
من الثابت المسلّم الذي لا يقبل الشكّ هو ثبوت جزئيّة « حيَّ على خير العمل » في الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله ؛ لأنّها مضافاً إلى وجودها في روايات الإمامية الاثني عشرية وفي روايات الزيّدية والإسماعيليّة ، رواها أهل السنة والجماعة بطرقهم ، وأنّ بلالاً كان يؤذّن بها في الصبح خاصّة ، بل كان جمّ غفير من الصحابة يؤذّنون بها.
وحكي عن بعض أئمّة المذاهب الأربعة أنّهم قالوا بالتأذين بها ، لكنّ عامّتهم ادّعوا أنّ رسول الله أمر بلالاً بحذفها من الأذان ووضع مكانها جملة « الصلاة خير من النوم ».
من هذا يتبيّن أنّهم لا ينكرون شرعيّتها في مبدأ الأمر ، لكنّهم يقولون بنسخها ، فما هو الناسخ إذاً ؟ ولِمَ تُنسخُ هذه الجملة بالخُصوص من الأذان ؟
للإجابة عن هذا السؤال لابدّ من ملاحظة أنّ أهل السنّة والجماعة انقسموا ـ في هذه المسألة ـ إلى فريقين ؛ فمنهم من قال إنّ الناسخ هو قول رسول الله صلى الله عليه وآله لبلال : « اجعل مكانها الصلاة خير من النوم »(1) ، في حين لم يَرَ الفريقُ الآخر منهم بُدّاً من السُّكوت عن بيان الناسخ ؛ لضعف تلك الأخبار وعدم دلالتها على المقصود ، بل لاحتواء تلك الأسانيد على وقفات علميّة ؛ سَنَديّة ودلاليّة ، يجب بيانها إن اقتضى الحال.
قال السيّد المرتضى في الانتصار : وقد روت العامّة أنّ ذلك [ أي « حيّ على خير العمل » ] مما كان يقال في بعض أيام النبيّ ، وإنّما ادّعي أن ذلك نُسخ ورُفع ، وعلى مَن ادّعى النسخ الدلالة له ، وما يجدها(2).
وقال ابن عربي في الفتوحات المكية : ... وأمّا من زاد في الأذان حيَّ على خير العمل فإن كان فُعل في زمان رسول الله ـ كما روي أنّ ذلك دعا به في غزوة الخندق ؛ إذ كان الناس يحفرون ، فجاء وقت الصلاة وهي خير موضوع كما ورد في الحديث ، فنادى المنادي أهل الخندق « حيَّ على خير العمل » ـ فما أخطأ مَن جعلها في الأذان ، بل اقتدى إن صحّ الخبر ، أو سنّ سنّة حسنة(3).
وجاء في الروض النضير عن كتاب السنام ما لفظه : الصحيح أنّ الأذان شرّع بحيّ على خير العمل ، لأنّه اتُّفِق على الأذان به يوم الخندق ، ولأنّه دعاءٌ إلى الصَّلاة ، وقد قال صلى الله عليه وآله « خير أعمالكم الصلاة ». كما وردت روايات أخرى تفيد أنّ مؤذّني رسول الله صلى الله عليه وآله وغيرهم من الصحابة استمرّوا على التأذين بها حتّى ماتوا. (4)
وعليه فالفريقان شيعةً وسنةً متّفقان على ثبوت حكمها في الصدر الأوّل وعلى كونها جزء الأذان في بدء التشريع ، لكنّ أهل السنة والجماعة انفردوا بدعوى النسخ ، وهو كلام قُرِّر في العهود اللاحقة لأسباب تقف عليها لاحقاً.
فهذا الأمر يشير إلى أنّ شرعيتها وجزئيتها كانت ثابتة عند الفريقين من لدن عهد الرسول الأكرم ، ويضاف إلى ذلك أنّ الشيعة الإمامية والزيدية والإسماعيلية لهم طرقهم الخاصَّة والصَّحيحة وكُلُّها تُؤكّد ثبوتها على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وعدم نَسْخها في حياته صلى الله عليه وآله ، « وأنّ رسول الله أمَرَ بلالاً أنْ يُؤذّن بها فلم يَزَلْ يُؤَذِّنُ بها حتّى قَبَضَ اللهُ رَسولَهُ »(5).
وهذا نص صريح يدل على عدم نسخ « حَيّ على خير العمل » وعلى كونها جُزء الأذان حتّى قَبَضَ الله رسوله.
ويؤيِّد هذا المروي عندنا عن بلال ما رواه الحافظ العلوي الزيدي(6)
قال ابن النرسي : ما رأيت من كان يفهم فقه الحديث مثلَه. وقال : كان حافظاً خرّج عنه الحافظ الصوري وأفاد عنه وكان يفتخر به ( سير اعلام النبلاء 17 : 636 ). وفي ( طبقات الزيدية 2 : 292 ) : الثقة العابد مسند أهل الكوفة ، وقد ترجم له الطهراني في طبقات أعلام الشيعة (أعلام القرن الخامس 170 ـ 172).
