( للفقراءِ الّذين أحصروا فِي سبيلِ اللهِ لا يستطيعونَ ضرباً في الأرضِ يحسبهمُ الجاهلُ أغنياءَ من التعفُّفِ تعرفهُم بسيماهُم لا يسألونَ الناسَ إلحافاً ومَا تنفقُوا من خيرٍ فإنَّ اللهَ بِهِ عليم ) (١).
مع الآية في مقاطعها :( للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله ).
الحصر : هنا بمعنى المنع ، ويقول المفسرون : أن الآية الكريمة تحدثت عن مجموعة من الفقراء كانوا في المدينة ، وهم من أهل الصفة ، وأهل الصفة فقراء يتواجدون حول المسجد النبوي ، أو أمامه في رحبته خارج المسجد حسبوا أنفسهم عن العمل للمعاش.
وقد اختلفوا في سبب هذا الحبس.
فقيل : أنهم فعلوا ذلك لأنهم هيأوا أنفسهم للجهاد خوفاً من الكفار.
وقيل : إن بعضهم منعه المرض من الكسب ، والتجارة.
وقيل : إنهم انصرفوا للعبادة.
وقيل : غير هذا ، وذاك من الأسباب.
إلا أن الذي لا خلاف فيه هو أن هؤلاء لم يستطيعوا العمل ، والكسب ، وهو المقصود بقوله تعالى : ( لا يستطيعونَ ضرباً في الأرضِ ).
هؤلاء الفقراء لشدة تحملهم ، وظهورهم بالمظهر اللائق الذي يحفظ لهم كرامتهم ، وعزتهم ، وعدم مد يد الذل إلى الغير هو الذي جعلهم أغنياء في نظر الناس ممن يجهل حالهم ، وإنما عرفوا مما بدأ عليهم ، وظهر من آثار الجوع ، أو رداءة الملبس وإلا فانهم يحملون بين جوانبهم قلوباً ملؤها الإيمان بالله ، ونفوسا أبية تأبى أن تلوي جيداً لغير الله سبحانه.
( لا يسألونَ النّاسَ إلحافاً ).
أي وعلى فرض طلبهم وسؤالهم من الناس لو الحت الحاجة بشكل اضطرهم إلى السؤال فإنهم يسألون بهدوء ، وبرفق يتناسب مع ما هم عليه من التعفف وما يتحلون به من رفعة ، وإباء.
وليأخذ الفقراء من هذه الآية درساً قيماً يكيفون به أوضاعهم على نحو ما ترسمه من التحدث عنهم ، وليثقوا بأن الله هو الرازق ، وهو المقدر ، وأنه لا يضيع من يتكل عليه.
دعاء السائل للمنفق وحمده لله :
صحيح أن المعطي يعطي لوجه الله ، والتقرب إليه ، ولكن لا ينافي ذلك أن يجد المنفق من السائل تجاوباً على عطيته ، فيقابله بالشكر لله ، والدعاء له وبذلك يقوم برد بعض الجميل له ، ولعل ذلك يكون تشجيعاً للمعطي فيكرر العطاء له ، أو لغيره من المحتاجين.نستفيد كل ذلك من الحديث الذي يحدثنا به أحد الرواة قائلا :
« كنا عند أبي عبد الله عليهالسلام بمنى ، وبين أيدينا عنب نأكله ، فجاء سائل فسأله فامر له بعنقود فأعطاه فقال السائل : لا حاجة لي في هذا إن كان درهم فقال : يسع الله عليك ، ولم يعطه شيئاً فذهب ، ثم رجع فقال : ردوا العنقود فقال : يسع الله عليك ، ولم يعطه شيئاً ، ثم جاء سائل آخر فأخذ أبو عبد الله عليهالسلام ثلاث حبات عنب ، فناولها إياها فأخذها السائل من يده ثم قال : الحمد لله رب العالمين الذي رزقني.
