الإرادة التكوينية والتشريعية

إذا كان الله تعالى لا يعصى مقهوراً ، فلابدّ أن تكون المعصية بإذنه ومشيئته وإرادته. وهذه حقيقة لابد أن ننتهي إليها. وعندئذ من الحقّ أن نتسائل : كيف يريد الله معصية الله ، وهو ينهى عنها ولا يرضاها ولا يريدها ؟ وهذه ( عقدة ) كان يقف عندها
Sunday, February 5, 2017
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
الإرادة التكوينية والتشريعية
الإرادة التكوينية والتشريعية

 





 

إذا كان الله تعالى لا يعصى مقهوراً ، فلابدّ أن تكون المعصية بإذنه ومشيئته وإرادته. وهذه حقيقة لابد أن ننتهي إليها. وعندئذ من الحقّ أن نتسائل : كيف يريد الله معصية الله ، وهو ينهى عنها ولا يرضاها ولا يريدها ؟ وهذه ( عقدة ) كان يقف عندها غالباً الحوار الّذي يجري بين الأشاعرة والمعتزلة في التاريخ.
يقول ابن الخيّاط : إنّ هشام بن عبد الملك لمّا بلغه قول غيلان ( الدمشقي ) بالاختيار ، قال : ويحك يا غيلان ! لقد أكثر الناس فيك ، فنازعنا في أمرك ، فإنّ كان حقّاً اتّبعناك. فاستدعى هشام ميمون بن مروان ليكلّمه ، فقال له غيلان : أشاء الله أن يعصى ؟ فأجابه ميمون : أفعصي كارهاً ؟ فسكت غيلان ، فقطع هشام بن عبد الملك يديه ورجليه (1).
وقيل إنّ ( غيلان الدمشقي ) الّذي كان يذهب مذهب الاختيار وقف على رأس ( ربيعة الرأي ) الذي كان يذهب مذهب ( الجبر ) في القضاء والقدر. فقال : أنت الّذي يزعم أنّ الله يحبّ أن يعصى ؟
فقال له ربيعة : أنت الّذي يزعم أنّ الله يعصى قهراً (2).
وتنحل هذه العقدة العجيبة بالتفكيك بين الإرادة التكوينية والإرادة التشريعية ، وهو ما صنعه أهل البيت عليهم‌السلام في حلّ هذه المشكلة ، ولربّما لاوّل مرّة في التاريخ العقلي الإسلامي. وعندئذ يكون جواب غيلان لميمون بن مروان أو لربيعة الرأي واضحاً ، ولن يطول تردّده طويلاً في الاجابة القاطعة على هذا التساؤل الغريب.
والجواب : إنّ الله لا يعصى كارهاً ولا مقهوراً ، إذا كان المقصود من الكراهية والقهر ( الإرادة التكوينية ) وإنّما يعصى بإرادته سبحانه وتعالى من دون كراهية وقهر كما بيّنا ذلك بوضوح في الفقرة السابقة.
وأمّا إن كان المقصود منها ( الإرادة التشريعية ) فليس من بأس أن يعصى الله تعالى وهو يكره المعصية ، فإنّ الناس يكثرون من معصية الله تعالى ، والله تعالى يكره معصيتهم ويمقتها ويغضب عليهم من أجلها ، وإن كانت هذه المعاصي تجري جميعاً بإرادته وإذنه ، وفي ملكه وسلطانه ، وبما أتى عباده من حول وقوّة وطول. واختلاف الإرادتين في الإذن وعدم الإذن ليس من التناقض في شيء ، إذا ميّزنا بشكل دقيق بين الإرادة التكوينية والإرادة التشريعية ، ولسنا نعلم هل كان التفكيك بين الإرادتين والتمييز بينهما معروفاً في هذا التاريخ أم لا.
ويغلب على الظنّ أنّ هذا التفكيك لم يكن معروفاً. وإلاّ لم يتوقّف ( غيلان الدمشقي ) يومذاك عن جواب ميمون ، أو ربيعة الرأي ، إذا صحّت الرواية.
وعلى أيّ ، فلنتأمّل في النصوص الواردة عن أهل البيت عليهم‌السلام في التفكيك بين هاتين الإرادتين :
روى الكليني بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سمعته يقول : « أمر الله ولم يشأ ، وشاء ولم يأمر. أمر إبليس أن يسجد لآدم ، وشاء أن لا يسجد ، ولو شاء لسجد. ونهى آدم عن أكل الشجرة وشاء أن يأكل منها ، ولو لم يشأ لم يأكل » (3).
ومنها ما روي من طريقه رضي‌الله‌عنه أيضاً عن علي بن إبراهيم ، عن المختار بن محمّد الهمداني ومحمّد بن الحسن ، عن عبد الله بن الحسن العلوي جميعاً ، عن الفتح بن يزيد الجرجاني ، عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : « إنّ لله إرادتين ومشيئتين : إرادة حتم ، وإرادة عزم ، ينهي وهو يشاء ويأمر وهو لا يشاء ، أو ما رأيت انّه نهى آدم وزوجته أن يأكلا من الشجرة وشاء ذلك ، ولو لم يشأ أن يأكلا لما غلبت مشيئتهما مشيئة الله تعالى. وأمر إبراهيم أن يذبح إسماعيل ولم يشأ أن يذبحه ، ولو شاء لما غلبت مشيئة إبراهيم مشيئة الله تعالى » (4).