له كتاب « فضل الكوفة » و« فضل زيارة الحسين » و« تسمية من روى عن الإمام زيد من التابعين » ، و« التاريخ » ، و« التعازي » وكتاب « الجامع الكافي » وقد جمعه من بضع وثلاثين كتاباً من كتب الإمام محمد بن المنصور المرادي الزيدي ، وهو من أجلّ ما كتب في الفقه ونصوص الأئمّة الزيديّة ، وفيه بحث الأذان. وله كتاب على انفراد باسم « الأذان بحيَّ على خير العمل » له طرق متعدّدة عند الزيديّة ، وقد أشار محمد يحيى سالم عزّان إلى بعض طرقه إلى هذا الكتاب في مقدّمة تحقيقه ص -32 ، وكذا العلاّمة السيّد محمّد بن حسين بن عبدالله الجلال ، حيث قال في آخر نسخته : يقول الفقير إلى الله المعترف بالذنب والتقصير محمد بن حسين بن عبدالله الجلال :
أروي كتاب « الأذان بحيَّ على خير العمل » من عدّة طرق عن مشايخي رحمهم الله بطريق الإجازة العامّة ، وأرويه عن سيّدي العلاّمة قاسم بن حسين أبو طالب بالسماع من فاتحته إلى خاتمته إلاّ اليسير منه فبالإجازة العامّة ، وهو يرويه عن عدد من مشايخه ذكرتهم في مؤلّفي المسمّى ( الأنوار السنيّة في إسناد علوم الأمة المحمديّة )منهم شيخه العلاّمة عليّ بن حسين المغربي عن شيخه السيّد العلاّمة عبدالكريم بن عبدالله أبو طالب عن شيخه العلاّمة بدر الال... إلى آخر مشايخه ـ عن المؤلّف أبي عبدالله محمد بن عليّ بن الحسن بن عليّ بن الحسين بن عبدالرحمن بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليهم جميعاً.
وقد طبع هذا الكتاب في اليمن في شهر صفر عام 1399هـ ، السيّد يحيى عبدالكريم الفضل عن نسخة العلاّمة الجلال . قال المحقق في مقدّمته للكتاب : وقد روى التأذين بـ « حي على خير العمل » ، أكثر من عشرة من الصحابة ، وجاءت رواية الأذان من أكثرمن مائة طريق ، وكلّ منها بإسناد متصل ( انظر : المقدمة 5 ـ 6 ).
وقد نقل عن هذا الكتاب كثير من الأعلام أمثال الإمام القاسم بن محمّد في كتاب الاعتصام ، والشوكاني في نيل الأوطار ، وأخرج مسنده في كتابه ( إتحاف الأكابر ) ، ورواه وأخرج مسنده العلاّمة عبدالواسع الواسعي في كتابه ( درر الأسانيد ) ، وكذا العلامة مجد الدين المؤيد والعلامة الجلال وغيرهم .
ومن المؤسف أن النسخة المطبوعة التي بأيدينا مغلوطة ، ولم تعرض وتقابل مع نسخ خطية أخرى للكتاب ، وإن كتب على المطبوع حققه السيد يحيى عبد الكريم الفضل . ولأجله استعنت في بعض الأحيان بنسخة أخرى من تحقيق محمد يحيى سالم عزان ، وفي أحيان أخرى بكتاب الاعتصام بحبل الله المطبوع فيه كتاب الأذان بكامله . وقد أراني المحقق الحجة السيد محمد رضا الجلالي نسخة من كتاب ( الأذان بحي على خير العمل ) بخط العلامة المحدث السيد محمد بن الحسين الجلال مجيزاً له رواية هذا الكتاب ، وقد أخبرني بأنه يعزم على تحقيقه وطبعه فسرني عزمه آملين له التوفيق والسداد .
مسنداً إلى أبي محذورة من أنَّ رسول الله علّمه الأذان ، وفيه التَّأذين بحيَّ على خير العمل(7).
ومن المعلوم أنَّ أبا محذورة تَعَلَّمَ الأذان من رسول الله ـ حسبما يقولون ـ في أواخر السَّنَة الثامنة من الهجرة بعد رجوعه من حُنَين(8) ، ومعناه ثبوتُ حيّ على خير العمل وشرعيتُها حتّى ذلك التأريخ ، ولم يَأمر رسولُ الله بإبدالها بـ « الصلاة خير من النوم ».
ويضاف إلى ذلك أنَّ رواية الحافظ العَلوي عن بلال تنفي الزيادة التي جاء بها الطبراني والبيهقي عنه رضوان الله تعالى عليه ؛ لأنَّ الحافظ العَلوي كان قد قال :
حدّثنا عليّ بن محمّد بن إسحاق المقري الخزّاز ، أخبرنا أبو زرعة أحمد بن الحسين الرازي ، حدّثنا أبو بكر بن تومردا ، أخبرنا مسلم بن الحجّاج ، حدّثنا إبراهيم بن محمّد بن عرعرة ، حدّثنا معن بن عيسى ، حدّثنا عبدالرحمن بن سعد المؤذِّن ، عن محمّد بن عمّار بن حفص بن عمر ، عن جدّه حفص بن عمر بن سعد ، قال : كان بلال يؤذِّن في أذان الصبح بحيَّ على خير العمل(9).
في حين نرى نفس هذا الحديث قد ورد في الطبراني والبيهقي(10)من طريق يعقوب بن حميد عن عبدالرحمن بن سعد [ المؤذّن ] عن عبدالله بن محمّد وعمر وعمّار ابنَي حفص ، عن آبائهم ، عن أجدادهم ، عن بلال : أنّه كان ينادي بالصبح فيقول : « حيَّ على خير العمل » ، إلاّ أنّ فيما أخرجه الطبراني والبيهقي زيادة :
فأمره النبيّ صلى الله عليه وآله أن يجعل مكانها « الصلاة خير من النوم » وترك « حيَّ على خير العمل ».
والمتأمِّل في رواية معن بن عيسى عن عبدالرحمن بن سعدٍ التي أوردها الحافظ العلوي يراها أوثق من رواية يعقوب بن حميد التي أوردها الطـبراني والبيهقي باتفاق الجميع ؛ لأنَّ معن بن عيسى ثقة ثبت وكذا غيره من رجال السند.
وممّا يحبذ هنا هو أنّ نقوم بتحقيق بسيط عن رجال الإسنادين وما رَوَوه عن بلال وأبي محذورة ، واختلاف النقل عنهما ، كي نتعرف على ملابسات مثل هذه الأمور في الشريعة والأحكام :
وقفه مع الحديثَين
أحدهما : الذي رواه الطبراني والبيهقي بإسنادهما عن عبدالرحمن بن سعد القرظ ، وفيه : كان بلال يؤذّن في أذان الصبح بحيّ على خير العمل ، وأنّ رسول الله أمره أن يجعل مكانها الصلاة خير من النوم ، وهو يخالف ما رواه الحافظ العلوي من طريق مسلم بن الحجّاج والذي يخلو من هذه الزيادة.
