الأخلاقيّة التي كنّا نعيشها من نقاطها الرئيسيّة الارتباط بالمصلحة الشخصيّة بدلاً عن الاستعداد للتضحية . نحن بحاجة إلى أخلاقيّة التضحية بدلاً عن أخلاقيّة المصلحة الشخصيّة ، نحن بحاجة إلى أن نكون على اُهبةٍ لإيثار المصلحة العامّة للكيان على المصلحة الخاصّة لهذا الفرد أو لهذا الفرد ، نحن لا بدّ لنا من أخلاقيّة التضحية بالمصالح الخاصّة في سبيل المصالح العامّة ، أمّا ما كنّا نعيشه ، أمّا ما كان موجوداً فهو على الغالب إيثار للمصلحة الخاصّة على المصلحة العامّة .
كنّا نعيش لمصالحنا ، وكنّا لا نعيش للمصلحة العامّة حينما تتعارض مع مصالحنا الخاصّة .
وهذه النزعة الأخلاقيّة ، النزعة الأخلاقيّة التي تتّجه نحو المصلحة الخاصّة لا نحو المصلحة العامّة ، تجعل القدر الأكبر من طاقاتنا وقوانا وإمكانيّاتنا خصوصاً في جوّ من قبيل جوّ الحوزة ، في جوّ غير منظّم ، في جوّ لا بدّ لكلّ إنسان أن يبني نفسه فيه بنفسه ، في مثل هذا الجوّ ، إذا عاش الناس دائماً عقليّة المصلحة الخاصّة ولم يكن عندهم أخلاقيّة التضحية بالمصلحة الخاصّة في سبيل المصلحة العامّة ..
فسوف يصرف القدر الأكبر من الطاقات والإمكانيّات والقابليّات في سبيل تدعيم المصالح الخاصّة أو في سبيل الدفاع عن هذه المصالح الخاصّة .
حينما تتحوّل الاتّجاهات من المصلحة العامّة إلى المصلحة الخاصّة سوف يضطرّ كلّ إنسان يعيش في جوّ عامر بهذا الاتّجاه ، سوف يضطرّ كلّ إنسان إلى التفكير في نفسه ، وإلى الدفاع عن نفسه ، وإلى تثبيت نفسه ، وبذلك نصرف ثمانين بالمئة من قوانا وطاقاتنا داخل الإطار ، بالمعارك داخل الإطار ، بينما هذه الثمانين بالمئة من القوى والطاقات التي تصرف في معارك داخل الإطار كان بالإمكان - لو أ نّنا نتحلّى بأخلاقيّة الإنسان العامل يعني لو كنّا نتحلّى بأخلاقيّة التضحية بالمصلحة الخاصّة في سبيل المصلحة العامّة - أن نحوّل هذه الثمانين بالمئة للعمل في سبيل اللَّه للعمل بتدعيم الإطار ككلّ ، لترسيخه ، لتكديسه ، لتوسيعه .
وبذلك كنّا نستفيد أيضاً - لو كنّا نعقل كنّا نستفيد - حتّى بحساب المقاييس العاجلة أيضاً أكثر ممّا نستفيد ونحن نتنازع ونتعارك ونختلف داخل إطار معرّض لخطر التمزّق ، داخل إطار مهدّد بالفناء .
إلى متى نحن نعيش المعركة داخل إطار يحكم عليه بالفناء يوماً بعد يوم ، أو يواجه خطر الفناء يوماً بعد يوم ! ! ؟
ولا نفكّر في نفس الإطار ! ولا نفكّر في أن نتناسى مصالحنا الصغيرة في سبيل المصلحة الكبيرة ! !
أخلاقيّة الإنسان العامل ، أوّل شروطها هو أن يكون عند الإنسان شعور واستعداد بالتضحية بالمصلحة الصغيرة في سبيل المصلحة الكبيرة ، وهذا ما لا بدّ لنا من ترويض أنفسنا عليه .
النزعة الاستصحابيّة في العمل :
المظهر الثاني من مظاهر أخلاقيّة الإنسان العامل الاتّجاه إلى التجديد في أساليب العمل نزعة التجديد في أساليب العمل .نحن عندنا ( نظريّة ) وعندنا ( عمل ) . النظريّة هي الإسلام ، ولا شكّ ولا ريب أنّ ديننا ثابت لا يتغيّر ولا يتجدّد ، ولا يمكن في يوم من الأيّام أن يفترض كون هذا الدين بحاجة إلى تغيير أو تحوير أو تطوير ؛ لأنّ هذا الدين هو أشرف رسالات السماء وخاتم تلك الأديان الذي ارتضاه اللَّه تبارك وتعالى للإنسان في كلّ مكان وفي كلّ زمان ، ولهذا الصيغة النظريّة للرسالة صيغة ثابتة لا تتغيّر ، ولا يمكن أن نؤمن فيها بالتجدّد .