حرّية الاختيار لدى الإنسان داخل الدائرة الحتمية للقضاء والقدر :

وهذه النقطة بالذات هي عقدة البحث ، فإذا انحلّت هذه النقطة واتّضحت اتضح ما قبلها وبعدها.
إنّ الإنسان يملك بصريح الوجدان والقرآن كامل حرّيته في الاختيار والفعل وإمارة حريته في الاختيار تردده في الانتخاب. ومسؤوليته عن فعله وإحساسه بالندم والراحة عند انتخاب ما يصلح وما لا يصلح. والوجدان أقوى شاهد على هذه الحقيقة. وقد رأينا في موضع سابق من هذا البحث أنّ القرآن يقرر حرّية اختيار الإنسان في طوائف كثيرة من الآيات. ولسنا بصدد إثبات هذه الحقيقة الآن أكثر من ذلك. واختيار الإنسان يقع على مفترق طرق يقف عنده الإنسان غالباً أو دائماً. ولأيّ سبيل من هذه السبل يختاره الإنسان حكم قطعي وحتمي في دائرة القضاء والقدر المحكم والمتقن الّذي شرحناه من قبل.
فليس من سبيل للإنسان أن يخرج عن دائرة ( القضاء والقدر ) وحكمه القطعي المتقن والدقيق ، وهو لا محالة يعيش ويتحرّك ويعمل ويختار في هذه كما ذكرنا. ولكنه يملك مطلق الاختيار دائماً أو غالباً في اختيار سبيل من هذه السبل المختلفة الّتي يجدها أمامه عن معرفة ووعي.
المريض إذا اهتم بمرضه وراجع الطبيب واتّخذ العلاج يشفى ، وإن أهمل مرضه يتضاعف المرض عنده. والطالب إذا نشط واجتهد ينجح وإذا كسل وأهمل دروسه يفشل. والعامل إذا عمل وتحرّك في السوق ، يغنيه الله ، وإذا تهاون في البحث عن العمل يفتقر. والإنسان إذا عاشر الصالحين يصلح ويأخذ منهم الصلاح. وإذا عاشر الفاسدين يأخذ منهم الفساد.
وكلّ هذه النتائج من القضاء والقدر الحتم والمتقن الّذي لا سبيل للتشكيك فيه. فإنّ الإنسان الّذي يجتهد في طلب العلم يكون عالماً بالضرورة والحتم ، وهذا هو ( القضاء ) وتكون معرفته في الحقل الّذي اجتهد فيه ، دون غيره من الحقول ، وبمقدار اجتهاده ودراسته ، وهذا هو ( القدر ).
إنّ اختيار الإنسان في المبادئ دائماً والأحكام الفعلية الّتي قلنا إنّها من القضاء والقدر هي في النتائج دائماً.
وهذه المبادئ تستتبع هذه النتائج دائماً بصورة قطعية ومتقنة. ولا سبيل للإنسان للتخلّص من هذه النتائج القطعية ، وإن كان له مطلق الحرية في اجتناب واحد أو أكثر من هذه السبل في البدء.
ولعلّ الآية الكريمة من سورة الرعد ، لا تكون بعيدة عن هذا المعنى :
( إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم ) ( الرعد ١٣ : ١١ ) وبهذه الصورة نرى أنّ الله تعالى مكّن الإنسان أن يمارس اختياره وحرّيته في وسط نظام محكم ومتقن من القضاء والقدر في الحياة الاجتماعية وفي الكون. فلا يضرّ الاختيار بحتمية القضاء والقدر ولا يمس القضاء والقدر من حرّية الإنسان في الاختيار على الإطلاق. وإلى هذا المعنى الدقيق يشير حديث أميرالمؤمنين عليه‌السلام مع الشيخ الّذي سأله عن مسيرهم إلى أهل الشام بعد منصرفه من صفّين. وقد قدّمنا هذا الحديث في النقطة الأولى من هذه النقاط. ففي بدء الحديث يقول له الإمام عليه‌السلام : « أجل يا شيخ ما علوتم من تلعة ولاهبطتم بطن واد إلاّ بقضاء من الله وقدر » وهذه الفقرة واضحة أنّهم في خروجهم إلى صفّين ومحاربتهم لمعاوية وعودتهم إلى الكوفة ، كانوا يتحرّكون في دائرة القضاء والقدر ولم يخرجوا من دائرة القضاء والقدر إطلاقاً.
