
الظاهر أن الإيمان تارة يطلق ويراد به الإسلام ، بالمعنى الأعم ، وإليه الإشارة بقوله تعالىٰ : (إِنَّ الَّذينَ آمَنُوا وَ الَّذينَ هادُوا وَ الصَّابِئينَ وَ النَّصارى وَ الْمَجُوسَ وَ الَّذينَ أَشْرَكُوا) ، فاُريد من الإيمان الإسلام ، بجعل الذين آمنوا ـ أي من تديّن بدين الإسلام ـ مقابلاً للفرق الاُخر.
وتارة يطلق الإيمان ويراد به المعنى الأخص من الإسلام ، واليه الإشارة بقوله تعالىٰ : (الَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإيمانُ في قُلُوبِكُم) .
فالإسلام والإيمان لهما معنى أعم يشتمل علىٰ ثلاثة أركان :
1 ـ معرفة الخالق.
2 ـ ومعرفة المبلِّغ عنه.
3 ـ المعاد.
فمن أنكر واحداً منها فليس بمسلم ولا مؤمن ، ومن أقرَّ بها كان مسلماً له ما للمسلمين وعليه ما عليهم ، يحقن دمه ويحفظ ماله وعرضه ، وتحلّ ذبيحته.
ومعنًى أخصّ يشتمل علىٰ تلك الأركان الثلاثة ، وركن الرابع؛ وهو العمل بدعائم الإسلام الخمس : الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد. ولهذا قالوا : الإيمان اعتقاد بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان (1). فالأركان الأربعة هي اُصول الإسلام بالمعنى الأخصّ.
ما يكفي في معرفة الخالق
والظاهر أنه يكفي في معرفة الخالق اعتقاد كونه موجوداً ، وواجب الوجود لذاته ، لا كوجوب وجود المعلول عند وجود علّته ، والتصديق بصفاته الثبوتيّة الراجعة إلى العلم والقدرة ، ونفي الصفاتالراجعة إلى الحاجة والحدوث. ويكفي الجزم بذلك من أيّ طريق حصل؛ إذ حصر المعرفة والجزم بطريق خاصّ موقوف على الدليل وإنْ كان عمومات الآيات والأخبار ترشد إلىٰ وجوب النظر والاستدلال ، لكن ذلك وجوب توصّلي للمعرفة. اللهم إلّا أنْ يثبت المدّعي كون النظر والاستدلال واجباً تعبّدياً ، أو شرطاً شرعيّاً ، إلّا إن الظاهر خلافه؛ إذ هما من المقدّمات العقلية.
فعند الإماميّة من الشيعة أنه يجب على العاقل بحكم عقله تحصيل المعرفة بخالقه ، والاعتقاد بتوحيده وعدم الشريك له. فهو الخالق ، وهو الرازق ، وهو المحيي ، والمميت؛ فلا مؤثر في الوجود إلّا الله. فمن اعتقد أن شيئاً ممّا ذكر لغيره فهو كافر مشرك ، خارج من خطّة الإسلام. ومن عبد شيئاً معه أو من سواه ليقرِّبه إليه ، فهو عندهم كافر. وإن العبادة لا تجوز إلّا لله وحده لا شريك له ، والطاعة لله.
وأما طاعة الأنبياء؛ فلكونهم مبلّغين عن الله ، مع اعتقاد كونهم عباداً لله. وأما الصلاة عند قبورهم فهي لله ، وكونها عند مراقدهم ككونها في المسجد؛ لشرف البقعة بهم.
النبوة
ويكفي لمعرفة النبيّ صلى الله عليه واله معرفته بالنسب المختصّ به ، والتصديق بنبوّته ، وبما جاء به مما علم مجيئه به متوتراً. ولابدّ من اعتقاد عصمته؛ إذ الغرض من الرسالة لا يتمّ إلّا به؛ لأنه لولا ذلك لم يحصل الوثوق بقوله ، [فتنتفي] فائدة البعثة؛ وهو محال.فالشيعة الإمامية يعتقدون أن محمداً صلى الله عليه واله خاتم الرسل والأنبياء ، معصوم من الخطأ ، وهو أفضل أهل زمانه ، بل أفضل البشر؛ لقبح تقديم المفضول على الفاضل عقلاً وسمعاً ، ولقوله تعالىٰ : (أَ فَمَنْ يَهْدي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي) (2).