الثانية : حديث أبي محذورة المختلف فيه ، والذي رواه رجال الصحاح والسنن ليس فيه « حيّ على خير العمل » ، أمّا الحافظ العلوي وأحمد بن محمّد بن السري فقد رَوَياه وفيه التأذين بحيّ على خير العمل ، وهو الذي يتّفق مع مرويّات أهل البيت ، وعليه إجماع العترة حسبما ستعرف بعد قليل.
ذكرت كتب الحديث والتاريخ أسماء أربعة من الذين أذنوا على عهد رسول الله ، وهم :
1 ـ بلال بن رباح الحبشي
2 ـ أبو محذورة القرشي
3 ـ عبدالله بن أمّ مكتوم
4 ـ سعد القرظ
وقد أذّن أبو محذورة بعد السنة الثامنة من الهجرة(11) ، وقيل بعد فتح مكّة ، ونقل عن سعد القرظ أنّه كان يؤذّن بِقُبا.
وربّما تكـون روايـات الأذان عند المـذاهب الأربعـة والاختلافات في فصوله وأعداده ، راجعة إلى اختلاف عمل هؤلاء الصـحابة في الأذان أو اختلاف النقل عنهم ، مضافاً إلى ما جاء عن عبدالله بن زيد بن ثعلبة بن عبدربه فيه.
فالاختلاف أمر ملحوظ في الأحاديث ، وقد يُنقَل عن الصحابي الواحد نقلان متخالفان ؛ فالتكبيرتان والأربع في أوّل الأذان مثلاً ورد كلّ منهما عن عبدالله بن زيد ، والتثويب وعدمه جاءا عن أبي محذورة ، واختص خبر الترجيع بأبي محذورة دون غيره من المؤذنين ، فما سبب كلّ هذا الاختلاف والكل ينسب فعله إلى الصحابه ؟
« فمالك والشافعي ذهبا إلى أنّ الأذان مثنى مثنى والإقامة مرّة مرّة ، إلاّ أنّ الشافعيّ يقول في أوّل الأذان ( الله أكبر ) أربع مرات ويرويها محفوظاً عن عبدالله بن زيد وأبي محذورة ، وهي زيادة مقبولة والعمل بها في مكّة ومن تبعهم من أهل الحجاز.
لكن مالكاً وأصحابه ذهبا إلى تثنية التكبير ، وقد رووا ذلك من وجوهٍ صحاحٍ من أذان أبي محذورة ومن أذان عبدالله بن زيد وعليه عمل أهل المدينة من آل سعد القرظ »(12).
واتفق مالك والشافعي على الترجيع في الأذان ، لكن الحنابلة والأحناف قالوا : لا ترجيع في الأذان . وكل استند فيما ذهب إليه إلى نقله عن بعض الصحابة !!
قال الأثرم : سمعت أبا عبدالله [ يعني أحمد بن حنبل ] يسأل : إلى أيّ الأذان يذهب ؟ قال : إلى أذان بلال...
قيل لأبي عبدالله : أليس حديث أبي محذورة بعد حديث عبدالله بن زيد ؛ لأنّ حديث أبي محذورة بعد فتح مكّة ؟
فقال : أليس قد رجع النبيّ إلى المدينة فأقرّ بلالاً على أذان عبدالله بن زيد(13).
بلى ، إنّ فِعل الصحابي كان هو الحجة رغم الاختلافات ، لكن لنا أنّ نتساءل عن هذا الاختلاف هل أنّه حصل بالفعل في زمن الصحابي ، أم أنّه من صنع المتأخرين ، وما هي ملابسات هذه الأحاديث المختلفة ؟ بل ما هي قيمة رجال إسنادها ؟!
ونحن إيماناً بضرورة دراسة مثل هذه الأمور سلّطنا بعض الضوء على رجال خبري بلال وأبي محذورة.
فقد ادّعي في طريق الطبراني والبيهقي أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قال لبلال : « اجعل مكانها الصلاة خير من النوم » ، مع أنّ هذه الزيادة غير موجودة في طريق الحافظ العلوي.
وفي رواية أبي محذورة « فاجعل في آخرها : الصلاة خير من النوم » ، وهي أيضاً غير موجودة في طريق الحافظ العلوي.
فأيّ النقلين هو الصواب إذن ؟!
مع ما رواه الطبراني والبيهقي عن بلال
قد مر عليك قبل قليل ما رواه الطبراني عن شيخه محمّد بن عليّ الصائغ ، والبيهقي بإسناده عن أبي الشيخ الإصفهانيّ ـ في كتاب الأذان ـ عن محمّد بن عبدالله بن رسته ، كلاهما عن يعقوب بن حميد بن كاسب :
حدّثنا عبدالرحمن بن سعد بن عمّار بن سعد القرظ ، عن عبدالله بن محمّد ، وعمر وعمّار ابنَي حفص ، عن آبائهم ، عن أجدادهم ، عن بلال...
وفي هذا الإسناد : يعقوب بن حميد بن كاسب ، فهو أبو يوسف ، مدنيّ الأصل ، مكيّ الدار ؛ هذا ما قاله ابن أبي حاتم الرازي ، ثمّ قال : سألت يحيى بن معين عن يعقوب بن كاسب ، فقال : ليس بشيء.
وقال أبو بكر بن خيثمة : سمعت يحيى بن معين يقول وذكر ابن كاسب ، فقال : ليس بثقه ، قلت : من أين قلت ذلك ؟ قال : لأنّه محدود.
قلت : أليس في سماعه ثقة ؟ قال : بلى.
أخبرنا عبدالرحمن ، قال : سمعت أبي يقول : ضعيف الحديث.
أخبرنا عبدالرحمن قال : سألت أبا زرعة عن يعقوب بن كاسب ، فحرّك رأسه ، قلت : كان صدوقاً في الحديث ، قال : لهذا شروط . وقال في حديث رواه يعقوب : قلبي لا يسكن إلى ابن كاسب(14).