فلمّا فهم الشيخ من كلام الإمام عليه‌السلام إنّ هذه الحتمية ( القضاء ) كان في مرحلتي المبادئ والنتائج معاً ، وأنّهم لم يملكوا من أمرهم شيئاً في هذه المرحلة الطويلة ، فقال : ( عند الله أحتسب عنائي يا أميرالمؤمنين ) وضّح له الإمام عليه‌السلام ما اشتبه عليه من الأمر فقال : « أتظنّ قضاءً حتماً وقدراً لازماً ؟! لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والأمر والنهي ... إنّ الله تعالى كلّف تخييراً ونهى تحذيراً ».
إنّ القضاء والقدر لن يكون إلاّ حتماً ومقدّراً بصورة دقيقة ، ولكن الّذي يملك الاختيار في المبادئ يملك الاختيار في النتائج بالضرورة. فإنّ النتائج تتبع المبادئ ، فإذا مكّن الله الإنسان من المبادئ مكّنه من النتائج أيضاً ، وإن احتفظت النتائج بصفتها الحتمية والمقدّرة في ظروفها وشروطها. وهذا هو معنى كلام الإمام عليه‌السلام للشيخ السائل « أتظنّ قضاءً حتماً وقدراً لازماً ؟ لو كان كذلك لبطل الثواب ».
وتعبير القرآن عن هذا التراوح الّذي يتمّ بين الاختيار في عمل الإنسان والحتمية في النتائج المترتبة على عمله ... تعبير دقيق يقول تعالى : ( كلّ نفس بما كسبت رهينة ) ( المدّثر ٧٤ : ٣٨ ).
فالعمل الّذي يعمله الإنسان ويكسبه لنفسه باختياره وحرّيته ، ولكنّه لايملك التخلّص من النتائج القطعية المترتبة على هذا العمل فيبقى ( رهيناً ) له.
إذن الإنسان وإن كان يعيش في وسط نظام محكم متقن ، ولكن بامكانه أن يتحوّل من قضاء إلى قضاء ، ومن قدر إلى قدر.
روى الأصبغ بن نباته أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام عدل من عند حائط مائل إلى حائط آخر ، فقيل له : يا أمير المؤمنين أتفرّ من قضاء الله ؟
قال عليه‌السلام : « أفرّ من قضاء الله إلى قدر الله عزّ وجلّ » (5).
وروى الصدوق باسناده عن إبي الحسن علي بن موسى الرضا عليه‌السلام عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام عن علي بن أبي طالب عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « في كلّ قضاء الله خيرة للمؤمنين » (6).
وروى الصدوق رحمه‌الله في الاعتقادات : انّه سئل الصادق عليه‌السلام عن الرُقى هل ترفع من القدر شيئاً ؟ فقال عليه‌السلام : « هي من القدر ».
وروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه سُئل هل يغني الدواء والرُقية من القدر ؟ فقال لمن سأله : « الدواء والرُقية من قدر الله » (7).