من الخطأ ألف مرّة أن نقول بأنّ الإسلام يتكيّف وفق الزمان ، الإسلام فوق الزمان والمكان ؛ لأنّه من وضع الواضع الذي خلق الزمان والمكان ، فقد قدّر لهذه الرسالة القدرة على الامتداد مهما امتدّ المكان والزمان .
الصيغة النظريّة للإسلام صيغة ثابتة فوق التجدّد ، فوق التغيّر .
لا بدّ لها هي أن تحكم كلّ عوامل التغيّر وكلّ عوامل التجدّد ، لا أنّ عوامل التجدّد والتغيّر تحكم الرسالة ، تحكم الإسلام ، بل الإسلام يحكم على كلّ عوامل التجدّد . هذا واضح على مستوى النظريّة ولا بدّ وأن يكون واضحاً عندنا جميعاً .
وأمّا العمل في سبيل هذه النظريّة .. ففي أساليب العمل الخارجي كانت لدينا حالة أنا أستطيع أن اُسمّيها ( حالة النزعة الاستصحابيّة ) . الاستصحاب الذي قرأناه في الاُصول طبّقناه على أساليب العمل ، طبّقناه على حياتنا ، فكنّا نتّجه دائماً إلى ما كان ولا نفكّر أبداً في أ نّه هل بالإمكان أن يكون أفضل ممّا كان ! ؟
وهذه النزعة الاستصحابيّة إلى ما كان والحفاظ على ما كان ، يجعلنا غير صالحين لمواصلة مسؤوليّاتنا ، وذلك لأنّ أساليب العمل ترتبط بالعالم ، ترتبط بمنطقة العمل ، ترتبط بالبستان الذي تريد أن تزرع فيه ، وهذا البستان وهذه الاُمّة التي تريد أن تزرع فيها الخير ، التقوى ، الورع ، الإيمان .. هذه الاُمّة التي تريد أن تزرع فيها بذور الخير والتقوى والإيمان ، هذه الاُمّة ليست لها حالة واحدة ، الاُمّة تتغيّر ، نعم إسلامك لا يتغيّر ، لكنّ الاُمّة تتغيّر .
الاُمّة اليوم غير الاُمّة بالأمس ، غير الاُمّة بالأمس في مستواها الفكري ، في مستواها الأخلاقي ، في علائقها الاجتماعيّة ، في أوضاعها الاقتصاديّة ، في كلّ ظروفها . الاُمّة اليوم غير الاُمّة بالأمس . الاُمّة اليوم حيث إنّها غير الاُمّة بالأمس لا يجوز لك أن [ تتعامل ] مع الاُمّة اليوم كما [ تتعامل ] مع الاُمّة بالأمس ، أنت اليوم حينما تريد أن تتّصل بإنسان من أبناء الاُمّة في بلد آخر لا تمشي على رجليك ولا تركب حيواناً ، وإنّما تركب سيّارة لكي تصل إلى هناك ، يعني أنت تغيّرت أساليب عملك مع أبناء الاُمّة ، لماذا ؟ لأنّ الاُمّة تغيّرت . حيث إنّ منطقة العمل هي الاُمّة ، حيث إنّك تريد أن تزرع بذورك - بذور التقوى والورع والإيمان - في الاُمّة .. ولهذا يجب أن تأخذ بعين الاعتبار الظروف والتغيّرات والتصوّرات التي توجد في الاُمّة .
هذه التصوّرات والتغيّرات التي توجد في الاُمّة تحدّد لنا أساليب العمل ، وليس بالإمكان أن يكون هناك اُسلوب واحد يصدق على الاُمّة اليوم وعلى الاُمّة بالأمس وعلى الاُمّة غداً .
لا بدّ لنا أن نتحرّر من النزعة الاستصحابيّة ، من نزعة التمسّك بما كان حرفيّاً بالنسبة إلى كلّ أساليب العمل ، هذه النزعة التي تبلغ القمّة عند بعضنا . حتّى أنّ - اُمثّل بأبسط الأمثلة - حتّى أنّ كتاباً دراسيّاً مثلاً إذا اُريد تغييره إلى كتاب دراسي آخر أفضل منه ، حينئذٍ تقف هذه النزعة الاستصحابيّة في مقابل ذلك .