وقال أبو بكر : سمعت يحيى بن معين وذكر ابن كاسب يقول : ليس بثقة ، فقلت له : من أين قلت ذاك ؟ قال : لأنّه محدود ، قلت : أليس هو في سماعه ثقة ؟ فقال : بلى ، فقلت له : أنا أعطيك رجلاً تزعم أنّه وجب عليه حدٌّ وتزعم أنّه ثقة ، قال : من هو ؟ قلت : خلف بن سالم ، قال : ذلك إنما شتم بنت حاتم مرّة واحدة ، وما به بأس لولا أنّه سفيه.
قلت لمصعب الزبيري : إنّ يحيى بن معين يقول في ابن كاسب : إنّ حديثه لايجوز لأنّه محدود ، فقال : ليس ما قال ، إنما حده الطالبيّون في التحامل وليس حدود الطالبيين عندنا بشيء لجورهم ، وابن كاسب ثقة مأمون صاحب حديث ، أبوه مولى للخيزران ، وكان من أمناء القضاة زماناً(15).
وقال الذهبي في تذكرة الحفاظ : تفرّد بأشياء وله مناكير ، حدّث عنه البخاري وابن ماجة وعبدالله بن أحمد وإسماعيل القاضي ، وأبو بكر بن أبي عاصم وطائفة ، ذكره البخاري فقال : لم نرَ إلاّ خيراً ، وقال أبو حاتم : ضعيف(16).
وفي ميزان الاعتدال : قال البخاري : لم نرَ إلاّ خيراً ، هو في الأصل صدوق وشذّ مضر بن محمّد الاسدي فروى عن ابن معين : ثقة ، وروى عبّاس عن يحيى : ليس بثقه(17) ، فقلت : لم ؟
قال : لأنّه محدود...
والنسائي : ليس بشيء.
وأبو حاتم : ضعيف.
قال الذهبي : كان من علماء الحديث لكن له مناكير وغرائب ، وحديثه في صحيح البخاري في موضعين : في الصلح ، وفيمن شهد بدراً...
قال الحلواني : رأيت أبا داود السجستاني قد جعل حديث يعقوب بن كاسب وقايات على ظهور كتبه ، فسألته عنه ، فقال : رأينا في مسنده أحاديث أنكرناها ، فطالبناه بالأصول فدافعنا ، ثم أخرجها بَعدُ فوجدنا الأحاديث في الأصول مغيَّرة بخطِّ طَرِيّ ؛ كانت مراسيل فأسنَدَها وزادَ فيها(18).
وفي سير أعلام النبلاء :« ... وكان من أئمّة الأثر على كثرة مناكير له ـ إلى أنّ يقول ـ : وقال ابن عدي : لا بأس به وبرواياته ، هو كثير الحديث ، كثير الغرائب ، كتبت مسنده عن القاسم بن عبدالله عنه ، صَنّفه على الأبواب ، وفيه من الغرائب والنسخ والأحاديث العزيزة ، وشيوخ أهل المدينة ممّن لا يروي عنهم غيره... »(19).
وقال ابن حبّان في الثقات : مات سنة أربعين أو أحد وأربعين ومائتين ، كان ممّن يحفظ وممّن جمع وصنّف ، واعتمد على حفظه فربّما أخطأ في الشيء بعد الشيء ، وليس خطأ الإنسان في شيء يَهِمُ فيه ما لم يفحش ذلك منه بمُخْرِجِهِ عن الثقات إذا تقدّمت عدالته(20).
قلت : كيف يقول ابن حبّان هذا وهو يعلم بأن الخدشه فيه جاءت لكونه محدوداً لا من جهة حفظه ؛ لأنّ الثابت عدم قبول شهادة الفاسق وخصوصاً لو أفحش في التحامل على أهل البيت ، وخصوصاً الإمام عليّ بن أبي طالب ، وهذا يشير إلى نصبه بلا أدنى شك ؛ لأنّ الطالبيين حدّوه لنصبه ، وقد وقفت على سرّ الحد لقول الزبيري « إنّما حده الطالبيون في التحامل » وقول ابن معين في خلف بن سالم « ... إنّما شتم بنت حاتم مرّة واحدة وما به بأس » ، وهما يرشدان إلى أنّ الخدشة جاءت فيه من هذه الجهة ، وهي فسق بلا شك ، لا من جهة نسيانه ، وكيف لا يكون فاسقاً غير معتمد الرواية وهو يغير الأصول ويسند المراسيل ؟! أضف إلى كلّ ذلك أنّه كان « أبوه مولى للخيزران وكان من أمناء القضاة زماناً » ؟
وقد علّق ابن التركماني على أحد أحاديث حفص بن عمر في كتاب صلاة العيدين بقوله : إنّ حفصاً والد عمر المذكور في هذا السند إن كان حفص بن عمر المذكور في السند الأوّل فقد اضطربت روايته لهذا الحديث ، رواه ها هنا عن سعد القرظ ، وفي ذلك السند رواه عن أبيه وعمومته عن سعد القرظ ، فظهر من هذا أنّ الأحاديث التي ذكرها البيهقي في هذا الباب لا تسلم من الضعف. وكذا سائر الأحاديث الواردة في هذا الباب.. وحكى الزيلعي عن « الإمام » : وأهل حفص غير مُسمَّين ، فهم مجهولون(21)
وأما إبراهيم بن محمّد بن عرعرة بن البرند بن النعمان أبو إسحاق البصري فقال عنه بن أبي حاتم الرازي : سئل أبي عن إبراهيم بن أبي عرعره فقال : صدوق(22).
وحكى عن عليّ بن الحسين بن حبّان أنّه قال : وجدت في كتاب أبي بخطّ يده قلت له ـ يعني يحيى بن معين ـ : أبو عرعرة ؟
فقال : ثقة معروف الحديث ، كان يحيى بن سعيد يكرمه ، مشهور بالطلب ، كيّس الكتاب ؛ ولكنه يفسد نفسه ، يدخل في كلّ شيء(23). وجاء فيه بعض التليين.
