كان هذا بعض الشيء عن الإسراء والمعراج وتكذيب قريش بهما ، وارتداد بعض المسلمين ، وقد سعت قريش وعن طريق حكّام بني أميّة وبعض علماء البلاط في العصور المتأخّرة إلى التشكيك في الإسراء والمعراج والتقليل من عظمة هذا الأمر الإلهيّ ومكانة الرسول بطرح تشكيكات ذات طابع جدلي ، كالقول باستحالة صعود الأجسام إلى العالم العلوي بهذه السرعة الخارقة للعادة بحيث يذهب في آخر الليل ويرجع إلى مكّة عند الفجر ، وعدم تطابق ما قيل في مقدمات هذا السفر الإلهي من شقّ الصدر وغسله بماء زمزم وركوبه صلى الله عليه وآله البراق و... مع العقل.
كلّ تلك التساؤلات بل قل التشكيكات جاءت مساوقة للتشكيك في مدلول قوله تعالى في الآية 60 من سورة الإسراء ؛ إذ قال سبحانه ( وما جعلنا الرؤيا الّتي أريناكَ إِلاَّ فتنةً للناسِ والشجرةَ الملعونة ) حيث قالوا بأنّ الإسراء والمعراج كان بروحه صلى الله عليه وآله ـ لا بجسمه وروحه ـ كي يقللوا من واقع الإسراء ويعضّدوا القول بأنّه كان في المنام لا في اليقظة و...
فقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير عن عائشة رضى الله تعالى عنها ، قالت : ما فقدتُ جسدَ رسولِ الله ، ولكنّ الله أسرى بروحه(1).
وأخرج ابن إسحاق وابن جرير عن معاوية بن أبي سفيان أنّه كان إذا سئل عن مسرى رسول الله قال : كانت رؤيا صادقة(2).
قال القرطبي في تفسيره : وقد احتُجَّ لعائشة بقوله تعالى : ( وما جعَلنا الرؤيا التي أريناك إلا فِتنةً للناس ) فسمّاها رؤيا.
وهذا يردّه قوله تعالى : ( سبحان الذي أَسرى بعبدِه ليلاً ) ، ولا يقال في النوم : « أسرى » ، وأيضاً فقد يقال لرؤية العين « رؤيا »... وفي نصوص الأخبار الثابتة دلالة واضحة على أنّ الإسراء كان بالبدن...(3)
وقال ابن عطيّة الأندلسي : ... والصحيح ما ذهب إليه الجمهور ، ولو كانت منامة ما أمكن قريشاً التشنيع ، ولا فضّل أبو بكر بالتصديق ، ولا قالت له أمّ هاني : لا تُحدِّث الناس بهذا فيكذبوك ، إلى غير هذا من الدلائل.
واحتجّ لقول عائشة بقوله تعالى : ( وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فِتنةً للناس ) ويحتمل القول الآخر ؛ لأنّه يقال لرؤية العين « رؤيا ». واحتجّ أيضاً بأنّ في بعض الأحاديث « فاستيقظت وأنا في المسجد الحرام » ، وهذا محتمل أن يريد من الإسراء النوم.
واعترض قول عائشة بأنّها كانت صغيرة لم تشاهد ولا حدّثت عن النبي عليه السلام ، وأمّا معاوية فكان كافراً في ذلك الوقت غير مشاهد للحال ، صغيراً ، ولم يحدّث عن النبيّ...(4)
وقال ابن كثير : ... فلو كان مناماً لم يكن فيه كبير شيء ، ولم يكن مستعظماً ، ولما بادرت قريش إلى تكذيبه ، ولما ارتدّت جماعة ممّن كان قد أسلم ، وأيضاً فإن « العبد » عبارة عن مجموع الروح والجسد وقد قال : ( اسرى بعبدِه ليلاً )...(5)
ويجري مجرى قوله تعالى : ( سبحان الذي أسرى بعبدِه ) ما في سورة النجم ، فقوله تعالى : ( ما زاغ البصَرُ وما طغى * لقد رأى من آياتِ ربِّهِ الكُبرى )(6)لا يتّفق مع الرؤيا ، بل الآية في سياق الامتنان وبيان آيات ربّه الكبرى ، أمّا الرؤيا فهي نحو من التخيّل يتفق للصالح والطالح ولا منزلة للرسول في القول بهذا.