ومنزَّهٌ عن الرذائل الخلقيّة والعيوب الخلقيّة؛ لما في ذلك من النقص.
ويعتقدون أن الكتاب اُنزل عليه للإعجاز ولبيان الأحكام ، لا نقص فيه ولا زيادة ولا تحريف؛ لقوله تعالىٰ : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُون) (3).
وما يظهر من بعض الأخبار من وجود التحريف غير واضح ، بل واضح العدم ، بل هي أخبار آحاد لا تثبت علماً ولا عملاً ، فإما أنْ تؤوَّل أو يضرب بها الجدار.
الإمامة
نعم ، الشيعة الإماميّة يعتقدون ركناً خامساً ، وهو اعتقاد الإمامة الّتي هي رئاسة عامّة في الدين والدنيا ، لشخص نائب عن النبيّ صلى الله عليه واله.فكما أن الله يختار من يشاء للنبوة ، كذلك يختار للإمامة من يشاء ، ويأمر نبيّه بالنص عليه. فالنبي صلى الله عليه واله مبلِّغ عن الله والإمام مبلغ عن النبي صلى الله عليه واله ، فيتلقّى الحكم من النبيّ صلى الله عليه واله ، والتسديد من الله بعناية ورعاية لا بوحي كالنبيّ صلى الله عليه واله؛ فهو في الكمال والفضيلة فوق البشر ودون النبيّ.
القول بعصمة الإمام عليه السلام
ويعتقدون كونه معصوماً ، وإلّا لزالت الثقة وسقط محلّه من القلوب. وانتفت الفائدة من النصب؛ لأنّها تكميل الخلق وتهذيب نفوسهم بالعلم والعمل.فلو لم يكن معصوماً جازت المعصية عليه فكان ناقصاً ، والناقص لا يكون مكمِّلاً ، ومعطي الشيء لا يكون فاقداً؛ فلابد من عصمته ، ولقوله تعالىٰ : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمين) (4).
وبالجملة ، إن هذا هو الفارق بين الإمامية وسائر فرق المسلمين ، وما عداه فهي فروق عرضية ، كالّتي تقع بين كلّ فرقة ، بل في الفرقة الواحدة بحسب الاجتهاد في الاستنباط.
القول في النصّ على الإمام عليه السلام
ثم أن الإمامية يجب عندهم أن الإمام لابدّ أنْ يكون منصوصاً عليه (5) ؛ لأن عصمته أمر باطنيٌّ لا يعلمه إلّا الله ثم رسوله ، فلا بدّ من نصّ من يعلم عصمته ، أو ظهور معجز يدلّ علىٰ صدقه. ولا خلاف في ذلك ، إنّما الخلاف في أنه هل يحصل تعيينه بغير النصّ أم لا؟ فمنعت الإمامية من ذلك :1 ـ لأنّ الإمامة خلافة عن الله ورسوله ، فلا تكون إلّا بقولهما.
2 ـ أن من شرطها العصمة ، والعصمة أمر خفيٌّ لا يظهر لأحد ، إلّا ببيان من الله ورسوله ، أو بظهور المعجز علىٰ يده.
3 ـ أن إثبات الإمامة بالبيعة والدعوىٰ يوجب الفتنة؛ لاحتمال أنْ تبايع كلّ فرقة شخصاً فيقع التنازع.
وذهب المسلمون (6) إلى أن الاُمّة إذا بايعت شخصاً مستعدّاً لها ، ومستولياً بشوكته علىٰ خطَّة الإسلام ، صار إماماً.
فالإماميّة والمسلمون متّفقون في أن الإمامة تكون بالنصّ ، وإنّما الخلاف في أنّها تكون بغيره أم لا؟
فالإمامية يعتقدون أنّها لا تكون إلّا به ، وأن الله أمر نبيّه بالنصّ علىٰ علي عليه السلام ، ونصبه علماً للناس من بعده ، مع علم النبيّ صلى الله عليه واله بأن ذلك على الناس ثقيل ، بل لعلّه ينسبونه للمحاباة والمحبّة لابن عمّه؛ إذ ليست الناس في مرتبة واحدة من اليقين في نزاهة النبي صلى الله عليه واله وعصمته. لكن لم يكن ذلك عذراً للنبيّ صلى الله عليه واله ، فأوحى الله إليه : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَه) (7).