وأمّا رواية الحافظ العلوي بإسناده الذي فيه أحمد بن محمّد بن السري فإليك نصّها :
حدّثنا أبو القاسم عليّ بن الحسين العرزمي إملاءً من حفظه ، قال : حدّثنا أبو بكر أحمد بن محمّد بن السري التميمي ، حدّثنا أبو عمران موسى بن هارون بن عبدالله الجمال ، حدّثنا يحيى بن عبدالحميد الحماني ، حدّثنا أبو بكر بن عياش ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن أبي محذورة ، قال : كنتُ غلاماً صيّتاً ، فأذّنت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله لصلاة الفجر ، فلما انتهيت إلى « حيَّ على الفلاح » قال النبيّ صلى الله عليه وآله : ألحق فيها « حيَّ على خير العمل »(24).
وهذا النص ـ كما تـراه ـ واضـح لا مغمز في لفظه ولا معناه ، لكنّ المتأخّرين من علماء العامّة حرفوا النص عن وجهته فنقلوا الرواية بشكل آخر ، قالوا : زعم أحمد بن محمد بن السري أنّه سمع موسى بن هارون عن الحماني عن أبي بكر بن عياش عن عبدالعزيز بن رفيع عن أبي محذورة ، قال : كنت غلاماً فقال النبيّ : اجعل في آخر أذانك « حيّ على خير العمل »(25).
وبناء على هذا التلاعب قال الحافظ ابن حجر في خبر السري :
« وهذا حدثنا به جماعة عن الحضرمي عن يحيى الحماني وإنما هو : اجعل في آخر أذانك الصلاة خير من النوم »(26).
لكن كلامه باطل من عدة جهات :
الأولى : أنّ مكان « حيّ على خير العمل » عند من يقول بها هي وسط الأذان لا في آخره ، وأنّها من أصل الأذان لا زيادة فيه كالصلاة خير من النوم ، وإنّما سوغ لهم هذا التلاعب تحريفهم نص السري عن وجهته ، حيث جعلوا الحيعلة الثالثة في آخر الأذان ، ليتسنى لهم ادعاء أن الرواية وردت بجعل « الصلاة خير من النوم » في آخره لا الحيعلة الثالثة.
الثانية : أنّ زيادة « الصلاة خير من النوم » جاءت متأخّرة ، وقد قال مالك عنها أنّها ضلال ، ورجع الشافعي عن القول بها في الجديد ؛ لعدم ثبوت ذلك عن أبي محذورة ، وهو مؤشّر على عدم شرعيّتها في أصل الأذان ، فلو كان الأمر كذلك فالزيادة مشكوك فيها ولا يمكن الأخذ بها ، وقد جاء في مصنف ابن أبي شيبة عن الأسود بن يزيد قوله وقد سمع المؤذّن يقول « الصلاة خير من النوم » فقال : لا يزيدون في الأذان ما ليس سنّة(27)
الثالثة : إنّ ما زعمه ابن حجر من وضع حديث : نار تلتقط مبغضي آل محمّد ، واتّهم به أحمد بن محمّد بن السريّ ، فباطل.
إذ لا شاهد له على ذلك إلاّ استعظامه واستكباره أن يرد مثل هذا الحديث في فضل آل محمّد ، ولو أنصف لعلم أنّ مبغضي آل محمّد في النار وأنّه لا استكبار ولا استعظام. وهناك روايات كثيرة تشير إلى هذا المعنى ، فقد يكون أحمد بن محمّد بن السري نقل الحديث بالمعنى ، وهو جائز عند الفريقين ، ومحض الانفراد ـ لو صحّ ـ لا يدلّ على الوضع ، خصوصاً مع أنّ لحديثه هذا شواهد ومتابعات كثيرة ، وأحمد هذا ثقة بإجماعهم ، ولم يعيبوا عليه إلاّ شيئاً لايصح به قدح.
فأحمد بن محمّد بن السري المعروف بابن أبي دارم المتوفّى 351هـ قال عنه الحافظ محمّد بن أحمد بن حمّاد الكوفي ، بعد أنّ أرّخ وفاته : كان مستقيم الامر عامّة دهره ، ثمّ في آخر أيّامه كان أكثر ما يُقرأ عليه المثالب ، حضرته ورجل يقرأ عليه : إنّ عمر رفس فاطمة حتّى أسقطت بمحسن.
وفي خبر آخر في قوله تعالى : ( وجاء فرعون ) عمر : ( ومن قبله ) أبو بكر ( والمؤتَفكات ) عائشة وحفصة ، فوافقته على ذلك ؛ ثمّ أنّه حين أذَّن الناس بهذا الأذان المُحدَث وضع حديثاً متنه : تخرج نار من عدن..
وعليه فالخدشة في ابن أبي دارم جاءت لروايته المثالب لا لسوء حفظه واختلاطه بأخَرَة و.. ، بل لروايته أشياء لا ترضي الآخرين من القول برفس فاطمة ، وشرعيّة حيّ على خير العمل ، وأنّ النار تلتقط مبغضي آل محمّد وغيرها.
وقد تلحض مما سبق : إمكان الخدش في خبرَي أبي محذورة وبلال المُدَّعِيَيْنِ لنسخ الحيعلة الثالثة ، والمُعَارَضَيْنِ بما رواه العلوي. ونلفت نظر القارئ الكريم إلى أنّ هذين الخبرين بمجردهما قد لا يصلحان لإثبات شرعية حيّ على خير العمل ، بل إن ثبوتها عندنا يرجع إلى ما عندنا من طرق صحيحة في ذلك ، ويؤيده تأذين أهل البيت والصحابة بذلك ، وهو ما ستعرفه بعد قليل ، الأمر الذي يتفق مع سيرة بلال وحياته الفكرية التي ستقف عليها في الفصل الثاني « حذف الحيعلة وامتناع بلال عن التأذين » من هذا الباب.