فقال أبو عبد الله : مكانك فحثا ملأ كفيه عنباً ، فناولها إياه ، فأخذها السائل من يده ثم قال : الحمد لله رب العالمين. فقال أبو عبد الله : مكانك يا غلام أي شيء معك من الدراهم ؟ فإذا معه نحو من عشرين درهماً أو نحوها فناولها إياه ، فأخذها ثم قال : الحمد لله ، هذا منك وحدك لا شريك لك فقال أبو عبد الله : مكانك ، فخلع قميصاً كان عليه فقال : ألبس هذا ، فلبس ، ثم قال : الحمد لله الذي كساني ، وسترني يا أبا عبد الله. أو قال : جزاك الله خيراً ثم إنصرف وذهب » (2).
لنقف مع هذه الرواية وندفع عنها ما يرد عليها من إشكال مفاده : ما يقال : من أن الإمام كيف يرد السائل الأول لمجرد أنه لم يرغب في أخذ عنقود من العنب بل أراد درهماً ، وما يدرينا ، فلعل السائل كان محتاجاً إلى المال لا للعنب فما معنى رد الإمام له ، ولا أقل أن نطلب من الإمام عليهالسلام أن يسأل عن سبب رد السائل العنب ، وطلبه الدرهم ؟
والجواب عن هذا الأشكال : بأن الإمام الصادق عليهالسلام ربما كان يقصد من هذا الرد للسائل أن يعطي درساً لمن حضر ، ولمن يصله الخبر في أدب السؤال ، وذلك بتنبيه السائل بأن أدب السؤال يقتضي عدم رد العنب لأن رده تحقير للمنفق على عطائه ، بل كان أدب السؤال يقضي بقول الهدية ، ثم المطالبة بالمال واظهار الحاجة له أما هذه المقابلة بالرد فإنها غير مستساغة.
وعلى العكس من السائل الأول نرى السائل الثاني بقبوله لحبات العنب الثالثة وحمده لله على الرزق حفز الإمام على الزيادة بالعطاء ، وكرر السائل الحمد فكرر الإمام العطية ، وعاد السائل يحمد الله سبحانه فعاد الإمام بالمال ، وحمد السائل مجدداً فخلع الإمام قميصه عليه فانصرف السائل وقد حصل على العنب ، والدراهم ، والقميص وكان ذلك نتيجة حسن تصرف السائل في قبوله العطاء بينما حرم السائل الأول من كل ذلك نتيجة سوء تصرفه وأسلوبه المعوج في تقبله العطاء.
أن لا يسأل إلا مع الحاجة :
السؤال والتكفف ليس حرفة وليس هو ـ في نفس الوقت ـ هواية ليقصد الإنسان من وراء ذلك جمع المال ، والعيش على حساب الآخرين ... بل لابد من أن يكون السؤال نابعاً عن حاجة السائل وعوزه وفي غير هذه الصورة فإن الشارع المقدس يمقت هذا النوع من التكفف ، ومد اليد إلى الآخرين وبالتالي يتوعد السائل لو تكفف من غير حاجة ، ولا احتياج.يقول الأمام أبو عبد الله عليهالسلام :« ما من عبد سأل من غير حاجة ، فيموت حتى يحوجه الله إليها ، ويثبت الله له بها النار » (3).
وفي حديث آخر نراه يقول :« من سأل من غير فقر فكأنما يأكل الخمر » (4).
وقبل أن ننتقل إلى موضوع آخر من بحثنا لابد من الإجابة على السؤال عن هذا التشديد على السائل لو سأل من غير حاجة ، فإن مثل هذا السائل أقصى ما يقال في حقه : أنه نزل إلى المستوى الواطئ فرضي بالعيش ذليلاً يطلب من هذا ، ويسأل من ذاك وهذا أمر يخصه ، وعليه ينطبق عليه قول الشاعر :« ومن لم يكرم نفسه لم يكرم ».
فلو ارتضى الشخص لنفسه أن لا يكرم فهل يكون جزاءه النار كما في الخبر الأول ، أو انه كمن اكل الخمر ؟ والمراد بالأكل هو شربها.
