
حينما يظهر الفساد في البرّ والبحر يقول القرآن الكريم : إنّ هذا الفساد الذي ظهر في البرّ والبحر هو نفس ذاك العمل الذي قدّمه الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلّهم يرجعون«ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ » (1) .
فالمحنة هي في الواقع تجسيد بشكل مرير للأعمال المسبقة التي قامت بها الجماعة الممتحنة «وَمَا أصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أيْدِيكُمْ »(2)
هي تجسيد للأعمال التي قدّمها الناس أنفسهم ، وهي في نفس الوقت موعظة ونذير من اللَّه سبحانه .
الأرضيّة النفسيّة لأساليب العمل :
وهنا أنا لا اُريد أن اُناقش أساليب العمل التي أدّت إلى هذه المحنة ، ولا اُريد أن أتحدّث عن الأساليب التي من طبيعتها أن تغيّر من الموقف ، بل اُريد أن أتحدّث قبل ذلك عن الأرضيّة النفسيّة لهذه الأساليب ، فإنّ منطلق المصيبة والمحنة هو تلك الأرضيّة النفسيّة التي عشناها طيلة الزمن الذي تقدّم وسبق هذه المحن .هذه الأرضيّة النفسيّة لم تكن أرضيّة نفسيّة صالحة لكي تنشأ ضمنها أساليب العمل الصالحة ، ولكي تؤتي هذه الأساليب ثمارها .
هذه الأرضيّة النفسيّة التي عشناها والتي كانت ولا تزال تساهم في خلق المشاكل في طريقنا ، وفي تكوين المحن في وجوهنا ، هذه الأرضيّة النفسيّة أستطيع أن اُرجعها بالتحليل إلى عاملين نفسيّين أساسيّين ، وهما - بالرغم من كونهما عاملين - هما مرتبطان كلّ الارتباط فيما بينهما :
أحد العاملين : هو عدم الشعور التفصيلي بالارتباط باللَّه تعالى .
والعامل الآخر : هو أنّ الأخلاقيّة التي كنّا نعيشها ليست أخلاقيّة الإنسان العامل ، بل هي أخلاقيّة إنسان آخر لا يصلح للعمل الحقيقي .
وإذا كنّا نريد أن نستفيد من هذه المحنة ، وإذا كنّا جادّين في الحساب ، فلا بدّ أن نرجع إلى هذين العاملين الأساسيّين لكي نستطيع أن نتيح لأنفسنا فرصة التكفير عمّا سبق بالنسبة إلى كلّ من هذين العاملين عامل ( عدم الشعور بالاتّصال باللَّه بالدرجة الكافية ) وعامل ( أخلاقية الإنسان اللاعامل ) .
عدم الشعور التفصيلي بالارتباط باللَّه سبحانه :
أمّا بالنسبة إلى العامل الأوّل ، بالنسبة إلى عدم الشعور التفصيلي بالاتّصال باللَّه سبحانه وتعالى .. فهذا ما يقع عادةً وعلى مرّ الزمن في حياة الطالب الاعتيادي الذي يهاجر من بلده ويأتي إلى هنا(يقصد النجف الأشرف) متحمّلاً آلام الغربة ، وآلام السفر ، وآلام الوحشة ، وآلام فراق الأحبّة والأهل والوطن ...كلّ هذا التحمّل يكون في اللحظة الاُولى قائماً على أساس شعور تفصيلي يشدّه إلى اللَّه تعالى ، يشعر بأنّ هذه القوّة هي التي تجذبه وتنتزعه من أهله ، ووطنه ، وبلده ، ومن أحبّته ، لكي يهاجر إلى اللَّه ، ويتعلّم على يد ورثة الأنبياء(3) ، ثمّ يواصل خطّ الأنبياء .
ولكن بعد أن يدخل إلى إطار هذه الحوزة ويكون هذا الشعور التفصيلي موجوداً في نفسه ، فينخرط في مناهجها ، ويسلك مسالكها ويعيش دروبها ..