مشيرين إلى أنّ الملابسات العلمية التي تعرضنا لها آنفاً ينبغي أن تحدّ من إسراف من يدّعي النسخ ويلهج بوجود الناسخ بلا دليل مُرْضٍ ، وهذا هو الذي أشار إليه الشريف المرتضى « ت 436هـ » بقوله :
وقد روت العامة أنّ ذلك مما كان يقال من بعض أيّام النبيّ وإنّما ادُّعي أنّ ذلك نُسِخَ ورُفِعَ ، وعلى من ادّعى النسخ الدلالة له وما يجدها.
وممّا يضحك الثكلى أنّ البعض أسرف للغاية ؛ حيث رفض جزئية حيّ على خير العمل ، مدّعياً أنّ الشيعة هم الذين أوجدوها وحشروها في كتب أهل السنة والجماعة لأنّ بقيّة الفرق الإسلاميّة لا تقول بذلك ، كما أنَّ صحاحهم ومسانيدهم قد خلت من « حيّ على خير العمل ».
وأمام احتمال طرح مثل هذه الشبهة ، نقول : إنَّ هذه القضيّة لم تختصّ بالطالبيّين دون غيرهم على ما ضبطته لنا صفحات تاريخ السنّة والسيرة ، بل أقرّها عدد من الصحابة وعملوا بها ، ويكفينا أن نذكر هنا اسم ابن عمر فقط لأنّه الصحابي الذي كان مورد اعتماد أهل السنة والجماعة في فترات متعاقبة من التاريخ ، حتّى أنَّ المنصور العبّاسيّ قد وجّه مالكاً حين تدوين كتاب « الموطّأ » بقوله : هل أخذت بأحاديث ابن عمر ؟
قال : نعم.
قال المنصور : خذ بقوله وان خالف عليّاً وابن عباس(28).
وعلى ضوء هذا الأمر الحكومي يمكننا القول إنّ الدولة العبّاسيّة قد اعتبرت فقه ابن عمر معياراً ومقياساً شاخصاً لتدوين السنّة ، لأنّه لم يكن شخصاً عاديّاً ، بل كانت شخصيته ذات أبعاد مبطّنة ، وفي هذا المجال رأيناه يضفي على حياته هالة من القدسيّة في اقتفاء آثار النبيّ ومتابعته.
ويتلخص إشكال أهل السنة والجماعة في ثلاث نقاط :
إشكالهم الأوّل : ادّعاء أنَّ مصادرهم الحديثيّة المعتبرة قد خلت من الروايات التي تؤكّد ثبوت « حيّ على خير العمل » في الأذان ، وأن السنن الكبرى للبيهقيّ ، ومصنّف ابن أبي شيبة ـ اللَّذين ضمّا بين طيّاتهما مثل تلك الروايات ـ ليسا من الكتب الرئيسيّة التسعة ، إذ هما من المصادر الثانويّة ، لذا فهم لا يقولون بشرعيّة « حيّ على خير العمل » لأنّ صحيحي البخاريّ ومسلم لم يذكرا روايات تؤيّد ذلك!
إشكالهم الثاني : ادعاء أنّ رواة تلك الروايات المثبِتة لـ « حيّ على خير العمل » هم من الضعفاء ، فتكون الروايات غير معتبرة من ناحية السند.
إشكالهم الثالث : إمكان القول بأنَّ عمل رسول الله هو الحجّة علينا لا عمل الصحابة ، فلا حجّيّة في التزام ابن عمر الإتيانَ بـ « حيّ على خير العمل » في
أذانه ، لأنّ المسلم مكلّف باتّباع رسول الله لا غيره!
هذه هي جملة إشكالاتهم
أمّا ما يخصّ إشكالهم الأوّل ـ من أنّ صحاحهم وسننهم المعتبرة لم تذكر روايات تؤيّد شرعيّة « حيّ على خير العمل » وعلى الأخصّ فيما تمّ تدوينه في كتابي الشيخين البخاريّ ومسلم ـ فقد أجاب أحد الزيديّة عليه إجابة نقضيّة بقوله :
« وقالوا إن صحّت في الأذان الأوّل فهي منسوخة بالأذان الثاني ، لعدم ذكره فيها.
وردّ هذا : بأنّه لا يلزم من عدم ذكره في الصحيحين عدم صحّته ، وليس كلّ السنّة الصحيحة في الصحيحين ، وبأنّه لو كان منسوخاً لما خفي على عليّ بن أبي طالب وأولاده كما في مسنداتهم ، وهم السفينة الناجية بقول جدّهم سيّد البريّة : « أهل بيتي فيكم كسفينة نوح : مَن رَكبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى ».
وما ذكره في كتاب ( الأذان بحيّ على خير العمل ) أنّها كانت ثابتة في الأذان أيّام النبيّ ، وفي خلافة أبي بكر ، وفي صدر من خلافة عمر ثمّ نهى عنها »(29).
وبعد ذكر جواب هذا الزيديّ على الإشكال الأوّل ، نقول : إنّ من الثابت المعلوم أَنْ ليس باستطاعة كتبهم التسعة أن تضمّ جميع الأحاديث والروايات المرويّة على مرّ التاريخ ، بل ولم يدَّعِ أصحاب تلك الكتب أنفسهم الإلمام بكلِّ ما رُوِي أو جمعهم لكل ما صح عن رسول الله.
بلى ، إنّهم ادعوا أنّ أحاديثهم منتقاةٌ من الأحاديث الصحيحة ، وبهذا المعنى صرح كلٌّ من النسائيّ والبخاريّ وابن ماجة وغيرهم ، فهذا يقول إنَّه انتقى صحيحه من ستمائة ألف حديث صحيح ، وذاك يقول إنّه أخذها من ثلاثمائة ألف حديث صحيح.. وهكذا.
