هل ينبغي للمريض كتمان مرضه ام لا؟ والذي نريد : ان نشير اليه هنا هو كتمان الطبيب للاسرار الطبية ، ولابد من التكلم في ذلك من ناحيتين :
الاولى : انه لابد وان يحفظ الطبيب سر المريض فلا يبوح به لاحد .. وقد ورد في الشريعة المطهرة الحث على كتمان سر المؤمن. ووعد الله ان يجعل من يكتم سر اخيه المؤمن يستظل بظل عرش الله يوم القيامة ، يوم لاظل الا ظله (1).
وعن عبدالله بن سنان قال : قلت له : عورة المؤمن على المؤمن حرام؟ قال نعم ، قلت : سفلته؟ قال :
ليس حيث يذهب ، انما هو اذاعة سره (2).
كما انه اذا اطمأن المريض الى ان سره محفوظ ؛ فان يصير اكثر شجاعة على البوح للطبيب بكثير من الامور التي قد يكون لها اكبر الاثر ، او الاثر الكبير في معرفة حقيقة الداء ، الامر الذي يسهل على الطبيب وصف المناسب والناجع من الدواء .. كما انه يمكن ان تصدر من المريض الكثير من الامور التي يحب ان لا يعلمها منه احد. وهذا امر طبيعي وواضح ..
نعم .. وقد امر الشارع المريض بان لا يكتم الطبيب مرضه ، لان كتمانه اياه يجعل الطبيب غير قادر على فهم حقيقة ما يعاني منه مريضه من جهة ..
هذا ان لم يكن ذلك سببا في ان يفهم غير ما هو الواقع ؛ فيصف له ليس فقط ما لا يجدي ، بل وما قد يضر بحالته ويكون له مضاعفات خطيرة جداً عليه من جهة اخرى .. وورد ان عليا (عليه السلام) اشار الى الجهة الاولى بقوله : من كتم مكنون دائه عجز طبيبه عن شفائه (3).
وعنه (عليه السلام) : لاشفاء لمن كتم طبيبه داءه (4).
واشار الى الجهة الثانية فقال (عليه السلام) فيما روى عنه : من كتم الاطباء مرضه خان بدنه (5).
ولقد جاء في القسم المنسوب الى ابقراط : « ... واما الاشياء التي اعانيها في اوقات علاج المرضى ، واسمعها في غير أوقات علاجهم في تصرف الناس في الاشياء ، التي لا ينطق بها خارجا ، فامسك عنها ، وارى ان امثالها لاينطق به .. » (6).
وجاء في الوصية المنسوبة لابقراط ايضا ان الطبيب :
« ينبغي ان يكون مشاركا للعليل مشفقا عليه ، حافظا للاسرار ، لان كثيرا من المرضى يوقفونا على امراض بهم لا يحبون ان يقف عليها غيرهم » (7).
وقال علي بن العباس : « يجب على الطبيب ان يحفظ اسرار المريض ، ولا يفشيها ، لا لاقاربه ولا لغيرهم ممن يتصل به ، لان كثيرا من المرضى يكتمون ما بهم عن اقرب الناس اليهم ، حتى والديهم ، ويبوحون به للطبيب كاوجاع الرحم والبواسير ... فعلى الطبيب ان يحافظ على سر المريض اكثر من المريض نفسه (8) » ..
الثانية : كتمان اسرار الطب عمن يمكن ان يسيء استعمالها .. وقد روى عن الصادق عليهالسلام أن : « لكل شيء زكاة ، وزكاة العلم ان يعلمه اهله » (9) وفي معناه غيره.
وعن علي (عليه السلام) :
« شكر العالم على علمه ان يبذله لمن يستحقه » (10).
وواضح ان من يسيىء استعمال العلم ليس ممن يستحق العلم ، ولا هو من اهله ولعل من اظهر مصاديق هؤلاء العدو الغاشم ، فلا بد من الاحتياط منه وعدم اطلاعه لا على الادوية ولا على اسرارها ؛ فعن علي (عليه السلام) : ثلاثة لا يستحى من الختم عليها : المال لنفي التهمة ، والجوهر لنفاسته ، والدواء للاحتياط من العدو (11).