فكان وظيفته الامتثال ، فخطب الناس في غدير خم ، فنادىٰ وجلّهم يسمع : «ألست أولىٰ بالمؤمنين من أنفسهم؟» فقالوا : اللهم نعم. فقال : «من كنت مولاه فعلي مولاه» إلىٰ آخر ما قال.
ثم أكّده في مواطن عديدة تصريحاً وإشارة ونصّاً ، والنصوص في ذلك عديدة ، أكثرها مروية في الصحيحين. وفي (مسند أحمد) ، وفي (الصواعق) ، وفي (المستدرك) ، بطرق وثيقة؛ كحديث المنزلة ، وحديث الطائر ، وحديث الثقلين. وغيرها كما قدّمناه فراجع.
وقد أورد في ذلك ابن حجر في صواعقه (8) أربعين حديثاً بطرق عديدة؛ بإخراج الترمذيّ والإمام أحمد والطبراني والحاكم وابي يعلىٰ ومسلم ، فراجع.
ولكن لما ارتحل النبيّ صلى الله عليه واله إلىٰ دار القرار ، رأىٰ جمع من الصحابة ألّا تكون الخلافة لعليّ عليه السلام ، لكراهة قريش اجتماع النبوّة والخلافة في بني هاشم ، لزعمهم أن النبوّة والخلافة بأيديهم يضعونها حيث يشاؤون.
وامتنع عليٌّ عليه السلام عن البيعة ، والكلُّ يعلم أن علياً عليه السلام ما كان يطلب الخلافة رغبة في الإمرة والملك والأثَرة ، وإنّما غرضه الأهمُّ تقوية الإسلام. ثم رأىٰ أن [في] امتناعه عن الموافقة ضرراً كبيراً على الإسلام ، والكلٌّ يعلم عزة الإسلام وكرامته عند علي ، بحيث يضحِّي بنفسه وأنفس ما لديه في سبيله. مضافاً إلى أنه رأىٰ أن من تخلّف قام بالأمر وبذل جهده في تقوية الإسلام وإعزازه ، وفي نشر كلمة التوحيد ، فبايع لحفظ الإسلام.
وشيعته مستنيرون بنوره ومسترشدون بهداه ، وهو علىٰ منصبه الإلهيّ وإنْ سلمت لغيره الرئاسة ، فإذا أعضل المشكل في الحكم أرجعه إلى أميرالمؤمنين عليه السلام. بل أكابر العلماء من الصحابة والتابعين كانوا يرجعون إليه في الوقائع ، ويأخذون بقوله ، ويرفعون اليد عن اجتهادهم. وذلك ثابت في كتب التواريخ والسير (9).
رجوع الاُمّة كافة إلى أمير المؤمنين عليه السلام وأرباب العلوم يرجعون إليه ، فأصحاب التفسير يأخذون بقول ابن عبّاس وهو أحد تلامذته ، حتّىٰ قال : (شرح لي علي عليه السلام في معنىٰ باء البسملة من أول الليل إلىٰ آخره).
والمعتزلة يرجعون إلى أبي عليّ الجبّائي ، وهو يرجع إلىٰ محمَّد ابن الحنفية ، وهو يرجع إلى أبيه علي عليه السلام.
والأشاعرة يرجعون إلى أبي الحسن الأشعريّ ، وهو تلميذ أبي علي.
فالأفضليَّة والأعلميَّة ثابتة لعليِّ عليه السلام لا تكاد تنكر. انظر إلىٰ كلامه في (نهج البلاغة) ، وما تضمّنه من البحوث الإلٰهية في التوحيد ، والعدل ، والقضاء ، والقدر ، والقواعد الخطابيّة ، وقانون الفصاحة ودستور البلاغة ، ممّا يكتفي به المعتبر ، ويقنع المتفكر. بل رجوع الخلفاء الراشدين وسائر المجتهدين من الفرق لحكمه ، ولتلامذته في الفقه مشهور ، وفي كتب التاريخ مذكور.
وقول النبي صلى الله عليه واله : «أقضاكم علي» (10) معلوم.
وقوله عليه السلام : «لو ثنيت لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم ، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم ، وبين أهل الزبور بزبورهم ، وبين أهل الفرقان بفرقانهم. والله ما من آية نزلت في ليل أو نهار أو سهل أو جبل ، إلّا وأنا أعلم فيمن نزلت» (11).