الله أرحم من أن يعذّب خلقه على ما أكرههم عليه :

ولمّا كانت هذه النقطة بالذات محور الصراع والخلاف الفكري مع الأشاعرة الّذين كانوا يذهبون إلى حتمية السلوك لدى الإنسان ، ويسلبون منه الإرادة والاختيار فقد ورد التأكيد عليه كثيراً في نصوص أهل البيت ، كما ورد التأكيد كثيراً في النقطة المقابلة لها ، وهي رفض استقلال الإنسان ورفض التفويض الّذي كانت المعتزلة تذهب إليه ، وهي النقطة الثالثة من هذه المجموعة من النقاط.
روى الكليني في الكافي ، والصدوق في التوحيد عن يونس بن عبد الرحمن عن غير واحد عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام قالا : « إنّ الله أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثمّ يعذّبهم عليها ، والله أعزّ من أن يريد أمراً فلا يكون » (8).
وروى الكليني رحمه‌الله عن الحسين بن علي الوشّاء ، عن حمّاد بن عثمان ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « من زعم أنّ الله يأمر بالفحشاء فقد كذب على الله ، ومن زعم أنّ الخير والشرّ إليه فقد كذب على الله » (9)
والنقطة الأولى إشارة إلى الاتّجاه الجبري الّذي كان يتبنّاه الأشاعرة حيث ينسبون ما يأتي من الإنسان من المعاصي إلى الله تعالى مباشرة. والنقطة الثانية إشارة إلى ما يتبنّاه المفوّضة من نسبة قضاء الخير وقضاء الشرّ إلى الإنسان مباشرة.
والنصوص عن أهل البيت عليهم‌السلام كثيرة بهذا الصدد.

مسؤولية الإنسان في فعله :

وهذه النقطة تتبع النقطة السابقة ، والإنسان لو كان هو الّذي يختار ( في مرحلة المبادئ ) السبيل الّذي يسلكه يتحمّل بالضرورة ، نتائج ومسؤوليات كلّ ما يترتّب على فعله من آثار ونتائج قطعية ومتقنة. والمسؤولية هي نتيجة الاختيار ، وفي نفس الوقت فإنّ الاحساس الوجداني الواضح عند الإنسان بالمسؤولية هو أمارة الاختيار والقرآن يعمّق الاحساس بالمسؤولية عند الإنسان يقول تعالى :
( وقفوهم إنّهم مسؤولون ) ( الصافّات ٣٧ : ٢٤ ).
( فلنسألنّ الّذين أُرسل اليهم ولنسألنّ المرسلين ) ( الأعراف ٧ : ٦ ).
( فوربّك لنسألنّهم أجمعين ) ( الحجر ١٥ : ٩٢ ).
( ولتسألنّ عمّا كنتم تعملون ) ( النحل ١٦ : ٩٣ ).
( ثمّ لتسألنّ يومئذ عن النعيم ) ( التكاثر ١٠٢ : ٨ ).
إذن لوجود عامل الاختيار في سلوك الإنسان تنسب أعمال الإنسان إليه ، كما يتحمّل هو مسؤولية نتائج أعماله.
روى الكليني في الكافي والصدوق رضي‌الله‌عنه في التوحيد عن الحسين بن علي الوشّاء ، عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال سألته : فقلت : الله فوّض الأمر إلى العباد ؟
قال عليه‌السلام : « الله أعزّ من ذلك ».
قلت : فجبرهم على المعاصي ؟
قال عليه‌السلام : « الله أعدل وأحكم من ذلك ».
ثمّ قال عليه‌السلام : « قال الله عزّ وجلّ : يا ابن آدم ، أنا أولى بحسناتك منك ، وأنت أولى بسيّئاتك منّي. عملتَ المعاصي بقوتّي الّتي جعلتها فيك » (10).