بعد هذا تنطفئ بالتدريج ، تتضاءل بالتدريج جذوة شعوره بالاتّصال باللَّه تعالى ، بينما كان من المفروض أنّ هذه الجذوة تنمو بالتدريج بدلاً عن أن تخمد أو عن أن تتضاءل ، وذلك لأنّه حينما يأتي إلى الحوزة لا يعيش تطبيقاً حيّاً لهذا الاتّصال باللَّه تعالى ، وإنّما يعيش على أفضل تقدير دروساً معيّنة ومناهج معيّنة هي في حدود كونها مفاهيم وأفكار لا تغذّي هذا الشعور ، فيبقى هناك فراغ نفسي كبير في قلبه ، في وجدانه ، في ضميره ، هذا الفراغ النفسي الكبير لا يمكن أن يُملأ بمطالب من الفقه والاُصول ؛ لأنّ مطالب الفقه والاُصول تملأ عقل الإنسان ولكنّها لا تملأ ضميره ، لا تملأ وجدانه ، سوف يمتلئ عقله علماً ، لكن من الجائز أنّ ضميره ووجدانه سوف يبقى فارغاً كما كان فارغاً حينما كان ابن القرية ، أو ابن المدرسة ، أو ابن المعمل الذي جاء منه إلى هذه الحوزة .
وهذا الفراغ في الضمير والوجدان الذي يعيشه هذا الإنسان - حتّى إذا أصبح ثريّاً من الناحية العقليّة - هذا الفراغ سوف يميّع بالتدريج شعوره بالارتباط باللَّه ؛ لأنّ هذا الشعور لن يجد ما يُنمّيه وما يُغذّيه لا نظريّاً ولا عمليّاً .
أمّا نظريّاً فلأ نّه لا يأخذ من النظريّات إلّاما يرتبط باستنباط الأحكام الشرعيّة ، والنظريّات التي يستنبط على أساسها الحكم الشرعي غذاء للعقل لا للوجدان والضمير .
وأمّا عمليّاً فلأ نّه لا يعيش تجربة للاتّصال باللَّه تعالى .
لا يعيش حياة عمليّة وإنّما يعيش حياة مدرسيّة خالصة ، وهذه الحياة المدرسيّة الخالصة التي يعيشها كثيراً ما تكون مشوبة أيضاً بالمبعّدات عن اللَّه تعالى ، قد تكون أحياناً مشوبة بكثير من الذنوب التي تبعد الإنسان عن اللَّه تعالى وتميّع صلته به .
فما يمضي عليه برهة من الزمن حتّى تكون جذوة ذلك الشعور التفصيلي قد انطفأت بعد أن تكون قد تحوّلت إلى ارتكاز . يعني في بداية الأمر يتحوّل شعوره التفصيلي إلى شعور مبهم غامض يختفي في الأعماق وتتراكم عليه مشاعر اُخرى لا ترتبط باللَّه . هذه المشاعر الاُخرى تستورد من أهواء البيئة ، من طبيعة البيئة ، من الملابسات والتعقيدات غير الصالحة التي يعيشها في البيئة ، تتراكم هذه المشاعر الثانويّة غير الطاهرة ويبقى ذاك الشعور النظيف يبقى في الأعماق شعوراً مبهماً غامضاً باهتاً .
ثمّ بعد مضيّ زمن يتلاشى ذاك الشعور ، يتلاشى حتّى كقاعدة ، ويتمزّق ، ويعوّض عنه شعور آخر ، بعد أن يكون هذا الطالب قد قضى مرحلة طويلة من حياته العلميّة ، بعد أن يكون قد أصبح مهيّأً من الناحية العلميّة لكي يجسّد ذلك الشعور في عمله ، في جهاده ، في تطبيقه ، بعد أن يكون قد وصل إلى المرحلة التي يكون مدعوّاً فيها إلى المساهمة في خدمة الدين ..
يكون قد فرغ وجدانه وضميره نهائيّاً من ذلك الشعور الذي عاشه وهو في طريقه من القرية إلى النجف ، وهو في طريقه من المدينة إلى النجف ، تلك الأحلام والآمال ، تلك التصوّرات الكبيرة الضخمة الروحيّة التي كان يعيشها وهو في طريقه إلى مهجره العظيم ، تلك التصوّرات تعود كلّها خواءً ، تعود كلّها فراغاً ؛ لأنّها بعد أن جُمّدت وأصبحت شعوراً إجماليّاً بعد هذا فقدت أيّ غذاء وإمداد متّصل حتّى تمزّقت ، وهذا هو معنى نسيان اللَّه تعالى ، وأنتم كلّكم تعرفون أنّ من ينسى اللَّه ينساه اللَّه ، من ينقطع عن اللَّه ينقطع عنه اللَّه سبحانه وتعالى .