هذا ويمكن إجابة كلّ التساؤلات والتشكيكات بأنّ الأمر كان معجزةً ، والمعجزةُ لا تدركها العقول البسيطة ، فهي من قبيل إحياء الأموات ، وتبديل العصى ثعباناً ، وكولادة عيسى من غير أَب ، وخروج ناقة صالح من الجبل الاصم ، وقوله تعالى : ( فخذ أربعة مِن الطَّيرِ فصُرْهُنَّ إليكَ ثمّ اجعَلْ على كُلِّ جَبَلٍ منهُنَّ جُزءاً ثمّ ادعُهُنَّ يأتِينَكَ سَعْياً واعلَمْ أنّ اللهَ عزيز حكيم )(7) ، وقوله تعالى :
( قالَ الذي عِندَهُ عِلمٌ من الكتابِ أنا آتِيكَ به قبلَ أن يَرتَدَّ إلَيكَ طَرفُكَ )(8) صريحٌ بإحضار ( من عنده علم من الكتاب ) لعرش بلقيس من اقصى اليمن إلى اقصى الشام في مقدار لمح البصر ، وهو يشبه ما قاله سبحانه عن الرياح وأنّها كانت تسير بسليمان ( غدوها شهرٌ ورَواحُها شَهر )(9)في لحظة واحدة ، إلى غيرها من عشرات بل مئات الموارد.
إذاً رسالة الإسلام هي رسالة الغيب والإيمان بما خلق الله من الجنِ والملك والروح و... والمسلم هو الذي يؤمن بالغيب لقوله تعالى : ( الذين يومنون بالغيب )(10).
فلو كان معراج النبيّ محمّد في ليلة واحدة ممتنعاً لكان القول بنزول آدم من الجنّة وإصعاد عيسى إلى السماء ممتنعاً ، بل لسرى الشك في المعجزات لأنّها في أصلها خرقٌ للقوانين المادية.
وعليه فهذه الرؤية طرحت لبذر الشكّ في قلوب المؤمنين من قبل ( الذين في قُلوبِهم مَرَض )(11)أو ( الذين لا يؤمنون )(12)في حين أنّ رسالة السماء معناها الغيب والماورائيات وهي تتفق مع الإسراء وما جاء فيه ، وهذا ما لا تدركه عقول هؤلاء من الامتحان الإلهيّ الذي سُنّ ليمحّص الله به المؤمنين ويميزهم عن الكافرين والمنافقين.
هذا وقد أجاب العلاّمة الطباطبائي في ( الميزان ) عمّا قاله بعض المفسّرين من أنّ الشجرة الملعونة في القرآن تعني شجرة الزقّوم التي قال عنها الباري جلّ شأنه : ( أذلكَ خَيرٌ نُزُلاً أم شَجَرةُ الزقُّوم * إنّا جَعَلناها فِتنةً للظالمين )(13) ، بأنّ هذا الاحتمال بعيد جدّاً لأنّه جلّ شأنه لم يلعنها في موضع من القرآن الكريم ، ولو كان مجردّ كونها شجرةً تخرج من أصل الجحيم سبباً موجباً للعنها في القرآن الكريم لكانت النار وما أعدّ الله فيها من العذاب ملعونة وهذا ما لم يَقُله أحد ، ولكان ملائكةُ العذاب ـ الذين قال عنهم جل شأنه : ( وما جعلنا أصحابَ النار إلا ملائكةً وما جَعَلنا عِدَّتَهُم إلاّ فِتنةً للذينَ كفروا )(14) ـ ملعونين ، في حين نراه سبحانه قد أثنى عليهم بقوله : ( عليها ملائكة غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعصُونَ اللهَ ما أمرَهُم ويَفعلونَ ما يُؤمَرون )(15).
ولو صحّ هذا الاحتمال لكانت أيدي المؤمنين ملعونة كذلك ؛ لقوله : ( قاتِلوهُم يُعَذّبْهُمُ اللهُ بأيدِيكُم )(16).
ومثله حال بقية المعاذير التي ذكرها مفسروا أهل السنة والجماعة للتخلّص من كيفية صحّة لعن الشجرة ، ومحاولتهم صرف الآية الكريمة عن لعن شجرة بني أميّة(17)َ.
وإنكّ لو تدبّرتَ في تفسير قوله تعالى : ( وما جعلنا الرؤيا التي أرَيناكَ إلاّ فتنةً للناسِ والشجرةَ الملعونةَ في القرآن ) لعرفت أنّ المقصود منها بنو أميّةِ ؛ لما فعلوه
من قبيح الأعمال ، ولا يصحّ ما قالوه بأنّ المعنيّ من الرؤيا هي الإسراء وغيرها من الأفكار الفاسدة.
