم من أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كان يستخلف في المرّات السابقة أحد الأنصار على المدينة، ولم يكن عليٌّ (عليه السلام) [أحدَ المستخلفين]؛ لأنّ المنصب لم يكن من الأهميّة بحيث يتولاّه عليٌّ (عليه السلام) دائماً- بأنّه ترك عليّاً (عليه السلام) في المدينة لأنّه لا يصلح للحرب.
عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام) -هذا الرجل الصلب العنيد المترفّع، هذا الرجل الذي يقول: «لا يزيدني إقبال الناس عليَّ ولا ينقصني إدبارهم»(15)- استُفِزَّت أعصابُه لدرجة أنّه ترك المدينة ولحق بالنبي (صلّى الله عليه وآله)، فسأله النبيُّ (صلّى الله عليه وآله) عن سبب تركه المدينة، فقال: يقولون بأنّك تركتني لأنّي لا أصلح للحرب!
اُنظروا للحقد، لو أمكن أن تُنكَرَ كلُّ فضيلةٍ لعليٍّ (عليه السلام)، فـلا يمكن أن يُنكَرَ أنّه يصلح للحرب، ولكنّ الحقد على هذا الرجل العظيم وصل بهم إلى أن يفسّروا إمارته على المدينة بأنّه لا يصلح للحرب.
تأذّى عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام) من هذا الكلام مع أنّه لا يتأذّى، ومع أنّه لا يتزعزع، إلى درجة أنّه اضطرَّ إلى أن سافر ليلحق بالنبي (صلّى الله عليه وآله)، يقول له: «يا رسول الله! أَتركتني هكذا؟!»، فيقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كلمته المشهورة: «إنّ عليّاً (عليه السلام) منّي بمنزلة هارون من موسى؛ إنّه لا ينبغي أن أخرج من المدينة إلّا وأنت فيها»(16)
إثباتاً لوجودي ولتحمي المدينة.
فهنا لا يُمكن أن يفسَّر هذا الموقف إلّا على أساس هذا العامل النفسي.
هذا العامل الثالث، وهناك عوامل اُخرى.
هذه العوامل كلّها اشتركت في سبيل أن تجعل موانع قويّةً جدّاً، هذه الموانع اصطدم بها النبيُّ (صلّى الله عليه وآله) عند تشريع الحكم، واصطدم بها عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام) عند محاولة تطبيقه، وعند محاولة مقابلة الانحراف وتعديل التجربة وإرجاعها للوضع الطبيعي، ولهذا فشل في زعزعة الوضع القائم بعد النبي (صلّى الله عليه وآله).
وفي ذلك الحين بدأ خطّه الثاني، وهو خطّ تحديد الإسلام في إطاره الصحيح الكامل، وتحصين الاُمّة، وجعلها قادرةً على مواصلة وجودها الإسلامي.
المصادر :
1- الإمامة والسياسة 29 :1.
2- المغازي 598 :2.
3- الطبقات الكبرى 188 :2، وعنه في المصدر نفسه 187 :2: «فقال بعض من كان عنده: إنّ نبي الله ليهجر».
4- تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 218 :3.
5- تفسير فرات الكوفي: 506.
6- السيرة النبويّة (ابن هشام) 499 :2؛ الطبقات الكبرى 117 :2؛ الكتاب المصنّف في الأحاديث والآثار (ابن أبي شيبة) 416 :7؛ المسند (ابن حنبل) 188 :3؛ الجامع المسند الصحيح المختصر (البخاري) 4:59؛ الجامع الصحيح (مسلم) 106 :3؛ تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 94 :3؛ الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد 145:1؛ دلائل النبوّة 173 :5؛ تاريخ الإسلام 600 :2؛ البداية والنهاية 357 :4.
7- وقعة صفّين: 471.
8- كامل البهائي في السقيفة 175 :2 ومثله في (الصوارم المهرقة في ردّ الصواعق المحرقة:46) و(البراهين القاطعة في شرح تجريد العقائد الساطعة 297 :3) الجاحظ (الرسائل السياسيّة: 469).
9- في قول الخليفة الثاني له (عليه السلام): «أمّا عبدالله فنعم، وأمّا أخو رسوله فلا» الإمامة والسياسة 31 :1.
10- تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 209 :3؛ شرح نهج البلاغة 2:44.
11- تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 209 :3.
12- فدك في التاريخ: 49، [دوافع الخليفة الأوّل في موقفه].
13- الأمالي (الصدوق): 25، الحديث 2؛ بشارة المصطفى: 156؛ الخرائج والجرائح 212 :1. (بحار الأنوار 138 :45)، (الاختصاص: 73؛ اختيار معرفة الرجال: 73).
14- وقعة صفّين: 120؛ مروج الذهب 12 :3؛ شرح نهج البلاغة 190 :3.
15- «لا يزيدني كثرة الناس معي عزّة، ولا تفرقهم عنّي وحشة» نهج البلاغة: 409، الكتاب 36.
16- الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد 156 :1؛ البداية والنهاية 338 :7.