واما بالنسبة لغير العدو فقد قال علي بن العباس :
ان على الطبيب ان « لا يجوز لهم الدواء الخطر ، ولا يصفه لهم ، ولايدل المريض على ادوية كهذه ، ولا يتكلم عنها امامه ، ولا يجوز لهم الادوية المسقطة للجنين ، ولا يدل عليها احدا (12) ».
وما ذلك الا لان الطب لم يكن الا لخدمة الانسانية ، والتخفيف من آلامها ، فاذا اسيىء استعماله ، وكان مضرا بالانسان وبالانسانية ، فان الانسانية تكون في غنى عنه ، وليست بحاجة اليه.
وقد جاء في القسم المنسوب الى ابقراط : « واما الاشياء التي تضر بهم ، وتدنى منهم بالجور عليهم فأمنع منها بحسب رأيي ، ولا اعطى اذا طلب مني دواء قتالا ، ولا اشير ايضا بمثل هذه المشورة. وكذلك ايضا لا ارى ان ادنى من النسوة فرزجة تسقط الجنين (13) ».
تحري الدقة في اجراء الفحوصات :
وبعد .. فان على الطبيب ان يتحرى الدقة التامة في مجال اجرائه الفحوصات للمريض ، فان ذلك بالاضافة الى انه من مقتضيات الامانة ؛ فانه مما تفرضه المشاعر الانسانية النبيلة بالنسبة لهذا الانسان الذي سلم امره اليه ، وعلق الكثير من آماله عليه .. وقد اشار امير المؤمنين علي (عليه السلام) الى ذلك حينما قال ـ فيما روى عنه ـ :« لاتقاس عين في يوم غيم » (14).
من مواصفات الطبيب الحاذق :
واخيرا ... فقد ذكر البعض بعض المواصفات التي يفترض بالطبيب الحاذق ان يراعيها ويهتم بها ... وقد تقدم بعض ما يشير الى نقاط منها ... وبقى ان نشير منها الى ما يلي :١ ـ ان يعرف نوع المرض.
٢ ـ ان يعرف سببه.
٣ ـ معرفة المزاج الطبيعي للبدن.
٤ ـ معرفة المزاج الحادث على غير المجرى الطبيعي.
٥ ـ سن المريض.
٦ ـ عادات المريض.
٧ ـ ملاحظة حالة الجو الحاضرة وما ينسجم معها.
٨ ـ ملاحظة كونه في اي فصل من فصول السنة.
٩ ـ النظر في امكان المعالجة لتلك العلة ، او تخفيفها ، ام لا يمكن.
١٠ ـ ملاحظة بلد المريض وتربته.
١١ ـ النظر في امكان المعالجة بغير الدواء ، كالحمية والغذاء والهواء ، ثم بالادوية البسيطة ، ثم المركب ... وهكذا ...
١٢ ـ النظر في الدواء المضاد لتلك العلة ، ثم الموازنة بين قوته وقوة ذلك المرض ، بالاضافة الى قوة المريض نفسه.
١٣ ـ ان يربط المريض بالله ، واعتباره القادر على شفائه ، وتوجيهه نحو تصفية النفس ، والاخلاص له تعالى ... (15).
انتهى ما اردناه من كلامه ، مع تصرف ، وزيادة ، وحذف ... وبعضه يمكن استخلاصه مما تقدم ومن غيره من روايات اهل البيت عليهمالسلام ، او يدخل في قواعد عامة صدرت عنهم صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين ...
معالجة غير المسلم للمسلمين :
ولم يمنع الاسلام من مداواة اليهودي والنصراني للمسلم ، فقد روى عن ابي جعفر عليهالسلام ، قال : سألته عن الرجل يداويه النصراني واليهودي ، ويتخذ له الادوية ، فقال : لا بأس بذلك ، انما الشفاء بيد الله (16).وعن عبد الرحمان بن الحجاج قال : قلت لموسى بن جعفر (عليه السلام) :
اني احتجت الى طبيب نصراني ، اسلم عليه ، وادعو له ، قال : نعم ، انه لا ينفعه دعاؤك (17).
