
إنّ أهمّ ما يميّز المرجعيّة الصالحة تبنّيها للأهداف الحقيقيّة التي يجب أن تسير المرجعيّة في سبيل تحقيقها لخدمة الإسلام ، وامتلاكها صورة واضحة محدّدة لهذه الأهداف ، فهي مرجعيّة هادفة بوضوح ووعي ، تتصرّف دائماً على أساس تلك الأهداف بدلاً من أن تمارس تصرّفات عشوائيّة وبروح تجزيئيّة وبدافع من ضغط الحاجات الجزئيّة المتجدّدة . (1)
وعلى هذا الأساس كان المرجع الصالح قادراً على عطاء جديد في خدمة الإسلام وإيجاد تغيير أفضل لصالح الإسلام في كلّ الأوضاع التي يمتدّ إليها تأثيره ونفوذه .
أهداف المرجعيّة الصالحة
ويمكن تلخيص أهداف المرجعيّة الصالحة - رغم ترابطها وتوحّد روحها العامّة - في خمس نقاط :1 - نشر أحكام الإسلام على أوسع مدى ممكن بين المسلمين والعمل لتربية كلّ فرد منهم تربية دينيّة تضمن التزامه بتلك الأحكام في سلوكه الشخصي .
2 - إيجاد تيّار فكري واسع في الاُمّة يشتمل على المفاهيم الإسلاميّة الواعية ، من قبيل المفهوم الأساسي الذي يؤكّد بأنّ الإسلام نظام كامل شامل لشتّى جوانب الحياة ، واتّخاذ ما يمكن من أساليب لتركيز تلك المفاهيم .
3 - إشباع الحاجات الفكريّة الإسلاميّة للعمل الإسلامي ، وذلك عن طريق إيجاد البحوث الإسلاميّة الكافية في مختلف المجالات الاقتصاديّة والاجتماعيّة ، والمقارنات الفكريّة بين الإسلام وبقيّة المذاهب الاجتماعيّة ، وتوسيع نطاق الفقه الإسلامي على نحو يجعله قادراً على مدّ كلّ جوانب الحياة بالتشريع ، وتصعيد الحوزة ككلّ إلى مستوى هذه المهامّ الكبيرة .
4 - القيمومة على العمل الإسلامي والإشراف على ما يعطيه العاملون في سبيل الإسلام في مختلف أنحاء العالم الإسلامي من مفاهيم وتأييد ما هو حقّ منها وإسناده وتصحيح ما هو خطأ .
5 - إعطاء مراكز العالِميّة من المرجع إلى أدنى مراتب العلماء الصفة القياديّة للاُمّة ، بتبنّي مصالحها والاهتمام بقضايا الناس ورعايتها واحتضان العاملين في سبيل الإسلام .
ووضوح هذه الأهداف للمرجعيّة وتبنّيها وإن كان هو الذي يحدّد صلاح المرجعيّة ، ويحدث تغييراً كبيراً على سياستها العامّة ونظراتها إلى الاُمور وطبيعة تعاملها مع الاُمّة ، ولكن لا يكفي مجرّد وضع هذه الأهداف ووضوح إدراكها لضمان الحصول على أكبر قدر ممكن من مكاسب المرجعيّة الصالحة ؛ لأنّ الحصول على ذلك يتوقّف - إضافةً إلى صلاح المرجع ووعيه واستهدافه - على عمل مسبق على قيام المرجعيّة الصالحة من ناحية وعلى إدخال تطويرات على اُسلوب المرجعيّة ووضعها العملي من ناحية اُخرى .
أمّا فكرة العمل المسبق على قيام المرجعيّة الصالحة فهي تعني أنّ بداية نشوء مرجعيّة صالحة تحمل الأهداف الآنفة الذكر تتطلّب وجود قاعدة قد آمنت بشكل وآخر بهذه الأهداف في داخل الحوزة وفي الاُمّة ، وإعدادها فكريّاً وروحيّاً للمساهمة في خدمة الإسلام وبناء المرجعيّة الصالحة ؛ إذ ما لم توجد قاعدة من هذا القبيل تشارك المرجع الصالح أفكاره وتصوّراته ، وتنظر إلى الاُمور من خلال معطيات تربية ذلك الإنسان الصالح لها يصبح وجود المرجع الصالح وحده غير كافٍ لإيجاد المرجعيّة الصالحة حقّاً وتحقيق أهدافها في النطاق الواسع .
وبهذا كان لزاماً على من يفكّر في قيادة تطوير المرجعيّة إلى مرجعيّة صالحة أن يمارس هذا العمل المسبق بدرجة ما ، وعدم ممارسته هو الذي جعل من العلماء الصالحين بالرغم من صلاحهم يشعرون عند تسلّم المرجعيّة بالعجز الكامل عن التغيير ؛ لأنّهم لم يمارسوا هذا العمل المسبق ولم يحدّدوا مسبقاً الأهداف الرشيدة للمرجعيّة والقاعدة التي تؤمن بتلك الأهداف .