وبهذا فقد عرفت أنَّ جهلهم بالاُمور الغيبية ومكانة الرسول لم يكن عن قصور أو تقصير بَدْويَّينِ ، بل إنَّ جذوره ترجع إلى خلفيات هي أعمق ممّا قالوه بكثير.
مع الرسول ورؤياه
قال الالوسي في تفسير آية الرؤيا : ...وأخرج ابن جرير ، عن سهل بن سعد ، قال : « رأى رسول الله صلى الله عليه وآله بني أميّة يَنْزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك ، فما استجمع ضاحكاً حتّى مات عليه الصلاة والسلام ، وأنزل الله تعالى هذه الآية : ( وما جعلنا الرؤيا ) وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، وابن عساكر عن سعيد بن المسيب ، قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وآله بني أميّة على المنابر فساءه ذلك ، فأوحى الله إليه : إنّما هي دنيا أُعطُوها ، فقرّت عينه ، وذلك قوله تعالى : ( وما جعلنا )... الخ.وأخرج ابن أبي حاتم ، عن يعلى بن مرّة ، قال : « قال رسول الله صلى الله عليه وآله : رأيت بني أميّة على منابر الأرض وسيملكونكم فتجدونهم أرباب سوء ، واهتمّ عليه الصلاة والسلام لذلك ، فأنزل الله سبحانه : ( وما جعلنا )... الآية »
وأخرج عن ابن عمر : أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله قال : « رأيتُ ولد الحَكَم بن أبي العاص على المنابر كأنّهم القردة ، وأنزل الله تعالى في ذلك ( وما جعلنا )... الخ ، والشجرة الملعونة الحكم وولده » وفي عبارة بعض المفسرين : هي بنو أميّة.
وأخرج ابن مردويه ، عن عائشة رضي الله تعالى عنها : أنّها قالت لمروان بن الحكم : « سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله يقول لأبيك وجدّك : إنّكم الشجرة الملعونة في القرآن ».
فعلى هذا معنى إحاطته تعالى بالناس إحاطة أقداره بهم ، والكلام على ما قيل على حذف مضاف ، أي « وما جعلنا تعبير الرؤيا » أو الرؤيا فيه مجاز عن تعبيرها ، ومعنى جعل ذلك فتنة للناس جعله بلاء لهم ومختبراً ، وبذلك فسره ابن المسيب.
وكان هذا بالنسبة إلى خلفائهم الذين فعلوا ما فعلوا ، وعدلوا عن سنن الحقّ وما عدلوا ، وما بعده بالنسبة إلى ما عدا خلفاءهم منهم ، ممن كان عندهم عاملا وللخبائث عاملاً ، أو ممن كان من أعوانهم كيفما كان.
ويحتمل أن يكون المراد « ما جعلنا خلافتهم وما جعلناهم أنفسهم إلاّ فتنة » ، وفيه من المبالغة في ذمهم ما فيه. وجعل ضمير ( نخوّفهم ) على هذا لما كان له أوّلاً ، أو للشجرة باعتبار أن المراد بها بنو أميّة ولعنهم لما صدر منهم من استباحة الدماء المعصومة ، والفروج المحصنة ، وأخذ الأموال من غير حلها ومنع الحقوق عن أهلها ، وتبديل الأحكام ، والحكم بغير ما أنزل الله تعالى على نبيه عليه الصلاة والسلام ، إلى غير ذلك من القبائح العظام والمخازي الجسام التي لا تكاد تُنسى ما دامت الليالي والأيام.
وجاء لعنهم في القرآن ، إما على الخصوص كما زعمته الشيعة ، أو على العموم كما نقول ، فقد قال سبحانه وتعالى : ( إن الذين يؤذونَ اللهَ وَرسولَهُ لَعَنهُم الله في الدنيا والآخرة ) وقال عزّوجلّ : ( فهل عسيتُم إن تَوَلَّيتُم أن تُفسِدوا في الأرضِ وتُقَطِّعوا أرحامَكُم أولئكَ الذينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فأصَمَّهُم وأعمى أبصارَهُم ) إلى آيات أخر ، ودخولهم في عموم ذلك يكاد يكون دخولا أوّليّاً(18) ، انتهى موضع الحاجة من كلام الآلوسي.
وقال القرطبي في تفسيره : « فنزلت الآية مخبرة أنّ ذلك من تملّكهم وصعودهم [ أي نَزْوِهِم على منبره نزو القردة ] يجعلها الله فتنة للناس وامتحاناً ، وقرأ الحسن بن عليّ في خطبته في شأن بيعته لمعاوية : ( وإن أدري لعلّه فتنة لكم ومتاع إلى حين ). قال ابن عطية : وفي هذا التأويل نظر ، ولا يدخل في هذه الرؤيا ، عثمان ، ولا عمر بن عبدالعزيز ، ولا معاوية »(19).