وصحيح أنَّهم يصفون الأحاديث التي انتقوها بأنّها صحيحة ، ولكنّهم بذات الوقت لا ينكرون صحّة بقيّة الأحاديث المتروكة عندهم ـ التي لم يشملها تدوينهم ـ فهم والحال هذه لا ينفون وجود أحاديث صحيحة عند الآخرين.
فلو لاحظت أحاديث عبدالله بن زيد الأنصاري المعتمدة عندهم في تشريع الأذان فلا تجدها في صحيحي البخاري ومسلم ، ولم يأتِ بهما الحاكم في مستدركه ، فما يعني هذا اذاً ؟
ونحن قد بيّنّا أنّ ثمّة اتفاقاً بين الفريقين على ثبوت « حيّ على خير العمل » في عهد رسول الله واستمرّ ذلك إلى أن جاء المنع من قبل عمر بن الخطاب ، وبهذا تتأكّد شرعيّة وثبوت « حيَّ على خير العمل » إلى أنّ حكم عمر بن الخطّاب بعدم شرعيّتها ، وعلى هذا الأساس فإنّ « حيّ على خير العمل » هي السنّة الحقّة وما خالفها ليس من سنّة الرسول المصطفى صلى الله عليه وآله .
أمّا الإجابة على إشكالهم الثاني فهي غير مبتورة عن الإجابة على الإشكال الأوّل ، إذ أنّ امتداد الإجابة بمثابة الردّ الفاصل على إشكالهم الثاني ، لأنّهم يقولون بأنّ الروايات التي وردت فيها الحيعلة الثالثة « حيّ على خير العمل » ضعيفة السند ، لأنّ أغلب رواتها من الضعاف... وهنا لابدّ لنا من الخوض في بحث منهجي مبنائيّ معهم ليكون حديثنا أكثر علميّة وأدقّ توجيهاً ، فنقول :
هل ضوابط الجرح والتعديل المتّبعة في توثيق وتضعيف الرجال هي ضوابط قرآنيّة ، أو هي مبنيّة على الهوى والهوس ، أو تتحكّم بها الطائفيّة ، كأن يكون للشافعيّة ضوابطهم الخاصّة بهم ، وكذا للمالكيّة والحنفية وغيرهم.
فقد خدش ابن معين وأحمد بن صالح في الإمام الشافعيّ.
وذكر الخطيب البغداديّ أسماء الذين ردّوا على الإمام أبي حنيفة.
وقال الرازي في رسالة ترجيح مذهب الشافعيّ ما يظهر منه أنّ البخاري عدّ أبا حنيفة من الضعفاء في حين لم يذكر الشافعيّ .
وحكي عن أبي عليّ الكرابيسيّ أنّه كان يتكلم في الإمام أحمد ، وكذا قدح العراقيّ شيخ ابن حجر في ابن حنبل ومسنده.
وذكر الخطيب في تاريخه أسماء عدّة قد خدشوا في الإمام مالك.
وقد خدشوا في الإمام البخاري والنسائي وغيرهما.
فما المعتبر في الجرح والتعديل اذاً ؟
في سياق جوابنا على إشكالهم الثاني ، نقول أيضاً : لو سلّمنا فرضاً بضعف تلك الروايات ، فإنّ كثرتها وتعدّد طرقها ، تجعلها معتبرة ، ويمكن الأخذ بها بناءً على قاعدة : ( الحديث الضعيف يقوّي بعضه بعضاً )(30).
وأنّهم كثيراً ما أخذوا بروايات رجالها ضعفاء ، فمثلاً أنّهم عملوا بقوله صلى الله عليه وآله « على اليد ما اخذت حتّى توديه »على رغم ضعف سندها وانحصارها بسمرة بن جندب.
هذا كلّه بصرف النظر عن أنّ هناك جمّاً غفيراً من علماء المسـلمين ـ من طوائف الاثني عشرية والاسماعيلية والزيدية ـ رووا بطرق صحاح وحسان ثبوت الحيعلة الثالثة في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وعدم نسخها ، وحينئذٍ فنحن نرى انجبار الروايات الضعيفة بهذه الطرق الصحيحة والحسنة.
ويتأكد لك سبب ندرة الروايات الدالّة على الحيعلة الثالثة في مدرسة الخلفاء أو تضعيفهم لرواتها لو سايرت البحث معنا حتّى الفصل الرابع « حيّ على خير العمل تاريخها السياسي والعقائدي » إذ هناك ستقف على الأسباب السياسية الكامنة وراء هكذا أمور في الشريعة.
أمّا فيما يتعلّق بالإشكال الثالث من أنَّ عمل النبيّ الأكرم هو الحجّة وليس عمل الصحابة في المورد المشار إليه ، فليس لنا إشكال في أصل هذا الكلام والمبنى ، لكن فيه على أهل السنّة إيرادان : نقضيّ وحلّي ؛ إذ أنك ترى أهل السنّة يتّبعون عمل الصحابة ويجعلونه معياراً لهم في الأحكام الفقهيّة ، ولكنّهم اتّخذوا موقفاً مضادّاً لمنهجيّتهم الفقهيّة في مسألة « حيّ على خير العمل » على الرغم من دعم عمل الصحابة فيها بالنصوص الكثيرة الصريحة والشـواهد التاريخـيّة المؤيّـدة لها.
فعلى الرغم من التزام الصحابة بـ « حيّ على خير العمل » في أذانهم ، وعلى رغم كثرة الروايات التي تؤكّد شرعيّتها ، ترى بعضهم يستثنون حكم هذه المسألة على ضوء طريقتهم فيقولون : الحجّة ـ في هذه المسألة بالذات ـ عمل النبيّ الاعظم وليس عمل الصحابة ، مع أنّ مِن بينهم مَن يقول بأنَّ (فعل الصحابيّ يخصّص القرآن).. وهذا تناقض واضح وصريح من جانبهم!