وأمّا فكرة تطوير اُسلوب المرجعيّة وواقعها العملي فهي تستهدف :
أوّلاً :
إيجاد جهاز عملي تخطيطي وتنفيذي للمرجعيّة يقوم على أساس الكفاية والتخصّص وتقسيم العمل واستيعاب كلّ مجالات العمل المرجعي الرشيد في ضوء الأهداف المحدّدة .
ويقوم هذا الجهاز بالعمل بدلاً عن الحاشية التي تعبّر عن جهاز عفوي مرتجل يتكوّن من أشخاص جمعتهم الصدف والظروف الطبيعيّة لتغطية الحاجات الآنيّة بذهنيّة تجزيئيّة وبدون أهداف محدّدة واضحة .
ويشتمل هذا الجهاز على لجان متعدّدة تتكامل وتنمو بالتدريج إلى أن تستوعب كلّ إمكانات العمل المرجعي ، ويمكن أن نذكر اللجان التالية كصورة مثلى وهدف أعلى ينبغي أن يصل إليه الجهاز العملي للمرجعيّة الصالحة في تطوّره وتكامله :
1 - لجنة أو لجان لتسيير الوضع الدراسي في الحوزة العلميّة ، وهي تمارس تنظيم دراسة ما قبل ( الخارج ) والإشراف على دراسات الخارج ، وتحدّد الموادّ الدراسيّة ، وتضع الكتب الدراسيّة ، وتجعل بالتدريج الدراسة الحوزويّة بالمستوى الذي يتيح للحوزة المساهمة في تحقيق أهداف المرجعيّة الصالحة ، وتستحصل معلومات عن الانتسابات الجغرافيّة للطلبة ، وتسعى في تكميل الفراغات وتنمية العدد .
2 - لجنة للإنتاج العلمي ، ووظائفها إيجاد دوائر علميّة لممارسة البحوث ومتابعة سيرها ، والإشراف على الإنتاج الحوزوي الصالح وتشجيعه ومتابعة الفكر العالمي بما يتّصل بالإسلام ، والتوافر على إصدار شيء كمجلّة أو غيرها ، والتفكير في جلب العناصر الكفوءة إلى الحوزة أو التعاون معها إذا كانت في الخارج .
3 - لجنة أو لجان مسؤولة عن شؤون علماء المناطق المرتبطة ، وضبط أسمائهم وأماكنهم ووكالاتهم ، وتتبّع سيرهم وسلوكهم واتّصالاتهم ، والاطّلاع على النقائص والحاجات والفراغات ، وكتابة تقرير إجمالي في وقت رتيب أو عند طلب المرجع .
4 - لجنة الاتّصالات ، وهي تسعى لإيجاد صلات مع المرجعيّة في المناطق التي لم تتّصل مع المركز ، ويدخل في مسؤوليّتها إحصاء المناطق ودراسة إمكانات الاتّصال بها ، وإيجاد سفرة تفقّديّة إمّا على مستوى تمثيل المرجع ، أو على مستوى آخر ، وترشيح المناطق التي أصبحت مستعدّة لتقبّل العالم وتولّي متابعة السير بعد ذلك ، ويدخل في صلاحيّتها الاتّصال في الحدود الصحيحة مع المفكّرين والعلماء في مختلف أنحاء العالم الإسلامي وتزويدهم بالكتب والاستفادة من المناسبات كفرصة الحجّ .
5 - لجنة رعاية العمل الإسلامي والتعرّف على مصاديقه في العالم الإسلامي ، وتكوين فكرة عن كلّ مصداق ، وبذل النصح والمعونة عند الحاجة .
6 - اللجنة الماليّة التي تعنى بتسجيل المال ، وضبط موارده وإيجاد وكلاء ماليّين ، والسعي في تنمية الموارد الطبيعيّة لبيت المال ، وتسديد المصارف اللازمة للجهاز مع التسجيل والضبط .
ولا شكّ في أنّ بلوغ الجهاز إلى هذا المستوى من الاتّساع والتخصّص يتوقّف على تطوّر طويل الأمد ، ومن الطبيعي أن يبدأ الجهاز محدوداً وبدون تخصّصات حدّيّة تبعاً لضيق نطاق المرجعيّة وعدم وجود التدريب الكافي ، والممارسة والتطبيق هو الذي يبلور القابليّات من خلال العمل ويساعد على التوسيع والتخصّص .