إذا اُريد تغيير كتاب بكتاب آخر في مجال التدريس - هذا أضأل مظاهر التغيير - إذا وجد ذلك حينئذٍ يقال : لا ، ليس الأمر هكذا ، لا بدّ من الوقوف ، لا بدّ من الثبات والاستمرار على نفس الكتاب الذي كان يدرس فيه الشيخ الأنصاري رضوان اللَّه عليه ، أو المحقّق القمّي رضوان اللَّه عليه .
هذه النزعة الاستصحابيّة التي تجعلنا دائماً نعيش مع اُمّة قد مضى وقتها ، مع اُمّة قد ماتت وانتهت بظروفها وملابساتها ؛ لأنّنا نعيش بأساليب كانت منسجمة مع اُمّة لم يبقَ منها أحد .
تلك الاُمّة انتهت وحدثت اُمّة اُخرى ذات أفكار اُخرى ، ذات اتّجاهات اُخرى ، ذات ظروف وملابسات اُخرى ، فحينئذٍ من الطبيعي أن لا نُوفَّق في العمل ؛ لأ نّنا نتعامل مع اُمّة ماتت ، والاُمّة الحيّة لا نتعامل معها ، فمهما يكن من تأثيرنا فسيكون هذا التأثير سلبيّاً ؛ لأنّ موضوع العمل غير موجود في الخارج ، موضوع العمل ميت ، وما هو الموجود في الخارج لا نتعامل نحن معه .
نحن يجب أن يكون واضحاً عندنا أ نّنا يجب أن نتعامل مع هذا الإنسان الحيّ الموجود في الخارج المكوّن من اللحم والدم ، وهذا الإنسان يتغيّر ، يتطوّر ، تختلف ظروفه وملابساته ، نحن لا بدّ لنا أن نتعامل مع هذا الإنسان . وحيث إنّنا لا بدّ وأن نتعامل مع هذا الإنسان ، لا بدّ دائماً من أن نفكّر دائماً في الأساليب التي تنسجم مع هذا الإنسان .
الشهيد الأوّل قبل قرون وقرون فكّر في تنظيم شؤون الدين والمرجعيّة بشكل من الأشكال كما قلنا ، ونقل الكيان الديني من مرحلة إلى مرحلة .
لكن أليس بالإمكان أن يفكّر مئات العلماء الذين جاؤوا بعد الشهيد الأوّل إلى الآن ، ومئات العلماء الموجودون فعلاً ، ومئات العلماء الذين سوف يخلفون هؤلاء العلماء بعد ذلك ، أليس بالإمكان أن يفكّر هؤلاء المئات في تطوير أساليب الشهيد الأوّل ؟ في تحسينها ، في تنقيتها ، في تطويرها ؟
أليس بالإمكان هذا ؟
فكّر الشهيد الأوّل في أن يضع قواعد لهذه المرجعيّة ، لكنْ هذه القواعد أهي هي ؟ لا بدّ وأن تبقى بحدودها التي كانت في أيّام المماليك ؟ تلك الحدود التي كانت في أيام المماليك في سوريا تصدق على ما هو موجود اليوم في العالم مع تغيّر العالم ؟ ليس العالم اليوم عالم المماليك .
فإذا كنّا نؤمن بأنّ الأساليب تتغيّر وإن كانت النظريّة ثابتة ، إذن فلا بدّ لنا أن نفتح باباً للتفكير في هذه الأساليب ، كما نفكّر في النظريّات الفقهيّة والنظريّات الاُصوليّة ، كما نفكّر في ( الترتّب ) وفي بحث ( اجتماع الأمر والنهي ) ، كما نفكّر في أنّ العصير العنبي هل هو محكوم عليه بالحرمة أو بالنجاسة أو غير محكوم عليه بالحرمة والنجاسة ... كذلك لا بدّ وأن نفكّر إلى جانب ذلك بأساليب العمل .