الهيمنة الإلهية على حركة القضاء والقدر في الكون والتاريخ :

عرفنا من قبل أنّ نظام ( القضاء والقدر ) هو النظام الحاكم على الكون والتأريخ. وبعد ذلك عرفنا أنّ هذا النظام هو نظام ربّاني من خلق الله تعالى وإبداعه. ثمّ قلنا إنّ هذا النظام قائم بالله تعالى في كلّ لحظة ، وفي كلّ حال ، ولم ينفصل ولم يستقلّ عن الله في لحظة واحدة والله تعالى هو القيّوم والقيّم على هذا النظام ويتّصل سلطانه ونفوذه وقيمومته على الكون. هذا ما ذكرناه من قبل ، والآن نقول : إنّ علاقة الله تعالى بالكون لا تقف عند حدود القيمومة ، وحفظ النظام ولكن الله تعالى هو ( المهيمن )على الكون.
وتحتاج هذه الفقرة إلى شيء من التوضيح : أنّ نظام القضاء والقدر الحاكم في الكون ليس نظاماً ذا بعد واحد وإنّما هو نظام متعدّد الابعاد ، وكلّ بُعد منه يجري بموجب النظام بشكل قطعي ومتقن. والله تعالى مهيمن على هذه الأبعاد جميعاً. يمحو منها ما يشاء ويثبت وعنده أمّ الكتاب.
إذن : نظام القضاء والقدر في الوقت الّذي لا يتخلّف ولا يتزعزع ، نظام خاضع لسلطان الله تعالى وهيمنته بالمحو والاثبات ، فيثبت منه ما يشاء ويمحو منه ما يشاء ويغيره ، وليس معنى المحو إلغاء نظام القضاء والقدر أو تعطيله ، وإنّما معناه تبديله بغيره. وهذا أمر يدخل في حيّز سلطان الله تعالى المطلق. يقول تعالى : ( يمحواْ الله ما يشاء ويثبت وعنده أُمّ الكتاب ) ( الرعد ١٣ : ٣٩ ) والإنسان يتعامل مع نظام القضاء والقدر ، ويتحرّك ويعمل ، ويختار ضمن هذا النظام الخاضع لقيمومة الله تعالى وهيمنته المطلقة. فلا يمكن أن ينفصل أو يستقلّ عن إرادة الله ومشيئته في حركته وعمله في دائرة هذا النظام. كيف وهذا النظام وسيط متّصل بالله تعالى. وخاضع لقيمومته ، وهيمنته في كلّ لحظة.
روى الصدوق في ( التوحيد ) عن عبد الله بن ميمون القداح ، قال : دخل على أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام أو أبي جعفر الباقر عليه‌السلام رجل من أتباع بني أميّة فخفنا عليه ، فقلنا له : لو تواريت ، وقلنا : ليس هو هـهنا. قال عليه‌السلام : « بل أئذنوا له فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إنّ الله عزّ وجلّ عند لسان كلّ قائل ويد كلّ باسط. فهذا القائل لا يستطيع أن يقول إلاّ ما شاء الله ، وهذا الباسط لا يستطيع أن يبسط يده إلاّ بما شاء الله ». فدخل عليه فسأله عن أشياء وآمن بها وذهب (11).

قانون الإمداد والخذلان الإلهي في حياة الناس :