ثانياً :
إيجاد امتداد اُفقي حقيقي للمرجعيّة يجعل منها محوراً قويّاً تنصبّ ـ فيه قوى كلّ ممثّلي المرجعيّة والمنتسبين إليها في العالم ، لأنّ المرجعيّة حينما تتبنّى أهدافاً كبيرة وتمارس عملاً تغييريّاً واعياً في الاُمّة ، لا بدّ أن تستقطب أكبر قدر ممكن من النفوذ لتستعين به في ذلك وتفرض بالتدريج وبشكل وآخر السير في طريق تلك الأهداف على كلّ ممثّليها في العالم .
وبالرغم من انتساب كلّ علماء الشيعة تقريباً إلى المرجع في الواقع المعاشي ، يلاحظ بوضوح أ نّه في أكثر الأحيان انتساب نظري وشكلي لا يخلق المحور المطلوب كما هو واضح .
وعلاج ذلك يتمّ عن طريق تطوير شكل الممارسة للعمل المرجعي ، فالمرجع تاريخيّاً يمارس عمله المرجعي كلّه ممارسة فرديّة ، ولهذا لا تشعر كلّ القوى المنتسبة إليه بالمشاركة الحقيقيّة معه في المسؤوليّة والتضامن الحادّ معه في المواقف .
وأمّا إذا مارس المرجع عمله من خلال مجلس يضمّ علماء الشيعة والقوى الممثّلة له دينيّاً وربط المرجع نفسه بهذا المجلس فسوف يكون العمل المرجعي موضوعيّاً ، وإن كانت المرجعيّة نفسها بوصفها نيابة عن الإمام قائمة بشخص المرجع ، غير أنّ هذه النيابة القائمة بشخصه لم تحدّد له اُسلوب الممارسة وإنّما يتحدّد هذا الاُسلوب في ضوء الأهداف والمصالح العامّة .
وبهذا الاُسلوب الموضوعي من الممارسة يصون المرجع عمله المرجعي من التأثّر بانفعالات شخصه ، ويعطي له بعداً وامتداداً واقعيّاً كبيراً ؛ إذ يشعر كلّ ممثّلي المرجع بالتضامن والمشاركة في تحمّل مسؤوليّات العمل المرجعي وتنفيذ سياسة المرجعيّة الصالحة التي تقرّر من خلال ذلك المجلس .
وسوف يضمّ هذا المجلس تلك اللجان التي يتكوّن منها الجهاز العملي للمرجعيّة ، وبهذا تلتقي النقطة السابقة مع هذه النقطة .
ولئن كان في اُسلوب الممارسة الفرديّة للعمل المرجعي بعض المزايا ، كسرعة التحرّك وضمان درجة أكبر من الضبط والحفظ وعدم تسرّب عناصر غير واعية إلى مستوى التخطيط للعمل المرجعي ، فإنّ مزايا الاُسلوب الآخر أكبر وأهمّ .
ونحن نطلق على المرجعيّة ذات الاُسلوب الفردي في الممارسة اسم المرجعيّة الذاتيّة ، وعلى المرجعيّة ذات الاُسلوب المشترك والموضوعي في الممارسة اسم المرجعيّة الموضوعيّة .
وهكذا يظهر أنّ الفرق بين المرجعيّة الذاتيّة والمرجعيّة الموضوعيّة ليس في تعيين شخص المرجع الشرعي الواقعي ، فإنّ شخص المرجع دائماً هو نائب الإمام ، ونائب الإمام هو المجتهد المطلق العادل الأعلم الخبير بمتطلّبات النيابة ، وهذا يعني أنّ المرجعيّة من حيث مركز النيابة للإمام ذاتيّة دائماً ، وإنّما الفرق بين المرجعيّتين في اُسلوب الممارسة .
وثالثاً :
إيجاد امتداد زمني للمرجعيّة الصالحة لا تتّسع له حياة الفرد الواحد .
فلا بدّ من ضمان نسبي لتسلّل المرجعيّة في الإنسان الصالح المؤمن بأهداف المرجعيّة الصالحة لئلّا ينتكس العمل بانتقال المرجعيّة إلى من لا يؤمن بأهدافها الواعية ، ولا بدّ أيضاً من أن يهيّأ المجال للمرجع الصالح الجديد ، ليبدأ ممارسة مسؤوليّاته من حيث انتهى المرجع العامّ السابق بدلاً عن أن يبدأ من الصفر ويتحمّل مشاقّ هذه البداية وما تتطلّبه من جهود جانبيّة .
وبهذا يتاح للمرجعيّة الاحتفاظ بهذه الجهود للأهداف وممارسة ألوان من التخطيط الطويل المدى .