هذا جزء من وظيفتنا ؛ لأنّنا ندرس العلم للعمل ولا ندرس العلم لكي نجمّده في رؤوسنا . نحن ورثة الأنبياء بحسب زعمنا(1)
والأنبياء عاملون قبل أن يكونوا علماء ، هم علماء لكي يكونوا عاملين ، وليسوا عالمين من دون عمل . فإذا كنّا نحن ورثة الأنبياء فيجب أن نفكّر في أنّنا عالمون لكي نعمل ، لا أ نّنا عالمون لكي نعلم ، فإذا كنّا عالمين لكي نعمل فلا بدّ وأن نجعل جزءاً من وظيفتنا أن نطرح على أنفسنا ، أن نطرح على أساتذتنا ، أن نطرح على زملائنا ، أن نطرح في كلّ مكان هذه الأسئلة :
ما هو العمل ؟
كيف نعمل ؟
ما هي أساليب العمل ؟
كيف يمكن تجديد أساليب العمل بالشكل الذي ينسجم مع اليوم ؟ مع اُمّة اليوم ؟
نحن نتعامل مع عالم اليوم لا مع عالم عصر المماليك ، إذن كيف نتعامل مع عالم اليوم ؟
هذه أسئلة قد يكون جوابها صعباً في بداية الأمر ؛ لأنّه ليس هناك مطالعات ، ليس هناك ترويض فكري على الجواب عليها ، قد تجد أنّ الجواب على مسألة اُصوليّة سهل ؛ لأنّ هذا الإنسان الذي تسأله قد درس الاُصول عشرين سنة . وأمّا مثل هذه الأسئلة ، حيث إنّها بنفسها أيضاً أسئلة دقيقة ومرتبطة بمدى خبرة الإنسان وتجاربه واطّلاعه على ظروف العالم ..
ولهذا قد يجد الصعوبة في الجواب على هذه الأسئلة ، لكن هذه الصعوبة لا بدّ من تذليلها بالبحث والتفكير ومواصلة البحث والتفكير .
إذن فلا بدّ وأن نجعل جزءاً من وظيفتنا أن نفكّر دائماً في أ نّه كيف نغيّر أساليب العمل ، كيف ننسجم مع وضعنا ، مع بيئتنا .
لماذا تعيش الحوزة في هذا البلد مئات السنين ، ثمّ بعد هذا يظهر إفلاسها في نفس هذا البلد الذي تعيش فيه ! ! ؟
وإذا بأبناء هذا البلد أو ببعض أبناء هذا البلد يظهرون بمظهر الأعداء والحاقدين والحاسدين والمتربّصين بهذه الحوزة ! ! !
ألا تفكّرون في أنّ هذه هي جريمتنا قبل أن تكون جريمتهم ؟ في أنّ هذه هي مسؤوليّتنا قبل أن تكون مسؤوليّتهم ؟ لأنّنا لم نتعامل معهم ، نحن تعاملنا مع أجدادهم ولم نتعامل معهم ! الأجيال التي تحقد علينا اليوم ، التي تتربّص بنا اليوم ، تشعر بأ نّنا نتعامل مع الموتى ، لا نتعامل مع الأحياء ! ولهذا يحقدون علينا ولهذا يتربّصون بنا ؛ لأنّنا لم نقدّم لهم شيئاً ، لأنّنا لم نتفاعل معهم .
أنا منذ سنة ، منذ أكثر من سنة أتحدّث مع الإخوان ، ومع الأعزّاء في أنّ كلّ واحد من أهل العلم - كلّ واحد يكون عنده قدرة - لو كان يكوّن له مجلساً ، مجلساً تبليغيّاً في النجف الأشرف يضمّ خمسة فقط لا أكثر من خمسة ، يضمّ هذا البقّال الذي يشتري منه اللبن ، هذا العطّار الذي يشتري منه السكّر ، هذا الجيران الذي يسلّم عليه عندما يخرج من بيته ، يضمّ خمسة ..
لو كان كلّ واحد من أهل العلم عنده مجلس تبليغي في يوم الجمعة بدلاً عن أن يذهب إلى ( الكوفة ) ويَسْبَحَ من الصبح إلى العصر ، بدلاً عن أن يبذّر الوقت بالمطاردة في الشعر ، بدلاً عن أن يبذّر الوقت في ألف لهو ، ولهو ..
بدلاً عن كلّ ذلك لو أ نّه يستثمر جزءاً من هذا الوقت الذي يهدره لا في غرض معقول ، لو يستثمر جزءاً من هذا الوقت في تكوين مجلس تبليغي لخمسة من أبناء النجف .. لو أنّ ألف طلبة كلّ واحد منهم يكوّن مجلساً تبليغيّاً لخمسة ، لكان لدينا قاعدة شعبيّة مكوّنة من خمسة آلاف ، لأحسّ الناس من أبناء البلد بأ نّنا نتعامل معهم ، أ نّنا نفكّر فيهم ، أ نّنا نعطيهم ، أنّ وجودنا مرتبط بوجودهم ، أنّ حياتنا مصدر خير لهم ، مصدر عطاء لهم ، لكنّنا ، لكنّنا لم نتعامل معهم ، ومن الطبيعي أن لا يتعاملوا معنا إذا كنّا لا نتعامل معهم .