لا شكّ أنّ الله تعالى وهب أفراد الإنسان الاختيار في الفعل عند مفارق الطرق ، ووهبهم العقل والوعي والتمييز ، وأتاهم البيّنات ، كلّ ذلك صحيح. ولسنا نتصور رحمة فوق هذه الرحمة ، ولكنّ الله تعالى وهو المهيمن على الكون ، والإنسان ، يمد الإنسان عند كلّ مفترق طريق ، وكلّما يشقّ على الإنسان الاختيار ، وعند كلّ خيار صعب من خيارات الهدى ... يمده من عنده بالتوفيق والتأييد والتسديد إذا أراد الطاعة.
وإذا أراد المعصية لم يتركه لنفسه ، وانما يخذله عن المعصية ، ويدفعه عنها.
فإذا أصرّ وأبى وركب رأسه وعاند تخلّى عنه وأوكله إلى نفسه وأضلّه الله تعالى.
روى الصدوق رضي‌الله‌عنه في ( عيون أخبار الرضا ) عن تميم القرشي ، عن أبيه، عن أحمد بن علي الانصاري ، عن يزيد بن عمير بن معاوية الشامي، قال : دخلت على علي بن موسى الرضا عليه‌السلام بمرو فقلت له : يابن رسول الله روي لنا عن الصادق جعفر بن محمّد عليه‌السلام انّه قال : « لا جبر ولا تفويض بل أمرٌ بين أمرين » فما معناه ؟ فقال عليه‌السلام : « من زعم أن الله يفعل أفعالنا ثمّ يعذّبنا عليها فقد قال بالجبر ، ومن زعم أنّ الله عزّ وجلّ فوّض أمر الخلق والرزق إلى حججه عليهم‌السلام فقد قال بالتفويض ، فالقائل بالجبر كافر، والقائل بالتفويض مشرك ». فقلت له : يابن رسول الله فما أمر بين أمرين ؟ فقال عليه‌السلام : « وجود السبيل إلى إتيان ما أمروا به وترك ما نهوا عنه ». فقلت له : فهل لله عزّ وجلّ مشيئة وإرادة في ذلك ؟ فقال عليه‌السلام : « أمّا الطاعات فارادة الله ومشيئته فيها الامر بها والرضا لها والمعاونة عليها ، وإرادته ومشيئته في المعاصي النهي عنها والسخط لها والخذلان عليها ». قلت : فللّه عزّ وجلّ فيها القضاء ؟ قال عليه‌السلام : « نعم ، ما من فعل يفعله العباد من خير وشرّ إلاّ ولله فيه قضاء ». قلت : فما معنى هذا القضاء ؟ قال عليه‌السلام : « الحكم عليهم بما يستحقّونه على أفعالهم من الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة ، ولكن العبد إذا أصرّ على العصيان والتمرّد أحاله الله تعالى إلى نفسه ، وأوكله إليها ، وحجبه عن الايمان ».
روي من طريق الصدوق رضي‌الله‌عنه في ( العيون ) أنّه قال : حدّثنا عبد الواحد ابن محمد بن عبدوس العطار رضي‌الله‌عنه قال : حدّثنا محمّد بن علي بن قتيبة النيسابوري ، عن حمدان بن سليمان النيسابوري قال : سألت الرضا عليه‌السلام عن قول الله عزّ وجلّ : ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيّقاً حرجاً ) ( الانعام ٦ : ١٢٥ ) قال عليه‌السلام : « من يرد الله أن يهديه بإيمانه في الدنيا إلى جنّته ودار كرامته يشرح صدره للتسليم لله والثقة به والسكون على ما وعده من ثوابه حتى يطمئن إليه ومن يرد أن يضله عن جنته ودار كرامته في الآخرة لكفره به وعصيانه له في الدنيا يجعل صدره ضيّقاً حرجاً ، يشكّ في كفره ، ويضطرب من اعتقاده قلبه حتى يصير كأنّما يصّعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون » ، وقد عرفت فيما مضى المراد من شرح الصدر وضيقه.
والنتيجة الّتي ننتهي إليها بعد هذه الجولة في كلمات أهل البيت عليهم‌السلام ، في هذه المسألة الحسّاسة : إنّ الإنسان يقع وسطاً بين ( الجبر ) و ( التفويض ) وهو ما أسماه أهل البيت عليهم‌السلام ب‍ ( الأمر بين الأمرين ) وليس الأمر بين الأمرين تلفيقاً بين الجبر والتفويض بمعنى أن في سلوك الإنسان شيء من الجبر وشيء من التفويض. بل بمعنى نفي الجبر والتفويض و ( الاستقلال ) في سلوك الإنسان.
فهو من جانب : حرٌّ في الاختيار يختار بكامل حرّيته ، ومنحه الله تعالى كلّ المواهب التي تتطلبه هذه الحرّية من العقل والتمييز والرشد.