وذلك من أوضح الأدلَّة في إحاطته بجميع العلوم الإلٰهية.
شهادات العلماء لأمير المؤمنين عليه السلام
وقد قال عبد الحميد بن أبي الحديد : (ما أقول في رجل بلغت فضائله في الشهرة والكثرة مبلغاً ، يسمج التعرّض لذكرها والتصدي لتفصيلها؟) (12)وقال ابن حجر في (الصواعق) : (إن فضائله عظيمة كثيرة شهيرة ، حتّىٰ قال أحمد : ما جاء لأحد من الفضائل ما جاء لعليّ. وقال إسماعيل القاضي ، والنسائي وأبو عليِّ النيسابوريّ : لم يرد في حقِّ أحد من الصحابة بالأسانيد الحسان أكثر مما جاء في علي). انتهىٰ كلام ابن حجر (13).
وذكر في هذا الباب أربعين حديثاً من غرر فضائل عليّ عليه السلام (14).
وقال في صواعقه : (أخرج ابن سعد عن أبي هريرة قال : قال عمر ابن الخطاب : (عليّ أقضانا).
وأخرج عن سعيد بن المسيّب قال : (إن عمر بن الخطاب تعوّذ بالله من مشكلة ليس لها أبو الحسن علي عليه السلام).
وفيها بإخراج ابن عساكر وابن مسعود : قال : (أفرض أهل المدينة وأقضاها عليّ). وذُكر عند عائشة ، فقالت : (أعلم من بقي بالسنّة).
وفيها : عن ابن عيّاش بن أبي ربيعة : كان لعليّ ما شئت من ضرس قاطع في العلم. وكان له القدم في الإسلام ، والصهر برسول الله صلى الله عليه واله ، والفقه في السنَّة ، والنجدة في الحرب ، والجود في المال.
وفيها من الكتاب المذكور ، بإخراج ابن عساكر : ما اُنزل في كتاب الله ما نزل في عليّ.
وقال : نزل في علي ثلاثمائة آية .
وأخرج الطبرانيّ قال : كانت لعلي ثماني عشرة خصلة ما كانت من هذه الاُمة (15).
وفيها بإخراج أبي يعلي عن أبي هريرة : قال : (قال عمر بن الخطاب : لقد اُعطي علي ثلاث خصال لأن تكون لي واحدة منها أحبّ إليّ من حمر النعم. فسئل : ما هي؟ قال : تزويجه بفاطمة ، وسكناه المسجد لا يحلّ لي فيه ما يحلّ له ، والراية يوم خيبر) (16).
والعلّامة قد وضع كتاباً في الإمامة ، وسمّاه كتاب (الألفين). وذكر فيه ألفي دليل علىٰ إمامته. وصنّف في هذا الباب جماعة من العلماء مصنّفات كثيرة.
فثبت أنه أفضل الاُمة بعد النبيّ صلى الله عليه واله ، وتقديم غيره للحكمة المتقدّم ذكرها الّتي هي غاية مرام أمير المؤمنين عليه السلام. فالإمامية تعتقد بأن الله لا يخلي الأرض من حجّة واسطة بينه وبين خلقه؛ من نبيٍّ أو وصيٍّ نبيٍّ ، من ظاهر أو مستور. وقد نصَّ النبيُّ صلى الله عليه واله علىٰ عليٍّ عليه السلام ، وأوصىٰ عليٌّ ابنه الحسن ، وأوصى الحسن أخاه الحسين... إلى الإمام الثاني عشر.
من روىٰ أحاديث الوصيّة
أما وصية النبيّ إلىٰ عليٍّ ، فكفاك ما أخرجه كثير من خفظة الشريعة النبويّة وآثارها؛ كابن إسحاق ، وابن حرير ، والبيهقيّ في دلائله ، والطبري في تفسير سورة الشعراء.
وأرسله ابن الأثير إرسال المسلَّمات في كامله (17) عند ذكر أمرالله نبيَّه بإظهار دعوته. وقد نقله غير واحد من علماء السنة.