سؤال ينتظر الإجابة ؟
والجواب عن ذلك : ان الإسلام لا يرضى للفرد أن يكون كلاً على الآخرين ، بل يحبذ للإنسان الاعتماد على النفس ، والجد في هذه الحياة ليأكل قوته من ثمرة جهوده التي يبذلها في الكسب ، والتجارة ، والعمل ، وقد جاء عن النبي صلىاللهعليهوآله في موارد كثيرة نهيه عن السؤال ، وإرشاد السائل بترك التكفف ، والدخول إلى معترك الحياة من الطريق الذي يحبذه الله لعباده وهو الطريق الذي سار عليه الأنبياء ، والأوصياء ، والصالحون كما حدثنا التاريخ عنهم ، وأنهم كانوا يعيشون من أعمالهم اليدوية ، أو البدنية.
يقول الإمام أبو عبد الله الصادق : « لو أن رجلاً أخذ حبلاً فيأتي بحزمة حطبٍ على ظهره فيبيعها فيكف بها خير له من أن يسأل » (5).
وعنه أيضاً عن النبي صلىاللهعليهوآله أنه قال : « الأيدي ثلاثة : يد الله العليا ، ويد المعطي التي تليها ، ويد المعطى أسفل الأيدي فاستعفوا عن السؤال ما استطعتم. إن الأرزاق دونها حجب ، فمن شاء قنى حيائه ، وأخذ رزقه ومن شاء هتك الحجاب ، وأخذ رزقه ، والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبلاً ، ثم يدخل عرض هذا الوادي ، فيحتطب حتى لا يلتقي طرفاه ، ثم يدخل السوق ، فيبيعه بمدٍ من تمر فيأخذ ثلثه. ويتصدق بثلثيه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو حرموه ».
رزق حلال حصيلة جهد ، وعمل ، وربح ، وتجارة مع الناس ، ومع الله.
مع الناس : فيما حصله من ثمن ما احتطبه من ثلث المال.
ومع الله : فيما أنفقه من ثلثي الحطب ، أو قيمته إلى الفقراء ، وبذلك يسد حاجته ، وحاجة غيره.
كل ذلك خير له من مد يد الذلة إلى الناس ينتظر ما تدر به عواطفهم نحوه.
على أن السائل بمد يده إنما يقصد إنساناً مثله فهو بهذه العملية يعرض عن التوجه إلى الله سبحانه ويبعد عن ساحته المقدسة ولو كانت ثقته بالله متينة ورصينة لما أعرض إلى غيره.
يقول لقمان الحكيم لولده :
« يا بني ذقت الصبر ، وأكلت لحا الشجر ، فلم أجد شيئاً امر من الفقر ، فأن بُليت به يوماً ، فلا تظهر الناس عليه ، فسيهينوك ، ولا ينفعوك بشيء إرجع الذي ابتلاك به فهو اقدر على فرجك ، واسأله فمن ذا الذي سأله فلم يعطه ، أو وثق به فلم ينجه ؟ » (6).
« فمن ذا الذي سأله فلم يعطه ، أو وثق به فلم ينجه » ؟
استفهام إنكاري يحمل بين طياته دروساً قيمةً ، فالسائل هذا الإنسان العبد المخلوق والمسؤول هو الله سبحانه.
الله : الذي كرر في آيات عديدة من كتابه الكريم ضمانه للأجابة لو دعاه العبد.
الله : الذي تطوف ملائكته في أناء الليل ، وهم ينادون : هل من داعٍ فيستجاب له ؟ هل من طالب حاجة لتقضى له ؟ هل من تائب ليقبل الله توبته ؟
لقد نام الملوك ، وغلقوا أبواب قصورهم ، وطاف عليها حراسها ، وبابه مفتوح لمن قصده.
الله : الذي تكفل بأرزاق العباد فقال في كتابه الكريم :( وما من دابة في الأرض الا على الله رزقها ).
بغض النظر عن مساويء العباد.
الله : يخاطب عباده في حديث قدسي قائلاً :« عبدي أوجدت صدراً أوسع مني فشكوتني إليه ».