وقد داوى رجل يهودي بعض الناس على عهد النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ، واخرج من بطنه رجراجاً ، كما تقدم (18) كما ان الحارث بن كلدة قد عالج بعض الصحابة بأمر من النبي ـ كما يقولون ـ مع انهم يقولون :
انه لا يصح ان الحارث قد اسلم ، فراجع كتب تراجم الصحابة ، والمصادر المتقدمة في الفصل الاول من الكتاب.
وقال الشهيد في الدروس : يجوز المعالجة بالطبيب الكتابي ، وقدح العين عند نزول الماء (19).
وذلك يدل بوضوح على ان الاسلام يهتم بالكفاءات اينما وجدت ، ولان ذلك لا يؤثر على عقيدة الانسان المسلم ، ولا في سلوكه ، بل هو يساهم في اعادة السلامة والمعافاة له ... الامر الذي يمكنه من العودة الى مجال الحياة والنشاط فيها ، وخدمة نفسه ومجتمعه على مختلف الاصعدة.
الا اذا كان ذلك يوجب مودة لليهود والنصارى ، ومحبة لهم ، تكون سببا في الانحراف عن الجادة المستقيمة ، والوقوع في مهاوي الجهل والحيرة والضياع ..
المصادر :
1- قصار الجمل ج ٢ ص ١٧٩ عن الوسائل كتاب النكاح باب ١٢ حديث ٣.
2- اصول الكافي ج ٢ ص ٢٦٧ ط المكتبة الاسلامية والمحاسن ص ١٠٤ والوسائل ج ٨ ص ٦٠٨ وج ٢ ص ٣٦٨ .
3- غرر الحكم ج ٢ ص ٦٦٧.
4- غرر الحكم ج ٢ ص ٨٣٣.
5- غرر الحكم ج ٢ ص ٦٦٣.
6- عيون الانباء ص ٤٥.
7- عيون الانباء ص ٤٦ / ٤٧.
8- تاريخ طب در ايران ج ٢ ص ٤٥٧ عن كتاب كامل الصناعة الطبية الملكي.
9- البحار ج ٢ ص ٢٥ وقصار الجمل ج ٢ ص ٥٦ وراجع اصول الكافي ج ١ باب سؤال العلم وتذاكره.
10- البحار ج ٢ ص ٨١ عن كنز الكراجكي وقصار الجمل ج ٢ ص ٦٠.
11- شرح النهج للمعتزلي ج ٢ ص ٢٨٩.
12- تاريخ طب در ايران ج ٢ ص ٤٥٧ عن كتاب : كامل الصناعة الطبية الملكي.
13- عيون الانباء ص ٤٥. والفرزجة : شيء يتداوى به النساء ...
14- الوسائل ج ١٩ ص ٢٨٠ والتهذيب ج ١٠ ص ٢٦٨ والفقيه ج ٤ ص ١٠١.
15- الطب النبوي ص ١١٢ ـ ١١٤.
16- الوسائل ج ١٧ ص ١٨١ ، والبحار ج ٦٢ ص ٧٣ و ٦٥ والفصول المهمة ص ٤٣٩ وقصار الجمل ج ١ ص ٢٠٩.
17- الفصول المهمة ص ٤٤٠ ، والوسائل ج ٨ ص ٤٥٧ وقال في هامشه : « الاصول ص ٦١٥ : اخرجه عنه ؛ وعن كتب اخرى في كتب اخرى في ج ٢ في ١ / ٤٦ من الدعاء » انتهى. وقرب الاسناد ص ١٢٩ والبحار ج ٧٥ ص ٣٨٩.
18- تقدمت المصادر لذلك.
19- البحار ٦٢ ص ٦٥ و ٢٨٨.