ومن جانب آخر : يرتبط ويتعامل في اختياره وفعله مع نظام القضاء والقدر الخاضع لقيمومة الله تعالى وهيمنته ، ويقع هو واختياره وفعله وسط هذه القيمومة ، والهيمنة والرعاية الإلهية.
روى الصدوق عن حريز بن عبد الله ، عن الصادق عليه‌السلام قال : « إنّ الناس في القدر على ثلاثة أوجه : رجل يزعم أنّ الله عزّ وجلّ أجبر الناس على المعاصي ، فهذا قد ظلم الله في حكمه ، فهو كافر.
ورجل يزعم أنّ الأمر مفوّض إليهم ، فهذا قد أوهن الله عزّ وجلّ في سلطانه ، فهو كافر.
ورجل يزعم أنّ الله كلّف العباد ما يطيقون ولم يكلّفهم ما لا يطيقون ، وإذا أحسن حمد الله واذا أساء استغفر الله ، فهذا مسلم بالغ ».
وروى الصدوق عن سليمان بن جعفر الجعفري ، عن الرضا عليه‌السلام قال : ذكر عنده الجبر والتفويض ، فقال عليه‌السلام : « ألا أعطيكم في هذا أصلاً لا تختلفون فيه ، ولا تخاصمون عليه أحداً إلاّ كسرتموه » ؟ قلنا : إن رأيت ذلك ، قال عليه‌السلام : « إنّ الله عزّ وجلّ لم يطع بإكراه ، ولم يعصَ بغلبة ، ولم يهمل العباد في ملكه، هو المالك لما ملّكهم ، والقادر على ما أقدرهم عليه، فإن ائتمر العباد بطاعته لم يكن الله عنها صاداً ، ولا منها مانعاً ، وإن ائتمروا بمعصيته فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل. وإن لم يحل وفعلوه فليس هو الّذي أدخلهم فيه ـ ثمّ قال عليه‌السلام ـ من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه » (12).
وروى الصدوق عن المفضل بن عمر ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين الأمرين » ، قال : فقلت وما أمر بين الأمرين ؟
قال عليه‌السلام : « مثل ذلك : مثل رجل رأيته على معصية فنهيته فلم ينته فتركته ، ففعل تلك المعصية ، فليس حيث لم يقبل منك فتركته كنت أنت الّذي أمرته بالمعصية » (13).
وقد يتصوّر الإنسان أن مساحة الأمر بين الأمرين مساحة محدودة في حياة الإنسان. وأمّا مساحة الجبر والتفويض فهي أوسع مساحة في حياته ، فإنّ الإنسان يتعامل فعلاً مع نظام القضاء والقدر بشكل مباشر من خلال اختياره ولا يشعر بالرعاية الإلهية وهيمنة الله تعالى على حركته وحياته إلاّ نادراً. وهو لاشكّ إحساس خاطئ ينشأ من احتجابه عن الله تعالى وألطافه الخفية ، وإلاّ فإنّ مساحة الأمر بين الأمرين هي كلّ مساحة حياة الإنسان ، وهو في كلّ شؤونه وأعماله وحركاته يتعامل مع الله تعالى ، ويأخذ من الله من حيث لا يشعر ، ولله تعالى في حياة الإنسان إمدادات غيبيّة وألطاف خفية لا يشعر بها الإنسان ، إلاّ من آتاه الله تعالى من عنده بصيرة وفقهاً ومعرفة.
روى الكليني رحمه‌الله في ( الكافي ) والصدوق في ( التوحيد ) عن يونس بن عبد الرحمن ، عن غير واحد ، عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام ـ قالا : « إنّ الله أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثمّ يعذّبهم عليها ، والله أعزّ من أن يريد أمراً فلا يكون ». فسئُلا هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة ؟ قالا عليهما‌السلام : « نعم ، أوسع مما بين السماء والأرض » (14).
وفي رواية اُخرى للكليني رحمه‌الله في ( الكافي ) عن يونس ، عن عدّة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال له رجل : جعلت فداك ، أجبر الله العباد على المعاصي ؟ قال عليه‌السلام : « الله أعدل من أن يجبرهم على المعاصي ثمّ يعذّبهم عليها ». فقال له : جُعلت فداك ، ففوّض الله إلى العباد ؟ قال عليه‌السلام : « لو فوّض إليهم لم يحصرهم بالأمر والنهي ». فقال له : جعلت فداك ، فبينهما منزلة ؟ قال : فقال عليه‌السلام : « نعم أوسع ما بين السماء والأرض » (15).