هذا الله العظيم هل يرد سائلاً مد يده إليه ؟
أو يوصد باب رحمته بوجه من طرق ذلك الباب ؟
أو يمنع رزقه عمن اتكل عليه ؟
إذاً لماذا يتجه السائل إلى إنسان مثله فقير إلى ربه ؟
الإحسان إلى الأرحام
صلة الرحم ، وقطيعة الرحم ككل تعرضت لهما الآيات الكريمة ، والأخبار بصورة مكثفة ، وكلها تحذر من القطيعة ، وعدم التودد إلى الأرحام.وقد بينت الأخبار ، وكشفت عن العواقب الوخيمة التي تترتب على التفكك الذي يحصل بين الأقرباء مهما كان السبب في ذلك التقاطع ، والتباعد ، ولكنها ـ في الوقت نفسه ـ أهابت بأبناء الأسرة الواحدة أن يتقاربوا حول بعضهم وينشدوا ، ويكونوا كالجسم الواحد إذا اشتكى بعضه اشتكى كله.
يقول سبحانه : ( والّذينَ يصلونَ ما أمر اللهُ به أن يوصلَ ويخشونَ ربَّهم ويخافونَ سوءَ الحسابِ ـ إلى قوله ـ أولئكَ لهم عُقبى الدّارِ ).
وفي آية أخرى :
( والّذين ينقضونَ عهدَ اللهِ من بعدِ ميثاقهِ ويقطعونَ ما أمرَ اللهُ به أن يوصلَ ويُفسدونَ في الأرضِ أولئكَ لهمُ اللّعنةُ ولهم سوءُ الدّارِ ) (7).
مقابلة دقيقة بين الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ، وبين الذين يقطعون ما أمر الله أن يوصل ، فلأولئك عقبى الدار ، ولهؤلاء سوء الدار.
والدار في الموضعين هي : الدار الآخرة. وعقبى الدار هي الجنة. وسوء الدار هي ، النار.
وما أمر الله به أن يوصل وإن كان في لسان الآية عاماً مشمولة للآيات والأخبار.
وهكذا الحال في قطيعة الرحم أيضاً فإنها تكون مشمولة إلا أن صلة الرحم من جملة ما أمر الله به أن يوصل فتكون على نحو ما هو الحال في صلة الرحم وبهذا الصدد تقول الآية الكريمة :
( واتّقُوا الله الذي تساءلونَ به والأرحامَ إنّ اللهَ كانَ عليكم رقيباً ) (8).
وقد سأل أحد الرواة من الإمام عليهالسلام عن قوله سبحانه :
( واتّقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ).
فأجاب عليهالسلام بأنها أرحام الناس إن الله أمر بها أن توصل ، وعظمها ألا ترى أنه جعلها منه (9).
والمراد من قوله عليهالسلام جعلها منه أي قرنها باسمه في الأمر بالتقوى.
ويقول عز وجل في آية آخرى :
( واعبدُوا الله ولا تشركوا بهِ شيئاً وبالوالدينِ إحساناً وبذِي القربى واليتامى ) (10).
ومن خلال هذا الآية تظهر لنا أهمية الإحسان بالوالدين ، وبذي القربى حيث أوص الله بهم وقد قرن هذه الوصية بالأمر بعبادته ، وعدم الشرك به. ومن الواضح ما للأمر بعبادته من الأهمية بالنسبة إليه ، وهكذا عدم الشرك ، قد صرحت الآية الكريمة بذلك في قوله تعالى :
( إنّ اللهَ لا يغفرُ أن يشركَ بهِ ويغفرُ ما دونَ ذلكَ لمن يشاءُ ) (11).
وقد استفاضت الأخبار بالإشادة بصلة الأرحام والحث على التودد إليهم يقول الإمام الرضا عليهالسلام :
« يكون الرجل يصل رحمه ، فيكون قد بقي من عمره ثلاث سنين ، فيصيرها الله ثلاثين سنة ، ويفعل الله ما يشاء ».
وعن الإمام محمد الباقر عليهالسلام قوله :
« صلة الأرحام تزكي الأعمال وتنمي الأموال ، وتدفع البلوى ، وتيسر الحساب وتنسيء في الأجل ».
وفي خبر آخر :
« صلة الرحم تحسن الخلق ، وتسمح الكف ، وتطيب النفس ، وتزيد في الرزق ، وتنشئ في الأجل » جاء ذلك عن
الإمام الصادق عليهالسلام ».
وليس المراد بصلة الرحم هو الاقتصار على الأمور المالية ومد يد المساعدة إليهم بل القصد من وراء ذلك إظهار العطف والود وعدم الإنقطاع عنهم.