وهو الحديث الصادر من صاحب الشريعة الإسلامية صلى الله عليه واله ، حين أنزل الله عليه (وَ أَنْذِرْ عَشيرَتَكَ الْأَقْرَبين) ، فدعاهم إلىٰ دار عمّه ، وهم يومئذ أربعون رجلاً ، وفيهم أعمامه : أبوطالب ، والحمزة ، والعبّاس. فقال : «يا بني عبد المطلب ، إنّي والله ما أعلم شابّاً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم به ، جئتكم بخير الدنيا والآخرة. أمرني الله أنْ أدعوكم فأيّكم يؤازرني على أمري هذا؟» فقال علي : «أنا يا نبيَّ الله أكون وزيرك عليه».
فأخذ رسول الله صلى الله عليه واله برقبة علي وقال : «إن هذا أخي ووصيِّي وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا».
بهذا اللفظ أخرجه كلّ من تقدّم ذكرهم ، وغيرهم من حفظة الآثار.
وأخرج محمد بن حميد الرازيّ عن سلمة الأبرش ، عن ابن إسحاق ، عن شريك ، عن ربيعة الأياديّ ، عن ابن بريدة عن أبيه بريدة ، عن رسول الله صلى الله عليه واله قال : «لكلّ نبيٍّ وصيٌّ ووارث وإن وصييِّ ووارثي علي بن أبي طالب».
وأخرج الطبراني في (الكبير) ، بسنده إلىٰ سلمان الفارسي قال : قال رسول الله صلى الله عليه واله : «إن وصيِّي وموضع سرِّي وخير من أترك بعدي ، يُنجز عدتي ويقضي ديني ، عليُّ بن أبي طالب» (18).
وهذا الحديث من (كنز العمال) ، وفي (منتخب الكنز) ، وفي (مسند الإمام أحمد).
وهو نصٌّ في كونه الوصيَّ ، وصريح في أنه أفضل الناس بعد النبيِّ صلى الله عليه واله ، كما لا يخفىٰ علىٰ اُولى الألباب.
وأخرج أبو نعيم الحافظ في (حلية الأولياء) عن أنس قال : قال رسول الله : «يا أنس ، أوَّل من يدخل من هذا الباب إمام المتقين ، وسيد المسلمين ، ويعسوب الدين». قال أنس : فجاء علي ، فقام إليه رسول الله مستبشراً ، فاعتنقه وقال له : «أنت وصييِّ تؤدِّي عنِّي وتسمعهم صوتي ، وتبيِّن لهم ما اختلفوا فيه من بعدي».
وهذا الحديث بلفظه في (مسند الإمام أحمد)
وقد قدَّمت إليك أن أحاديث الوصيّة صحيحة السند صريحة الدلالة ، ولكثرتها لا يمكن استقصاؤها في هذا المختصر. وفيما دوَّنه الأعيان من علماء السنَّة والشيعة الكفاية.
ولعلّك تقول : إنْ تمّ أمر العهد والوصيّة بالنصوص الجليّة ، فإجماع الاُمة علىٰ بيعة الصدّيق حجّة قطعية؛ لقوله صلى الله عليه واله : «لا تجتمع اُمتي على الخطأ» .
وقوله صلى الله عليه واله : «لا تجتمع علىٰ [الضلالة] » (19).
لكنك الخبير بأن المراد من قوله صلى الله عليه واله : «لا تجتمع اُمتي على الخطأ» و «لا تجتمع علىٰ [الضلالة] » ، نفي الضلال والخطأ فيما تبادلت فيه آراء الاُمة ، واتّفق الكلّ عليه. أما اتّفاق البعض دون البعض فليس بإجماع ، وإنْ اُطلق عليه مجازاً فهو ليس بحجّة.
ومن الواضح تخلُّف أهل بيت النبوّة ، بل بني هاشم قاطبة ، وغيرهم كسلمان ، وأبي در والمقداد ، وعمار ، والزبير ، وخزيمة بن ثابت ، واُبي بن كعب ، وفروة بن عمر ، والبراء بن عازب ، وخالد بن سعيد بن العاص الاُمويّ ، وغير واحد من أمثالهم. بل الأنصار قاطبة انحازوا إلىٰ سعد ، وبنو هاشم ومن تابعهم من المهاجرين والأنصار انحازوا إلىٰ علي عليه السلام؛ فمع تخلُّف هؤلاء كيف يتم الإجماع؟
ولكنّ الزعيم الأكبر نظر المصلحة العامّة الإسلامية فاحتفظ بالاُمّة ، واحتاط على الملّة؛ لأن المسلمين أصبحوا بفقد النبيِّ صلى الله عليه واله كالغنم بدون راع ، تتحطَّفها الذئاب. ومسيلمة الكذاب ، وطليحة بن خويلد الأفّاك ، وسجاح بنت الحرث الدجّالة ، وأتباعهم قائمون في هدم الإسلام وإهلاك المسلمين ، والأكاسرة والرومان في نصرتهم. والجزر العربية انتفضت والعرب انقلبت ، والمنافقون من أهل المدينة مردوا على النفاق ، وقد ظهرت سطوتهم ، وقويت شوكتهم ، واغتنموا الفرصة بفقد النبيّ صلى الله عليه واله قبل أنْ يعود الإسلام بوجه الانتظام.