وهذه الأحاديث والنصوص تبيّن لنا حقيقة هامّة يجب أن نأخذها بنظر الاعتبار ، ونلتزم بها ، وهي أن نلمس يد الله تعالى ورعايته لنا في حياتنا ، ونستشعر معيّة الله تعالى لنا في كلّ حركة وسكون. والإنسان عندما يتجرّد عن الحوار العقائدي القائم في التأريخ العقلي الإسلامي ويعود إلى نفسه يؤمن بشكل واضح ـ ومن غير ترديد ـ إنّ الله تعالى لم يتخلّ عنه في لحظة من لحظات حياته ، ولم ينفرد الإنسان ولم يستقل عن رعاية الله ويد الله في شيء من حياته.
ولو أنّ الله تعالى تخلّى عن الكون لتلاشى الكون. ولو أنّ الله تعالى تخلّى عن الإنسان وأوكله إلى نفسه ، وإلى نظام القضاء والقدر لبلغ الإنسان منذ أمد بعيد طريقاً مسدوداً.
ولكن رعاية الله تعالى تواكب مسيرة الإنسان وحركته الفردية والتأريخية ، وترعاه عند كلّ منعطف ، وفي كلّ مشكلة ، وتسدّده ، وتهديه ، وتعينه ، وتلطف به ، وتستر عليه ، وتحفظه.
إنّ قراءة عامّة لكتاب الله تعالى تعمّق فينا هذا الاحساس بشكل واضح ، وتشعرنا أنّ القرآن يريد أن يربط مسيرتنا وحياتنا بالمعية والرعاية الإلهية ، ويربّينا على الاحساس بالستر الدائم المتّصل لله علينا ، وبحفظ الله لنا وإمداده المتّصل ، وليس في القرآن كلّه رغم حرص القرآن على تثبيت مبدأ الاختيار إشارة أو إيهام بأنّ الإنسان يستقل عن الله تعالى في الاختيار والقرار والفعل ، أو أنّ الله تعالى أوكل الإنسان إلى نفسه في الاختيار والفعل والقرار. وويل للانسان إذا أوكله الله تعالى إلى نفسه.
ومن غير الممكن في نظام الوجود وقانون العلّية والإمكان من الناحية العقلية أن يستقلّ الانسان عن الله تعالى في القرار ، والفعل والاختيار ،ولكن لو فرضنا إمكان ذلك من الناحية العقلية واستقلّ الإنسان عن الله تعالى ، وأوكل الله أمر الإنسان إليه وإلى نظام القضاء والقدر لسقط الإنسان منذ أمد بعيد ووصل إلى طريق مسدود لاخلاص له منه في بعض هذه المآزق والأزمات.
وبعد ، فبالاستناد إلى ما تقدم نستطيع أن نجد منها ـ إن شاء الله ـ العناصر الأساسية لصياغة نظرية أهل البيت عليهم‌السلام المقتبسة من القرآن في القضاء والقدر والسلوك الفردي والتأريخي للانسان.
اللّهمّ إنّنا آمنّا بك وبرحمتك وسترك وإمدادك ورعايتك لعبادك ، وطالما لمسنا هذه الرعاية والستر والحفظ والتوفيق منك ـ عزّ شأنك ـ لنا في حياتنا فاكتبنا مع المؤمنين ، واكتبنا مع الشاهدين.
المصادر :
1- الانتصار ، للخياط : ١٧٩ ـ نقله عن منية الامل : ٣٠ ـ ٣٢.
2- الإنسان والقدر ، الشيخ المطهري : ٣٨.
3- اُصول الكافي ١ : ١١٧ / ٣ . للصدوق : ٣٤٣ / ١٢ ، ط ١٣٩٨ ه‍.
4- أُصول الكافي ١ : ١١٧ / ٤ باب المشيئة والارادة ـ كتاب التوحيد.
5- التوحيد ، للصدوق : ٣٦٩ / ٨.
6- التوحيد ، للصدوق : ٣٧١ / ١١.
7- المختار في الجبر والاختيار ، للسيد محمد علي الصادقي : ١٢٣.
8- أُصول الكافي ١ : ١٢١ / ٩ .
9- أُصول الكافي ١ : ١٢٠ / ٢ .
10- الكافي ١ : ١٥٧ / ٣ باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين ـ كتاب التوحيد.
11- التوحيد ، للصدوق : ٣٣٧ / ٣.
12- التوحيد ، للصدوق : ٣٦١ / ٧.
13- التوحيد ، للصدوق : ٣٦١ / ٧. وانظر اُصول الكافي ١ : ١٢٢ / ١٣ .
14- الكافي ١ : ١٥٩ / ٩ باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين ـ كتاب التوحيد.
15- الكافي ١ : ١٥٩ / ١١ باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين ـ كتاب التوحيد.

 



ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.