ألم يقل اللَّه ( صانع وجهاً واحداً يكفيك الوجوه كلّها )(4) ؟
نحن اليوم نرى أنّ الوجوه كلّها ساخطة علينا متبرّمة بنا . إنّما كانت ساخطة علينا متبرّمة بنا لأنّنا لم نصانع وجهاً واحداً حتّى يكفينا ذاك الوجه الواحد الوجوه كلّها ، نحن لم نشعر خلال حياتنا العمليّة بأ نّنا مرتبطون ارتباطاً حقيقيّاً باللَّه تعالى ، وأ نّنا مدعوّون من قبله سبحانه وتعالى إلى بذل كلّ وجودنا وإمكانيّاتنا في سبيله ، هذا الشعور حيث إنّنا لم نعشه ، لم نصانع وجهاً واحداً ، ولمّا كنّا لم نصانع وجهاً واحداً لم يكفنا الوجوه كلّها .
أفضلنا ، أشطرنا هو من صرف قواه وطاقاته في سبيل أن يصانع هذا الوجه ، وهذا الوجه ، وهذا الوجه ، وعمليّة مصانعة الوجوه بشكل فردي هذا لا يمكن أن يؤدّي إلّاإلى نتيجة فرديّة . وأمّا من صانع ذلك الوجه العظيم الذي بيده ملكوت السماوات والأرض فهو القادر على أن يكفيه الوجوه كلّها .
الأئمّة عليهم أفضل الصلاة والسلام بالرغم من أ نّهم كانوا مضطهدين من قبل سلاطين وقتهم ، كانوا دائماً يعيشون المحنة من حكّام زمانهم ، بالرغم من أنّ أجهزة تلك الحكومات كانت كلّها تقوم على أساس الدعاية ضدّهم ، وعلى أساس نشر المفاهيم المعاكسة لخطّهم ، وبالرغم من أ نّهم سُبّوا على منابر المسلمين ألف شهر(5)
وبالرغم من كلّ الطاقات التي بذلت من قبل سلاطين الوقت في سبيل تمييعهم وفي سبيل فصل قواعدهم الشعبيّة عنهم ، بالرغم من كلّ ذلك نرى أنّ عليّ بن الحسين عليه الصلاة والسلام حينما يأتي ليستلم الحجر الأسود ينفرج هؤلاء المسلمون الذين يُسبّ عليّ بن الحسين وأبوه وجدّه على منابرهم ، في بلادهم ، هؤلاء المسلمون الذين نشؤوا ونشأ آباؤهم على سبّ الإمام وأبيه وجدّه ، هؤلاء المسلمون أنفسهم ينفرجون بين يديه ، بينما لم يكونوا ينفرجون أمام سلطان من اُولئك السلاطين الذي كان ينتظر طريقه إلى الحجر فلا يجده(6) .
لماذا ؟ ! لأنّ عليّ بن الحسين عليه السلام صانع وجهاً واحداً فكفاه الوجوه كلّها .
لا تقولوا بأنّ الناس على دين ملوكهم ؛ لأنّ الملوك وقتئذٍ ماذا كان موقفهم من عليّ بن الحسين ؟ هل كان هشام بن عبد الملك أو كان عبد الملك نفسه مع عليّ بن الحسين ؟ !
أكان يحمل مفهوماً صحيحاً أو يبشّر بمفهوم صحيح عن عليّ بن الحسين؟! لكنّ الناس أنفسهم كانوا مجذوبين إلى الإمام عليّ بن الحسين؛ لأ نّه كان يعيش بكلّ وجوده حالة الاتّصال باللَّه ... حالة الاتّصال باللَّه بالرغم من أ نّها كمال للإنسان هي بحدّ ذاتها طاقة للنجاح في خطّ العمل ؛ لأنّ هذا الاتّصال باللَّه سوف يضع قاعدة لما سنتحدّث عنه بعد قليل من أخلاقيّة الإنسان العامل ، أخلاقيّة الإنسان العامل التي سنتحدّث عنها بعد قليل لا يمكن أن تتكوّن عند الإنسان إلّاإذا كان يعيش حالة الاتّصال باللَّه سبحانه وتعالى عيشاً تفصيليّاً .
إضافة إلى ذلك : إنّ هذا الاتّصال باللَّه تعالى يجعل الإنسان قادراً على أن يدعو ويترقّب من اللَّه الاستجابة ، أمّا إذا كان نسي اللَّه تعالى أيّام رخائه ، قد ترك اللَّه ودينه ، تركه ومحنته ، تركه ومشاكل رسالته ، وكان لا يفكّر في اللَّه وكان يفكّر في نفسه لا في اللَّه .. حينئذٍ كيف يمكن أن يرجو هذا الإنسان أن يمدّ يديه إلى السماء - حينما يقع في محنة - فيستجيب اللَّه دعاءه ؟
ولماذا يستجيب اللَّه دعاءه ! !