وعليه فلا يصحّ ما قالوه من تكلّفات في كلمة الرؤيا والشجرة الملعونة في الآية ، مع وضوح أنّ الملعونين في القرآن هم جند إبليس واليهود ، والمشركون ، والمنافقون ، والذين ماتوا وهم كفار ، والذين يكتمون ما أنزل الله ، والذين يؤذون الله ورسوله وغيرها لا شجرة الزقوم ولا غيرها من التأويلات التي صيغت بأخرة لإبعاد الآية الكريمة عن معناها الحقيقي وللتاكيد انظر : كتاب المأمون العبّاسي في تاريخ الطبري حتى تقف على الفهم السائد في القرون الأولى بالنسبة للشجرة الملعونة وأنّها تعني بني أميّه وأن أهل البيت هم العترة ـ والكتاب طويل نأخذ من قوله ـ : ... فجعلهم الله أهل بيت الرحمة وأهل بيت الدين ، أذهب الله عنهم الرجس وطهرّهم تطهيرا ، ومعدن الحكمة ، وورثة النبوة ، وموضع الخلافة ، وأوجب لهم الفضيلة ، وألزم العباد لهم الطاعة ، وكان ممن عانده ونابذه وكذّبه وحاربه من عشيرته العدد الأكثر ، والسواد الأعظم ، يتلقّونه بالتكذيب والتثريب ، ويقصدونه بالأذيّة والتخويف ، ويبادونه بالعداوة ، وينصبون له المحاربة ، ويصدّون عنه من قصده ، وينالون بالتعذيب مَن اتّبعه ، وأشدّهم في ذلك عداوة وأعظمهم له مخالفة ، وأوّلهم في كلّ حرب ومناصبة ، لا يرفع على الإسلام راية إلاّ كان صاحبها وقائدها ورئيسها في كلّ مواطن الحرب من بدر ، وأحد ، والخندق ، والفتح : أبو سفيان بن حرب ، وأشياعه من بني أميّة الملعونين في كتاب الله ، ثمّ الملعونين على لسان رسول الله في عدة مواطن وعدّة مواضع ؛ لماضي علم الله فيهم وفي أمرهم ، ونفاقهم ، وكفر أحلامهم ، فحارب مجاهداً ، ودافع مكابداً ، وأقام منابذاً حتّى قهره السيف ، وعلا أمر الله وهم كارهون ، فتقوَّل بالإسلام غير منطوٍ عليه ، وأسرَّ الكفر غير مقلعٍ عنه ، فعرفه بذلك رسول الله والمسلمون وميّز له المؤلفة قلوبهم فقبله ، وولده على علم منه ، ممّا لعنهم الله به على لسان نبيه وأنزل به كتاباً قوله : ( والشجرةَ الملعونَة في القرانِ ونُخوّفهم فما يزيدهم إلاّ طغياناً كبيرا ) ولا اختلاف بين أحد أنّه أراد بها بني أميّة ، ومنه قول الرسول عليه السلام وقد رآه مقبلاً على حمار ، ومعاوية يقود به ، ويزيد ابنه يسوق به : لعن الله القائد ، والراكب ، والسائق... (20).
المصادر :
1- الدرّ المنثور 4 : 157. وفي تفسير الطبري 15 : 13 .
2- الدرّ المنثور 4 : 157. وفي تفسير الطبري 15 : 13 .
3- تفسير القرطبي 10 : 209 سورة الاسراء الآية 1.
4- المحرر الوجيز 3 : 435 ، وانظر : تفسير الثعالبي 2 : 248.
5- تفسير ابن كثير 3 : 23 سورة الإسراء آية 1.
6- النجم : 17 ـ 18.
7- البقرة : 260.
8- النمل : 40.
9- سبأ : 12.
10- البقرة : 3.
11- المائدة : 52 ، التوبة : 125 ، الأنفال : 49.
12- النحل : 22.
13- الصافّات : 62 ـ 63.
14- المدّثر : 31.
15- التحريم : 6.
16- التوبة : 14.
17- تفسير الميزان 13 : 141 ـ 143 .
18- تفسير روح المعاني 15 : 107 ـ 108 ، التفسير الكبير للرازي 20 : 236 ـ 237 .
19- تفسير القرطبي 10 : 283 سورة الاسراء.
20- كتاب المأمون العبّاسي في تاريخ الطبري 10 : 57 ـ 58