إذن لا بدّ لنا أن نفكّر في تغيير أساليب العمل ، ولا بدّ لنا دائماً أن نفكّر فيما هي الأساليب الأفضل والأصحّ .
العقليّة الرياضيّة والعقليّة الاجتماعيّة :
بقيت هناك نقطة اُخرى متمّمة لهذه النقطة لا بدّ لي من إثارتها - وأظنّ الوقت انتهى ، أقولها على نحو الاختصار - وهي : أ نّنا حينما نفكّر في أساليب العمل يجب أن لا نفكّر في ذلك بعقليّة الاُصول والفقه ، بعقليّة ( الترتّب ) و ( استحالة اجتماع الأمر والنهي ) ، أي بالعقليّة الرياضيّة .هناك عقليّة رياضيّة ، وهناك عقليّة اجتماعيّة ، توجد عقليّتان ، يوجد نوعان من التفكير ، تفكير رياضي ، وتفكير اجتماعي .
التفكير الرياضي : هو التفكير الذي لا يقبل حقيقة من الحقائق إلّاإذا كانت كلّ نقاط الضعف فيها قد اُزيلت بالبرهان القوي الواضح الذي لا يقبل الشكّ والجدال ، إذا كانت النتيجة الرياضيّة واضحة بعد التحليل على مستوى أنّ اثنين زائداً اثنين يساوي أربعة حينئذٍ تقبل ، وأمّا إذا لم يكن البرهان الواضح القاطع على صحّتها لا تقبل .
هذا هو التفكير الرياضي ، وهذا هو التفكير الذي نعيشه في علم الاُصول ؛ لأنّ كثيراً من قواعد علم الاُصول يبنى على أساس البرهنة ، لكنّ هذا التفكير يختلف عن التفكير الاجتماعي ، التفكير الاجتماعي لا يمكن أن نطلب فيه البرهان .
لنرجع مرّةً اُخرى إلى ذاك المثال الساذج البسيط حينما نريد أن نغيّر كتاباً دراسيّاً بكتاب دراسي آخر لا يمكن أن نتطلّب في مقام الامتناع برهاناً رياضيّاً بحيث إنّي اُبرهن لك على أ نّه لو لم يدرس هذا الكتاب لوقع اجتماع النقيضين ، وأمّا لو درس هذا الكتاب فلا يقع اجتماع النقيضين ، مثل هذا البرهان الرياضي لا يمكن أن يكون في العمل الاجتماعي .
العمل الاجتماعي : يقوم على أساس الحدس الاجتماعي ، والحدس الاجتماعي يتكوّن من الخبرة والتجربة ومن الاطّلاع على ظروف العالم وملابسات العالم .
إذن فيجب أن نفتح أعيننا على العالم .
إذن يجب أن نعيش الخبرة والتجربة في العالم .
إذن يجب أن نفكّر في أساليب العمل لا بالطريقة التي نفكّر فيها في أساليب الاُصول ، نغمض أعيننا ونجلس في الغرفة ونفكّر في أنّ الترتّب مستحيل أو ممكن . نعم هذه هي الطريقة المفضّلة في التفكير ، في أنّ الترتّب مستحيل أو ممكن . أن نجلس في غرفة خالية ونقفل باب الغرفة ثمّ نفكّر في أنّ الترتّب مستحيل أو ممكن ؛ لأنّها مسألة نظريّة تنبع من واقع الأمر لا تنبع من الخارج .
وأمّا العمل الاجتماعي ، فهو بحاجة إلى حدس اجتماعي ، والحدس الاجتماعي يتكوّن من خلال التفاعل مع الناس .. من خلال الاطّلاع على ظروف العالم .. من خلال الاطّلاع على الملابسات ..
من خلال الاطّلاع على التجارب التي قام بها الآخرون .. من خلال المقارنة بين أحوالنا وأحوال الآخرين .
من خلال كلّ ذلك يتكوّن هذا الحدس الاجتماعي .
إذن فلكي نكون متّجهين اتّجاهاً صحيحاً في تفكيرنا في أساليب العمل ، يجب أن نغيّر من طريقة تفكيرنا ، يعني أن لا نصطنع نفس الطريقة الاُصوليّة حينما نفكّر في أساليب العمل وإنّما نعتمد على الحدس الاجتماعي ونفتّش عن كيفيّة تكوين هذا الحدس في أذهاننا عن طريق تعميق خبراتنا وتجاربنا .
المصدر : 1- الكافي 1 : 32 ، الحديث 2