وقد ضرب الإمام الصادق عليهالسلام مثلاً لأدنى ما يمكن إظهار للأرحام فقال :
« صل رحمك ولو بشربة من الماء ».
وقد جاء عن النبي صلىاللهعليهوآله ( قوله ) :
« أبغض الأعمال إلى الله الشرك بالله ثم قطيعة الرحم » (12).
وقد طفحت كتب الحديث بالأخبار التي تحدثت عن الخلفيات التي تترتب على قطيعة الرحم.
هذه لمحة عن صلة الرحم ، وقطيعتها على نحو العموم.
أما في خصوص الإنفاق عليهم ، ومساعدتهم بالمال ، ونحوه فقد جاء ذلك مصرحاً في الأخبار التالية.
فعن الإمام الصادق عليهالسلام :
« الصدقة على مسكين صدقة ، وهي على ذي رحمٍ صدقة ، وصلة » (13).
وعن الإمام الحسين عليهالسلام أنه قال :« سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول :
إبدأ بمن تعول : أمك ، وأباك ، واختك ، وأخاك ، ثم أدناك ، فأدناك وقال : لا صدقة ، وذو رحمٍ محتاج » (14).
وسئل النبي صلىاللهعليهوآله :
« عن أي الصدقة أفضل ؟ فقال : على ذي الرحم الكاشح ».
هذا إذا أخذ الإنفاق على الأرحام من الأخبار الشريفة. ومن إطارها الذي يعتبر الصورة الأخرى المعبرة عن الكتاب المجيد.
وأما الانفاق من الناحية الإجتماعية ، فنراه مطابقاً لما تقتضيه الأصول الإجتماعية ... ذلك لأن الإعراض عنهم يكوم موجباً لزرع بذور الفتنة والقطيعة بين أفراد الأسرة الواحدة بينما حرص الإسلام على لمّ شملها ، وجمعها.
على أن الكثير من الناس يتقبل من الرحم ، وتسمح نفسه أن يتقبل من الإقرباء هدية بينما لا يخضع لغيره. ولا تسمح نفسه للجوء إليه مهما كلف الثمن.
ولهذا رأينا الأخبار تؤكد على البدء بالعطاء ، والاحسان إلى القرابة وفي مقدمتهم أهل المحسن كما جاء عن الإمام الحسين عليهالسلام في حديثه المتقدم.
آيات عامة في الإحسان :
لقد تعرض القرآن الكريم إلى ذكر الإحسان ، والتشويق له ، وحث الناس على عمل الخير بشكل عام من دون بيان لخصوصيةتلك الأعمال ، ونوعيتها ، وما يقدمه المحسن من النفع إلى الأخرين ... بل تركت الباب مفتوحاً أمام المحسنين ليشمل الإحسان كل ما ينفع المجتمع ، وينهض بالأفراد ، ولتعم الفائدة ، وليتسابق الناس إلى تقديم كل شيء يكون إحساناً ، وإلى كل فرد يحتاج لذلك الإحسان.
على أن الآيات الكريمة في عرضها لصور التشويق إلى الإحسان قد تنوعت في العرض المذكور.
تقول الآية الأولى : ( والله يحب المحسنين ) (15).
وجاء في الثانية :( فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين ) (16).
وفي الثالثة قال سبحانه :( وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ) (17).
من مجموع هذا الآيات الثلاث نستفيد من النقاط التالية :
النقطة الأولى : إطباق الآيات الثلاث على الأخبار بأن الله يحب المحسنين ، ويمنحهم عطفه ووده.
النقطة الثانية : الفرق بين الثوابين الدنيوي ، والأخروي ، وأن أحدهما غير الآخر ، وإلا فلو كانا شيئاً واحداً لما عطف ثواب الآخرة على ثواب الدنيا كما جاء ذلك في الآية الثانية حيث قال سبحانه :( فآتاهُم اللهَ ثوابَ الدّنيا وحُسنَ ثوابِ الآخرةِ ) (18).
ولو أراد وحدة الثواب لأخبر بأن المحسن يجازي بالثواب من دون تفصيل ، ويبقى الثواب على إطلاقه ليشمل كلا الثوابين : الدنيوي والأخروي.