لماذا بايع أمير المؤمنين عليه السلام أبابكر؟
فرأىٰ أمير المؤمنين عليه السلام أن من ألزم الاُمور ، التضحية بحقّه في بقاء حياة الإسلام ، فسلم الرئاسة العامة للصدِّيق ، فانقطع النزاع وارتفع الخلاف إلّا من سيَّد الأنصار سعد بن عبادة ، فإنّه لم يسالم الخليفتين ولم يجتمع معهما جمعة ولا جماعة. وكان لا يرىٰ أثراً من [أوامرهما ونواهيهما] ، إلى أنْ قتل بحوران في زمان الخليفة الثاني.أما علي عليه السلام فقد سلَّم الرئاسة ، واتّفق مع أبي بكر في حفظ بيضة الإسلام ، وهو علىٰ منصبه الإلهيّ؛ لأن من عقائد الإمامية أنْ لا ملازمة شرعية ولا عقلية بين وظيفة القائم بالسلطة الإسلاميّة ، وبين وظيفة صاحبها الشرعي. فإنْ أمكن أنْ تكون السلطة والدولة بيد صاحبها الشرعي تعيَّن ، وإنْ تعذَّرت كان غيره على المسلمين ، ووجب على الاُمًّة معاضدته ، ومؤازرته في حفظ الإسلام ومنعته وعزِّه وحماية ثغوره. ولا يجوز مخالفته ولا مقاومته ، ويلزم معاملته معاملة الخلفاء ، فله الخراج والمقاسمة وزكاة الأنعام ، ولك أخذ ذلك بالبيع والشراء بعموم أسباب النقل والانتقال. هذا من عقائد الشيعة الإمامية.
فإنْ قلت : الصحابة منزَّهون عن مخالفة النبيِّ صلى الله عليه واله في أوامره ونواهيه ، فكيف يسمعون النص من النبيِّ على الإمام ثم يعدلون عنه؟ وما وجه حملهم على الصحة؟
أقول : إن من تتبِّع سيرة الصحابة يجد تعبُّدهم بالنصِّ في الأحكام الشرعيَّة ، والاُمور الاُخرويَّة؛ كوجوب الحجِّ والزكاة وصيام شهر رمضان ، واستقبال القبلة في الصلاة ، والنصِّ علىٰ عدد الفرائض وكيفيّاتها ، وأحكام الحجّ وأعماله. بخلاف ما إذا كان النصُّ متعلِّقاً باُمور السياسة ، كالإمارات ، ودستور الملك ، وشؤون المملكة والولايات ، فإنّهم لا يرون التعبُّد لازماً ، بل جعلوا لأفكارهم واجتهادهم مجالاً ، ولعلَّهم أحرزوا رضا النبيِّ صلى الله عليه واله بذلك.
أضف إلىٰ ذلك أنه من المعلوم لديهم أن العرب لاتخضع لعليٍّ ، ولا تقبل النصَّ عليه؛ لأنه سفك دماءهم في إظهار كلمة التوحيد ، ونصر الحقِّ حتّىٰ ظهر. فهم لا يقبلون النصَّ عليه إلّا بالقوّة ، ولا يطيعونه إلّا عنوة ، بل قريش خاصَّة والعرب عامَّة يكرهون عليّاً؛ لما فيه من الشدّة على أعداء الله ومن يتعدّىٰ حدود الله ، ويخشون عدله في الرعيَّة ، ومساواته بين الناس في كلّ واقعة وقضيَّة. بل يحسدونه علىٰ ما آتاه الله ورسوله من المراتب العالية ، فدبَّت عقارب الحسد في قلوبهم ، فاتّفق الحاسدون والناكثون والقاسطون والمارقون ، على الإعراض عما فيه من النصَّ.