بينما تراهم في حين آخر يقولون بأنّ فعل الصحابيّ هو علامة أو انعكاس لفعل النبيّ الأكرم ، ولمّا كان ثمّـة خـلاف بين فقه عليّ عليه السلام وفقه عمر ، وبين ابن عمر وعمر نفسـه ، وبين الصحابـة الآخرين فيما بينهـم أيضاً ، فإنّ هذا مؤشر يدلّ دلالة واضحة على وجود مذهبين مختلفين : أحدهما يتبع رسول الله صلى الله عليه وآله والنصوص الواردة ، والآخـر يعطي لنفسه الاجتهاد ، ويتعبد بسيرة الشيخين وإن خالفت سنة رسول الله صلى الله عليه وآله .
ولو نقّبت في الكتب وتتبّعت أقوال المورخين في ابن عمر لوقفت على أنّ المشهور عندهم أنّه كان يتحرّى آثار النبيّ الأكرم ، وقد سُطِّرَتْ في كتاب « منع تدوين الحديث » ثمان وثلاثون حالة اختلف فيها عبدالله بن عمـر مع أبيه.
إذ كان ابن عمر في أغلبها يحاول اتّباع سنّة رسول الله ، لكنّ عمر لم يأبه بكلام ابنه ، ملتزماً برأيه ، عاملاً بالقياس أو الاستحسان وما شابه ذلك..
فبماذا يُفَسَّر إذاً خلاف ابن عمر مع أبيه ؟ نحن لا نريد بكلامنا هذا القول بأنّ ابن عمر كان من أتباع نهج التعبد المحض ، أو أنّه لا يجتهد مقابل النص ، لكن الصبغة الغالبة عليه هي شهرته بتحري أثار رسول الله واتّباع سننه لا الاجتهاد والرأي.
هذا المورد هو الحاكم وهو الحجّة عندهم بخلاف ما يدّعون من أنَّ فعل النبيّ الأكرم هو الحجة لا غير.
وبهذا ، فقد عرفنا شرعية الأذان بحيّ على خير العمل ، وانه لم ينسخ من قبل رسول الله صلى الله عليه وآله كما يقولون ، وما ذُكِر من إشكالات كلّها كانت واهية لا تناهض الادلة ، بل وقفتَ ـ عزيزي القارئ الكريم ـ على بعض تحريفات الأمويين ومن اتبعوهم من العلماء ، وكيف حرّفوا قول أبي محذورة ( فلما انتهيت إلى حيّ على الفلاح قال النبيّ صلى الله عليه وآله : ألحِق فيها حيّ على خير العمل ) ، وأبدلوها بـ ( اجعل في آخر أذانك حيّ على خير العمل ) فان هذا الكلام باطل وتحريف صريح للنصوص. لأنّ « ألحِق فيها حيّ على خير العمل » يؤكد على أن مكان الحيعلة الثالثة هو بعد الحيعلتين لاكما يقولون بأنّها في آخر الأذان ، فـ « الصلاة خير من النوم » تتفق مع كونها آخر الأذان ، أما الحيعلة الثالثة فهي بعد الحيعلتين ، فتدبر.
المصادر :
1- مجمع الزوائد 1 : 330 ، كنز العمال 8 : 342 ح 23174 .
2- الانتصار 137 ، باب « وجوب قول حيّ على خير العمل في الأذان ».
3- الفتوحات المكية 1 : 400.
4- عزّان محقّق كتاب ( الأذان بحيّ على خير العمل ) 12 عن الروض النضير 1 : 542.
5- من لا يحضره الفقيه 1 : 284/ ح 872 وعنه في وسائل الشيعة 5 : 416 ، والاستبصار 1 : 306 ح 1134 ، والأذان بحيّ على خير العمل للحافظ العلوي 91 .
6- الذهبي في العبر 3 : 212 وسير أعلام النبلاء 17 : 636 وابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب 3 : 274. .
7- « الأذان بحيّ على خير العمل » للحافظ العلوي 26 ـ 27 ،29. وكذا : تحقيقعزّان 50 ـ 54.
8- سبل السلام 1 : 120 ، كتاب المسند للشافعي 31 ، مسند أحمد 3 : 408 ، سنن النسائي 2 : 5.
9- الأذان بحيّ على خير العمل 28. وبتحقيق عزّان 56. والاعتصام بحبل الله 1 : 290.
10- المعجم الكبير 1 : 353 والنصّ عنه ، وفي السنن الكبرى 1 : 425 .
11- سبل السلام 1 : 120 ، كتاب المسند للشافعي 31 ، مسند أحمد3 : 408 ، سنن النسائي 2 : 5.
12- الطبقات الكبرى لابن سعد 5 : 450. تلخيص الحبير 3 : 199 ، تهذيب الأسماء للنووي 1 : 55.
13- المغني لابن قدامة 1 : 416 ـ 417.
14- الجرح والتعديل 9 : 206.
15- التعديل والتجريح للباجي 3 : 1425.
16- تذكرة الحفّاظ 2 : 466.
17- في تهذيب الكمال 32 : 322 عن عباس الدوري عن ابن معين : ليس بشيء.
18- ميزان الاعتدال 7 : 276 ـ 277. وانظر : الضعفاء الكبير للعقيلي 4 : 446.
19- سير أعلام النبلاء 11 : 158 وانظر : كلام ابن عدي في الكامل 7 : 151.
20- الثقات لابن حبّان 9 : 285.
21- الجوهر النقي 3 : 287. نصب الراية 1 : 265.
22- الجرح والتعديل 2 : 130.
23- تاريخ بغداد 6 : 149 ـ 151 .
24- الأذان بحيّ على خير العمل 15 ـ 16.
25- ميزان الاعتدال 1 : 283 ـ 284.
26- لسان الميزان 1 : 268.
27- مواهب الجليل 2 : 83 .
28- الطبقات الكبرى لابن سعد 4 : 147.
29- هامش مسند زيد بن علي : 84 عن الأذان بحيّ على خير العمل : 63 .
30- فيض القدير 1 : 26. تاريخ بغداد 1 : 224 ، وتهذيب الكمال 24 : 415. نصب الراية 1 : 93 .