ولماذا يستمع إلى لسان لم يلهج بذكر اللَّه ! !
وإلى يدين لم تتحرّك في طاعة اللَّه ! !
وإلى قلب لم ينبض بالحبّ للَّه تعالى ! !
نحن لا يمكننا أن نترقّب استجابة الدعاء إلّاإذا كنّا نعيش حالة الاتّصال باللَّه وكنّا قد عبّأنا وجودنا وقوانا للَّه سبحانه وتعالى ، حينئذٍ يمكن أن [ نطلب ] من اللَّه سبحانه وتعالى الإمداد والمعونة والتغلّب على كلّ المشاكل والمحن .
محنة يوسف بن تاشفين :
المسلمون في إسبانيا حينما تعرّضوا في القرن الخامس لغزو مسيحي من قبل إسبانيا المسيحيّة عندما تعرّضوا لهذا الغزو استنجدوا بأمير المغرب ( يوسف بن تاشفين ) ، يوسف بن تاشفين قام مع جيش جرّار ، عَبَرَ البحر إلى إسبانيا لكي ينقذ المسلمين في إسبانيا من الغزو المسيحي الذي كان يهدّد كيانهم(7) .تقول القصّة :
إنّ يوسف بن تاشفين حينما نزل البحر مع كلّ اُسطوله وجيشه تحرّك ماء البحر وهبّت عاصفة شديدة جدّاً كادت أن تقضي على الاُسطول ، حينئذٍ يوسف بن تاشفين وقف في وسط جيشه ، ورفع يديه إلى اللَّه سبحانه وتعالى ، قال ما مضمونه : يا ربّ أنت تعلم أ نّي لم أترك بلادي ، لم أترك أرضي ، لم أعبر هذا البحر ، لم اُقرّر أن أطوي هذه المسافة من قارّة إلى قارّة ( من أفريقيا إلى أوروبا ) لم أتحمّل خطر الموت على نفسي ، على أهلي ، على ولدي ، على جيشي ، خطر تفتّت مملكتي هناك ، لم أتحمّل كلّ هذه الأخطار إلّافي سبيل حماية دينك ورسالتك في إسبانيا ، في سبيل الحفاظ على المسلمين وعلى الوجود الإسلامي في اُوروبا ، في سبيل ذلك قمت . اللهمّ فإن كنت تعلم أ نّي حسن النيّة في ذلك ، وإن كنت تعلم أنّ وصولي إلى أسبانيا ، إلى الشاطئ فيه خير للإسلام والمسلمين ...
اللهمّ فأسكن عنّا هذه العاصفة وأزلها عنّا ! !
يوسف بن تاشفين لم يكن إماماً ، أنا اُمثّل بيوسف بن تاشفين ؛ لأنّه شخص من الناس ، لا يمكن أن يقال بأ نّه أفضل من أيّ واحد من عندنا بحسب الموازين الاعتياديّة ، ليس هو الإمام عليّ عليه السلام ، ليس هو الإمام الحسين عليه السلام ، ليس هو أحد المعصومين عليهم السلام ، هو إنسان من المسلمين لكن هذا الإنسان من المسلمين وضع كلّ قواه في سبيل اللَّه تعالى ، هاجر من بلده في سبيل اللَّه تعالى ، كان يشعر شعوراً تفصيليّاً بالاتّصال باللَّه تعالى . هذا الشعور التفصيلي بالاتّصال باللَّه تعالى جعل من حقّه أن يدعو ، وجعل من حقّه أن يتوقّع الاستجابة من اللَّه تعالى .
تقول الرواية التاريخيّة :
ما أتمّ الأمير يوسف حديثه ودعاءه مع اللَّه تعالى إلّاوسكن البحر ، وهدأت ـ العاصفة ، وتغيّرت كلّ الملابسات إلى صالح السفرة ، حتّى وصل يوسف بن تاشفين سالماً إلى الشاطئ ، واستطاع أن يقضي على الغزو المسيحي ويؤخّر من مأساة الإسلام في إسبانيا أربعة قرون .