أما السلف الصالح فلم يمكنهم حمل من ذكرنا على التعبُّد بالنصِّ؛ خشية من سوء عواقب الاختلاف ، مع وجود الشوكة في المنافقين والضعف في المسلمين ، والخلف فيما بينهم ، والحرص علىٰ جعل الخلافة في قبائلهم؛ لكراهة اجتماعها [مع النبوَّة] في بني هاشم. فتعاهدوا علىٰ نكث العهد ونقض العقد ، والإعراض عن النصّ ، فجعلوها بالانتخاب تمهيداً للوصول إليها ولو في الآجل. ولو قدَّموا علياً لم تخرج الخلافة عن العترة.
وأنت تعلم أنّهم لم يخضعوا للنبوَّة إلّا بعد أنْ كان ماكان ، حتّىٰ لم يبق فيهم قوة ، فكيف يرضون باجتماع الخلافة والنبوَّة في بني هاشم؟ وكيف يتسنّىٰ للخلف الصالح حمل الناس على التعبُّد بالنصوص والأمر كما بيَّنا ، والقلوبُ علىٰ ما وصفنا ، والمنافقون وأهل الردّة علىٰ ما ذكرنا ، والأكاسرة والرومان وسائر فرق الكفر كما قدَّمنا ، والأنصار والمهاجرون كلّ يقول : منا أمير ومنكم أمير؟ ولهذا كان الزعيم الأكبر بين خطرين ، لكنَّه جمع بما فعل بين حفظ الدين ، ومنصبه الإلهي.
المصادر :
1- إشارة إلىٰ قول أمير المؤمنين عليه السلام : «الإيمان معرفة بالقلب ، وإقرار باللسان ، وعمل بالأركان». راجع نهج البلاغة : 700 ، الحكمة : 227.
2- يونس : 35.
3- الحجر : 9.
4- البقرة : 124.
5- تجريد الاعتقاد : 223 ، مناهج اليقين : 300.
6- شرح المقاصد 233 : 5 ، الأحكام السلطانيَّة (القاضي الفرّاء) 20 : 1.
7- المائدة : 67.
8- الصواعق المحرقة : 172 ـ 190.
9- تاريخ الخلفاء : 160 ، تاريخ الإسلام (61 ـ 80) : 638 /(2) المناقب (الخوارزمي) : 80 ـ 81 ، صفة الصفوة 141 : 1 ، شرح نهج البلاغة (ابن أبي الحديد) 18 : 1 ، وانظر : مسند أحمد 154 : 1 ـ 155 ، صحيح البخاري 2499 : 6.
10- شرح نهج البلاغة (ابن أبي الحديد) 18 : 1. المستدرك على الصحيحين 616 : 3/ 6281 ، وفيه : «وإن أقضاها عليّ بن أبي طالب» والضمير الهاء في «أقضاها» يعود على الأمّة ، كنز العمال 643 : 11/ 33126 ، وفيه : «وأقضاهم علي» ، إحقاق الحق 321 : 4 ـ 323.
11- الإرشاد (ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد) 11/ 35 : 1 ، البحار 391 : 35/ 14 ، باختلاف فيهما.
12- شرح نهج البلاغة 16 : 1 وفيه : (فأما فضائله عليه السلام فإنها قد بلغت من العظم والجلالة ، والانتشار والأشتهار مبلغاً يسمج معه التعرُّض لذكرها والتصدّي لتفصيلها).
13- الصواعق المحرقة : 120 ـ 121.
14- الصواعق المحرقة : 120 ـ 127.
15- تاريخ الخلفاء (السيوطيّ) : 161 ، وفي المعجم الأوسط 198 : 9/ 8427 : (كانت لعليِّ ثماني عشرة منقبة ، لو لم يكن له إلّا واحدة منها لنجا بها ، ولقد كانت له ثلاث عشرة منقبة ما كانت لأحد من هذه الأمَّة).
16- الصواعق المحرقة : 126 ـ 127.
17- الكامل في التاريخ 62 : 2 ـ 63.
18- المعجم الكبير 221 : 6/ 6063.
19- الإحكام في اُصول الأحكام (الآمدي) 186 : 2 ، وفي سنن ابن ماجة 1303 : 2/ 3950 : «إن اُمَّتي...».