وقد يقال في بيان الفرق بين الثوابين : أن ثواب الدنيا ما يعود إلى الرزق ، وعدم الابتلاء بالحاجة إلى الغير ، وحسن السمعة بين الناس ، ومنح المحسن العمر الطويل ، وما شاكل من القضايا التي يكون النفع فيها واصلاً إلى المحسنين في هذه الحياة.
وأما ثواب الآخرة : فهو الجنة والنعيم الدائم.
النقطة الثالثة : الأمر بالإحسان مضافاً إلى محبة الله للمحسن وقد جاء ذلك في الآية الثالثة في قوله تعالى :( وأحسِنُوا أن الله يحبُ المحسنينَ ).
وكما جاء في آية أخرى قال فيه سبحانه :( إنّ اللهَ يأمرُ بالعدلِ والإحسانِ ) (19).
ولو لم نقل بأن الأمر في هذه الآية يدل على الوجوب الإلزامي بالعمل بالإحسان إلى الآخرين فلا أقل من القول بشدة مجبوبيته له سبحانه.
النقطة الرابعة : أن الآية الثانية قد اشتملت على أمرين :
الأول : ان الله يمنح الثواب لمن أحسن في الدنيا قبل الآخرة :
الثاني : بيان أن الله يحب المحسن.
ومن هنا نقول : لسائل أن يطلب التوضيح عما يكتنف هذه الآية من غموض بالنسبة لمحبة الله للمحسن ، وما تأثيرها بعد أن ضمن الله له الثوابين ، وعلى الأخص بعد أن فسر ثواب الآخرة بالجنة ، فمن وعد بالجنة ما يصنع بثواب الدنيا ؟.
والجواب عن ذلك : أن محبة الله لعبده نوع تكريم من الله لعبده فهو بهذا الانعطاف إليه يحيطه بهذه الرعاية الخاصة ، وهذا اللطف الإلهي ، فيجعل المحسن محبوباً إليه.
ان المحسن له الحق أن يفتخر بهذا الشرف الرفيع ، وإن كان قد منحه الله الجنة في الآخرة وهذا هو ثوابه في الدنيا ومحبة الله له.
ويتجلى هذا اللطف الكريم من خلال الآية التي رعت المحسن ، فمنحته شرف رعاية الله له بمعيته فقال سبحانه :
( إنّ اللهَ معض الّذينَ اتَّقَوْا والذينَ هُم محسنونَ ) (20).
والإحسان في هذا الآيات ، وإن كان عاماً يشمل الإنفاق وغيره ، ولكن ـ كما قلنا ـ أن الإنفاق أحد مصاديق الإحسان ، ويكفي للمنفق أن يكون من جملة من يشمله اطلاق هذه الآيات الكريمة التي تشكل من حيث المجموع ترغيباً وتشويقاً للإنسان في الإنفاق باعتباره إحساناً إلى الغير.
المصادر :
1- سورة البقرة / آية : ٢٧٣.
2- وسائل الشيعة ـ ٦ / ٢٧٢.
3- وسائل الشيعة ـ ٦ / ٣٠٥.
4- وسائل الشيعة ـ ٦ / ٣٠٦.
5- وسائل الشيعة ـ ٦ / ٣١٠.
6- وسائل الشيعة ـ ٦ / ٣٠٧ ـ ٣١١.
7- سورة الرعد / آية : ٢١ ، ٢٢ ، ٢٥.
8- سورة النساء / آية : ١.
9- أصول الكافي : ٢ / ١٥٠.
10- سورة النساء / آية : ٣٦.
11- سورة النساء / آية : ٤٨.
12- أصول الكافي : ٢. ١٥٠ ـ ١٥١ ، وجامع السعادات : ٢ / ٢٥٩.
13- البحار : ٩٦ ، ٣٧ ، ١٤٧ ، ١٥٩.
14- البحار : ٩٦ ، ٣٧ ، ١٤٧ ، ١٥٩.
15- سورة آل عمران / آية : ١٣٤.
16- سورة آل عمران / آية : ١٤٨.
17- سورة البقرة / آية : ١٩٥.
18- سورة آل عمران / آية : ١٤٨.
19- سورة النحل / آية : ٩٠.
20- سورة النحل / آية : ١٢٨.