بقي الإسلام أربعمئة سنة بعد هذا الحادث ، بعد غزو يوسف بن تاشفين للمسيحيّين الذين كانوا مجاورين للأندلس . ثمّ بعد أربعمئة سنة ، المسلمون هم المسلمون ، كانوا يشهدون أن لا إله إلّااللَّه ، وأنّ محمّداً رسول اللَّه ، كما كان يشهد المسلمون في عصر يوسف بن تاشفين ، ولكنّهم كانوا نسوا اللَّه تعالى ، وانقطعوا عنه ، وانصرفوا إلى لهوهم وفسقهم ، وتراكمت في حياتهم الذنوب ، لم يكونوا يعيشون للَّه تعالى .. بعد أربع مئة سنة اضطرّ ملك المسلمين في غرناطة - البلد الأخير الذي بقي للمسلمين في إسبانيا - اضطرّ إلى توقيع وثيقة الاستسلام ، إلى توقيع وثيقة التنازل عن الإسلام والوجود الإسلامي ، إلى توقيع وثيقة فناء الإسلام في كلّ إسبانيا ، اضطرّ إلى توقيع هذه الوثيقة .
تقول الرواية : إنّه قبل أن يوقّع هذا الملك المسكين التعيس وثيقة إعدامه ، وإعدام دينه وعقيدته واُمّته في ذلك البلد نظر نظرة ، ثمّ قال : أشهد أن لا إله إلّااللَّه ، وأشهد أنّ محمّداً رسول اللَّه . فضجّ الاُمراء الذين كانوا حوله قائلين : أشهد أن لا إله إلّااللَّه ، وأشهد أنّ محمّداً رسول اللَّه . قال : ولكن لا رادّ لقضاء اللَّه ، ولا رادّ لأمر اللَّه تعالى . ثمّ وقّع على هذه الوثيقة التي أدّت إلى فناء الإسلام في إسبانيا(8) .
هل كانوا مسلمين ؟ ! !
نعم كانوا مسلمين ! !
كان يريد أن يؤكّد إسلامه في آخر لحظة !
وقّع على وثيقة إعدام الإسلام ، وتشهّد الشهادتين حينما وقّع على هذه الوثيقة !
لكن ما قيمة هاتين الشهادتين ؟ ! لأنّه لم يذكر الشهادتين إلّاحينما واجه خطر هذه الوثيقة ، إلّاحينما أصبح ملكه وسلطانه كلّه في غمرة هذا الخطر . كان هذا الرجل نفسه وكان غيره من الاُمراء المحيطين به يعيشون حالة التفتّت والتناقض والانشغال بأمرهم عن اللَّه إلى اليوم الأخير من حياتهم ؛ لهذا لم ينفعهم شعورهم بالاتّصال باللَّه في اللحظة الأخيره ، في لحظة الغرق هذا لم ينفعهم .
لا بدّ من أن يعيش الإنسان خطّه الطويل متّصلاً باللَّه تعالى حتّى يمكنه أن يترقّب من اللَّه الاستجابة لدعائه ، والإمداد والمعونة ، المساندة والمعاضدة له في عمله .
أخلاقيّة الإنسان اللاعامل :
والعامل الثاني : هو الأخلاقيّة ، أخلاقيّة الإنسان العامل . نحن أخلاقيّتنا التي نعيشها لم تكن أخلاقيّة الإنسان العامل .هناك مظاهر أساسيّة للأخلاقيّة التي كنّا نعيشها وهذه المظاهر هي أبعد ما تكون عن أخلاقيّة الإنسان العامل الذي يريد أن يحمل رسالة اللَّه والذي يريد أن يمثّل الأنبياء على الأرض . هذه الأخلاقيّة لا بدّ لنا أن نطوّرها من نفوسنا ، لا بدّ لنا أن نغيّر هذه الأخلاقيّة ونفتح بالتدريج أخلاقيّة الإنسان العامل لكي نُهيّئ الأرضيّة النفسيّة التي يقام على أساسها العمل الصحيح .
المصادر :
1- الروم 41
2- الشورى : 30
3- الكافي 1 : 32 ، الحديث 2
4- هذه الكلمة للحكماء . قال اُويس القرني : « ما سمعتُ كلمةً كانت للحكماء أنفع لي من قولهم : صانع وجهاً واحداً يكفك الوجوه كلّها » ( مجموعة ورّام 2 : 113 )
5- المناقب 3 : 253
6- اُنظر : مستدرك الوسائل 10 : 394
7- اُنظر : تاريخ ابن خلدون 6 : 183 - 190
8- أخبار سقوط غرناطة : 399