ويتمّ ذلك عن طريق شكل المرجعيّة الموضوعيّة ؛ إذ في إطار المرجعيّة الموضوعيّة لا يوجد المرجع فقط ، بل يوجد المرجع كذات ، ويوجد الموضوع ، وهو المجلس بما يضمّ من جهاز يمارس العمل المرجعي الرشيد ، وشخص المرجع هو العنصر الذي يموت ، وأمّا الموضوع فهو ثابت ، ويكون ضماناً نسبيّاً إلى درجة معقولة بترشيح المرجع الصالح في حالة خلوّ المركز ، وللمجلس وللجهاز - بحكم ممارسته للعمل المرجعي ونفوذه وصلاته وثقة الاُمّة به - القدرة دائماً على إسناد مرشّحه وكسب ثقة الاُمّة إلى جانبه .
وهكذا تلتقي النقطتان السابقتان مع هذه النقطة في طريقة الحلّ .
وللمرجعيّة الصالحة ثلاث مراحل :
1 - مرحلة ما قبل التصدّي الرسمي للمرجعيّة المتمثّل بطبع رسالة عمليّة ، وتدخل في هذه المرحلة أيضاً فترة ما قبل المرجعيّة إطلاقاً .2 - مرحلة التصدّي لطبع الرسالة العمليّة .
3 - مرحلة المرجعيّة العليا المسيطرة على الموقف الديني .
وأهداف المرجعيّة الصالحة ثابتة في المراحل الثلاث ، وفي المرحلة الاُولى يتمّ إنجاز العمل المسبق الذي أشرنا إليه سابقاً وإلى ضرورته لقيام المرجعيّة الصالحة .
وطبيعة هذه المرحلة تفرض أن تمارس المرجعيّة ممارسة أقرب إلى الفرديّة بحكم كونها غير رسميّة ومحدودة في قدرتها وكون الأفراد في بداية التطبيق والممارسة للعمل المرجعي ، فالمرجعيّة في هذه المرحلة ذاتيّة وإن كانت تضع في نفس الوقت بذور التطوير إلى شكل المرجعيّة الموضوعيّة عن طريق تكوين أجهزة استشاريّة محدودة ونوع من التخصّص في بعض الأعمال المرجعيّة .
وأمّا في المرحلة الثانية فيبدأ عمليّاً تطوير الشكل الذاتي إلى الشكل الموضوعي لكن لا عن طريق الإعلان عن اُطروحة المرجعيّة الموضوعيّة بكاملها ووضعها موضع التنفيذ في حدود المستجيبين
لأنّ هذا وإن كان يولّد زخماً تأييديّاً في صفوف بعض الراشدين في التفكير ، ولكنّه من ناحية يفصل المرجعيّة الصالحة عن عدد كبير من القوى والأشخاص غير المستعدّين للتجاوب في هذه المرحلة ، ومن ناحية اُخرى يضطرّها إلى الاستعانة بما هو الميسور في تقديم صيغة المرجعيّة الموضوعيّة ، وهذا الميسور لا يكفي كمّاً ولا كيفاً لملء حاجة المرجعيّة الموضوعيّة .
بل الطريق الطبيعي - في البدء بتحقيق المرجعيّة الموضوعيّة - ممارسة المرجعيّة الصالحة لأهدافها ورسالتها عن طريق لجان وتشكيلات متعدّدة بقدر ما تفرضه بالتدريج حاجات العمل الموضوعيّة وقدرات المرجعيّة البشريّة والاجتماعيّة ، ويربط بالتدريج بين تلك اللجان والتشكيلات ويوسّع منها حتّى تتمخّض في نهاية الشوط عن تنظيم كامل شامل للجهاز المرجعي .
ويتأثّر سير العمل في تطوير اُسلوب المرجعيّة وجعلها موضوعيّة بعدّة عوامل في حياة الاُمّة ، فكريّة وسياسيّة ، وبنوعيّة القوى المعاصرة في الحوزة للمرجعيّة الموضوعيّة ، ومدى وجودها في الاُمّة ومدى علاقتها طرداً أو عكساً مع أفكار المرجعيّة الصالحة ، ولا بدّ من أخذ كلّ هذه العوامل بعين الاعتبار والتحفّظ - من خلال مواصلة عمليّة التطوير المرجعي - عن تعريض المرجعيّة ذاتها لانتكاسة تقضي عليها ، إلّاإذا لوحظ وجود مكسب كبير في المحاولة ولو باعتبارها تمهيداً لمحاولة اُخرى ناجحة يفوق الخسارة التي تترتّب على تفتّت المرجعيّة الصالحة التي تمارس تلك المحاولة(2) .
المصادر :
1- مجموعة أبحاث ألقاها الشهيد الصدر قدس سره سنة 1392 هـ وكلّف السيّد كاظم الحائري بتدوينها ، ثمّ حرّرها قدس سره بقلمه ( اُنظر : مقدّمة مباحث الاُصول : 91 )
2- وهناك مقترحات كان الشهيد الصدر قدس سره قد أردف بها البحث ، وقد لخّصها السيّد كاظم الحائري في : مقدّمة مباحث الاُصول : 99 - 100